مقدمة المُترجم١
أولًا: الترجمة الهادفة
إن اختيار نصوصٍ بعينها للترجمة في حدِّ ذاته تأليف غير مُباشر، ويكون المُترجم في هذه الحالة مُؤلِّفًا بطريقٍ غير مباشر. قد يكون الدافع لاتِّباع هذا المنهج — التأليف من خلال الترجمة — هو حساسية الموضوع بالنسبة لبعض الطوائف التي ترى فيه تعدِّيًا صارخًا على حقوقها أو جرأةً على عقلية مُجتمعٍ ما لم يبلُغ بعد من التطوُّر والتنوير ما يستطيع به تقبُّل الموضوع الجديد بسهولةٍ ويُسر، أو تعبيرًا للمُترجم عن نفسه من خلال الآخرين حتى تتحوَّل القضية من الذاتية إلى الموضوعية. مهما يكُن من شيء فالترجمة المُختارة اختيارًا دقيقًا لما يُناسب العصر واحتياجاته هي في صميمها تأليف يرتكز على التاريخ الحضاري، والترجمة الهادفة تخدُم الغرض نفسه الذي يسعى إليه التأليف الواعي للداعية.
وإن من مَهام المُفكر في البلاد النامية التعريف بأهم التحوُّلات الفكرية التي حدثت في الحضارات الأخرى والتي تحدُث من جديد في حضارته. ولا يعني ذلك أن كل حضارة لا بُدَّ أن تمرَّ بالنمط الحضاري الأوروبي وبمراحل تطوُّره، بل يعني وجود أبنيةٍ تاريخية مُتجانِسة في حضارَتَين أو أكثر. فالاتجاه العقلي في القرن السابع عشر، وقيام العقل بوظيفته في تحليل التُّراث القديم قد يُشابِهُ كلَّ دعوةٍ عقلانية يقوم بها بعض المُفكرين لإعادة بناء القديم، كما حدث لدَينا في أوائل هذا القرن. ومن ثم، كان التعريف بهذا الاتجاه العقلي إسهامًا فعَّالًا في التيَّار العقلي في مُجتمعنا الحالي، وتطويرًا للاتجاه العقلي في تُراثنا القديم، وتحقيقًا لمزيدٍ من الجرأة نحوَ الثقة بالعقل، أسوةً بهذا النمط الذي مضى عليه أكثر من ثلاثة قرون.
- الأولى: تأكيد صِدق تحليلات سبينوزا؛ وذلك بإعطاء تحليلاتٍ جديدة ودفع أفكاره إلى أقصى حدودها واستخلاص أبعد نتائجها، والكشف عمَّا تركه سبينوزا غامضًا نظرًا لظروف العصر. وقد قيل عن سبينوزا من قبل: إنه فيلسوف مُقنَّع يقول نِصف الحقيقة ويترُك النصف الآخر للذكاء أو للتاريخ أو للتطوُّر الطبيعي. وعلى هذا النحو لا يعني التقديم مجرَّد العرض بل التطوير والتطبيق والتأييد. وهذه ميزة الفكر الخصب أو المنهج الأصيل الذي يُولِّد بالتعامُل معه أفكارًا أخرى. ولا يعني ذلك الخروج على سبينوزا، أو التحمُّس له أكثر ممَّا يجِب، أو الوقوع في التطرُّف عندما يُصبِح الباحث سبينوزيًّا أكثر من سبينوزا نفسه؛ لأن هذا هو مصير الأفكار في التاريخ، عندما يُفكر فيلسوف على فيلسوف سابق، فقد فكر هيجل على جدَل أفلاطون وكانط، كما فكَّر ماركس على جدَل هيجل.
- الثانية: إخراج سبينوزا من أبحاثه الخاصَّة وإلحاقه بالتُّراث الفلسفي في القرن السابع عشَر بأكمله، سواء بديكارت فيما يتعلَّق بالمنهج، أو بريتشار سيمون وجان أوستريك فيما يتعلَّق بالنقد التاريخي للكتُب المُقدَّسة، ثم إخراج سبينوزا من القرن السابع عَشَر وإلحاقه بالتُّراث النقدي كلِّه في القرون التالية؛ سواء فيما يتعلَّق بالنقد الفلسفي في القرن الثامن عشر، أو النقد العلمي في القرن التاسع عشَر، أو النقد التاريخي ومدرسة الصُّوَر الأدبية في هذا القرن. ومن ثم يبدو سبينوزا مُعاصرًا أشدَّ المُعاصرة، كما يبدو النقد التاريخي المُعاصر وكأنَّ له جذوره في مناهج سبينوزا النقدية.
- والثالثة: هي إسقاط المادة التي عمِل عليها سبينوزا، وإحلال مادة أخرى محلَّها، مع الإبقاء على المنهج نفسه؛ أعني إسقاط التُّراث اليهودي وإحلال تُراث ديني آخر، وليكن التُّراث الإسلامي، حتى تتَّضِح جِدَّة سبينوزا وأصالته فيما يتعلَّق بتفسير الكُتب المقدسة. وقد كان هذا المنهج مُتَّبعًا عند الشُّرَّاح المسلمين في شروحهم على أعمال أرسطو. فمثلًا، يترُك ابن رُشد في شرحه للخطابة الأمثلة التي يُوردها أرسطو من الخُطباء والشُّعراء والتراجيديين اليونان، ويضع بدَلَها أمثلةً من الخطابة والشعر والنثر العربي؛ حتى يُعيد صياغة النظريات العلمية والأدبية ابتداءً من مادَّةٍ جديدة، وحتى يُمكنه تأييد هذه النظريات وتطويرها، وإكمال ما نقص منها. وكان سبينوزا نفسه يودُّ تعميم تحليلاته على الدِّيانات الأخرى لولا إمكانياته اللغوية والثقافية باعتباره أحدَ فُقهاء اللغة العبرية والتُّراث اليهودي القديم، بل ويَعترِف هو نفسه بأنه لم يستطِع تحليل العهد الجديد تحليلًا وافيًا لنقصٍ في معرفته باللغة اليونانية. ومع ذلك، فلقد عمَّم سبينوزا تحليلاته، على قدْر ما استطاع، على التُّراث المسيحي واليوناني والرُّوماني والإسلامي.
ومع أن صورة التُّراث الإسلامي عند سبينوزا مأخوذة من العصر التُّركي، حتى ليتحدَّث عن الأتراك ويقصِد بهم المُسلمين، وهي صورة الطُّغيان الفكري، والتعصُّب الجاهل، واضطهاد المؤمنين، وسيادة الأحكام السابقة، والوقوع في الخُرافة. ومع أنه يَعتبِر القرآن أشعارًا للقرَّاء دون الاستفادة منها في الحياة العملية، فإن مواقف سبينوزا ومناهجه في التفسير ونظرياته عن ثُنائية الحقيقة أو الحقيقة المزدوجة لها ما يُشابِهها في التُّراث الإسلامي عند الفلاسفة، خاصَّةً عند ابن رشد. وقد كان سبينوزا على عِلمٍ بها من خلال موسى بن ميمون. وليس الغرض من ذِكر ذلك هو الوقوع في منهج الأثر والتأثر، وإرجاع فضل سبينوزا إلى التُّراث الإسلامي، أو إحياء التُّراث الإسلامي بآراء سبينوزا، بل القصد منه إثبات المشكلات المُشتركة، والحلول المُتشابهة التي قدَّمَها سبينوزا والفلاسفة المُسلمون. وهذا هو الغرَض من الاستشهاد المُستمرِّ بالتُّراث الإسلامي، فقد تكون هناك مواقف فكرية واحدة للفكر الحُرِّ بالنسبة للدِّين، أو قد تكون هناك أبنية واحدة للنصِّ الديني أيًّا كان، يستطيع كلُّ مُفسرٍ أن يصل إليها.
لذلك تَجنَّبْنا الوقوع في العلمية التاريخية، وإثارة بعض المشكلات التي تدلُّ على التعاليم أكثرَ ممَّا تدلُّ على العِلم، مثل تاريخ كتابة الرسالة، وصِلة فصولها بعضها بالبعض الآخر، وأيُّها مُتقدِّم وأيُّها مُتأخر، وتناطُح الآراء حول هذه المسائل، فهي مشكلة خاصَّة تتعلَّق بتحقيق النص ونشره أكثر مما تتعلَّق بأفكار النص ونظرياته. وكذلك آثرنا التعامُل مع الأفكار، مع إعطائها أكبر قدْرٍ من الصحة والعمومية. ولا يَضير ذلك العلمية في شيء؛ إذ إنَّ العلمية لا تعني التحقيق الميكروسكوبي، والالتصاق بالحروف، مع ذِكر عشراتٍ من المراجع، ما قُرئ منها وما لم يُقرأ، حتى يُوحي الباحث بوفرة المعلومات، وبسَعة الاطلاع، بل العِلمية أن تُبرَز الفكرة، وأن تُوضَع في مكانها الصحيح حتى يظهر أثرها وفِعلها. ومع أن الرسالة نفسها قد كُتِبت بأساليب عدَّة، بأسلوب أدبي في بعض الفصول يبدو فيه سبينوزا أديبًا ناقدًا، وهي الفصول التي كُتِبت بدقَّة رُوحية واحدة، مثل الفصل السادس عن المُعجزات، وبأسلوب علمي تحليلي مَحشوٍّ بالشواهد النقلية، وبالتحليلات اللغوية، يظهر فيها سبينوزا الشارح اللغوي، وهي الفصول التي كان قد جمَعها من قبلُ ثُم أدخلها في صُلب الرسالة كدعامةٍ علمية، وكأساسٍ تاريخي لأفكاره. إلا أنَّ الأسلوب الأدبي هو الغالِب عليها، خاصَّةً إذا قارنَّاها بالأسلوب الفلسفي الجاف الذي كتَبَ به سبينوزا سائر مُؤلَّفاته. لقد كتب سبينوزا رسالته مرَّات عديدة، وعلى فتراتٍ مُتقطِّعة، يُعبِّر عن حدْسه أولًا بأسلوب سهل يسير، وبأفكاره الشخصية ثُم يُدلِّل عليه بعد ذلك بالبُرهان، وبالتحليلات التاريخية حتى يُطوِّر القديم، ويتأصَّل الجديد. ولكنَّنا شِئنا في هذه المقدمة اتِّباع الأسلوب السهل اليسير؛ فهي مكتوبة للجمهور العريض لا للصفوة المُثقَّفة حتى يعمَّ الانتفاعُ بها ما دامت مهمَّة المُفكِّر الحالية هي إعطاء أكبر قدْرٍ مُمكنٍ من التنوير لأكبر عددٍ من الناس.
ثانيًا: سبينوزا وديكارت٥
لقد قيل دفاعًا عن ديكارت إن موقفه من رجال الدين ومُهادنته لهم إنما هو موقف ذكي، اتَّخذَه ديكارت حتى يحتوي رجال الدين من الداخل، ولا يصطدم مع السُّلطة بالتناطُح والمواجهة. يكفيه أنه وضع قنبلة زمنيَّةً انفجرت بعدَه في سبينوزا وفولتير، وتناثرَتْ شظاياها في العصر الحديث بطولِهِ وعرضه. وسواء أكان هذا الدفاع عن حقٍّ أم عن حُب، فإن الثورة الحقيقية في الفكر الدِّيني والواقِع السياسي قد قام بها سبينوزا. رسالة سبينوزا إذن ثورة على الأوضاع الثقافية والسياسية في عصرِه بل وفي كلِّ عصر، وتطبيق للنور الطبيعي في مجال الدِّين والسياسة حتى لا يخلِطَ الناس بين البِدَع الإنسانية والتعاليم الإلهية، أو بين التصديق الساذج والإيمان الصادق، أو بين الجدَل البيزنطي في الكنائس وبين الإحساس الطبيعي بالعدل والخير، أو بين الفِتن والمُصادمات بين الطوائف باسم الدفاع عن الدين وبين السلام الداخلي في الإنسان وفي الدولة. أراد سبينوزا البحث عن الوضوح والتميُّز في الواقع الدِّيني والسياسي، وألا يقبَلَ شيئًا على أنه حقٌّ في أمور الدِّين أو الدُّنيا ما لم يكن كذلك، فإن كان ديكارت قد وجد في المنهج الاستِنباطي بُغيتَه وطريقه إلى التصديق بالرسالات السماوية، وإذا كانت مهمَّة ديكارت والعصر الحديث معه هي تبرير الدِّين، فقد كانت مهمَّة سبينوزا تأصيل الدين وإخضاع الكتاب المُقدَّس للنقد التاريخي.
ولا وجهَ للمُقارنة بين مُقدِّمة التأمُّلات التي يهدي فيها ديكارت كتابه إلى عُلماء أصول الدين وبين آخِر فقرة في مُقدِّمة رسالة سبينوزا التي يُخضع فيها رسالته للسُّلطات العُليا في هولندا. فديكارت يؤكِّد أن ليس في تأمُّلاته ما يُعارض الدين، بل إنه يحتوي على تأييدٍ لأهمِّ قضاياه: وجود الله، وخلق العالم، وخلود النفس؛ أي أنه لم يأتِ بجديد بالنسبة لمُفكري العصر الوسيط إلَّا من حيث الطابع الشخصي الأوغسطيني، هذا الطابع الموجود أيضًا لدى سبينوزا. أما فقرة سبينوزا فإنها تدلُّ على استعداده لمُقارعة الحجَّة بالحُجَّة، وهو يعلم أن نتائج بحثِهِ في الوحي الإلهي وفي نظام الحُكم ستؤدي حتمًا إلى انقلابِ القوم عليه. فديكارت يُصالح رجال الدين، ويُهادن النُّظم الملكية، وسبينوزا يبغي المصلحة العامة ضدَّ رجال الدين، وضدَّ نُظُم الحكم القائمة، ويعلَم أنَّ الأمانة الفكرية، والبحث العلمي، والموقف الشريف، أجدى على الدولة وعلى سلامتها وأمنِها من النفاق الفكري، والتشويه العلمي، والتملُّق للسُّلطة، والسعي لها.
ثالثًا: موضوع الرسالة
يُحدِّد سبينوزا موضوع الرسالة في العنوان التوضيحي الذي يضعُهُ بعد العنوان الأول «وفيها تتمُّ البرهَنة على أنَّ حرية التفلسُف لا تُمثل خطرًا على التقوى أو على السَّلام في الدولة، بل إنَّ القضاء عليها يؤدِّي إلى ضياع السَّلام والتَّقوى ذاتها.» للرسالة إذن هدفان؛ الأول: إثبات أنَّ حرية الفكر لا تُمثل خطرًا على الإيمان، أو بتعبيرٍ آخر، أنَّ العقل هو أساس الإيمان. والثاني: إثبات أنَّ حُرية الفكر لا تُمثل خطرًا على سلامة الدولة، أي أنَّ العقل أيضًا هو أساس كلِّ نظامٍ سياسي تتَّبِعُه الدولة.
فإذا غاب العقل ظهرَتِ الخُرافة، وإذا سادت الخُرافة ضاع العقل. وتظهَر الخُرافة في إرجاع ظواهر الطبيعة إلى عِللٍ أولى، أو إلى قوًى وهمية، أو إلى أفعالٍ خيالية، أو إلى موجودات غيبية مثل الجنِّ والشياطين والأرواح الخبيثة أو الطيِّبة. وإن خرجَتْ هذه الظواهر الطبيعية عن المألوف بدَتْ وكأنها مُعجزات وخوارق يُمكن معرفتها، والتنبُّؤ بوقوعها عن طريق الكهانة والعرافة والسِّحر، لا عن طريق العِلَل المباشرة التي تُفسر وجود الظواهر كما يُدركها العقل.
والخُرافة والوهْم والعجْز هي من أسباب الوقوع في التقديس، تقديس موجود مُتعالٍ خارج الطبيعة، يتدخَّل فيها كما يشاء، كما يفعل الحاكم المُطلق، أو الملك الذي يخضع للأهواء والانفعالات. فاعتبار المُقدَّس خارج العالم عجْز عن إدراكه داخل العالَم، وخَوف منه، وإبعاد له، خاصةً إذا أصبح هذا المُقدَّس مُرادفًا للسِّر، أو هو وقوع في الوثنيَّة المُجرَّدة، أو الوثنية الحِسِّية.
أما الدين كما يَتصوَّره الصوفية، فهو مجموعة من الخُرافات والخُزَعْبلات والأوهام، حتى أصبح الدين احتقارًا للعقل، وبُعدًا عن الذِّهن الذي قِيل عنه إنه فاسِد بالطبع، مع أنهم لو كانوا قد اهتدوا إليه بالنُّور الفِطري لَما أصابهم الغرور، ولَما وقَعوا في الكذِب، ولعَبَدوا الله حُبًّا فيه، لا كراهيةً للناس، ولَما اضطهدوا مُخالفيهم في الرأي، ولعَطفوا عليهم، ولحرَصوا على سلامة الآخرين كما يَحرِصون على سلامتهم، ولَما أُعجِبوا بأسرار الكتاب التي لا تتعدَّى بعضَ التأمُّلات الأفلاطونية الأرسطية، أو التوفيق بينها وبين الكتاب؛ حتى لا يَتَّهمهم الناس باتِّباع فلسفة الوثنيِّين، وحتى لا يقَعُوا في أخطاء اليونان، جعلوا الأنبياء يَهذُون. فضلًا عن ذلك، فإنهم لم يشكُّوا مُطلقًا في المصدر الإلهي للكتاب المقدس، وكلَّما شعروا فيه بالأسرار أطاعُوه طاعةً عمياء، مع أنَّ إثبات المصدر الإلهي للكتاب لا بدَّ أن يكون نتيجة للبحث العِلمي لمُحتواه.
الدِّين إذن على ما يقول فويرباخ موقف مُغترب، أي إنه موقف غير طبيعي، والمَوقِف العقلي العِلمي هو الموقف الطبيعي. التديُّن والنور الفطري نقيضان؛ إذ يَعتبِر المُتديِّن النور الفطري مصدرًا للاتدَيُّن وللإلحاد وللبِدَع، مع أنَّ التديُّن نفسه قائم على مجموعةٍ من الخُزعْبلات التي يظنُّها المُتديِّنون تعاليم إلهية. فإلحاد الفلاسفة الذين يعتمِدون على النور الفِطري هو الإيمان الصحيح، وإيمان المُتديِّنين القائم على الأوهام والخُرافات وثنيَّة حسِّية؛ أي إلحاد صحيح. ومن ثم كان اللَّاتديُّن شرط العِلم وكان رفْض التأليه شرْط إدراك الطبيعة، فالإنسان موجود في عالَمٍ واحدٍ وهو العالم الطبيعي وليس في عالَمَين؛ لأنَّ الفكر تحليل للطبيعة.
القضاء على السلوك الانفعالي إذن خطوةٌ نحو العقلانية، فإذا عرفْنا مدى شُيوع السلوك الانفعالي في البلاد النامية، ومدى تدخُّل الأهواء والانفعالات في العلاقات الشخصية وفي تقدير المواقف وفي سَنِّ القوانين وتطبيقها، عرفْنا أن سيادة الانفعال وغياب العقل أحد مظاهر التخلُّف.
ويُستخدَم الدين أيضًا للسيطرة على الجماهير ولإبقائها تحت سيطرة السُّلطة، إذ يُكثِر الدكتاتور من مظاهر العظَمة في بناء المعابد، والاحتفالات بالموالد، حتى يُمكن عن طريق التأليه الخُضوع لله أو للدكتاتور، والطاعة العمياء له؛ لذلك كانت الخُرافة أفضلَ الوسائل لتسيير العامَّة، فيكفي للسُّلطات العُليا الاحتفال بالموالد، وبأتقياء الله، وبعبادة الصالِحين حتى تسير العامَّة وراءها فيُنظَر إلى الملوك باعتبارهم آلهة، ويتمُّ تجميل الدِّين بالشعائر «الطقوس» وتزيين الملوك بالقصور والتيجان. فالخُرافة هي أساس النظام الملكي، باعتباره النظام التقليدي الذي يقوم على حُكم الفرد المُطلَق الذي يبغي خداع الناس، وإرهابهم باسم الدِّين من أجل السيطرة عليهم، واستعبادهم، ووضع قُيودٍ على الفكر والعقيدة، في حين أنَّ العقل لا يَسود إلَّا في النظام الجمهوري الذي يكون فيه المُواطن حرًّا في فِكره وعقيدته، والذي يخضَع فيه سُلوكه لتشريع الدولة.
ولمَّا كانت حُرية الرأي ضرورة للإيمان الصحيح، فإنَّ حُرية الرأي أيضًا ضرورة للسلام الداخلي في الدولة، فحُريَّة الفكر هي دعامة الرأي العام، والرأي العام هو الراصِد لكلِّ ما يحدث في الدولة خاصةً في الأمور الداخلية، فإذا قُضِي على حرية الفكر، قُضِي على الرأي العام، وأصبَحَت الدولة بلا دعامة داخلية. يفعل الحاكم ما يشاء وتفعل أجهزة الحُكم ما تريد، وبالتالي تنشأ الجماعات السِّريَّة المُناهضة للحُكم، فيُقضى على أمن الدولة.
لذلك يجِب على السلطات العامَّة ألا تتدخَّل في الحريات الفردية، وإلَّا لتعرَّضَ أمن الدولة للخطر. فهذا هو الحقُّ الطبيعي للفرد، كلُّ فردٍ حرٌّ بطبيعته، وكل فردٍ هو الضامن لحريته. وتنشأ الفِتَن عندما تتدخَّل الدولة بقوانينها في الأمور النظرية، وتنتصِر لبعض العقائد، وتُعادي البعض الآخر، ولن تتوقَّف الفِتَن إلَّا إذا وضعَتِ الدولة الأفعال وحدَها، دون الأقوال، تحت القانون؛ حتى يستطيع كلُّ مُواطن أن يعبد الله كما يشاء، وأن يتصوَّرَه كما يُريد، بدل أن تُقطَع الرقاب من أجل أقوالٍ كلُّها ظنيَّة. لا احتكار للفِكر ولا حِكر عليه، وليس من حقِّ الدولة التدخُّل في حُرية المُفكر أو في الرقابة عليه. وكيف تنتصِر الدولة لرأيٍ على رأيٍ سواء في اللاهوت أم في السياسة، وليس هناك تفسير واحد صحيح للدِّين والباقي خطأ؟ لكلِّ إنسان الحق في فَهم الوحي وتأويلِهِ كما يشاء، وإن التسلُّط والتحزُّب لرأيٍ دون رأي ليؤدِّي حتمًا إلى ضياع الإيمان. حُرية الرأي إذن يجِب أن تكون مكفولةً للمواطنين جميعًا، وتكون الدولة هي الراعية لهذه الحرية، وليست القاضِية عليها. فلا ينبغي أن تكون الدولة طائفيةً تنتسِب لدينٍ مُعيَّن، بل دولة علمانية تكفُل حريَّة الرأي للجميع. حُرية الرأي إذن ضرورة اجتماعية حتى يعمَّ الأمن والسلام في الدولة، وإن الحاكم الذي يَظنُّ أن تثبيتَ قواعد حُكمه إنما يكون بالقهر والطغيان، وبالقضاء على حُرية الفكر، ينتهي لا محالةَ إلى غير ما قصَدَ إليه؛ لأنَّ في القضاء على حُريَّة الفكر قضاء على الدولة، بل إنَّ القانون الإلهي نفسه يمنح هذه الحُريَّة لجميع الناس، ولا يبدو ذلك غريبًا لأن الدولة نفسها قد نشأتْ بعقدٍ اجتماعيٍّ بين الأفراد يُفوِّض سُلطتهم إلى الدولة كي تقوم بحمايتهم والدفاع عنهم، فسُلطة الدولة مُمثِّلة لسلطة الأفراد؛ لذلك لا يجوز للسُّلطات العُليا، وهي المُمثِّلة للشعب، أن تعمل ضدَّه، أو أن تقضي على حريته التي فوَّضها لها بإرادة حرَّة. تنشأ النُّظم الدكتاتورية عندما تفعَل السُّلطات العُليا ما تُريد، بغضِّ النظر عمَّا فوضَّه الأفراد لها من حقوق.
والحقيقة أنَّ موضوع رسالة سبينوزا ليس هو اللاهوت فحسْب، أو السياسة فحسْب، أو حتى الصِّلة بينهما، بل — بتعبيرٍ أدقَّ — الوحي في التاريخ. عندما تتحقَّق النبوَّة في فترةٍ مُعينة، وعند شعبٍ مُعين، يأتي الوحي للتغلُّب على الطبيعة السائدة في الشَّعب، فينجح إلى حين، ثم تنتهي الطبيعة السائدة بالتغلُّب على الوَحي. ومن ثَمَّ فموضوع الرسالة هو فلسفة التاريخ الدِّيني أو التاريخ المقدَّس على ما يُقال. لقد أتى الوَحي للشَّعب اليهودي حتى يتغلَّب على طبيعته الحِسِّية المادية، وعلى تكوينه الوَثَني، ولكنه انتهى إلى أنْ سادتْهُ الوثنية، وتغلَّبَت عليه الطبيعة الحِسِّية، ثُمَّ أتى الوَحي المَسيحي داعيًا للسلام، من أجل التغلُّب على الطبيعة الحربية الرُّومانية، وداعيًا للطهارة الرُّوحية، من أجل التغلُّب على المادية الحِسِّية اليهودية والرومانية، ولكنه انتهى إلى أنْ سادَتْه الحروب والتعصُّب، وتغلَّبتْ عليه المادية الحسية. ويُمكن القول أيضًا بأنَّ الوحي الإسلامي جاء حتى تكون الأمة الإسلامية خيرَ أمةٍ أُخرجَت للناس تأمُر بالمعروف وتنهى عن المُنكر، فإذا هي الآن مُستعمَرة من الخارج أو مَسلوبة الثروات من الداخل؛ أي إنها انتهت إلى عكس ما قصَد إليه الوحي.
رابعًا: النقد التاريخي للكُتُب المقدَّسة
فما إن وضع القرن الثامن عشَر العقل في الإنسان، وحوَّل التفكير الرياضي إلى التفكير الإنساني، حتى أصبح كِبار النقَّاد هُم كِبار الإنسانيِّين، مثل فولتير ولسبخ وهردر. وكان النقد باسم العقل أكثرَ منه باسم التناقُضات الداخلية في الرِّواية.
وما إن تحوَّلت فلسفة التنوير في القرن الثامن عشر إلى فلسفةٍ للعِلم في القرن التاسع عشر، حتى تحوَّل النقد أيضًا من النقد الفلسفي باسم الإنسان إلى النقد العلمي القائم على تحقيق النصوص، والمقارنة بينها، والاعتماد على فِقه اللغة، وعِلم الأساطير المُقارنة، وتَمَّ وضع قواعد المنهج التاريخي بعد كشْف «الشعور التاريخي» عند دلتاي، وتقدُّم العلوم الإنسانية. وقد كانت فلسفة هيجل أحد المصادر التي خرجَت منها المدرسة الأسطورية في النقد، عند شتراوس وباور، فكما وصَفَ هيجل تطوُّر الرُّوح وصفَ نقَّاد المدرسة الأسطورية، وهم من اليساريين، تطوُّر العقيدة المُوازي لتطوُّر النصِّ واعتبروا كليهما من فِعل الرُّوح ومن وضعِها.
ولكن الذي يُميِّز نقد سبينوزا هو جمعُه بين كلِّ أنواع النقد هذه التي ظهرتْ في القرون الثلاثة الماضية، فهو نقد عقلي يقوم على استعمال العقل الرياضي الهندسي، كما هو الحال في كتاب «الأخلاق»، وهو نقدٌ إنساني يقوم على استِعمال النُّور الفِطري كنُور طبيعي في الإنسان، ويهدف إلى تحليل القوى الإنسانية من إدراكٍ وتخيُّل وانفعال، وهو أيضًا نقْد عِلمي يدرُس النص الدِّيني كما تُدرَس الظاهرة الطبيعية ويحاول إخضاعه لقواعد ثابتة، والوصول إلى قوانين لتطوُّر الراوية كما يُخضِع العالِم الظاهرةَ الطبيعيَّةَ لقواعد المنهج العِلمي، ويصِل إلى قوانين تحكُم الظواهر، فالناقد كالعالِم سواء بسواء، كلاهما يدرُس الظاهرة التي أمامَه، ويحاول الوصول إلى قوانينها التي تحكُمها. وقد كان نقد سبينوزا سببًا في نشأة حركة التنوير في اليهودية قبل أن تبدأ، وما زال أحد دعائم التجديد الدِّيني على الإطلاق.
يُدرك سبينوزا أهمية هذا العِلم الجديد، هذا العلم الذي جهِله القُدماء أو الذي ضاع منه جزءٌ كبير لم يَصِلنا منه شيء. مهمَّة العصر الحديث إذن هي وضع قواعد هذا العِلم وتكمِلتِها ورفض الزائف منها، مع أنَّ ذلك يبدو مُتأخِّرًا للغاية، إذ لم يعُدِ الناس يتقبَّلون بسهولةٍ تحكيم العقل في الكتاب وتطبيق قواعد المنهج التاريخي على الروايات.
- (أ)
لم يكتب موسى مُقدِّمة سفر التثنية لأنه لم يَعبُر نهرَ الأردن.
- (ب)
كان سفر موسى مكتوبًا على حائط المَعبد الذي لم يتجاوَز اثنَي عشَرَ حجرًا، أي أنَّ السِّفر كان أصغرَ بكثيرٍ ممَّا لدَينا الآن.
- (جـ)
قيل في سفر التثنية: «وقد كتَبَ موسى التَّوراة.» ولا يمكن أن يقول موسى ذلك إن كان هو كاتِبَها.
- (د)
في سفر التكوين، يُعلِّق الكاتب قائلًا: «وكان الكنعانيُّون في هذه الأرض.» ممَّا يدلُّ على أن الوضع قد تغيَّر وقت تدوين الكاتِب هذا السِّفر، أي بعد موت موسى وطرْدِ الكنعانيِّين، وبذلك لا يكون موسى هو الراوي.
- (هـ)
في سفر التكوين سُمِّي «جبل موريا» جبل الله، ولم يُسمَّ بهذا الاسم إلَّا بعد بناء المَعبد، وهو ما تمَّ بعد عصر موسى.
- (و)
في سفر التثنية، وُضِعت بعض الآيات في قصة أوج، تُوحي بأنَّ الرواية كُتِبت بعد موت موسى بمدَّة طويلة؛ إذ يروي المُؤلِّف أشياء حدثت مُنذ زَمَنٍ بعيد.
- (أ)
كتابة الأسفار بضمير الغائب، وليس بضمير المُتكلِّم.
- (ب)
مُقارنة موت موسى ولحدِه والحُزن عليه بمَوت الأنبياء التالِين له.
- (جـ)
تسمية بعض الأماكن بأسماء مُختلفة عمَّا كانت عليها في عصر موسى.
- (د) استمرار الرواية في الزمان حتى بعد مَوت موسى.٢٠
وقد كان موسى يقرأ «سِفر العهد» على الشعب، وهو السِّفر الذي أملاه الله عليه في جلسةٍ قصيرة، ممَّا يدلُّ على أنَّ ما كتَبَه موسى أقلُّ بكثيرٍ ممَّا لدَينا الآن، ثُمَّ شرح هذا السفر الأول، ودوَّن شرحه في سِفر «شريعة الله»، ثم أضاف عليه يشوع شرحًا آخَر. وقد ضاع هذا السِّفر الذي يجمع بين سِفر موسى وسِفر يشوع، أما السِّفر الأصلي، فقد أُدخِل في الأسفار الخمسة التي لدَينا الآن، ولا يُمكن التَّمييز بينهما.
ولقد نقل عزرا هذه الروايات في نصِّه دون تحقيق، وكثير من الروايات مُستقاة من كتُب المؤرِّخين، وهذا يُفسِّر اختلافاتها فيما بينها، فمثلًا نجد في الأسفار الخمسة خلطًا بين الروايات والوصايا بلا ترتيب، كما نجد الاضطراب الزماني، وتكرار القصص نفسها مع اختلافات جوهرية في الألفاظ، ممَّا يؤكِّد أننا أمام مجموعة من النصوص المجموعة بلا فحْص أو ترتيب. وهذا موجود أيضًا في الأسفار السبعة التالية حتى هدم المدينة؛ لذلك جاءت النصوص منقوصةً ومُتعارضة؛ لأنها مأخوذة من مصادر مُتعدِّدة، ولم ينجح الأحبار في مُحاولاتهم للتوفيق بينها. لقد جهل العبرانيُّون الأوائل لُغَتَهم، ولم يعرفوا كيفية وضع نظامٍ في الرواية، ولم يكن هناك منهج أو قاعدة تُتَّبَع في تفسير الكتاب، وكان كل راوٍ أو كاتب يُفسِّر حسب هواه، ولم تحفظ الأجيال الماضية هذه الأسفار حتى تسرَّبَت الأخطاء إليها، فلقد لاحظ النُّسَّاخ الأوائل صِيغًا مشكوكًا فيها، وفقراتٍ ساقطة دون أن يُحصُوها كلها. ولا تُوجَد أخطاء كثيرة في النصوص التي تحتوي على التعاليم الخَلقية، أو هناك أخطاء ولكن لا تؤثِّر في جوهر هذه التعاليم، واتِّفاق الروايات مع بعضها البعض. وفيما عدا ذلك، هناك أخطاء كثيرة يدَّعي المُفسرون المُتحذلقون أنها أسرار إلهيَّة، أبقاها الله في الكتاب بعناية، فيؤوِّلون النقاط والحروف والعلامات، حتى المسافات البيضاء التي يترُكها النُّسَّاخ، وهذا كله ادِّعاء كاذب، ويُناقض العقل، فلا تُوجَد أية أسرارٍ في الكتاب، كما تدَّعي القبالة. أما التعليقات الهامشية، فهي صِيَغ مشكوك فيها، أراد الناسخ وضعَها في الهامش لقراءاتٍ مُحتملة إذا التبسَتْ عليه الحروف — ولم يضعه الأنبيا أو الرُّواة كما يدَّعي الفريسيون — حتى يختار القرَّاء إحداها، وقد تكون أخطاء عن غَير عمْد، لم يشأ الناسخ تركَها؛ لأنها جزء من الوحي، والحقيقة أنَّ قراءات الهامش تحتوي على بعض الكلمات القديمة التي لم تعُد تُستعمَل أو بعض الكلمات المكشوفة التي تَحرَّج الناسخ من وضعها في النص، ومع ذلك، فهي صِيَغ مشكوك فيها بالرغم من اتِّفاق بعضها مع قواعد اللغة العبرية أكثر من اتِّفاق النصِّ الأصلي معها؛ لذلك رفضَها الماسوريون. ويُوجَد أكثر من صيغة، ولكنها لم تصِل إلينا. وممَّا لا شكَّ فيه، أنه كانت هناك صِيغتان على الأقلِّ للنص، بسبب استبدال الحروف، ولأنَّ الناسخ لم تكن لدَيه إلَّا نُسَخ قليلة، نُسختان أو ثلاث على الأكثر، ولم يكتُب عزرا نفسه شيئًا من هذه القراءات، ولم يشأ النُّسَّاخ تغييرها بدافعٍ من الورَع الديني.
خامسًا: منهج التفسير
والتفسير ليس حكرًا على فردٍ مُعين، أو على سلطة بعينها، بل لكلِّ فردٍ الحرية المُطلقة في أن يُفسِّر كما يشاء، وفي أن يُؤمِن وأن يتصوَّر العقائد كما يُريد، وفي أن يُفسِّر الكتاب على مُستوى فهمه؛ إذ إنَّ الكتاب نفسه قد دُوِّن على مستوى فهم العامة، وطبقًا لآراء الأنبياء، ومُعتقدات الرُّواة. يرفض سبينوزا سُلطة الكنيسة في التفسير، وما تدَّعِيه من حقٍّ في تفسير الكتاب المُقدَّس، كما رفضَها لوثَر من قبل، فالله لا يُحرِّم على الفرد حُريَّة البحث ولا يمنعه حقَّه في التفكير والفَهم والتفسير. وبناءً على ذلك، لا يحقُّ لنا اتِّهام مُؤسِّس الفرق الدينية بالكفر. إذن هم كيَّفوا الكتاب حسْب عقائدهم الخاصة، بما أنه قد تكيَّف من قبلُ حسب عقلية الأنبياء، وحسب التكوين النفسي للجماهير في عصره. ولكن يُعاب عليهم منعهم الآخرين حرية البحث والتفكير، واعتبارهم أعداء لله وللبشر؛ لأنهم يختلفون معهم في الآراء والمُعتقدات، حتى ولو كانوا يعيشون عيشة الفضيلة الحقَّة، واعتبارهم أصفياء الله، إذا اتَّفقوا معهم في العقائد والمُعتقدات، حتى ولو كان سلوكهم مُشينًا. وهذا كلُّه ممَّا يجلُب الشقاء للفرد وللجماعة.
ويرفض سبينوزا كلَّ التفسيرات التي تقوم على الهوى وعلى الخُرافة وعلى الأوهام، فهي كلها بِدَع تُؤخَذ على أنها كلام الله، ويُجبَر الآخرون على الاعتقاد بها. وتلجأ بعض هذه التفسيرات إلى السُّلطة الإلهية حتى لا يُظهِر الآخرون أخطاءها، ويقوم البعض الآخر على الإيمان بالخُرافات واحتقار العقل، ويعتمِد البعض الثالث على الأسرار والغموض والاشتباه على التأويلات والتخريجات، وإخراج الكلِم عن مواضعه، ووضع مُعتقدات لا عقلية صادرة عن انفعالات النفس.
لذلك يقترح سبينوزا منهجًا آخر لتفسير النص مِثل منهج تفسير الطبيعة، يقوم على الملاحظة والتجربة، وعلى جمع المُعطيات اليقينية، ووضع الفروض، واستخلاص النتائج. وفي حالة الكتاب يكون منهجًا لاستِقصاء الحقائق التاريخية اليقينية، والانتهاء منها إلى أفكار مُؤلِّفي الأسفار، وبذلك نضمَن صحَّة النتائج، كما نضمن صحَّة المعرفة التي نحصُل عليها بالنُّور الفطري. مع أنَّ الكتاب يُعالج كثيرًا من الموضوعات التي لا يمكن معرفتها بالنُّور الفطري، مِثل قصص الأنبياء ووحْيِهم وقصص المُعجزات، أي الروايات عن وقائع خارِقة للعادة في الطبيعة تكيَّفت حسب آراء الرُّواة وأحكامهم السابقة، هؤلاء الذين نقلوها أو دوَّنوها، والوحي الذي تكيَّف مع آراء الأنبياء، أي بعض الموضوعات التي تتعدَّى حدود المعرفة الإنسانية، بمعنى أنها تتطلَّب استقصاءً تاريخيًّا؛ لذلك يجب أن نستخلِص معرفتنا بالطبيعة من الطبيعة نفسها. ومع أنَّنا نستطيع إثبات التعاليم الخلقية بالأفكار الشائعة إلَّا أننا يجِب علينا استخلاصها أيضًا من الكتاب نفسه. ومع أن هذه التعاليم الخلقية لا المُعجزات، يُمكنها إثبات المصدر الإلهي للكتاب، إلَّا أن منهج تفسير الكتاب يجِب أن يقوم على فحص الرُّوايات، كما يقوم المنهج الطبيعي على فحص الظواهر الطبيعية بأقصى درجةٍ من الوضوح.
- (١)
معرفة خصائص وطبيعة اللغة التي دُوِّنت بها أسفار الكتاب المُقدَّس، والتي تحدَّث بها مؤلفوها، وبذلك يُمكننا معرفة معاني النصوص حسْبَ الاستعمال العُرفي لها. ولمَّا كانت اللغة العبرية لغة الكلام والتدوين يجِب إذن معرفة اللغة العبرية للعهدَين القديم والجديد.
ولكن هذه الخطوة يصعُب القيام بها، كما أنها تتطلَّب شرطًا يصعُب تحقيقه؛ فليس لدَينا معرفة كاملة باللغة العبرية، ولم يترُك القدماء لنا شيئًا مضبوطًا، فلم يترُك لنا علماء اللغة معاجم وكُتبًا نعرِف منها مبادئ اللغة العبرية، أو قواعد اللغة، أو في الخطابة، فقد فقدَتِ الأُمَّة العبرية كلَّ شيء، ولم يبقَ إلَّا بعض المنوعات الأدبية، وضاعت أسماء النباتات والحيوانات والطيور والأسماك، وهناك أسماء وأفعال كثيرة في التوراة مجهولة أو مشكوك فيها، كما لا نعلَم أساليب اللغة وطُرق بيانها بعد أن طواها النسيان؛ لذلك لا نستطيع معرفة معاني النصوص طبقًا لاستعمال الكلمات، فهناك كلمات معروفة للغاية، ولكن معناها غامض، لا يُمكن العثور عليه. هذا بالإضافة إلى طبيعة هذه اللغة نفسها وعباراتها الغامضة التي لا يمكن لأي منهج توضيحها. ومن أسباب هذا الغموض:- (أ)
استبدال الحروف التي لها المخرج نفسه، الشفاه، الأسنان، الحنجرة، اللسان، الحلق.
- (ب)
غياب الأزمنة (الحاضر، الماضي الناقص، الماضي التام، المستقبل السابق) في الصيغة الإخبارية، وغياب جميع الأزمنة إلَّا الحاضر في صيغة الأمر والصيغة المصدرية، وغياب الأزمنة جميعها في الصيغة الإنشائية.
- (جـ)
غياب الحروف المتحركة.
- (د)
غياب التنقيط والتشكيل لبيان أجزاء الكلام، وقد وُضِع فيما بعد، ممَّا يدعونا إلى الشكِّ في القراءات الحالية.
بالإضافة إلى ذلك، تُواجِهنا صعوبة لغوية أخرى، وهو أنَّنا لا نملك أسفار الكتاب بلُغتِهِ الأصلية التي كُتبَت بها أول مرة خاصَّةً العهد الجديد، فقد كُتِب إنجيل متى ورسالة بولس إلى العبرانيين باللغة العبرية، وضاع النص الأصلي، كما لا نعلَم بأية لُغة كُتب سِفر أيوب؛ إذ يؤكد ابن عزرا أنه كُتب بلغة أخرى، ثم تُرجِم إلى العبرية.٤٥ - (أ)
- (٢)
جمع النصوص وفهرستها في موضوعات رئيسة، حتى يُمكن استعمال النصوص التي تتعلَّق بالموضوع نفسه مرَّةً واحدة. يجِب إذن تحويل الكُتب المقدَّسة إلى معاجم مُفهرسة، حتى يسهُل استعمالها حسْب الموضوع، كما يُمكن تبويب الآيات حسْب الوضوح والغموض، فتوضع الآيات الواضحة معًا والمُتشابهة معًا. ويعني الوضوح هنا فَهم النصِّ حسب السياق، وليس حسب العقل؛ لأنَّ مهمَّة التفسير فَهم النص، لا معرفة الحقيقة، كما لا ينبغي الخلْط بين فَهم النص وإدراك الأشياء الطبيعية، حتى لا نخلِط بين معنى الآية وحقيقة الأشياء، علينا فقط الاعتماد على اللغة، أو على الاستدلالات، ابتداءً من الكتاب. فمثلًا «الله نار» آية واضحة مع أنه معناها مُعارض للعقل وللنُّور الطبيعي؛ لذلك يجِب وضعها في قِسم الاستِعارة. وإذا كانت هناك بعض الآيات مُتَّفقة مع العقل، ولم نستخلِص معناها من الكتاب، يجِب التوقُّف عندها؛ إذ إنَّه لا ينبغي الابتعاد عن المعنى الحرفي للآية والاستِعمال اللُّغوي، بصرف النظر عن اتفاقها أو اختلافها مع العقل.
لا توجد طريقة إذن لتحديد معنى النصوص إلَّا طريقة جمع النصوص وهي طريقة لا تُوضِّح النصوص الغامِضة إلَّا مُصادفة، وهي طريقة مُجدية للتعرُّف على فِكر الأنبياء، فيما يتعلَّق بالأمور غير الحِسِّية، والتي لا تُدرَك إلَّا بالخيال، أما ما يُمكن إدراكه بالذهن، أي الأمور النظرية، والتي نستطيع تصوُّرها بسهولة مثل التعاليم الخلقية، فهي عامة بسيطة سهلة، لا تحتاج إلَّا إلى النُّور الفطري.
ولا يجوز في جمع النصوص وضع الآيات الواضحة مع الآيات الغامضة، حتى يُمكن تفسير الثانية بالأولى، وإلَّا قام التفسير حسب الهوى. فإذا كان النص صريحًا على أن الشمس تدور حول الأرض، فلا يَجوز التعسُّف في التفسير، وإخفاء معناه، أو تحويله إلى معنًى آخَر حتى يتَّفِق مع الحقيقة العلمية، فلم يكن يشوع، وهو الذي تحدَّث في هذا النص، عالمًا في الفلك، لا يجوز إذن إخراج الكلِم عن مواضعه، وتأويل النص، والتعسُّف معه، وتحميله أكثر مما يحتمِل.٤٦ - (٣)
معرفة الظروف والمُلابسات التي كُتبت فيها الرواية، أي معرفة حياة مُؤلِّف السفر، وتقاليده، وأخلاقه، والغاية من السِّفر، ومُناسبته، وعصره، ولُغته، ثم مصير السِّفر نفسه؛ جمعه، ونقلُه، ونَسخُه، والاختلافات بين النُّسخ، وتقنينها، وتحليلها؛ حتى يمكن التفرقة بين آيات التشريع وآيات الأخلاق، وحتى نستطيع التعرف على موهبة المُؤلِّف الأدبية، وحتى لا نخلِط بين التعاليم الوقتية والتعاليم الإلهية الأميرية، وكل ذلك حتى يُمكننا أخيرًا تحديد درجة سُلطته، والوثوق بالسِّفر، فلربما غيرته يدٌ آثِمة عن عمد، أو دخله التحريف والتغيير والتبديل.
ولكن أمام هذه الخطوة صعوبات جمَّة؛ وذلك لأنَّنا نجهل الظروف الخاصَّة لكلِّ الأسفار المقدسة، كما نجهل مُؤلِّفي كثيرٍ من الأسفار، كما نجهل كاتبيها، وموضوعاتها، ومُناسباتها، ورُواتها، ومن وقعَتْ في أيديهم، وعدد نُسَخها، والاختلافات بينها، ومصادرها، خاصَّةً إذا كانت تروي أشياء غامضة، لا يُمكن إدراكُها أو تصديقها، ما دُمنا نجهل قصْد مؤلِّفها. فإذا عرفْنا كلَّ ذلك، يُمكننا أن نتخلَّص من أحكامِنا السابقة، نفهم النصَّ كما أراده مُؤلِّفُه، ولا نحكُم عليه سلفًا بأنها أسطورية أو سياسية أو دِينيَّة.
والذي يُعطينا مِقدار الصحَّة التاريخية للنصِّ هو منهج التفسير (ويعني به سبينوزا منهج النقد التاريخي). أما السُّنة النبوية (التُّراث الدِّيني اليهودي كما هو موجود لدى الفِرَق مثل الفريسيِّين)، أو العِصمة البابوية كما هو الحال عند الكاثوليك الرُّوم، فلا يُعطيان أي يقين. فقد رفَض اليهود الأوائل هذا التُّراث الديني (المِيدراش مثلًا) لأنَّ الأحبار لم ينقلوها عن موسى كما يدَّعي الفريسيُّون. لقد أقيمت السُّلطة الدينية عند اليهود لتطبيق الشريعة، وهي قانون الدولة، لا لتفسير الكتاب المُقدَّس أو تقنينه؛ لأنَّ لكلِّ فردٍ الحقَّ في تفسيره بالنُّور الفطري، ولكلِّ باحثٍ الحقُّ في تطبيق قواعد المنهج التاريخي لإثبات مِقدار صحَّة النصوص.
كذلك يُعطينا منهج التفسير اللغوي المعاني الصحيحة للألفاظ، لأنه إذا أمكن تغيير معنى النصِّ بسهولة، فإنه لا يُمكن تغيير معنى الكلِمة أو اللفظ؛ لأنَّ الكلمة يحكُمها معناها الطويل، ومن يُريد تغيير معناها عليه تغيير تاريخ استعمالها وهذا مُستحيل، فاللغة محفوظة في تُراثها عند الشعب وعند عُلماء اللغة، فإذا غيَّر العلماء معنى النص، فإنهم لا يستطيعون تغيير معاني الكلمات، ومن الصَّعب إعطاء الكلمات معانيَ جديدة كليةً مُخالفة لمعانيها القديمة؛ لذلك لا يُمكن تحريف معاني الكلمات بالرغم من جواز تحريف النصوص، وتغيير فكر الأنبياء بتغيير النصِّ أو بإساءة التأويل.
فإذا كانت كلُّ هذه الصعوبات اللغوية والتاريخية تمنعُنا من معرفة الأشياء التي لا يُمكن إدراكها، والتي يُمكن تخيُّلها فحسْب، فإنها لا تمنعنا من تصوُّر الأشياء التي يُمكننا إدراكها بالذهن. فقد كَتَب إقليدس أشياء سهلة في كلِّ لغة، ولا تهمُّ معرفة اللغة الأصلية معرفة كاملة، بل لا يهم معرفة أية لُغةٍ معرفة كاملة، ولا يهمُّ أيضًا معرفة حياته، وعاداته، وتقاليده، وظروف الكتابة، ومُناسباتها، والغاية منها، وطُرُق جمعها، ومن تناولها. والتعاليم الخلقية في الكتاب المقدس يمكن إدراكها على هذا النحو، فإنَّنا نفهمها بسهولةٍ ويسر، ونعلم معاني الآيات عن يقين؛ إذ يتمُّ التعبير عنها بأكثر الألفاظ شُيوعًا وبساطة، لأنَّ الخلاص الحقيقي يكون في اطمئنان النفس، وهذا ما يُمكن معرفته بوضوح.
لا يُمكن إذن، في رأي سبينوزا، إخضاع النصِّ لشيءٍ آخر غيره، مثل فلسفة أفلاطون، أو أرسطو أو تأويله تأويلًا مجازيًّا، حتى يتَّفِقَ مع العقل، أو إخراج ما فيه من أسرار إلهية مُدَّعاة، هي مُجرَّد أوهام وخيالات، أو خُرافات وأساطير.
سادسًا: النبوة
بدأ سبينوزا بدراسة النبوَّة لأنها الموضوع الذي يتناوله الباحث عندما يُريد دراسة الوحي؛ إذ يتمُّ كشف الوحي من خلال النبوَّة، والنبوَّة في الغالب وحيٌ مكتوب، فهي مصدر النص قبل التدوين. وتشمل النبوَّة جانبَين: الأول صِلتها بمصدر الوَحي، أي النبوَّة على المستوى الرأسي كما تُحدِّده صِلة النبي بالله، والثاني النبوَّة صِلة النبي بالرُّواة وانتقالها من روايةٍ إلى رواية، حتى يتمَّ التدوين، ثُمَّ انتقال المصاحف من يدٍ إلى يدٍ حتى يتمَّ التقنين، أي النبوَّة على المستوى الأفقي كما يُحدِّده وضعها وانتقالُها في التاريخ. الجانب الأول يدرُسه سبينوزا في أول الرسالة ثُمَّ يدرُس الجانب الثاني بعد ذلك وهو بصدَد النقد التاريخي للكُتُب المقدَّسة. والحقيقة أن الجانب الأول موضوع للفلسفة الإلهية، وهي نظرية النبوَّة بالمعنى الضيِّق، والمعروفة باسم نظرية الاتِّصال في الفلسفة الإسلامية، والثانوي موضوع لأصول الفقه أو لِعلم الحديث الذي يدرُس الرواية وانتقالها في التاريخ. الجانب الأول مَبحث ميتافيزيقي افتراضي، والثاني مبحث تاريخي علمي. الأول لا يتعدَّى الظن، والثاني هو المنطق الموضوعي لها.
ولا يتناول سبينوزا الجانب الأول من النبوة إلا بقدْرٍ يسير. فإذا كانت النبوَّة تعني تدخُّل الله في قوانين الطبيعة، فإنَّ ذلك لم يحدُث، لأنَّ قُدرة الله هي قدرة الطبيعة، وصفات الله هي قوانين الطبيعة، كما أنَّ قدرة الله لا تفسِّر شيئًا؛ لأن السبَّب المُتعالي لا يُمكنه تفسير واقعة طبيعية.
فإن لم تكن قُدرة الله أو رُوح الله سبب النبوة، فإنه لم يبقَ أمامنا إلا رُوح الإنسان، فالرُّوح الإنسانية وطبيعتها هي السبب الأول في وجود الوَحي لأنها قادِرة على تكوين بعض الأفكار، تُفسِّر بها طبيعة الأشياء، وتدلُّ بها على الحياة الصحيحة، فلو لم تكن هناك رُوح إنسانية، لما كانت هناك نبوَّة، ولو لم يكن هناك إنسان، لَما كان هناك الوَحي. لا يهمُّ سبينوزا إذن المصدر الإلهي للنبوَّة، بل يهمُّه أنها واقعة إنسانية، حدثت بالفعل، وبذلك يكون الدَّليل على النبوَّة هو وجود النبي، لا وجود الله.
وفضلًا عن الصوت أو الكلام، ظهر الله أيضًا ظهورًا حِسيًّا عندما أراد أن يُظهر غضبه لداود، فأراه ملكًا مُمسكًا بسيف، بالرغم من إنكار موسى بن ميمون ذلك، واعتباره مجرَّد حلم، كما كشف الله ليوسف نصرَه باستعمال بعض الصُّوَر الذهنية من مُخيلة النبي، لا باستعمال رؤيةٍ حقيقية، كما كشف ليشوع عونَه لليهود في المعركة بالرُّؤى والكلمات معًا، فأراه ملكًا قابضًا على سيفٍ على رأس الجنود، مُؤيدًا بالكلمات في حركاته واتِّجاهاته، وكشَف لأشعيا أيضًا بعض المظاهر الحسِّية، وأخبره بترك الشعب للعناية الإلهية، وتُصوِّر النبيَّ الله مُستويًا على عرشٍ عال، في حين لطَّخ الإسرائيليون أنفسهم بالوحل، وغاصوا في الدخان. رؤية موسى وحدَها كانت بلا رموز، فقد كان موسى كليم الله.
يُدرك النبيَّ الوحي بمخيلته أي بالكلمات والصور الذهنية صادِقةً أم كاذبة؛ لذلك تجاوز الأنبياء معرفة الأشياء بالحدود العقلية، وعبَّروا عنها بالرموز والأمثلة، كما عبَّروا عن الحقائق الرُّوحية بالتشبيهات الحِسِّية، وهو الأسلوب المُتفِق مع طبيعة الخيال. ولمَّا كان الخيال غامضًا مُتقلِّبًا، ظهرت النبوَّة عند بعض الناس على فتراتٍ مُتباعدة في حياتهم. لم يكن للأنبياء فِكر أكمل، بل خيال أخصب، فمع أنَّ سليمان قد ملأ الأرض عِلمًا وحكمة، إلَّا أنه لم يتمتَّع بهبَةِ النبوة، وعلى عكس منه، كانت لهاجر هِبة النبوَّة دون أن يكون لها عِلم، فمن يتميَّزون بالخيال الخصب يكونون أقلَّ قُدْرة على المعرفة العقلية، ومن يَتميَّزون بالعقل يكونون أقل قدرة على الصور الخيالية؛ لذلك لا تحتوي أسفار الأنبياء على معرفة عقلية للأشياء الطبيعية، بل على صُوَر خيالية للتأثير على النفوس.
ويتكيَّف الوحي حسب خيال الأنبياء وقُدراتهم كما تكيَّفَ بعد ذلك حسب مُعتقدات الحواريين والدُّعاة وأساليبهم في نشْر الدَّعوة. يختلف الأنبياء فيما بينهم حسبَ خيالهم وطبعِهم ومُعتقداتهم وآرائهم، فالنبي الفرِح توحى إليه الحقائق بحوادث سعيدة، والنبيُّ الحزين تؤيده آيات حزينة، والنبيُّ ذو الخيال المُرهَف تُوحى إليه الأشياء بصُورٍ ناعمة رقيقة، والنبيُّ الريفي يُوحَى إليه بصورٍ ريفية، والنبي الجندي يُوحَى إليه بصورٍ عسكرية، والنبي رجل البلاط يُوحَى إليه بصورٍ ملكية. ويختلف الأنبياء فيما بينهم حسب مُعتقداتهم في السِّحر والتنجيم، فتُوحَى إليهم الموضوعات السحرية كما أوحيَت للمجوس ولادة المسيح. ومن يؤمنون بالكهانة والعرافة يُوحى إليهم في أمعاء الضحايا، ومن يؤمنون بحرية الاختيار يُوحى إليهم بأن الله لا يتدخَّل في أفعال البشر.
أما سليمان، فقد تَصوَّر الله تصوُّرًا عقليًّا بالنور الفطري وبذلك تميَّز عن أنبياء عصره، وكان أعلى من الشريعة التي وُضِعت من أجل ضِعاف العقول الذين لا يستطيعون إدراك الحقائق بالنُّور الفطري، وأعلن زَوال نِعَم الحياة، وأنه لا يُوجَد أفضل من العقل وأشرَّ من نقص العقل. ولكن سليمان لم يُراعِ الشريعةَ مُطلقًا، بل خرَقَها علنًا، ولم يكُن سلوكه سلوك فيلسوف، وذلك لِسَعيه وراء اللذات.
وقد بلَغَ تصوُّر الأنبياء للوحي وللحقائق الإلهية إلى حدِّ أنَّ بعض الأحبار شكُّوا في الأنبياء، كما وقَعَ لِسفر حزقيال، فقد بلغَتْ آراء هذا النبي حدًّا أن حاوَلَ بعض الأحبار حذفَهُ من أسفار العهد القديم، لاختلافه مع تصوُّر موسى، لولا أنْ أتى حنانيا وشرَحَه لهم، ولكن لم يمْنَع هذا الشرح من وجود تعارُضٍ صارخٍ بين آراء حزقيال وأسفار الخروج وإرميا وصموئيل ويوئيل بالنسبة لله والخطيئة والتوبة والغفران.
لم تجعل النبوة الأنبياء أكثر عِلمًا بل تركتْهُم وأفكارهم السابقة؛ ولذلك لا يَجُوز لنا تصديقهم في الأمور النظرية. لقد جَهِل الأنبياء أشياء كثيرة، على غَير ما تظنُّ العامة، مع أنَّ الأنبياء في رأيهم قد أحاطوا بكلِّ شيء، بل إن كثيرًا من أقوالهم في تناقُضٍ صريح مع العلم، فقد ظنَّ يشوع أنَّ الشمس تدور حول الأرض لأنه لم يكُن عالمًا في الفلك، كذلك جهل يشوع انكسار أشعَّةِ الشمس على البُرد المُعلَّق في الهواء، وقد ظنَّ أشعيا أن تناقُص الظل يرجع إلى تناقُص الشمس. لقد جهل الأنبياء الأسباب الحقيقية للظواهر الكونية. أما سليمان فلم يكُن رياضيًّا مع أنه باني المعبد، واعتقد نوح أن العالم لم يكن مسكونًا إلَّا في فلسطين. كان الأنبياء بشرًا ولا ينقُص جهلُهم بِعَلل الظواهر الكونية من تقواهم ومن إخلاصهم شيئًا.
لا ضَير إذن أن يجهل الأنبياء الحقائق النظرية مثلًا فيما يتعلَّق بالأرض والشمس والظلِّ وقوانين الطبيعة؛ لأنَّ الأنبياء ليسوا علماء، أو علماء طبيعة، بل هم بشَر، يستعملون أخطاء البشر كصُورٍ فنية للتعبير بها عن تعاليمهم النبوية؛ لذلك، لم تختلف تَصوُّراتهم عن ماهية الله وطبيعته وصفاته عن تَصوُّرات العامَّة، حتى موسى، الذي أدرك أنَّ الله ليس كمثله شيء وهو الواحد الصمد، عبَّر عن الله بصورٍ حسِّية، ونسَبَ إليه الانفعالات والأهواء البشرية.
- (١)
تخيُّل الأنبياء الأشياء المُوحى بها بطريقةٍ حيَّةٍ كإدراكنا للأشياء الطبيعية.
- (٢)
الآيات التي يعتمِد عليها الأنبياء.
- (٣)
مَيل الأنبياء الطبيعي إلى العدل والخير.
سابعًا: المِيثاق المُؤقَّت والمِيثاق الأبدي
لقد أُعطِيَت النبوَّة للناس، ولكنَّها أُعطِيَت بوساطة إنسانٍ مُعيَّن، وهو النبي، لشعبٍ مُعيَّن، وهم بنو إسرائيل، وكأنَّ الوحيَ لا يُذاعُ ولا يُكشَف إلَّا لشعور جماعي لشعبٍ مُعين، وكأنَّ النبوَّة لا تُرسَل إلَّا لدى قومٍ ذوي بناء اجتماعي قائم. لم يتناثَر الوحي مرة هنا ومرة هناك، بل ظلَّ في مسارٍ واحد له لدى بني إسرائيل حتى اكتملتِ النبوَّة في المسيح، آخِر نبيٍ من أنبياء بني إسرائيل. ولكن هل يَعني ذلك ميزة مُعينة لهذا الشعب على غَيره من الشعوب؟ هل يدلُّ ذلك على أن الله إلهٌ خاصٌّ بهم لا تُشاركهم فيه الشعوب الأخرى؟ هل يَعني أنَّ الله عقد معهم مِيثاقًا أبديًّا من أجل تفضيلهم على سائر البشر، ومن أجل اصطفائهم؟
ليس السعادة الحقَّة في حصول البعض على المغانم وحِرمان الآخرين منها، كما لا يكون الناس أكثر سعادةً إذا هم حصلوا على مغانم أكثر، والذي يفرح بهذه السعادة التي تفُوق سعادة الآخرين يكون فرَحُه فرحًا صبيانيًّا، وناشئًا عن الحِقد والحسَد. السعادة هي الحِكمة ومعرفة الحق، لا أن يكون الإنسان أحكم من الآخرين، أو أن يُحرَم الآخرون من الحِكمة؛ فذلك لن يزيد من سعادته شيئًا، ومن يَفرَح لسعادتِهِ ولشقاء الآخرين يكون حسودًا شريرًا، لا يعرِف السعادة الحقيقية، وطمأنينة النفس.
لذلك، عندما يُخبِرنا الكتاب بما فضَّل الله به العبرانيين حتى يحُثَّهم على طاعة الشريعة، فليس معنى ذلك أنهم حصلوا على السعادة الحقَّة وحدَهم دون غيرهم؛ فما كانت سعادتهم أقل لو أن الله دعا جميع البشر إلى الخَلاص، وما كان الله أقلَّ رعايةً لهم لو أنه رعى الآخرين أيضًا، وما كانت الشريعة أقلَّ عدالةً لو أنها وُضِعت للناس جميعًا، وما كانت المُعجِزات أقلَّ قُدرة لو أجراها الله للناس جميعًا. وعندما أخبر الله سليمان بأنه لا يُوجد من يفُوقه حِكمة، فإنه أراد بذلك أن يُعبِّر عن مدى حِكمته، لا عن أنه لم يَعِد أحدًا سواه بحكمةٍ أعظمَ من حكمته. صحيح أنَّ الله أعطى موسى الشريعة للعبرانيين، وأنه خاطَبَهم، وكشف لهم عن نفسه كما لم يحدُث لأمَّةٍ أخرى، ولكنه لم يستبعِد الأمم الأخرى من عِلمه ورحمته، بل إنَّ العبرانيين، بالرغم مما أعطاهم الله من فضله، لم يكونوا أصفياء الله فيما يتعلَّق بالحياة الحقَّة والتأمُّلات السامية.
لقد أرسل الله الوحيُ للبشر، فكان لا بُدَّ أن تحدُث النبوة في جماعة، وقد حدَثَت في بني إسرائيل لظروفٍ تاريخية مَحْضة، أي لظروفٍ طارئة، دون أن يدُلَّ على اختيارٍ أبدي لهم، أو على اصطفاء الله لهم، وتفضيلهم على العالمين؛ وذلك لأنه إذا كان كلُّ ما يَصبُو إليه الإنسان لا يتعدَّى أشياء ثلاثة: معرفة الأشياء بِعِلَلها الأولى، السيطرة على انفعالات النفس للتَّحقُّق بالفضيلة ثم العَيش في سلامٍ مع جِسم سليم، فإن وسائل الحصول على الغايتَين، الأولى والثانية، موجودة في الطبيعة الإنسانية، ومن ثَمَّ فهي لا تقتصِر على أُمَّةٍ دُون أُمَّة. أمَّا الغاية الثالثة فهي تعتمِد على الأشياء الخارجية، كما تعتَمِد على الرِّزق والحظِّ الذي يَجهله الجميع؛ لذلك اعتمد الناس على تنظيم حياتهم، وتعوَّدوا على اليَقَظة، وقد دلَّت التجربة على أن أفضل وسيلةٍ لذلك هو تكوين مُجتمع تحكُمُه القوانين، وذلك باحتلال بُقعةٍ من الأرض، وتوحيد قوى سُكَّانها في هيكلٍ اجتماعيٍ واحد؛ إذ يُعطي المُجتمَع مزيدًا من الأمن والاستقرار، ويكون أقلَّ اعتمادًا على الحظوظ الخارجية، ويتجاوَز مرحلة المجتمع البدائي الذي يعتمِد كلية على هذه الحظوظ، أو يعتمد على مجتمع آخَر يَحكُمه، أو إذا تخلَّص من المخاطر، يُقدِّس حُكم الله من حيث تأثيره في الموجودات الطبيعية، لا في الأفكار الإنسانية لأنَّ الله قد أعطاه كلَّ شيء، دون انتظارٍ منه، وكأنَّهُ مُعجِزة.
ثامنًا: القانون الإلهي والقانون الإنساني
لم ينزل الوَحيُ فكرًا فقط، بل نزل أيضًا نظامًا للكون، أو كما يقول المُسلمون: الدين عقيدة وشريعة، وقد كان الدِّين اليهودي عند موسى شريعةً أكثرَ منه عقيدة، وكان الدين المسيحي عقيدة أكثر منه شريعة. والشريعة هي القانون الإلهي الذي تَمَّتْ صياغته في قانون إنساني.
والقانون على الإطلاق هو اندِراج جميع الأفراد في مجموعةٍ مُعيَّنة تحت قاعدةٍ واحدة. ويعتمد القانون إمَّا على الضرورة الطبيعية أو على القرار الإنساني، ويَعتمد القانون على الضرورة الطبيعية عندما يَصدُر عن الطبيعة نفسها، أو عن تعريف الموضوع، ويَعتمِد على القرار الإنساني، ويُسمَّى في هذه الحالة قاعدة، عندما يجعل الحياة أكثرَ مُلاءمة وأمنًا، أو عندما يُصدِرُه الناس لأنفسهم أو للآخرين لأسبابٍ أخرى. فإذا اصطدمت أجسام كبيرة بأجسام صغيرة، فإنها تفقِدُ من حركَتَها بقدْرِ ما تُعطي، هذا قانون شامِل يَصدُر عن ضرورةٍ في الطبيعة، وعندما يتذكَّر إنسان شيئًا ما ويتذكَّر شيئًا آخر مُشابهًا، هذا قانون شامل يَصدُر عن ضرورة في الطبيعة الإنسانية. أما إذا تنازل الناس عن حقوقهم طوعًا أو اختيارًا، فإنَّ ذلك ينتُج عن قرارٍ إنساني. ومع أنَّ مِثل هذا القانون يعتمد على القرار الإنساني، إلَّا أن كل شيء مُحدَّد طبقًا لقوانين الطبيعة الشاملة؛ لأنَّ الإنسان جزء من الطبيعة وقدرتها.
أما القانون بمعناه الخاص فهو الأمر الذي يُنفِّذه الإنسان، والذي يُحدِّد قُدرته أو الذي يأمُرُه بما يستطيع، ويكون الأمر هنا قاعدة للحياة يفرِضُها الإنسان على نفسِهِ أو على الآخَرَين لغايةٍ مُعيَّنة. وقد قام المُشرِّعون بوضع القوانين حتى تَسير الحياة وفقًا للعقل، ويَصحَبُ القانون الجزاء والعقاب، خاصةً للعامَّة؛ وذلك لأنَّ الخاصة يعلمون الغاية من القوانين، حتى قبل وَضعِها، فالعامَّة تخضع للقوانين التي يَسنُّها الآخرون لها خوفًا من العقاب، أما الخاصَّة الذين يَسلكون سلوكًا فاضلًا، فإنهم يَتَّبِعون قراراتهم الخاصَّة لا ما يضعه الآخرون لهم، ويكون العدل حينئذٍ في اتِّباع القرار الخاص. ومن هنا، جاءت التفرقة بين القانون الإلهي والقانون الإنساني، فالقانون الإلهي يبغي الخير الأقصى أي معرفة الله وحُبِّه، في حينِ أنَّ القانون الإنساني يبغي أمنَ الحياة وسلامة الدولة.
- (١) قانون شامل، يَصدُق على كل الناس، ويُستنبَط من الطبيعة الإنسانية، ويُدرَك بالنور الفطري، ولكن هل يُمكن بوساطة النُّور الفطري تَصوُّر الله كمُشرِّع أو كأمير يَسنُّ القوانين للناس؟٦٤إذا عرَفْنا طبيعة الله، وأن إرادته وذِهنَه شيء واحد، عرَفْنا أنَّ أوامر الله بالتحريم أو بالتحليل حقائق أبدية، تتضمَّن ضرورةً أبدية.٦٥ لقد أوحى الله لآدم الشَّرَّ الذي سيكون النتيجة الضرورية لفِعله، ولكنه لم يُوحِ إليه ضرورة نتيجة هذا الشر، أي أنَّ آدم لم يُدرِك الوحيَ كحقيقة أبدية، بل أدرَكَه كقانون أو كقاعدة، تُقرِّر وجوب ثَوابٍ أو عقاب، نتيجةً لفعلٍ ما، وليس لطبيعة الفِعل نفسه، بل طبقًا لمشيئةِ أميرٍ وإرادته المُطلَقة، فنظرًا لنقصِ معرفة آدم، أصبح الوحي قانونًا، والله مُشرِّعًا وأميرًا؛ ولهذا السبب أيضًا أصبحَتِ الوصايا العشر شريعةً للعبرانيين وحدَهم، لأنهم لم يعرفوا الله كحقيقةٍ أبدية، وذلك أنَّ الله لم يتحدَّث إليهم مُباشرةً من خلال وسائل حِسِّية، وكذلك تَلقَّى الأنبياء أوامر الله، دون أن يُدرِكوها كحقائق أبدِيَّة، حتى موسى نفسه الذي أدرَكَ الوحي كشرائع تخصُّ العبرانيين، تُنظِّم حياتهم، دون أن يُدرِكها كحقائقَ أبدية؛ لذلك تَصوَّر الله كمُشرِّعٍ أو كملكٍ أو كأمير أو كحاكم، أو على أقصى تقدير، كموجودٍ عادل ورحيم، يَتَّصِف بكلِّ الصِّفات الإنسانية التي يَجِب إبعادها كُليَّةً عن الطبيعة الإلهية.٦٦
المسيح هو الوحيد الذي أدرك الأشياء كحقائق أبدية، لأنَّ المسيح كان أقرَبَ إلى فَمِ الله منه إلى نَبِيِّه، فقد أوحى الله بوساطة رُوح المسيح بعض الأشياء، كما أوحى من قبل بوساطة الملائكة والأصوات المخلوقة والرُّؤى، ولم يتكيَّف الوحي حسْب آراء المسيح ومُعتقداته، كما تكيَّف مع باقي الأنبياء؛ وذلك لأنَّ المسيح لم يُرسَل إلى اليهود وحدَهم، بل إلى البشر جميعًا، كما لم يَتكيَّف الوحي حسب مُعتقدات شعبٍ مُعيَّن، بل تضمَّن تعاليمَ شاملة للإنسانية كلها، أي حقائق أبدية. لقد أعطى الله المسيح حقائق الوحي مُباشرةً بلا واسِطة، أي بمعرفةٍ عقلية، لأنَّ المعرفة العقلية هي إدراك الأشياء بلا تَوسُّط من الكلمات أو الصور، ومع أنَّ حديثه كان أكثر وضوحًا من الأنبياء، إلَّا أنه لم يَخلُ من غموض، فقد استعمل لغةَ الرَّمز والمَثَل، خاصَّةً وأنه كان يُخاطب قومًا لم يتحرَّروا بعدُ من عبودية القانون، ومع ذلك استطاع المسيح تثبيت الحقائق الإلهية وطبْعَها في القلوب.
خُلاصة القول إنَّ العامة الذين تنقُصُهم المعرفة هم الذين يَتصوَّرون الله كمُشرِّع أو كأمير، ويُسمونه عادلًا ورحيمًا، والحقيقة أنه يفعل ويُوجِّه كلَّ شيءٍ بضرورة طبيعته وكمالها.
ولكن الفيلسوف، شأنُهُ شأن المسيح، يَستطيع إدراك الوَحي بالنور الفِطري لذلك سَمَّى سليمان العقل «ينبوع الحياة الحقَّة» ويكون الشَّقاء في ضَياع العقل؛ وذلك لأن عقلنا وعِلمنا يعتمدان على معرفتنا بالله وتَصوُّرِنا له، وهذا العالَم من شأنه الحثُّ على الأخلاق الصحيحة والسياسة السليمة، وهي الأخلاق الطبيعية التي تَتَّفِقُ مع أخلاق الفضيلة، وبذلك يكون النَّعيم في تنمية العقل الطبيعي؛ وذلك لأنَّ النُّور الفِطري قادر على إدراك القانون الإلهي.٦٧ - (٢)
القانون الإلهي لا يَقتضي التصديق بالرِّوايات مهما كان مضمونها، لأنَّنا نَعرِفُه من الطبيعة الإنسانية، في حين أنَّ الروايات مُقيَّدة بالظروف التاريخية التي نشأت فيها، فالتَّصديق بالمُعجِزات المُتضمَّنة في الرواية لا يُمكن أن يُعطينا معرفة الله أو حُبِّه؛ لأنَّ حُبَّ الله يصدُر عن معرفته، ومعرفة الله تَنتُج من الأفكار العامَّة التي يكون بعضها معروفًا، يُمكنها أن تُعطينا بعض أوجُهِ النفع في الحياة العملية، وتُفيدنا في معرفة سلوك الآخرين.
فإذا كان هناك طريقان: طريق العقل وطريق التجربة،٦٨ الأول طريق النُّور الفطري لعَددٍ قليلٍ من الناس والثاني طريق الرواية للعامَّة، وقد استعمل الكتاب المُقدَّس كِلا الطريقَين، فالفيلسوف لا يحتاج إلى الرواية؛ لأنه يُدرِك حقائق الوحي بالنُّور الفطري، أما العامَّة فإن التصديق بالروايات ضروري لها؛ لأنَّها لا تستطيع إدراك الأمور النظرية، ومن يُنكِر هذه الروايات لأنه لا يُؤمِن بالله فهو كافِر جاحِد، ومن يَجهلها ويؤمن بالله بالنُّور الفطري، ويُراعي قواعد السلوك، فإنه يحصُل على السعادة الأبدية أكثر مِمَّا يحصل عليها العامَّة؛ لأنَّ لدَيه معرفة واضحة ومُتميِّزة عن الحقائق الإلهية. ولمَّا كانت العامَّة غير قادرة على البرْهَنة على مُعتقداتها بالبحث الدقيق في جميع الروايات وصِحَّتِها، فعليها أن تُؤمِن بها كما هي ما دامتْ تَحُثُّها على الطاعة والإخلاص، وما دامَتْ عاجزةً عن أن تحكم على صحة هذه الروايات أو على مضمونها،٦٩ وتحتاج العامَّة بالإضافة إلى هذه الروايات إلى رجال الدين وإلى القُسُس وإلى الكنيسة.فمعَ أن الروايات أفضل من التاريخ البشري الدُّنيوي، ومع أن بعضها أفضل من بعض من حيث استخدامها في نَشْر المُعتقدات، إلَّا أن التصديق بها لا صِلة له بالقانون الإلهي، ولا يُؤدِّي إلى السعادة الأبدية، قد نَجهَل هذه الروايات كليةً، ومع ذلك يَظلُّ سلوكنا فاضلًا ونحصُل على السعادة الأبدية لو كانت رُوح المسيح فينا. ويَظنُّ بعض اليهود أن تطبيق قواعد السلوك القويم لا يؤدِّي إلى السعادة الأبدية، ما دام إدراكها قد تَمَّ بالنُّور الفطري، ولم يُبقِ من الوحي شيئًا، وهو رأي موسى بن ميمون ويُوسف بن شيم طوب، ولن تنفَعَهم أخلاق أرسطو في الخلاص، لأنهم يُدرِكونها بالوحي. وهذا ظَنٌّ باطِل، لا يُؤيِّده العقل أو الكتاب. وهكذا يبدو سبينوزا أكثر عقلانية من ابن ميمون الذي ما زال يُريد إفساح المجال للوحي بجوار العقل، في حِين أنَّ سبينوزا يكتفي بحياة الفضيلة وبإدراك النُّور الفِطري حتى يَحصُل الإنسان على السعادة الأبدية.٧٠ - (٣) القانون الإلهي الطبيعي لا يتطلَّب إقامة الشعائر والطقوس أي مُجرَّد حركات، وأعمال للجوارح لا تكون خَيِّرة إلَّا بالنسبة لنظامٍ مُعيَّن.٧١ لا يتطلَّب القانون الإلهي أفعالًا يتجاوز تبريرُها حدود العقل الإنساني، فالخَير الحقيقي يُدرِكه النُّور الفطري، أمَّا الخير التابِع لنظامٍ أو قانونٍ فليس إلَّا وهمًا. فإذا كان القانون الإلهي شاملًا محظورًا في النفس، فقد وُضِعَت الشعائر والطقوس في العهد القديم للعبرانيين وحدَهم، وتكيَّفَت حسب دولتهم، ولا يقوم بها الأفراد كلٌّ على حِدة، بل تقوم بها الجماعة، ولا شأن لهذه الطقوس بالقانون الإلهي، أو بالسعادة والفضيلة، بل تتعلَّق باختيار العبرانيين من حَيث النعيم الدُّنيوي، وسلامة الدولة، لأن هذه الشعائر لا تُقام إلَّا في الدولة، وقد نُسِبت إلى الله فقط؛ لأنَّها صادِرَة عن الوحي.
ولكن كيف استطاعَتْ هذه الشعائر المُحافظة على الدولة، وما السبب في ذلك، مع أنَّ القانون الإلهي هو هذا القانون الشامل الذي هو القاعدة للحياة الحقيقية، لا هذه الطقوس؟ ليس غَرَض الشعائر الحصول على السعادة بل النعيم الدُّنيوي للدولة كالثروة والنصر أو للجماعة كالصحة واللَّذات الدُّنيوية، بل إنَّ التعاليم الخلقية لم تُعطَ في الأسفار الخمسة كقانون شامل، بل كوصايا تكيَّفَت مع عقلية العبرانيين وحدَهم، ولمصلحة دولتهم. وقد حرَّم موسى القتل والسرقة كما يُحرِّمُها الفقيه أو النبيُّ أو المُشرِّع أو الأمير، ولم يَقبَلِ الاستدلال في هذه الأحكام أو فهمها، بل علَّق عليها الثواب والعقاب نتيجةً لما يُصيب الفرد والدولة من نفعٍ أو ضرَر، فالزِّنا ضارٌّ بالدولة، لأنه خلْطٌ للأنساب، وضياع للأمن، ولو أراد موسى الجانب الخُلقي لأدان أيضًا زِنا القلب، أو زِنا النفس، أي رِضاء النفس وموافَقَتها الباطنية على فِعل الرذيلة، كما أدانَهُ المسيح من أجل إقامة قانون شامل، ولو أنَّهُ وعَدَ أيضًا بجزاءٍ رُوحيٍّ لا بَدَني؛ لذلك لم يَنسَخِ المسيح الشريعة القديمة، ولم يشأ وضع شريعة جديدة بل أعطى تعاليم خلقية، ومَيَّزها عن قوانين الدولة؛ لذلك يُخطئ الفريسيون عندما يُريدون الحصول على السعادة عن طريق القواعد القانونية، أي شريعة موسى، لأنَّ هذه القوانين لا تبغي إلَّا مصلحة الدولة، أما العهد الجديد فقد احتوى على تعاليم خلقية، ويَعِد من يُراعيها بملكوت السموات، وقد تَرَك الحواريون أنفسهم الشعائر بعد التبشير بالإنجيل عند شعوب الدول الأخرى. أما التزام الفريسيين بالشعائر بعد القضاء على الدولة، فإنه يكشف عن عدائهم للمسيحيين، لا عن رغبتهم في إرضاء الله؛ وذلك لأنهم تركوا الشعائر في سَبْي بابل، وتركوا شريعة موسى، وخضعوا لشعائر الدولة الجديدة، لم يكن على اليهود الالتزام بالشريعة بعد انهيار الدولة أو قبل قيامها، فلم تكن لهم قبل خروجهم من مصر شريعة خاصَّة، بل كانوا خاضعين لقانون الطبيعة أو لقوانين الدولة التي عاشوا فيها، حيث إنَّها لا تُعارِض القانون الإلهي الطبيعي، ولم يُضَحِّ البطارقة بالقرابين تنفيذًا لأمر الله الشامل، بل لبث رُوح التقوى في نفوسهم، وكانوا قد تَعوَّدوا على ذلك منذ القِدَم.
ولكن كيف تُساعد الشعائر على المُحافظة على الدولة؟ الشعائر هي السَّبيل الوحيد للأفراد في جماعةٍ حتى تستطيع الوقوف أمام العدو ساعةَ الخَطَر، كما أنها تُساعد على الترابُط الاجتماعي من الداخل، وتقوم الجماعة على تقسيم العمل، ويَحتاج تقسيم العمل إلى تنظيمٍ قانوني، دُون أن يخضع البعض للبَعْضِ الآخَر؛ لأنه ليس هناك أقسى من سَلْبِ الناس حُرِّياتِهم بعد حصولهم عليها.٧٢ لذلك وجَبَ تنظيم المجتمع وإقامة قانون يُطيعه الجميع، سواء كان مُمَثَّلًا في شخصٍ أم في جماعة تكون لها الكَلِمة العُليا أمام العامة، وتكون هذه القوانين في دولةٍ ترى فيها الجماعة تحقيقًا لرغبتها لا خَوفًا منها، ثُمَّ يُطيع الجميع هذه القوانين التي ارتضاها الجميع بِحُرِّية تامَّة، وبذلك لا تفقِد الجماعة حُرِّيتها، ويقوم كلُّ فردٍ بعملِهِ عن رضًا وبحماسٍ بالِغ.وهذا ما حدَثَ للعبرانيين تمامًا، فعندما خرجوا من مصر لم تكن لهم أية قوانين، وكان باستطاعتهم وضع قوانين جديدة على هواهم، وإقامة دولة، واحتلال أرض، ولكنهم فضَّلوا الالتزام بقوانين الجماعة، وظلَّتِ السلطة في يدِ فردٍ واحدٍ له وحدَه الحقُّ في تفسيرها. واستطاع موسى أن يكون ذلك الفرد لِمَا يتمتَّع به من فضائل إلهية، وحاوَلَ إقناع الشعب بالقوانين عن طريق الاقتناع والرضا، لا بالخَوف والتهديد؛ وذلك لِسَبَبَين: الأول، عِصيان الشعب الطبيعي المعروف في تاريخ الأنبياء، والثاني، خَطَر الحرب الذي يُحتِّم إقناع الجُند، وَحَثَّهم على الدِّفاع عن طَوعٍ لا عن كراهية. ولهذا السبب أدخل موسى الدِّين في الدولة، حتى يؤدِّي الشعب واجِبَه بدافع التقوى، لا بدافِع الخَوف، كما ربَطَ مُوسى الشعب بالوعود المادِّية والمنافع الدُّنيوية.
كان الغرَضُ من الشعائر والطقوس أن يقوم العبرانيون بأنفسهم بالأعمال التي تطلُبُها الدولة منهم، ولكنهم كانوا دائمًا يقومون بها تنفيذًا لأوامر الآخرين، وبالتالي لم تُؤدِّ الطقوس والشعائر إلى أيَّةِ سعادة حتى الشعائر والطقوس المَسيحية، خاصَّةً أنها من وَضْع الحواريين وليس من وضْع المسيح أو من وضع الكنيسة، كعلامةٍ لها، لا كطريقٍ للسعادة. لم يَكُن لها غرَضٌ سياسي، بل كانت من أجْلِ المُجتمع كُلِّه، ومن يَعيش وحدَه ليس عليه الالتزام بها، ومن يعيش في دولةٍ غَير مَسيحية عليه أن يَكُفَّ عن إقامة الشعائر حتى يُمكِنُه أن يعيش سعيدًا، مثل المَسيحيين الذين يعيشون في اليابان.
- (٤) القانون الإلهي يُعطي أكبر جزاءٍ وهو معرفة هذا القانون نفسه أي معرفة الله وحُبِّه بِرُوحٍ صافية ثابِتَةٍ من رجالٍ أحرار، أمَّا العقاب فهوَ بمنْعِ الخَيرات ووقوعٍ في عبودية الجَسَد لنفسٍ هزيلةٍ مائعة.٧٣
تاسعًا: المُعجزة
استعمل سبينوزا في دراسته للنُّبوَّة منهج النصِّ الذي يَعتمد على الكتاب وحدَه، أما في دراسته للمُعجزة فإنه اعتمد على النور الفطري؛ وذلك لأنَّ النبوة تتعدَّى حدود الذهن الإنساني، هي موضوع اللاهوت، ولا تُدرَس إلا بمبادئ الوحي، أو كتاريخٍ لمعرفة طبيعتها وخصائصها، في حين أنَّ المُعجزة موضوع فلسفي مَحْض، يُمكن دراسته بالاعتماد على النُّور الفطري. وقد كان يُمكن أيضًا دراستها بمنهج النص؛ إذ يُؤيِّد الكتاب بوجهٍ عام خضوع كلِّ شيءٍ لنظامٍ ثابت للطبيعة لا يَتغَيَّر، ولا يُوجَد نصٌّ واحد يدلُّ على خرْق قوانين الطبيعة، فمن يُريد استعمال منهج النص فإنه سينتهي حتمًا إلى ما يُدرِكه النُّور الفطري من أنَّ الإيمان بالمُعجزة ليس ضروريًّا للخلاص.
وكما سُمِّي العلم الذي يتعدَّى حدود المنهج الإنساني علمًا إلهيًّا، فقد تعوَّد الناس تَسمية كلِّ عمل إلهيٍّ يجهلون عنه عملًا إلهيًّا. ويظنُّ العامَّة أنَّ قُدرة الله لا تظهَر إلَّا عندما تُخرَق قوانين الطبيعة، خاصَّةً إذا كان في هذا الخرْق مكسبٌ مادِّي له، كما تَظنُّ أن أكبر بُرهانٍ على وجود الله هو خَلَل نظام الطبيعة، وترى أنَّ تفسير هذه الظواهر بِعِلَلها الطبيعية المُباشِرة إنكار لوجود الله، الله والطبيعة عند العامة طرَفان مُتناقِضان، إذا عمِل الله تتوقَّف الطبيعة، وإذا عَمِلت الطبيعة توقَّف الله. هناك إذن قُوَّتان مُتمايزتان مُتعارِضتان: قوَّة الله وقوَّة الطبيعة التي تخضع لقوَّة الله أو التي خلقَها الله كما تتصوَّر العامة، قوة الله مثل قوة الملك وقوَّة الطبيعة كقوة عارِضة لاحِقة به، أو كقوَّة الرعية بالنسبة للدكتاتور، وتُسمِّي العامة عجائب الطبيعة أفعال الله أو مُعجزاتٍ تعبيرًا عن تقواهم، وجهلًا منهم بعلوم الطبيعة وبالعِلَل الطبيعية، وتقديسًا منهم لِما يجهلونه أو يُعجَبون به، ولا تتصوَّر عظمة الله إلَّا عندما تقهر قوانين الطبيعة، وقد تَبنَّى هذا التَّصوُّر اليهود الأوائل.
والحقيقة أنَّ نظام الطبيعة ثابت لا يتغير، ولا يحدُث فيه شيء مُخالف له. أما بالنسبة لله، فكل ما يريده الله يتضمَّن حقيقة وضرورة أبدِيَّتَين؛ وذلك لأنَّ عقل الله وإرادته شيء واحد، ولأنَّ كلَّ شيء يحدُث إنما يحدُث بمشيئة الله، ومن ثَمَّ تكون قوانين الطبيعة الشاملة أوامر إلهية، تصدُر عن ضرورة الطبيعة الإلهية وكمالها، فلو حدَث شيء مُخالف لهذه القوانين، فإنه بالتالي يُناقِض عقل الله وطبيعته، ولو فعل الله شيئًا مُناقضًا لقوانين الطبيعة، فإنه يعمل ضِدَّ طبيعته هو، وهذا مُستحيل. إن قُدرة الطبيعة هي قُدرة الله، وقُدرة الله مُماثلة لماهِيَّته، وقوانين الطبيعة لانهائية حتى تستوعِب العقل الإلهي كله، وإلَّا فلنتصوَّر الله خالقًا للطبيعة بقوانين عاجِزة، ثُمَّ يأتي الله ليُقدِّم العون لها بين اللحظة والأخرى، وهذا مُنافٍ للعقل؛ وعلى هذا النَّحو تكون المُعجزة عملًا من أعمال الطبيعة، نجهل عِلَلها، ولا نَستطيع إدراكها بالنُّور الفِطري، وبالتالي يُمكن تفسير المُعجِزات التي يَرويها الكتاب لو عرَفْنا عِلَلها الطبيعية.
لا نستطيع إذن عن طريقِ المُعجزة معرفة وجود الله أو ماهيته أو عنايته، نستطيع أن نعرف ذلك عن طريقِ نظام الطبيعة الثابت الذي لا يتغيَّر، بل إنَّ وجود المُعجِزات يجعلنا نشكُّ في وجود الله. لنفرِضَ مثلًا أنَّ مُعجزة قد وقعت، فإمَّا أن يكون لها عِلَّة نجهلها، أو أن يكون الله هو عِلَّتها، فإذا كُنَّا نجهل عِلَّتها الطبيعية، وكان كلُّ ما يحدُث من عِلَل طبيعية يحدث أيضًا بقُدرة الله، فإنَّ المُعجزة، مهما كان سببها تتجاوَزُ حدود الذِّهن الإنساني، ولمَّا كان كلُّ ما نعلمه بوضوح ونُميزه نعلمه إما بذاته أو بغيره نعلمه أيضًا بوضوحٍ وتَميُّز، فإننا لا نستطيع أن نعرِف الله بالمُعجزة، أنَّها ليست واضحة ومُتميِّزة، وعندما نعلم أن الله قد حدَّد كل شيء، وأن أفعال الطبيعة تصدُر عن ماهية الله، وأنَّ قوانين الطبيعة هي مَشيئة الله، فإنَّنا نعلم طبيعة اللهِ أفضلَ مِمَّا نعلم الأشياء الطبيعية، ونعلَمَ الأشياء الطبيعية بعد عِلمنا بطبيعة الله، وتكون أعمالُ الله هي ما نعلمه بوضوحٍ وتَميُّز، لا ما نجهله كليةً، وما يُثير خيال العامة. وتُعطينا حوادث الطبيعة التي نعرفها بوضوح وتَميُّز تَصوُّر الله على نحوٍ أفضل وأكمل. والإنسان الساذج هو الذي عندما يجهل شيئًا يَنسِبُه إلى الله، فضلًا عن أن المُعجزة واقعة مَحدودة، لا تدلُّ إلَّا على قُدرة محدودة، ولا تُثبِتُ وجود الله وقُدرته المُطلقة، في حين أنَّ قوانين الطبيعة تشمل على عددٍ لا نهائي من الموضوعات، وهي قَوانين ثابتة لا تتغيَّر، وبالتالي فإنها تكون أعظمَ بُرهان على وجود الله. والمُعجِزة التي تخرِق قوانين الطبيعة لا تؤدِّي إلى معرفة الله فقط، بل تَجعلنا نشكُّ في وجوده، وبذلك يؤدِّي الإيمان بالمُعجزات إلى الكُفر والإلحاد. وهذا ما تدلُّ عليه نصوص الكتاب، عندما يَذكُر أنَّ النبيَّ الكاذِب يُمكنه أيضًا القيام بالمُعجزات. خُلاصة القول أنَّ اليهود لم يكُن باستطاعتهم تَصوُّر الله تصوُّرًا صحيحًا، بالرغم مِمَّا شاهدوه من مُعجزات، في حين أن الفلاسفة يعرفون الله معرفةً واضحة ومُتميِّزة، بمعرفتهم للطبيعة، لا عن طريق المُعجِزات، ويَحصُلون على الفضيلة بالامتِثال لأوامر الطبيعة لا بِمُناهضَتِها.
وعلى هذا الأساس، يشرَح سبينوزا أهمَّ المفاهيم التي تُوحي بتدخُّلٍ خارجي في الطبيعة في اللاهوت التقليدي، شمل: حكم الله، عَون الله الخارجي، عَون الله الدَّاخلي، اختيار الله، الحظ أو الرزق.
فحُكم الله هو نظام الطبيعة الثابت الذي لا يَتغيَّر، أو تَسلسُل الموجودات الطبيعية؛ وذلك لأنَّ قوانين الطبيعة الشاملة هي مشيئة الله الأبدية التي تتضمَّن حقائق وضرورة أبدِيَّتَين، فإنْ قُلنا إنَّ كلَّ شيءٍ يسير حسب قوانين الطبيعة، أو طبقًا لمشيئة الله، فإنَّنا نقول الشيء نفسه، فصفاتُ الله هي قوانين الطبيعة، بل إنَّ الله هو الطبيعة، الله هو الطبيعة الطابعة، والطبيعة هي الطبيعة المطبوعة.
أما عون الله الخارجي، فهو ما تُقدِّمه الطبيعة للإنسان دُون جهدٍ منه، ويَستعين به في حُكمِه وحِفظ وجوده؛ وذلك لأنَّ قوَّةَ الله هي قوَّة الطبيعة التي يَتحدَّد بها كُلَّ شيء، ويكون عون الله الداخلي هو ما يَصدُر عن الطبيعة الإنسانية بقُدرتِها الخاصة، للمُحافَظة على وجودها.
أما اختيار الله، فإنه يَتمُّ طبقًا لنظام الطبيعة السابق، أي بحُكم الله ومشيئته الأبدية، ولا يستطيع أحدٌ أن يختار طريقته في الحياة، أو أن يختار أيَّ شيءٍ إلَّا بدعوة من الله.
أمَّا الحظُّ أو الرزق، فهو حُكم الله من حيث سيطرتِهِ على الأمور الإنسانية بِعِلَلٍ خارجية لا يتوقَّعُها الإنسان، ولا مجال فيه للصُّدفة.
عاشرًا: النبي والحواري
فمن ناحية الأسلوب يؤكد النبيَّ أنه يتحدَّث بناءً على تفويضٍ من الله، أمَّا الحواري فإنه يؤكد أنه يتحدَّث باسمه، ويُعبِّر عن تفكيره وآرائه الشخصية. النبوة من عند الله، أما رسالة الحواري فإنها من عنده هو. النبوَّة توقيفٌ من الله واختيارٌ إلهيٌّ للنبي، ورسالة الحواري تطوُّع من لدُنْه ومن أي فردٍ يشعُر بأنَّ لدَيه القُدرة على نشر الدعوة، النبوَّة لا تُخطئ فهي يقينية، أما الحواري فيخطئ ويعيب، ورسالته ظنية، يُمكن الشكُّ فيها باعتراف الحواري نفسه.
أحد عشر: الوحي المكتوب والوحي المطبوع
- فالأول: هو موضوع النقد، أي دراسة الوحي من حيث الرواية ونقلها وصحَّتها
ولُغتها، أي الوحي من حيث هو صورة، والثاني موضوع الفلسفة أو التصوُّف،
وهو الوحي من حيث هو معنى مطبوع في القلب، ومسطور في النفس، وبين
صُورتَي الوحي ما بين الأرض والسماء.٨٢الوحي المكتوب قابِل للتغيير والتبديل، وخاضع للتحريف والتزييف، وهو الوحي الذي دافع عنه الصَّدوقيُّون في إيمانهم بالشريعة المكتوبة في الألواح، وهو الوحي موضوع النقد التاريخي. هو صورة حِسِّية للوحي المطبوع، لذلك لا يمسُّ النقد التاريخي جوهر الوحي أي معناه وفحواه، بل الصورة اللفظية والشكل التاريخي.٨٣ وعندما يُقال وقَعَ التحريف والتبديل والتزييف في الوحي، فإنَّ المقصود هو الوحي المكتوب لا المطبوع، وإلَّا لقدَّسْنا الصورة والتماثيل. ولا يُمكن الخلْط بين الوحيَين لأن الذي يَعتبِر الوحي المكتوب هو الوحي المطبوع فإنه يُريد تفادي نتائج النقد التاريخي، كما يُريد الإبقاء على التزييف في النصِّ والإيمان بعقائد على هواه،٨٤ ومن يَعتبِر الوحيَ المطبوع هو الوحي المكتوب، فإنه يُريد ترك نفسه بلا ضابط، ما دام الوحيُ قد حُرِّف وبُدِّل، ولم تَعُد ثمَّةَ حقيقة يُمكن الإيمان بها، وتوجيه سلوك الناس عليها.ولا تعني هذه التفرقة إنكار قُدسيَّة الكتاب؛ لأنَّ القدسية تُعزى إلى الكتاب لو كان غرَضُه التقوى والتديُّن، ويكون الكتاب مُقدَّسًا أو من عند الله طالما يحثُّ الناس على مُمارسة الفضيلة وحياة التقوى، فإذا لم يُؤدِّ الكتاب هذا الغرض، وإذا توقَّف الناس عن مُمارسة هذه الحياة السليمة، وإذا ضاع منهم التديُّن الصحيح، لم يَعُد الكتاب مُقدَّسًا أو من عند الله. فالكتاب لا يكون مُقدَّسًا أو من عند الله إلا بقَدْر ما يُؤثِّر في الناس، ويدعوهم إلى حياة الفضيلة والتقوى، فالقداسة هي أن يكون الإنسان نقيًّا والألوهية أن يكون الإنسان إلهيًّا، وبِلُغة مُعاصرة نقول: إنَّ القداسة للاستعمال وإنَّ الكتاب لا يعني شيئًا إلَّا في الاستعمال، وإنَّ الكلمات لا تكون تقيَّةً في ذاتها إلَّا بترتيبٍ خاص، يُوحي بالفضيلة ويحث عليها؛ لذلك كان تقديسُ الحرف وقوعًا في الوثنية وكان تقبيل الكُتُب المقدَّسة، وتغليفها بالذهب ووضعها على الرءوس، وحفظها في أحجبة على الصُّدور وقوعًا في المادية الحِسِّية. المُقدَّس هو المعنى الذي يحثُّ على التقوى.٨٥فإذا نظرنا إلى الكتاب المُقدَّس وجَدْنا أن نصوصه قد جُمعت من كُتب التاريخ والسِّيَر، وأنها قد تغيَّرت وتبدَّلت وحُرِّفت للوقائع الآتية:
- (أ) لم تُكتَب أسفار العهدَين بتفويضٍ من الله مرَّةً واحدة، وفي عصرٍ واحدٍ لكلِّ العصور، بل كتَبَها مُؤلِّفون كثيرون، صُدفة، وفي عصور متعددة، طبقًا لظروف العصر، وآراء الكُتَّاب وأغراضهم، وهذا ما يُثبِتُه الفحص التاريخي للكتاب المُقدَّس.
- (ب) اختلاف الوحي، وهو كلام الله، عن تفكير الأنبياء، فيما عدا النصوص التي تدعو إلى حياة الفضيلة.
- (جـ) تقنين أسفار العهد القديم باختيار مَجلس الفريسيِّين، وأسفار العهد الجديد بقرارات المجامع الكنسية، واستبعاد أسفارٍ كثيرة أخرى كانت أيضًا مُقدَّسة في ذلك الوقت، وكانت تحتوي على كثيرٍ من النصوص إن لم تكُن كلها، تدعو لحياة الفضيلة، ولم يكن أعضاء المجالس أنبياء، ولم يكونوا أيضًا نُقَّادًا بالمعنى الحديث بل كانوا لاهوتِيِّين، يَستبقون أو يَستبعدون النصوص وفقًا لمُعتقداتهم المُطابِقة لأهوائهم.
- (د) لم يَكتُب الحواريون باعتبارهم أنبياء، بل باعتبارهم رجال دين، واختاروا أكثر الطُّرُق مُلاءمةً لهم في الإقناع، ويُمكن الاستغناء عن كثيرٍ من كتاباتهم، دون أن يَنقُص ذلك من الوحي شيئًا.
- (هـ) هناك أربعة أناجيل، ولم يقصد الله أن يَقُصَّ حياة المسيح أربعَ مرَّات، ويُوجَد في كلِّ إنجيلٍ ما لا يُوجَد في الإنجيل الآخر، ولم يَختَر الله هؤلاء الكتاب الأربعة، ولم يُخبِرهم بشيء، بل كيَّفَ كلٌّ منهم إنجيله طبقًا لبيئته وعصره ولإثبات ما يُريد إثباته، ولا تتَّفِق الأناجيل الأربعة إلَّا على النزر اليسير الذي يُمكن الاستغناء عنه، دون أن يُؤثر في فَهم الإنجيل، ودون أن ينقُص من سعادة الناس أو الذي يمكن إدراكه، إذا كان دعوةً لحياة الفضيلة، بالنُّور الفطري.
لا يقع التبديل إذن إلَّا في الوحي المكتوب لا في الوحي المطبوع، ولا يَقَع التحريف إلَّا في الألفاظ لا في المعاني. فقد تتغَيَّر الألفاظ وتتبدَّل النصوص، ولكن يبقى المعنى واحدًا من حيث هو دعوة للطاعة وللخلاص، وبذلك لا تنقُص ألوهية الكتاب ولا تزيد بتغيير الكلمات أو تبديلها. وبهذا المعنى يُمكن أن يُقال: إن الكتاب قد وصل إلينا بلا تحريفٍ أو تبديل، وهو الذي يُمكن تلخيصه في «أحبَّ جارك كما تُحِبُّ نفسك.» فهذا هو أساس الدِّين كُلِّه الذي لا يَقَع فيه الخطأ، كذلك وجود الله وعنايته الشاملة وقُدرته وصدور الخَير والشَّرِّ منه، والفضل الإلهي، كلُّ ذلك يدعو له الكتاب في كل موضعٍ منه بوضوح، كذلك الحقائق الخُلقية، مثل العَدْل والإحسان، فالقانون الشامل الذي دعا إليه الكتاب قد وَصَل إلينا بلا تحريفٍ أو تبديل. أما أسباب الشِّقاق والاختلاف فهي المُعجِزات، التي يَشقى فيها الفلاسفة، والموضوعات النظرية التي يُمكن لكلِّ فردٍ أن يبتدِع فيها كما يَشاء، وهي موضوعاتٌ لا تُهمُّ في شيء؛ سواء كانت صحيحة أم باطلة.
- وفرق ثانٍ: بين الوحي المكتوب والوحي المطبوع، فالأول لا سبيل إلى إدراكه إلَّا بالوحي، أي بالراوية والنُّبوَّة، في حِين أنَّ الثاني يُمكن إدراكه بالنور الفطري. الأول يُمكن إدراكه من الخارج، والثاني من الداخل. الأول عن طريق الحواس، السَّمع أو البصر، والثاني عن طريق العقل.٨٦
- وفَرْق ثالث: وهو أنَّ الوحي المكتوب يتضمَّن الشريعة، أي تنظيم أعمال الجوارح، في حين أن الوحي المطبوع لا يتضمَّن إلَّا التقوى والفضيلة أي تنظيم أعمال النفس؛ لذلك كان العهد القديم مُتضمِّنًا للشريعة، والعهد الجديد حاويًا للحبِّ وشريعة القلب.٨٧
- وفرق رابع: هو أنَّ الوحي المكتوب أتى لأُمَّة مُعينة، وهي الأمة العبرانية، في زمانٍ مُعين ومكان مُعين، في حين أنَّ الوحي المطبوع أتى للناس جميعًا في كلِّ زمانٍ ومكان. لقد أعطى الله العبرانيين العهد في صورة مكتوبة، لأنهم كانوا في مرحلة الطفولة، وما إن بلَغُوا مرحلة النُّضج حتى أخبرهم موسى بأنَّ العهد مطبوع في قلوبهم، وإذا كان المِيثاق المكتوب قد ضاع وانقضى بعد حنثِ اليهود له، فإنَّ الميثاق الشامل الذي يربط الإنسانية كلها بالله ما زال قائمًا، والمِيثاق مَسطور في القلب وفي الفكر لا في المصاحف، والعهد ليس هو تابوت العهد بل الميثاق الأبدي. قد يضيع التابوت، ولكن يبقى المِيثاق في قلوب الأتقياء، وقد ينهدِم المعبد ولكن تبقى التقوى في قلوب الأصفياء، فالله لا يُوجَد إلَّا للأتقياء والأصفياء. وإذا كان الميثاق المكتوب قد أُعطي مرَّةً من جانب الله، فإنَّ المِيثاق الحيَّ مُعطًى كإمكانية مَحضة، يستطيع كلُّ تقيٍّ أن يدخُل فيه، فإذا راعى الإنسان المِيثاق وحافَظَ عليه راعاه الله من جانبه واصطفاه.٨٨
ثاني عشر: النَّظر والعمل
- (أ)
يؤدي الإيمان إلى الخلاص؛ لأنه يحثُّ على الطاعة، لا لأنه إيمان في ذاته، فالإيمان بدون عملٍ مائت.
- (ب)
يكون المُطيع هو صاحب الإيمان الصادق، وهو الإيمان الذي يُعطيه الخلاص.
- (١)
يُوجَد إله خَيِّر ورحيم على الإطلاق، نموذج الحياة الحقَّة، يَجِب معرفته والإيمان به من أجل طاعته، والتصديق به كحَكَمٍ عدل.
- (٢)
يُوجَد إلهٌ واحد جدير بالتبجيل والعظمة والمَحبَّة.
- (٣)
حاضِر في كلِّ زمانٍ ومكان ويَرعى كلَّ شيء، لا تخفى عليه خافية وهو الموجود الكامل.
- (٤)
يُسيطِر على كلِّ شيء ويُسيِّر كلَّ شيء، لا عن قهر، بل بمشيئتِهِ المُطلقة وبفضله، يُطيعه كلُّ فردٍ وهو لا يُطيع أحدًا.
- (٥)
عبادته في طاعته التي تَتمُّ بمُمارسة العدل والإحسان أي حُب الجار.
- (٦)
يتمُّ الخلاص للمُطيعين وحدَهم الذين يُمارسون الطاعة في حياتهم، ويضيع من يَتَّبِعون الشهوات، ويَسيرون وراء الأهواء.
- (٧)
يَغفِر للتائبين ذنوبهم، فكلُّ بني آدم خطَّاءون، وخير الخطَّائين التَّوَّابون.
ثالث عشر: العقل واللاهوت
وقبْل أن ينتقِل سبينوزا إلى الجُزء السياسي في الرسالة، يتناوَلُ آخِر مُشكلة في الجزء اللاهوتي، هو الصِّلة بين العقل واللاهوت، وهي المُشكلة التقليدية في فلسفات الأديان والتفكير الدِّيني بوجهٍ عام، مُشكلة الصِّلة بين الفلسفة والدين، أو بين العقل والإيمان، ولكن سبينوزا لا يتحدَّث عن الدين والإيمان، ما دامت مُهمَّة الدين والإيمان هي الحثُّ على الطاعة من أجل حُبِّ الجار، ومُمارسة العدْل والإحسان.
يرى سبينوزا أنه لا تُوجَد أيُّ صِلة بين العقل والإيمان، أو بين الفلسفة والدين، أو كما يقول هو، بين العقل والفلسفة من ناحية وبين الإيمان واللاهوت من ناحيةٍ أخرى؛ إذْ يقوم كلُّ علم، سواء الفلسفة أو اللاهوت، على مبادئ مُختلفة اختلافًا جذريًّا عن المبادئ التي يقوم عليها العلم الآخر، فغاية الفلسفة الحقيقة، وغاية الإيمان الطاعة. تقوم الفلسفة على مبادئ وأفكار صحيحة، وتُستمدُّ من الطبيعة وحدَها، وتُعرَف بالنور الفطري، ويقوم الإيمان على التاريخ وفِقه اللغة، ويُستمدُّ من الكتاب وحدَه، ويُعرَف بالوحي. أسلوب الفلسفة هو العقل الذي يُدرِك الأشياء على ما هي عليه، وأسلوب الإيمان هو التخيُّل الذي يبغي التأثير في النفوس؛ ولذلك يَترُك الإيمان لكلِّ فردٍ الحرية في أن يتفلسف كما يشاء، حتى في موضوع العقائد، ولا يُدين إلَّا من يحُثُّ الآخرين على العِصيان والكراهية والجدَل والغضب، ولا يُثني إلَّا على من يَحثُّ على مُمارسة العدل والإحسان على قدْر عقولهم.
ولكن هناك مشكلة زائفة يَعرِض لها الباحثون لأنهم لا يُفرِّقون بين الفلسفة واللاهوت، ويَصوغونها على النحو الآتي: هل الكتاب تابع للعقل أم العقل تابع للكتاب؟ وبعبارة أخرى: هل يَجِب توفيق الكتاب طبقًا للعقل أم توفيق العقل طبقًا للكتاب؟
والذين يُنكرون يقينَ العقل مِثل الشكَّاك، يَتبنَّون النظرية الثانية التي تجعل العقل تابعًا للكتاب، أو التي تُوفِّق العقل طبقًا للكتاب، والذين يُؤمنون بيقين العقل ويتطرَّفون فيه مثل القطعيُّون، يَتبنَّون النظرية الأولى التي تجعل الكتاب تابعًا للعقل، أو التي تُوفِّق الكتاب طبقًا للعقل، ويرى سبينوزا أن كِلتا النظريَّتَين خاطئة، فِكلتاهما تُزيِّف العقل والكتاب، فالكتاب لا يَعلَم الأفكار والفلسفة، بل يدعو إلى الإيمان الصادق، وقد تكيَّفَ حسب العقلية الشعبية وأحكامها السابقة، فإذا جعلنا الفلسفة في خدمةِ اللاهوت، ووفَّقْنا العقل مع الكتاب اضطرُرنا إلى قَبول الأحكام السابقة للعصور الماضية على أنها حقائق إلهية، وإذا وفَّقنا الكتاب مع العقل نَسبْنا إلى الأنبياء عن غير حقٍّ أشياء لم يقصدوها ولم يَحلُموا بها، وفسَّرْنا أقوالهم تفسيرًا خاطئًا، وكِلتا النَّظريَّتَين خاطئة، الأولى لإغفالها العقل، والثانية لاعتمادها على العقل.
ولكن كيف يخضع العقل، هذه الهِبة الرائعة، وهذا النُّور الإلهي، إلى حرْفٍ مائتٍ خاضِعٍ للزيف الإنساني؟ هل يَقتضي الدفاع عن الإيمان بالضرورة إلغاء العقل؟ إنَّ نهج البكَّار يجعلنا نخاف من الكتاب، لا أن نَثِقَ فيه؛ لأنه يَدعُونا إلى ترك العقل، وأن نقبل على أنه حقٌّ ما يُثبِتُه الكتاب، وأن نرفُض على أنه باطلٌ ما يَنفيه الكتاب، والكتاب نفسه لا يُثبِت أو ينفي إلا ما تُثبته أو تَنفيه النصوص، ولكن الكتاب أسفار عديدة، كُتبت في مناسباتٍ مُختلفة، وفي عصور مُتعاقبة، لجماهير مُختلفة ولغاياتٍ مُتباينة؛ لذلك يجِب إثبات أن النصوص قد وصلَتْ إلينا حرفيًّا دُون تبديلٍ أو تحريف، كما يجِب أن نبحث عن قرينةٍ تُثبِت صِدق التفسير المجازي، في حالة تَعارُض النصوص، وهناك كثير من نصوص الكتاب تُعارِض العقل مُعارَضة صريحة، فكيف يكون الله غيورًا؟ وكيف يكون جِسمًا في مكان وزمان؟ إنَّ العقل وحدَهُ هو الذي يُمكنه إثبات صحة هذه الآيات أو كذِبِها، والتَّعارُض في النصوص تَعارُض حقيقي لا تَعارُض ظاهري كما يقول البكَّار، فالله نارٌ تُعارض الله لا يُشابِهُ الأشياء الحِسِّية، كلاهما قَضيَّتان كُلِّيَّتان مُتناقِضتان، تُثبِت الأولى ما تَنفيه الثانية.
ينتهي سبينوزا إلى رفْض المنهَجَين، فليس اللاهوتُ خادمًا للعقل وليس العقل خادمًا للاهوت، بل لكلٍّ منهما مَيدانه الخاص، فميدان العقل الحِكمة، وميدان اللاهوت الإيمان الصادق والطاعة. ليس من شأن العقل أن يُقرِّر حصول الناس على السعادة بالطاعة، وليس من شأن الإيمان الصادق أن يُقلِّل من العقل، أو أن يُعظِّم من شأنه.
ومع ذلك يستطيع العقل أن يَفهم العقائد من حيث صِحَّتِها أو كذبِها فهو النور الفِطري الذي يَحمي الذهن من الوقوع في الخطأ والأوهام والأحلام، وبهذا المعنى يكون الوحي مُتَّفِقًا مع العقل في موضوعه، وهو الحقيقة، وفي غايتِهِ وهي السعادة. وعلى هذا النحو، يُمكن للاهوت مُخاطبة البشر جميعًا باعتباره علمًا شاملًا.
وتتَّفِق التعاليم الخلقية بطبيعتها مع العقل؛ لأننا نسمَع صوت الله وكلامه فينا، والدعوة الخلقية ليسَتْ موضوع تحريفٍ أو تبديل، فمن يظنُّ أنَّ هناك تَعارُضًا أساسيًّا بين الفلسفة واللاهوت، وأنه يجِبُ إفساح أحدِهما مجالًا للآخر، فإنه يُريد بُرهانًا رياضيًّا للاهوت، وينتهي إلى إنكارٍ يقين العقل نفسه؛ لأنه يُزعزِع الثقة بالعقل، ويُضعِف إيمانه بالكتاب.
رابع عشر: حقُّ المواطن وحقُّ السلطة
كانت الغاية من التَّفرِقة بين الفلسفة واللاهوت إثبات حُرية التفلسُف. والآن، كيف تتحقَّق هذه الحُريَّة في موقفٍ مُعيَّن أو تُمارَس في جماعةٍ مُعينة؟ كيف يكون المُواطنون أحرارًا في الدول؟ ما حقُّ المواطن وما حقُّ السلطة؟
ولكن ممَّا لا شكَّ فيه أنَّ البشرية تودُّ أن تعيش وفقًا للعقل حتى تعيش في سلام؛ لذلك وجب أن يتعاون الأفراد فيما بينهم، وبالتالي أصبح الحقُّ الذي يتمتَّع به كلُّ فرد حقًّا اجتماعيًّا تُحدِّده إرادة الجميع لا إرادة الأفراد. وهكذا نشأ العقد الاجتماعي طبقًا لقانونٍ طبيعي وهو الرَّغبة، أي رفْض الخير القليل من أجلِ خَيرٍ أعظم، وقَبول شَرٍّ قليل من أجل تَجنُّب شَرٍّ أعظم. وبعبارة أخرى الرَّغبة في أعظمِ الخَيرَين وأهوَنِ الشَّرَّين، فهذا قانون طبيعي أو حقيقةٌ أبَدِيَّة في الطبيعة الإنسانية؛ لذلك، يَسمَحُ لي الحقُّ الطبيعي أن أُخلِف الوعد إذا رأيتُ في هذا الوعد خيرًا أقلَّ وشرًّا أعظم، دُون أن يكون في ذلك إضرار بمصلحة الغَير، فالجماعة هي التي تُمثِّل المصلحة العامَّة والضرورة المُطلَقَة التي تَمنَعُ كلَّ صورةٍ من صور الخداع. غاية العقد إذن هي تحويل الفرد من العَيش وفقًا للطبيعة (أي وفقًا للشَّهوة) إلى العَيش وفقًا للعقل، فيُصبِح العقل مُوجِّهًا لسُلوك الفرد، ولا يُعامِل الفردَ الآخرين إلَّا كما يَجِب أن يُعامل نفسه، ويُدافِع عن حقِّ الآخرين كما يُدافِع عن حَقِّه.
خامس عشر: نشأة دولة العبرانيين وسقوطها
وفي العهد الثاني، فوَّض الجميع لموسى حقَّهم في مُخاطبة الله وتفسير القوانين. وبذلك حَكَم موسى العبرانيين بدلًا من الله، حتى لقد اتَّهَمَه البعض باغتصاب السُّلطة، ولم يكن للشعب، قبل موسى، الحقُّ في اختيار خليفته، بل كان على موسى، بِمُقتضى تفويض السلطة له تعيين الخليفة لتنظيم الدولة ومُخاطبة الله ونَسْخ القوانين وإرسال المَبعوثين وتعيين القُضاة واختيار الخليفة. تحوَّل النظام إلى ملكية طبقًا للتعاليم الإلهية، مِمَّا زاد من سُلطة الرئيس، وكان مصير الشعب مُعلَّقًا به، وعندما ترك موسى الحُكم خلَّفَ وراءه نظامًا تيوقراطيًّا لا مَلَكيًّا أو أرستقراطيًّا. وأول ما قام به موسى هو بناء مسكنٍ لله، وقد قام الشَّعب بتكاليف البناء، وعَيَّن اللاوِيِّين خُدَّامًا له وعلى رأسهم هارون الذي أصبح فيما بعد خليفةً لموسى ومُفسِّرًا للقوانين ومُخاطبًا لله، دون أن تكون له سُلطة تنفيذ القوانين، كما أبْعَدَ موسى اللَّاويين من الحياة السياسية الذين لم يكُن لهم الحق، كباقي الأسباط، في ملكية الأرض للتعايُش منها، بعد أن كفَلَ لهم باقي الأسباط ما يتعيَّشون منه، للتفرُّغ لخدمة المعبد. ثانيًا، أَسَّس موسى جيشًا من الأسباط الاثني عشَرَ لغزو بلاد كنعان، ثُمَّ قسَّم الأراضي التي استولوا عليها اثنَي عشَرَ قِسمًا، لكل سبطٍ قِسم، وعيَّن لكلِّ سِبط رئيسًا لتوزيع الأنصبة يُعينه في ذلك كعب الأحبار ويشوع. وبعد أن عيَّن يشوع رئيسًا للجيش كان له الحقُّ وحده في مُخاطبة الله عندما تَعرِض له مسائل جديدة، ولكنَّهُ لم يكُن وحدَهُ في المَظلَّة كموسى، بل كان عليه أن يتوسَّط لذلك بكعب الأحبار الذي كان له الحقُّ وحدَه في مُخاطبة الله، ثُمَّ بعد ذلك يُبلِّغها يَشوع للشعب ويفرِضُها عليه ويتَّخِذ الإجراءات الكفيلة بتنفيذها، ويُعين قوَّاد الجيوش، ويبعث الرسل ويقوم بشئون الحرب. ولم يكن هناك تفكير فيمن يَخلُفه دون اختيار من الله كما تقتضي ذلك مصلحة الشعب، أما المُشكلات الجُزئية في الحرْب فكان يَقوم بحَلِّها رؤساء الأسباط. أما الخدمة العسكرية فقد كانت واجبةً على الجميع من العشرين حتى الستِّين، وكان على الجنود قَسَم الولاء لله لا للقائد؛ ولذلك سُمِّي الجيش «جيش الله»، والله «إله الجيوش». وفي المعارك الحاسَمة كان تابوت العهد يُنصَب وَسَط الجيش حتى يُدافِع عنه الجميع.
وقد عَيَّن موسى مُوظَّفين لا رؤساء دولة لأنه لم يُعطِ أحدًا حقَّ مُخاطبة الله، ولم يكُن لأي أحدٍ سواه الحقُّ في القيام بمهامِّ الدولة من سَنِّ القوانين ونَسْخها وإعلان الحرْب وعقد مُعاهدات السِّلم والتعيين في الوظائف المدنية والدينية. أما كعب الأحبار فكان له الحقُّ فقط في تفسير القوانين وتبليغ إجابات الله، ولكنه لم يكن حرًّا في اختيار الوقت لذلك، بل كان عليه انتظار تكليف الشَّعب أو المجلس الأعلى له بذلك. وعلى العكس، كان لقائد الجيوش أو المَجالس العُليا الحقُّ في مُخاطبة الله بوساطة كعب الأحبار؛ لذلك لم تكن إجابات الله على لسان كعب الأحبار قراراتٍ كما كان الحال عند موسى بل مُجرَّد وصايا. لم يعتمِد كعب الأحبار على أي جيشٍ ولم تكن له أية سُلطة مادية، بل إنَّ كلَّ من كان يتمتَّع بحقِّ الملكية لم يكن له الحقُّ في صياغة القوانين.
- (١)
المعبد وهو عامل الوحدة بين الأسباط.
- (٢)
قسَم الطاعة الواجب على المواطنين لله.
وقد كانت مهمَّة الدولة التيوقراطية التَّخفيف من حِدَّة الانفعالات للمواطنين وللرؤساء على السواء، فقد عُهِدَ إلى اللاويين مهمَّة تفسير القوانين دون رؤساء الأسباط، خشية أن يَستغلَّ هؤلاء هذه المهمَّة في ارتكاب الجرائم مُعتمدين على سُلطتهم في تفسير القوانين لإخفاء جريمتهم، كما حُرِم اللاوِيُّون من كلِّ وظيفة سياسية ومن كلِّ حقٍّ في الملكية. وكان من عادة الشعب الاجتماع مرةً كلَّ سبع سنوات لسَماع نصوص التشريع من الحبر وقراءة التوراة حتى تتمَّ مُراجعة الرؤساء وتطبيقهم للشريعة. كان الشَّعب يحترِم رؤساءه فإذا انحَرَفوا غضِبَ عليهم. ثانيًا، كان الجيش مُكوَّنًا من مواطنين دون المُرتزقة؛ لذلك لم يستطع الطُّغاة الاعتماد على الجيش ضِدَّ الشعب، فالجيش هو الشعب، كذلك لم يتعرَّض العبرانِيُّون إلى خطر الطُّغيان من الأسباط فقد كان الدِّين هو الرابطة بينهم، فإذا خرج أحَدُهما على شريعة الله أصبح عدوًّا له. ثالثًا، كان هناك خَوف دائم من ظهور نَبيٍّ جديد يُعيد إقامة التوازُن باعتباره مُمثِّلًا لله وتَنتَصِر العامَّة له، فإذا اتَّضَحَ كذِبُ النبيِّ كان على رئيس القبيلة مُحاكمته وإعدامه. ولم يكن احترام رئيس السِّبط راجعًا إلى نُبل أصلِهِ أو إلى حقِّهِ المَوروث بل إلى سِنِّه وخُلقه، ولم يكن عند العبرانيين فرْق بين الجيش والشعب، فقد كانوا مُواطنين في وقتِ السِّلم ومُحاربين في وقت الحرب، وكان رئيس الدولة هو قائد الجيش؛ لذلك لم يرغَبْ أحدٌ في الحرب لذاتها بل إقرارًا للسلام. هذه هي الأسباب التي جعلت طموح رؤساء الأسباط لا يخرج على الحدِّ المعقول.
وكانت المصلحة هي الدافع الوحيد في سلوك العبرانيين وفي حِرصهم على الدولة لأنهم لم يحصلوا على حقِّ الملكية المُطلَق إلَّا في هذه الدولة الإلهية، فقد كان لِكُلِّ مُواطن الحقُّ في امتلاك قِطعة أرضٍ كما يَمتلك الرئيس، فإذا باعها لفقرِهِ أُعيدَتْ إليه في الأعياد. كان الفقر مُحتملًا وذلك لتطبيق مبدأ حُبِّ الجار والإحسان إليه؛ لذلك لا يستطيع العبرانيون أن يعيشوا سُعداء خارج وطَنِهم، وكان كلُّ المواطنين سواسيةً ولذلك لم تَحدُث حروبٌ أهلية، وقد ساعد حُبِّ الجار على الإبقاء على صِدق الإيمان خاصَّةً أنَّ الإيمان هو الطاعة لقوانين الدولة حتى في أحوال المعيشة من زراعة وصناعة وتجارة؛ لذلك كان المَثَل الأعلى للسلوك هو السلوك الإجباري لا السلوك الاختياري.
ولكن العبرانيين لم يُحافِظوا دائمًا على تطبيق الشريعة، ومن ثَمَّ وقَعوا تحت نَير الأجنبي، وانهارتْ دَولتهم تمامًا، ولا يُمكن إرجاع ذلك إلى أنَّ هذا الشعب كان عاصيًا بطبعه، فقد اختلفَت الشعوب فيما بينها في لُغاتها وعاداتها وتقاليدها، ولكن يُمكن أن يُقال أنه إذا كان العبرانيون حقًّا أكثَرَ عصيانًا من الشعوب الأخرى فذلك يرجِع إلى نقصٍ في شريعتهم التي وُضِعت بدافِعٍ من الانتقام لا بِوازعٍ خلقي؛ أي أنَّها وُضِعت عقابًا لهم، فلو كان الله قد أراد لهم دولةً مُستقلة مُستقرة لأعطاهم شريعة أخرى قائمة على أُسُس أخرى. لقد شاء العبرانِيُّون الاحتفاظ بالخِدمة المُقدَّسة للأطفال حديثي الولادة دون تمييز بين اللَّاويين وغيرهم، ولكنهم جميعًا عبدوا العِجل باستثناء اللاوِيِّين؛ لذلك استُبعِد الأطفال وتَمَّ اختيار اللاويين بدلًا عنهم، ويدلُّ تفضيل اللَّاويِّين على غيرهم على عدَم طهارة باقي الشعب.
سادس عشر: الدين والدولة
- (١)
لم تَظهَر الفِرق الدينية إلا في وقتٍ مُتأخِّر عندما استولى الأحبار على السُّلطة في الدولة، فبدأ الدِّين في الانهيار، وسادَتْهُ الخُرافة، وضاع التفسير الحقيقي للقوانين بل وفَّقَ الأحبار بين هذه التفسيرات وبين الأفعال المُحرَّمة أو المكروهة، وبدأ الناس في تملُّق الأحبار وعمَّ الفساد في الدين.
- (٢)
دفع الأنبياء الناس إلى التطرُّف بدلًا من تقويمهم في حِين استطاع الملوك استمالَتَهُم دون أدنى مُقاومة. لم يَتسامَح الأنبياء معهم حتى مع أكثر الملوك إيمانًا إذا كان سُلوكهم مُناقِضًا للدين؛ أي أنَّ الأنبياء أضرُّوا بالدين أكثر مِمَّا نفَعُوه.
- (٣)
في أثناء حُكم الشعب لم تنشأ إلَّا حروب داخلية فقط، وانتهت بإقامة سلام دائم، ولكن ما إن أتَت المَلَكيَّة حتى نشأت الحروب المُستمرَّة وببشاعةٍ ليس لها مثيل، ونشبَتِ الحُروبُ حبًّا في العظمة لا من أجل الحُريَّة والسلام. وباستِثناء سُليمان، دعا الملوك الناس للحروب، وكان الدم تحت العرش. في أثناء حُكم الشعب كانت الشرائع قائمة، وكان الأنبياء يُحذِّرون الشعب من مُخالفَتِها، وما إنْ تَمَّ انتخاب الملوك الأول حتى تدخَّل الأنبياء لإنقاذ الشعب من الموت. لم يظهر قبل عصر الملوك، الأنبياء الكذَبَة على حِين شاعوا بعد تنصيب الخضوع لله، واستمرُّوا في العِصيان حتى هدْم المدينة.
- (١) ينتُج الضَّرَر للدِّين وللدولة إذا ما أُعطيَ رجال الدين سُلطة سياسية في الدولة، ولا ينشأ الاستقرار إلا بفَصْل السُّلطتَين، والحدِّ من سُلطة رجال الدين حتى يتفرَّغوا لأمور الدين وللعقائد السَّلفِيَّة الشائعة.١١١
- (٢) ينشأ الضَّرَر إذا اعتمد القانون الإلهي على العقائد النظرية، وإذا شرَّعنا قوانين خاصَّة لهذه الآراء التي تقبَل المُناقشة والجدل، يتحوَّل النظام السياسي إلى قَهْر وعُنف إذا اعتبر الآراء الشخصية، وهي حقُّ الفرد — جرائم لا تغتفر. وإذا كان نظامًا تتسلَّط فيه العامة فإنها تحكُم على المُفكِّرين كما حكمَتْ من قبلُ على المسيح، وتكون الآراء والمُناقشات وسيلةً للاضطهاد والإرهاب.١١٢
- (٣) مُراعاة لمصلحة الدين والدولة لا ينبغي إعطاء أصحاب السُّلطة حقَّ التمييز بين الأفعال والحُكم عليها، فإذا كان هذا الحقُّ لم يُعطَ حتى الأنبياء دون أن يلحَقَ الضَّرَر بالدِّين والدولة على السواء فالأولى ألَّا يُعطى من هم أقلُّ قُدرة منهم.١١٣
- (٤) إذا لم يكن الشعب مُتعوِّدًا على نظام الحُكم الملكي، وكان له دستور من قبل، فإنه لا يقبَلُ بسهولةٍ تنصيب ملكٍ عليه؛ لأنَّهُ لن يتحمَّلَ سُلطة الملك القاهرة، كما أنَّ الملك لن يتنازَلَ عن جُزءٍ من سُلطته المُطلَقَة للشعب، ويَستلزِم القضاء على الملك حينئذٍ أن تُستبدَل سُلطته بسلطةٍ أخرى، ولكن يُصبح الملك الثاني طاغيةً كالأول خاصَّةً إذا كان هو قاتِلَه أو يَدَّعي الانتقام من قاتِليه لمَصلحتِهِ الخاصة. وإنَّنا نرى الشعب يتحوَّل إلى طاغية إذا كان النظام الذي تعوَّد عليه هو نظام الطُّغاة، وتاريخ الشعوب يُؤيِّد ذلك. على كلِّ دولة إذن المُحافَظة على النظام الذي عاشت في ظِلِّه دون تغييره وإلَّا أصبحَتْ مُهدَّدةً بالانهيار.١١٤
- (١)
لا يصير للدين قوة القانون إلَّا بسُلطة الحاكم.
- (٢)
لا يحكُم الله مُنفصلًا عن السلطات السياسية.
- (٣) يجِب اتفاق الشعائر الدينية مع سلامة الدولة وأمنها.١١٥
ويُبرهن سبينوزا على الأمرين الأول والثاني معًا، لأنه يجب البرْهَنة أولًا على أنه كيف لا يحصل العدل والإحسان على قوَّة القانون إلَّا بتشريع الدولة للانتهاء إلى أنَّ الدين لا يحصل على قوَّة القانون إلا بمشيئة أصحاب السلطة، وأنَّ الله لا يحكُم البشر إلَّا من خلال السُّلطات السياسية، فالإنسان في الموقف الطبيعي لا يعيش إلَّا طبقًا لقانون الشهوة، فليس هناك خطأ أو صواب، ينشأ الخطأ والصواب عندما ينتقل الإنسان من حالة الطبيعة إلى حالة العقل؛ أي عندما يأخُذ العدل قوَّة القانون الذي يصدُر عن مشيئة من لهم الحقُّ في الحكم، أي أن الله لا يحكُم إلَّا من خلال أصحاب السلطة السياسية، ولا يُهمُّ بعد ذلك إدراكه بالنور الفطري أو بالنور النبوي. فعندما فوَّض العبرانيون حقَّهم لله ظلَّ هذا التفويض نظريًّا لأنهم احتفظوا لأنفسهم بحقِّهم السياسي الذي فوَّضوه بعد ذلك لموسى وجعلوا منه ملكًا. وابتداءً من ذلك الوقت حكَم الله العبرانيين من خلال موسى، ولم يأخُذ الدين قوَّة القانون إلَّا بعد التشريعات السياسية، فلم يُعاقِب موسى مُخالفي السبت قبل المِيثاق وعاقبَهم بعدَه بعد أن تحوَّل الميثاق إلى قانون سياسي، وكذلك لم يَعُد للدين قوة القانون بعد انهيار الدولة وبعد سَبْي بابل وضياع استقلالهم السياسي ومُشاركتهم في إدارة دولة بابل باعتبارهم عبيدًا لا أسيادًا. لا يأخذ الدين إذن قوَّة القانون إلَّا بالتشريع السياسي، فإذا قُضيَ على التشريع السياسي لا يُصبح الدِّين سلوكًا إجباريًّا للمواطنين، بل يُصبِح تعاليم عقلية شاملة، والدين الشامل لم يكُن موجودًا في ذلك الوقت، ولا يأخُذ الدين، سواء كان مُدركًا بالنُّور الفطري أو بالنور النَّبَوي قوَّة القانون إلَّا بِسُلطة من لهم الحقُّ في الحكم، فالله لا يحكم البشر إلَّا من خلال السلطات السياسية؛ وذلك لأنَّ الله ليس أميرًا أو مُشرِّعًا، ولأنَّ حقائقه أبدِيَّة تتميَّز بضرورةٍ أبدية أيضًا ولا تتحوَّل إلى أوامر إلَّا من خلال السُّلطات السياسية، وبذلك يكون للسُّلطات الحقُّ في تفسير الشرائع.
ولكن ما الحُجَج التي يقدِّمها دُعاة التفرقة بين السُّلطة الدينية والسُّلطة السياسية؟ أهم هذه الحُجَج وجود كعب الأحبار عند العبرانيين لتنظيم شئون الدين. ويَردُّ سبينوزا على ذلك بأن الأحبار أخذوا هذا الحقَّ من موسى، صاحب السلطة السياسية، وكان يُمكنه سَلْب هذا الحق منهم، وبعد موت موسى، احتفظ الأحبار بهذه السُّلطة باعتبارهم استمرارًا لسُلطة موسى، أي استمرارًا للسُّلطة السياسية في حِين أنَّ موسى لم يُعيِّن أحدًا بعدَه للقيام بالسُّلطة السياسية، بل قَسَّمَها بحيث يبدو أصحابها كمُساعدين له. صحيح أنَّ الأحبار كان لهم الحقُّ في تنظيم شئون الدين في الدولة الثانية، ولكنهم كانوا في الوقت نفسه رؤساء الأسباط أي إنهم كانوا يتمتَّعون بالسُّلطة السياسية، وكان للملوك الحق في تنظيم شئون الدين وشئون الدولة على السواء مع استثناءٍ وحيدٍ وهو إقامة الصلاة بأنفسهم في المعبد؛ لأنهم ليسوا من سُلالة هارون، وبالتالي ليس لهم شرَف مُخاطبة الله. كان الأنبياء يدفعون الناس إلى التطرُّف لأن السلطة السياسية لم تكن في أيديهم في حين استطاع الملوك التأثير عليهم بالتوعُّد بالعقاب. وتنصَّل ملوك العبرانيين من الدين لأنه لم يكن لهم الحقُّ في التدخُّل فيه، وتَبِعَهم الشعب في هذا التنصُّل.
أما عند العبرانيين فقد نشأت الدولة والكنيسة معًا، وكان موسى هو صاحب السُّلطتَين، وكان لرؤساء الأسباط أيضًا الحقُّ نفسه مع أنهم كانوا أقلَّ هيبةً من موسى، وكان العبرانيون يستشيرون الأحبار أو المُوظَّفين المدنِيِّين على السواء، وكان الملوك يقومون بتنظيم شئون الدين، وإن لم يكُن بالدرجة نفسها التي كان يقوم بها موسى، فقد شرع داود في بناء المعبد، واختار المُنشِدين والقضاة والحُرَّاس والموسيقيين والخُدَّام ورؤساء الطوائف الدينية؛ أي إن شئون الدين كانت من اختصاصات الملك. ولكن لم يكن للملوك الحق، كما كان لموسى، في اختيار كعب الأحبار ومُخاطبة الله مُباشرة ومُحاكمة المُتنبِّئين. وفي مُقابل ذلك، كان للأنبياء الحقُّ في اختيار الملك الجديد والعفو عن قاتلي الملك السابق، ولكن لم يكُن لهم الحقُّ في تقديم الملوك للمُحاكمة أو اتِّخاذ أي إجراء ضِدَّهم إذا ما خالفوا القوانين باستثناء النبيِّ الذي وعده الله بالعَون؛ لذلك، فإنَّ لأصحاب السلطة الحالية الحقَّ في تنظيم شئون الدين، بالرغم من أنهم لا يعيشون عيشة الرهبنة، بشرط ألَّا يزيدوا شيئًا على تعاليم الدين أو يَخلِطوها بالمعارف العلمية، خاصَّةً أنَّ عصر الأنبياء قد انتهى.
سابع عشر: مُواطن حُرٌّ في دولةٍ حرَّة١٢٢
لو كان من السهل توجيه الأذهان كما تُوجَّه الألسنة لَما واجَهَت الحكومات أيةَ أخطار، ولسارت الرعية كما يَهوى الحُكام، ولَما فكَّر أحد أو أصدر حُكمًا، ولقامَت السُّلطة على القهر والعُنف وانتُهِكت حُرمة القوانين، وسُلِبت حقوق المواطنين عندما تُحاول فرْض الآراء عليهم وقَبولها على أنها نصيحة أو رفضها على أنها باطلة. والحقيقة أنَّ كلَّ فردٍ حُرٌّ في أن يُفكر وفي أن يعتقد ما يشاء، ولا يتنازل بمحض اختياره عن هذا الحق. قد يحدُث لبعض الأفراد تَبنِّي أفكار غيرهم، ولكنهم سيشعرون يومًا بأنهم يُفضِّلون أفكارهم على أفكار الغير، وصحيح أيضًا أنَّ موسى استطاع استمالةَ الشعب لأفكاره دون مُخادعة، ولكن ذلك قد تَمَّ له بصفةٍ إلهية فضلًا عن أن موسى نفسه لم يَسلَمْ من التفسيرات المُعارضة له، فإذا كانت عبودية الأذهان مَقبولة في النظام الملكي فكيف فيُمكن قَبولها في نظام ديمقراطي أي في نظام تكون السُّلطة فيه للشعب؟ ومهما كان للسُّلطة من حقٍّ على الشعب ومن تفسيرٍ للقوانين فإنها لا تستطيع أن تمنعه حَقَّه في إصدار حُكمه أو في أن يَشعُر بما يُريد. صحيح أن السلطة تَعتبِر من لا يعتنِق وجهة نظرها عدوًّا لها، ولكنَّنا لا نبحث هنا الحدَّ الأقصى لسُلطة الحاكم، بل أفضل أنواع السلوك والأصلح منها له. صحيح أيضًا أنه يستطيع الحُكم بالإعدام لأتفَهِ الأسباب، ولكن يكون حُكمُه مُعارضًا للعقل. إن أسلوب القهر خَطَرٌ على الدولة نفسها؛ لذلك يكون حقُّ السلطة بمِقدار قُدرتها. فكلُّ من يتنازل عن حقِّهِ في الحرية يظلُّ سيد نفسه، وتقع الكارثة عندما تُجبِر السُّلطة أعضاء المجلس القومي على التفكير كما تشاء، ولكن الشعب لا يستطيع الصَّمتَ طويلًا. تقوم السلطة على القهر والعنف عندما تَسلُب المواطنين حرية التفكير وتفرض عليهم آراءها، وتَشعُر بالنيل منها إذا ما سلَّمَت للمواطنين بِحُرية القول والعمل.
إن الغرَض من إقامة نظامٍ سياسي ليس السيادة أو القهر أو إخضاع الشعب لنَير فردٍ واحد، بل التحرُّر من الخوف بحيث يعيش كلُّ فردٍ في سلام، أي المُحافظة على الحقِّ الطبيعي في الحياة وفي السلوك، ليس الغرَض من أيِّ نظام سياسي تحويل البشر إلى حيواناتٍ أو آلات، بل الحصول على سلامة الذِّهن والبدَن، أي إنَّ غرَض التنظيم في المُجتمَع هو الحُرِّية.
وتنشأ السلطة في المجتمع، إما عن الجماعة أو من بعض الأفراد أو من فردٍ واحد. ولمَّا كان لكل فردٍ حُكمه الخاص فإنه فوَّض للسلطة العُليا حقَّهُ دون أن يتنازَلَ عن حُريَّته في التفكير وإصدار الأحكام بشرط الاعتماد على العقل لا على الحِيلة والخداع، ودون أن يكون دافعه على ذلك الحقد والكراهية وإلَّا كان مُتمرِّدًا؛ على هذا النحو، يَستطيع أن يُعبِر عمَّا يُفكر فيه دون أن يمسَّ سلامة الدولة وأمنها الداخلي، وعليه أن يقبل إجراءات السُّلطة حتى ولو كانت مُعارضة لآرائه الشخصية، يدفعه في ذلك إيمانه بالقِيَم المقدسة، فالسلطة هي القائمة على العدالة، وتَصِل إلى حدِّ الاعتدال عندما تُسلِّم بحُرِّية الآخرين والقرارات التي تأخُذها تَصدُر عن الجمعية العامَّة بالإجماع على الرغم من مُعارَضة بعض الأعضاء.
ولكن ما الآراء التي تُهدِّد كيان الدولة؟ إنها الآراء التي تُهدِّد بفسخ العقد الذي فوَّض به المُواطنون حقَّهم للسُّلطة العُليا، مِثل الآراء الفوضوية قولًا وعملًا. أما الآراء التي لا يترتَّب عليها نتيجةٌ فِعلية تُهدِّد سلامة الدولة فلا تُعتبَر جُرمًا إلَّا في دولةٍ يترأسَّها مُتعصِّب أحمقُ يُريد إرهاب الناس. وهناك بعض الآراء التي تَصدُر عن سُوء نِيَّةٍ طبقًا لحُرية الفكر، ولكن مِقياس الإخلاص للسُّلطات هو الأعمال، وعلى رأسها الإحسان للجار. أفضل النُّظم السياسية هي التي تسمح للفرد بحُرِّية التفكير، وقد اعترف له الإيمان من قبل بهذه الحُرِّية. قد تُسبِّب هذه الحرية بعض المَتاعِب للسلطات، ولكن هذه المَتاعِب أقلُّ بكثيرٍ ممَّا لو سُلِب المواطنون هذه الحرية. وإن وَضْع الإنسانية كلها تحت سيطرة القوانين يأسٌ مِن العيوب لا إصلاح لها. ومن الأفضل السماح بالنشاط الحُرِّ إذا كان من الصعب منعه، وهناك الانفعالات التي لا يُمكن القضاء عليها.
إنَّ الحرية هي العامِل الأساسي لتقدُّم العلوم والفنون، فلو حدَث أن فرَضَت السُّلطة على المواطنين أفكارها، فإنَّها لن تستطيع أن تجعل أفكارهم مُطابقة لأفكارها، وبذلك ينتهي المواطنون إلى النِّفاق، ويقولون ما لا يعملون، ويضيع حُسن النِّية، ويسود الخداع والمُحاباة، ويعمُّ السقوط. كُلَّما سُلِبت منهم الحرية زاد السقوط، وكلَّما التجئوا إلى باطنهم ليعثروا فيه على حُرِّيتهم، فاضَ بهم الكيل وناصَبوا السلطة العداء علنًا، وأثاروا القلاقل والفتن. فهذه هي الطبيعة الإنسانية، ويكون القانون هو السبب في إثارة دُعاة الخير لا في كبْحِ جِماح الظالمين، ويكون تطبيق القانون أعظم خطَر يُهدِّد الدولة التي يرفُضها الأحرار ويَتملَّقها الانتهازيُّون، ويصعُب على السُّلطة حينئذٍ التراجُع عمَّا هي فيه، وكم نشأت من الفِرَق والطوائف لأن السلطة أرادت وضْع حدٍّ لحرية الفكر. إن القوانين تهدف إلى تهدئة المشاعر لا إلى إثارتها. أليس الأجْدَرُ إذن أن تُراعى عواطف الجماهير من أن تُوضَع لها قوانين عاجزة؟ في مثل هذه الدولة يُصبح المواطنون أعداء الدولة لأنهم لا يعرفون الجُبن، ويسقُط الشهداء، ويلحَقُ العار بالسُّلطات، فلا يرهَبُ المواطنون الموت، ولا يَطلُبون العفو، ويَقبَلون الشهادة لغايةٍ شريفة، ويكونون شهداء الحرية، يَتبَعُهم بعض المواطنين في حِين يُصفِّق البعض الآخر للجلَّادين.
أما إذا أرَدْنا أن نُعيد للمواطنين حُسن النية وأن تُمارس السلطات حقَّها في أفضل الظروف المُمكِنة يجِب عليها التسليم بِحُرِّية المواطنين في التفكير وفي الحكم، فتقلُّ المتاعِب، وذلك أقرَبُ للطبيعة الإنسانية، والديمقراطية هي أقرَبُ النُّظُم إليها، ففيها يعمل كلُّ فردٍ ويفكر دون أن يَصُبَّ عملَه وفِكره في قالبٍ واحد، وفيها تحظى فكرة الغالبية العُظمى بمُوافقة الجميع مع الاحتفاظ بحقِّ إلغائها في المُستقبل لو دعت الظروف إلى ذلك، ولو وُجِدت هناك فكرة أصلح منها. لا تُمثِّل إذن حُرية المواطنين أي خطرٍ على السُّلطة وهيبتِها، فإذا سُلِبت هذه الحرية سقَطَ الشهداء وظهرَتِ الدعوة للشهادة ويُصفِّق أصحاب السُّلطة وأنصارها، والمُصفِّقون لها الذين يقومون باغتصاب السُّلطة بعد ذلك؛ لذلك، إذا أردْنا المُحافظة على سلامة الدولة يجِب أن يقتصِر الدين على مُمارسة العدل والإحسان، كما يجِب أن يقتصِر عمَل السُّلطة على توجيه أعمال المواطنين في شئون الدِّين والدُّنيا دون أن تَسلُبهم حُرِّيتهم في التفكير والتعبير. ويُلخِّص سبينوزا ذلك كُلَّه في مبادئ سِتَّةٍ تُكوِّن الدستور الشامل وهي:
-
(١)
يستحيل سلْب الناس حُرِّية التفكير والتعبير.
-
(٢)
لا يُهدِّد الاعتراف بالحرية الفردية هَيبة السُّلطة أو حقَّها.
-
(٣)
لا يُمثِّل التَّمتُّع بالحرية الفردية أيَّ خطرٍ على سلامة الدولة.
-
(٤)
لا تُهدِّد الحُرِّية الإيمان بالأديان.
-
(٥)
تعجزُ القوانين الصادرة عن تنظيم الأمور النظرية.
-
(٦)
ضرورة الحُرِّية الفردية للمُحافظة على السَّلام وعلى الإيمان وعلى حقِّ السُّلطة العُليا.١٢٣
وهنا ينتهي سبينوزا من رسالته «وفيها تَتمُّ البرهنة على أن حُرية التفلسُف لا تُمثِّل خطرًا على التقوى أو على السلام في الدول، بل إنَّ القضاء عليها يُؤدِّي إلى ضَياع السلام والتقوى ذاتها.»
ويمكن إصدار الحكم النقدي على صحَّة النص التاريخية، ويكون لدَينا إذن نقد النصوص La Critique Textuelle لتقارير أخطاء النُّسَّاخ والزيادات المقصودة للرُّواة ومُحاولة العثور على النصِّ الأصلي بلا زيادةٍ أو نُقصان، ثُمَّ يأتي النقد الأدبي La Critique Littéraire لتحويل النصِّ إلى نوعه الأدبي؛ الشعر، القصة، الملحمة، الرواية الأسطورة، الرمز، المثَل. وأخيرًا يأتي النقد التاريخي La Critique Historique لحسْم مشكلة الصحَّة التاريخية التي تشمَل أولًا إثبات صحَّة نِسبة النص إلى المؤلف المنسوب إليه Authenticité وهو ما سمَّاه النقاد المُحدثون نقد المصادر، Critique de Provenance وما سمَّاه عُلماء الحديث قديمًا السَّنَد، وثانيًا إثبات تكامُل النص من حيث المضمون Historicité وما سمَّاه علماء النقد المُحدثون نقد إعادة تكوين النص Critique de Restitutions وما سمَّاه عُلماء الحديث قديمًا «المتْن».
وقد بدأت المُحاولات النقدية الأولى منذ العُصور الأولى لنشأة المَسيحية فنشأت ترجمات النصوص الدِّينية Les Targums ومنها ترجمة التوراة من العبرية إلى اليونانية المعروفة باسم السبعينية Septante، وكان أوريجين Origène أحد روَّاد نقد النصوص القدماء، ولكن لم يتعَدَّ نقدُه تطبيق المبادئ اللغوية التي كانت معروفة في ذلك الوقت في مدرسة الإسكندرية، ووضع لأول مرة التَّوراة في ستة عواميد Les Héxaples لمُقارنة النصِّ العبري بالنصوص اليونانية المُختلفة، كما وضع عدَّة شروح لتأويل النصوص (تفسير النص مُشكلة ثانية بعد إثبات صحَّته)، ثمَّ ظهرتْ نُسختان لاتينيَّتان، الأولى أوروبية والثانية إفريقية؛ مما دفع القديس جيروم إلى مراجعة النصَّين والقيام بترجمةٍ جديدة للتَّوراة وهي ما تُسمَّى بالفولجات La Vulgate، ورأى تفسيرها تفسيرًا حرفيًّا لمُواجهة التفسير الرمزي في مدرسة الإسكندرية.
وفي العصور الوسطى المُتأخِّرة قام الماسوريون Les Massorates وهم المُكلَّفون بالمُحافظة على نصوص العهد القديم، بإدخال النُّقَط والحروف على النص، وقاموا ببعض الشُّروح الحرفية، ثم تَرجَم سعديا بن يوسف الفيومي (٨٩٢–٩٤٢) التوراة إلى العربية وشرَحَها إبراهيم بن عزرا شرحًا حرفيًّا، وكذلك سليمان بن إسحاق المُكنى باسم راشي، حتى أتى موسى بن ميمون وأعطى التوراةَ تفسيرًا عقليًّا.
وفي عصر النَّهضة، وبعد اختراع المَطبعة نَشَر أراسم سنة ١٥١٦، المَخطوطات اليونانية واللاتينية للعهد الجديد، ثُم نُشِرت مؤلَّفات آباء الكنيسة. وفي الإصلاح الدِّيني غلَب التفسير الإشراقي للكتاب على نقد النصوص، ولكن النقد التاريخي لم ينشأ على وجه التحديد إلَّا في القرن السابع عشر على يدي ريتشارد سيمون R. Simon وجان أوستريك J. Austruc بعد نشر الكُتب المقدَّسة بلغاتٍ عدَّة على عواميد مُتقابِلة حتى يُمكن مُقارنة النصوص المُختلفة كما فعل موران Morin ولويس شابل L. Chappelle من أجل البحث عن النص الأصلي. ولكن الأعمال النقدية لريتشارد سيمون تُعدُّ فاتحة على النقد الحديث وهي: (١) التاريخ النقدي لنصوص العهد العتيق، ويَدرُس فيه تاريخ النص العِبري منذ نشأته حتى الآن ويَشكُّ في نِسبة التوراة إلى موسى، (٢) التاريخ النقدي لترجمات Versions العهد العتيق، ويشرح فيه ظهور الترجمات ونقلها واختلافها، (٣) التاريخ النقدي لنصوص العهد الجديد، (٤) التاريخ النقدي لترجمَات العهد الجديد، (٥) التاريخ النقدي لشروح العهد الجديد. وبالرغم من وقوف بوسويه Bossuet أمامه إلَّا أن النقد استمرَّ عند سبينوزا بالرَّغم من وقوف بسكال ضدَّه. واستمرَّ أيضًا في القرن الثامن عشر عند فولتير وشكِّه في أسفار نشيد الإنشاد والجامعة، ولكن القرن التاسع عشر يُعدُّ عصر النقْل بفضل النُّقَّاد البروتستانت تحت تأثير المدرسة الهيجيلية التي روج لها رينان Renan في فرنسا، وانقسم النقدُ إلى مدرستَين: المدرسة الأسطورية، شتراوس، رينان. والمدرسة النقدية وغالبية أصحابها من أنصار النقد العقلي أو النقد العِلمي (التاريخي) للنُّصوص. ثم نشأت أزمة التجديد في العصر الحاضر بعد نشأة المنهج الفينومينولوجي وفلسفة الوجود واعتبار النصِّ جزءًا من موقفٍ وتعبيرًا عن تجربة حيَّة للجماعة الأولى التي نشأ فيها النص. وما زالت المعركة حاليًّا بين أنصار النقد وخصومه أو بين التيَّارَين الأبديَّين في الفِكر الدِّيني: التيار التَّقدُّمي الذي يَسمَح بالنقد التاريخي والتيار المحافظ الذي يقِف ضدَّه (انظر: J. Steinmann: La Critique devant la Bible, Fayard, Paris, 1956).
وبدأت مدرسة الصُّوَر الأدبية Formgeschichte Schule بعد نشأتها على يدِ بولتمان Bultmann سنة ١٩٢١ وديبليوس Dibilus سنة ١٩٢٩ وحاولت البحث عن الوحدات الأولية التي نشأت منها الأسفار ابتداءً من أبحاث جونكل Gunkel وفيما بعد أبحاث جرسمان Gressmann وفون راد G. Von Rad. وتَعتمد المدرسة على مبادئ ثلاثة: (١) الوحدات الأولى تعبير عن الأوضاع الاجتماعية وحال الجماعة الأولى لذلك لا بدَّ من وضع النصوص في تجاربها الحية Sitz im Leben. (٢) مُقارنة هذه الوحدات الأولى بالآداب الأخرى المُعاصرة لها في مصر وبابل، ومن ثم ارتبطت المدرسة بتاريخ الأديان المُقارن. (٣) اعتبار العهد القديم كتابًا إنسانيًّا مَحضًا يقصُّ التاريخ الاجتماعي والسياسي لشعْبٍ مُعين. وبالفعل، بفضْلِ هذا المنهج أمكن تصنيف الصُّوَر الأدبية إلى رواية وكلام مُباشر ومثَلٍ ورمز وكلام الذات … إلخ. وقد أنشأ البابا «لجنة التوراة» سنة ١٩٠٦ من أجل الحدِّ من النظريات النقدية ولكنها كانت أحدَ أسباب نشأة الحركة التجريدية داخل الكاثوليكية خاصَّةً في فرنسا بفضْل لوزاي A. Loisy. (E. Cavaignac: Intro, pp. 290–330.)
(انظر كذلك رسالتنا المخطوطة: Le phénomène de l’Exégèse, Tome II, Essai d’une herméneutique existentielle a partir du N.T.)
(انظر أيضًا السموأل بن يَحيى بن عبَّاس المَغربي: بذْل المجهود في إفحام اليهود ص٤٢–٤٧، مكتبة الحماد، القاهرة.)
وهناك نظرية أخرى تَفصِل بين نصَّي الأسفار الخمسة ونصِّ صموئيل (جريسمان Gressmann)، أما روست Rost، فإنه يَعتبِر النصَّين مُتتاليَين وليسا مُتوازِيَين. ويرى فيزر Weiser أن السِّفر قد نشأ من مصادر عدَّة خاصَّة به في حين أن بوبر Buber يرى أنه نشأ من مصدر واحدٍ وأُضِيف إليه نصَّان آخران (Delorme, p. 424–27).
وقد استمدَّ الكاتب سفرَي الملوك الثالث والرابع من مصادر عدَّة أهمُّها كُتب الأغاني Live de Chant الذي منه استمدَّ الكاتب نشيد سليمان، وكتاب أعمال سُليمان، وكتاب أخبار ملوك يهوذا، وكتاب أخبار ملوك إسرائيل، ألَّفَها كُتَّاب استطاعوا الاطلاع على الأرشيف الملَكي.
ويذكر رحمة الله الهندي ثلاثة أصناف من التحريف: التحريف اللفظي، التحريف بالزيادة، التحريف النقصان، إظهار الحق، ج١، ص١٢٢–١٥٠.
أما سفر الحكمة، فإنه قد نُسب إلى سليمان وهي نِسبة خاطئة، ومُؤلِّفه الحقيقي مجهول، ولكن يُظنُّ أنه كُتب في الإسكندرية، ويَنسبه البعض إلى فيلون، ويحتوي على نظرات فلسفية أقربَ إلى الفلسفة اليونانية منها إلى الفكر اليهودي التقليدي (Ibid., pp. 764–70).
وسفر طوبيا يدخُل في المجموعة نفسها مع سِفرَي يوديت واستير. وله مخطوطات كثيرة مُتباينة تعتمِد كلها على النص اليوناني، أما النص الآرامي الذي نشره نوباور Neubauer حديثًا سنة ١٨٧٥ فإنه مُتأثر أيضًا بالنصوص اليونانية. وقد اتبع أسلوب التعليم لا أسلوب الوصف أو الرواية (A. Le Févre, Ibid., pp. 740–45).
ويُلاحظ نقَّاد هذه الأسطورة أن أناشيد يونان مُضافة، بل إنَّ بعض المُفسِّرين يمنعون قراءتها في الصلوات. والسِّفر كله لا يحتوي على سيرةٍ ذاتية حدثت بالفعل بل يدلُّ على قصَّة رمزية، وقد كثُرَت أمثال هذه القصص في الأدب العبري بعد المنفى. (A. Gelin: Intro., pp. 574-5.)
وبعد ظهور المسيحية عقد اليهود مَجمعًا في جامنيا حوالي سنة ٩٠–٩٥ من أجل تقنين الأسفار، فلم يَعتبِر الفريسيُّون مُقدَّسًا إلَّا الأسفار المكتوبة بالعبرية، واعتبر يهود الإسكندرية مُقدَّسًا بعض الأسفار المكتوبة باليونانية (سفر يشوع بن سيراخ وسِفر الحكمة). خلاصة الأمر أنَّ الأسفار المُقنَّنة لم تكن نتيجة فحصٍ تاريخي، بل حدثَتْ بسُلطة الأحبار، وأُضيفت لها أسفارٌ أخرى لأنها تُكمِل الرواية أو لأنَّها مدونة من كَتَبةٍ مُقدَّسين، وتحتوي المجموعة الفلسطينية على الآتي: (١) الأسفار الخمسة. (٢) الأنبياء، ويشمل الأنبياء السابقين: يشوع، القضاة، صموئيل، الملوك — ولا تدلُّ هذه الأسماء على أنهم مُؤلِّفو الأسفار — والأنبياء اللاحِقين باستثناء دانيال. (٣) الكتب الأخرى مثل دانيال، أخبار الأيام، أيوب، المزامير، ولا نجِد من بينها طوبيا يوديت، الحكمة، باروخ، سفر ابن سيراخ، سفر الكاتبَين الأول والثاني. (انظر: A. Barucq: Intro., pp. 31–41.)
ويُشبِهُ هذا الشرط ما يتطلَّبُه الأصوليُّون من ضرورة العِلم بمبادئ اللغة العربية لتفسير نصوص القرآن وكشرطٍ أوَّلَ له.
انظر أيضًا: الدكتور إبراهيم بيومي مدكور، في الفلسفة الإسلامية، ص٨١–١٤٦، دار إحياء الكُتب العربية، القاهرة، ١٩٤٧. ونجِد أنَّ ابن الراوندي وأبا بكر الرازي قد قالا شيئًا مُشابهًا، فابن الراوندي يرفُض المُعجِزات ويُؤمِن أنَّ باستطاعة العقل الوصول إلى كلِّ ما أتى به الوَحي، فالعقل هو أعظَمُ نِعَم الله سبحانه على خلقه، وأنه هو الذي يُعرَف به الرَّبُّ ونِعَمه، ويرفُضُ الرَّاوندي كلَّ الجانب الطقوسي الشعائري في الأديان.
ولكن كانت النتيجة النهائية من هذا الميثاق هي نقض بني إسرائيل له وقطعه من طرَفِهم الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ (البقرة: ٢٧)، وذلك إما بالكُفر بالكُتُب المُقدَّسة فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللهِ (النساء: ١٥٥)، أو بالقسوة المطبوعة في قلوبهم فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً (المائدة: ١٣)، والمِيثاق الآن مطروح على البشر جميعًا وهم المؤمنون حقًّا الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (الرعد: ٢٠)، فالمِيثاق بين الله والبشر كالمِيثاق بين الإنسان والإنسان، شرط التعاقُد هو التزام الطَّرَفَين به، فإذا تخلَّى طرف بطَلَ العقد.
ويكون كتاب «الأخلاق» بهذا المعنى دِراسة للصِّلة بين اللهِ والإنسان أو استنباط الأخلاق العَمليَّة عن وجود الله فينا أو إنْ شِئنا استنباط الأخلاق عن الإلهيَّات كما كانَ الحالُ في العصر الوسيط.
«فالمرحلة الأولى»: تمتدُّ حتى تَحوُّله إلى الدين الجديد أو بعده بقليل، والدافع الأول فيها هو ما يُمكن تسميته بمُركَّب النقص، فبولس لم يرَ المسيح ولم يكن مُعاصرًا له، وكان تَحوُّله إلى الدين الجديد مُتأخرًا، وكان تاريخه مُثقلًا باضطهاد المسيحيين. أراد بولس التعويض عن كل ذلك، خاصَّةً أمام تلاميذ المسيح المُباشرين وما كان بينه وبينهم من مُنافسة من أجل نشر الدَّعوة، هذا البناء النفسي يَظهَر في عديدٍ من عباراته مثل «أنا بولس» «الأمر بيدي … إلخ.» وفي إصراره في كلِّ رسالة على أنه حواري، يتحدَّث باسم المسيح، جاءه وحيٌ مُباشر، لا يَقلُّ أهمية عن الآخرين، ويطالِبُ بالسمع والطاعة على الإطلاق، ويردُّ اتهامات الآخرين له بأنه دخيل على الدعوة. يستعمل بولس دائمًا الشخص الأول ويتحدَّث عن نفسه ويُعطي نفسه السُّلطة لدرجة أن رينان وصفَهُ بأنه مُتكبِّر مغرور، وبأنه مُتميِّز على غيره وأن لُغتَهُ ليست من البشر بل من الرُّوح، وأنه له الحقوق نفسها التي لهم، ويَعتبِر نفسه تابعًا للمسيح ومُقلدًا له.
«وفي المرحلة الثانية»: التي تبدأ من الثانية والثلاثين حتى الأسْر الرُّوماني الأول وهو في سِنِّ الواحد والسِّتِّين كان الدافع لدَيه هو التركيز على جانب الفضائل العملية بلُغة الأمر والنهي، الأمر بالفضيلة والنهي عن الرذيلة كما يفعل الحاكم الآمر، بلُغة الخطابة والأمر، وتظهر لدَيه في ذلك الحين مُعتقدات الجماعة الأولى مثل انتظار رجوع الربِّ Parousia، كما تبدأ المُصطلحات اللاهوتية في الظهور، ويُوحِّد بولس بين الكلمة والإنجيل والرُّوح القُدُس ويسوع والرَّب ويتحوَّل كلام الله إلى شخص المسيح، وتظهر ألقاب المسيح على أنها حقائق كونية. يبدأ اللاهوت العقائدي مصدر العقيدة المسيحية، في الظهور ابتداءً من الحماس التبشيري الأول الذي يُعبِّر عنه بولس باللغة العادية التي تتحوَّل إلى مُصطلحات، ثُمَّ تتحوَّل المصطلحات إلى مضامين، والمضامين إلى عقائد، والعقائد إلى أشياء، والأشياء إلى ظواهر كونية!
«وفي المرحلة الثالثة»: التي تبدأ من الواحد والسِّتِّين حتى السابع والسِّتِّين يظهر الدافع الأساسي فيها في صورة نظريات في المسيح Christoligie ويصوغ في قوالب عقليةٍ عواطِفَه الصوفية وانفعالاته التبشيرية، وتظهر ألقاب المسيح وتتحوَّل من مُجرَّد لغة عادية إلى صفاتٍ لله أو إلى أُسس للعقائد مثل التوسُّط والخلاص والتجسُّد والفداء (انظر رسالتنا: La phénoménologie de l’exégèse, T. II, pp. 309–36).
وانظر مُقدمة رشيد رضا لإنجيل برنابا ص ر، صُبيح، انظر أيضًا عدم اعتبار ابن تيمية، للحواريين رُسلًا أو أنبياء («الجواب الصحيح»، ج١، ص٢٠٦).
(Marx: Thèses sur Feuerbach, pp. 51–53, Ed. Sociales, Paris, 1966. (Dans, F. Engles: L. Feuerbach et la fin de la philosophie classique allemande).)
انظر مَقالنا: «مُحاضرات في فلسفة الدِّين لهيجل»، تُراث الإنسانية، المجلد الثامن، ٤ يناير (كانون الثاني) ١٩٧١.
أما عبارة سبينوزا التي تُفيد بأنَّ الله يأمُر بطاعة القوانين الوضعية فإنها لا تعني ما يُروِّجه بعض المُحافظين على الأوضاع القائمة والمُناهِضين لكلِّ تَغيُّرٍ وتقدُّمٍ عن معنى آية أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ لأنَّهُ لا طاعةَ لمخلوق في مَعصية الخالق، فالحاكِم والمحكومون مِمَّا يخضعون لمبدأ واحدٍ ويكون مِقياس الطاعة هو الالتزام بهذا المبدأ.
والغاية النهائية من هذا الجزء السياسي من الرسالة هي تفنيد فكرة الشعب المُختار وهدْم فكرة الميثاق، فالرسالة كلها تهدف في حقيقة الأمر إلى تحقيق هذه الغاية السياسية. ويُمكننا القول أيضًا أنه كان للدِّين وظيفة وهي المُحافظة على مصلحة الشعب عن طريق الحكم الإلهي، والآن يُمكن تحقيق هذه الوظيفة عن طريق النظام الديمقراطي.