تغيُّر المناخ العالمي بين العلم والسياسة: دليل للمناقشة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثاني

العلم والسياسة والعلم في السياسة

مناظرة تغير المناخ، مثل كل المناظرات السياسية، هي بالأساس جدل حول الفعل. كيف نستجيب لتغير المناخ؟ هل الأخطار التي يفرضها تستدعي فعلًا، وإذا كانت تستدعي، فأي جهد — وأموال — نبذلها وعلى أي نوع من الفعل؟ استمع إلى المناظرة وستسمع الكثير من أنواع الجدل المختلف، عما إن كان المناخ يتغير وكيف، وإن كانت أنشطة الإنسان مسئولة، ومدى ما يحدث وما إن كان يمكن أن يعتبر طبيعيًّا، وكيف يمكن أن يتغير المناخ في المستقبل، وما التأثيرات المحتملة للتغيرات، وما إن كانت تستدعي الاهتمام، وملاءمة الاستجابات المختلفة ومزاياها وعيوبها. ورغم تميز هذه المناقشات، فهي حين تقدم في المناظرة السياسية تستخدم كلها لصناعة حالة لما ينبغي علينا القيام به ولما لا ينبغي. تهدف إلى إقناع الآخرين بدعم مسار معين للعمل.

يضع الفصل الأساس لفهم هذه المناقشات. يوضح القسم التالي الاختلافات بين نوعَي المقولات المقدمة في المناظرات السياسية، المقولة الإيجابية والمعيارية. ثم يناقش القسم [كيف يعمل العلم؟] والقسم [السياسة ومناظرات السياسة] كيف يفحص العلم المقولات الإيجابية ويختبرها، وكيف يستخدم المشاركون في المناظرات السياسية كلًّا من المقولة الإيجابية والمقولة المعيارية؛ لبناء مجالات مع السياقات المفترضة للفعل وضدها. يفحص القسم [حين يلتقي العلم والسياسة] ما يحدث حين تتقاطع المناظرة العلمية والسياسية، كما هو الحال فيما يتعلق بتغير المناخ. أخيرًا، يناقش القسم [الحد من الأضرار: دور التقييم العلمي] دور التقييم العلمي في معالجة الحدود بين المناظرة العلمية والسياسية. وتناقش الفصول التالية المقولات الخاصة التي يطرحها الناس بشأن العلم والسياسة فيما يتعلق بتغير المناخ، ووضع المعرفة الحالية فيما يتعلق بهذه المقولات.

(١) مبررات الفعل: التصريحات الإيجابية والمعيارية

عن تغير المناخ، كما هو الحال بالنسبة لأية قضية يختلف الناس عما يفعلونه بشأنها، ترتكز المناقشات المقدمة لدعم الفعل المفترض أو معارضته على نوعَين مختلفَين اختلافًا جوهريًّا من التصريحات المؤيدة: تصريحات بشأن ما نعرفه، أو المقولات الإيجابية، وتصريحات بشأن ما نقيمه وما ينبغي أن نقيمه، أو المقولات المعيارية.

تهتم المقولة الإيجابية بحالة الأشياء تقول: إن شيئًا حقيقيًّا عن العالم. وقد تتناول أمرًا ما («إنها تمطر»)، أو ميلًا عبر الزمن («تصبح فصول الشتاء أكثر دفئًا»)، أو علاقة سببية تفسر سبب حدوث شيء ما («التدخين يسبب السرطان»). التصريحات الإيجابية ليست بالضرورة بسيطة أو يمكن التحقق منها بسهولة، وربما تتعلق بشئون الإنسان، ويمكن أيضًا أن تتعلق بالعالم الفيزيائي الحيوي. «ساهمت سياسة الولايات المتحدة أثناء الحرب الباردة بشكل حاسم في انهيار الاتحاد السوفييتي» تصريح إيجابي أيضًا، لكنه تصريح يصعب التحقق منه بثقة. الأساسي في المقولات الإيجابية أنها تتعلق بحالة الأشياء لا بما ينبغي أن تكون عليه. كل المقولات العلمية وكل الأسئلة العلمية إيجابية.

تتعلق المقولة المعيارية بالتقييم: لا تتعلق بحالة الأشياء، بل بما ينبغي أن تكون عليه. تعلن (أن شيئًا حسن أو سيئ، صحيح أو خطأ، مرغوب أو غير مرغوب، عادل) أو غير عادل، إلخ. يمكن أن تشمل أمثلة التصريحات المعيارية، «ينبغي عليه أن يبقى ليساعدها»، «القتل خطأ»، «عدم المساواة في توزيع ثروة العالم ظلم»، «إننا ملزمون بحماية الأرض»، «التدابير البيئية انتهاك غير مقبول لحقوق الملكية والحريات الفردية.» باستثناءات قليلة، التصريحات أو الأسئلة التي تتضمن كلمات «ينبغي» أو «يجب» معيارية. وتشمل الاستثناءات غالبًا استخدامًا مائعًا للغة. إذا قال شخص: «ينبغي أن يفوز الأمريكان بورلد سيرز»،١ يحتمل أن يعني أن من المرجح أن يفوزوا بها (مقولة إيجابية)، ولا يعني أن من الصواب أو العدل أو الصحيح أنهم يفوزون (مقولة معيارية). بالطبع، ربما يعني الاثنين، مقدمًا مثالًا للطريقة التي نجمع بها أحيانًا التصريحات الإيجابية والمعيارية، ونخلط بينها.

توجد عدة اختلافات مهمة بين المقولات أو الأسئلة الإيجابية والمعيارية؛ أولا: إذا طرح سؤال إيجابي بشكل جيد تمامًا — بمعنى أن تُحدَّد كل أطرافه بوضوح ودقة كافية — تكون له إجابات صواب وخطأ. بالمثل، المقولة الإيجابية المطروحة بشكل جيد تكون صحيحة أو زائفة. ثانيًا: لا تعتمد إجابة السؤال الإيجابي، أو صحة المقولة الإيجابية أو زيفها، على من أنت، ما تحب أو تقدِّر، أو ثقافتك، أو أيديولوجيتك السياسية، أو معتقداتك الدينية. أخيرًا، يمكن غالبًا حل المناقشات حول المقولات الإيجابية بالنظر إلى دليل. إذا اختلفنا أنا وأنت عما إن كانت فصول الشتاء تصبح أكثر دفئًا، يمكن أن ننظر في سجلات درجات حرارة الشتاء في الماضي والحاضر. وإذا اختلفنا عما إن كان التدخين يسبب السرطان، يمكن أن ننظر في سجلات صحة مجموعة كبيرة من المدخنين وغير المدخنين (يتماثلون في كل شيءٍ إلا التدخين)، ونلاحظ إن كان المدخنون يصابون أكثر بالسرطان.

لكن لاحظ الكلمة المراوغة «غالبًا» التي تقيد تصريحنا السابق عن أن الخلافات الإيجابية يمكن أن تُحل بالنظر إلى دليل. النظر إلى دليل لا يمكن أن يحل دائمًا الاختلافات الإيجابية لسببَين؛ سبب فلسفي وسبب عملي. فلسفيًّا، لا يوجد أساس صلب لحل جازم حتى بالنسبة للأسئلة الإيجابية؛ لأننا، أنا وأنت، قد نختلف على ما يعنيه الدليل. وربما نختلف على صلاحية الطرق المستخدمة لمقارنة درجات حرارة الشتاء في مناطق مختلفة أو عبر الزمن. ربما نختلف أيضًا عما إن كان ما يحدث الآن في الخارج يعتبر «مطرًا». (هل الرذاذ الخفيف يعتبر مطرًا؟ ماذا عن الضباب الكثيف؟) إذا استمر الاختلاف حول هذه المسائل المتعلقة بالدليل، لا يمكن لأيٍّ منا أن يفوز في الجدل بحسم. أفضل ما أقوم به هو اللجوء إلى مناقشات ثانية، مثل ما المعقول الذي يمكن تصديقه؟ أو في أي حكم نثق؟ وهو ما قد ترفضه أيضًا.

الثاني: الحدود العملية وتتمثل في أن الدليل المطلوب لحل الاختلاف قد يكون غير متوفر حاليًّا، أو حتى لا يمكن التوصل إليه من حيث المبدأ. لا يمكن أن نعرف إن كانت فصول الشتاء تصبح أكثر دفئًا إلا إذا كانت لدينا سجلات درجات الحرارة عن المنطقة، والفترة الزمنية التي نتساءل بشأنها. لكن مع أن هذه الحدود حقيقية، لكننا لا ننفي التعميم الواسع: يقدم النظر إلى دليل طريقة قوية فعالة غالبًا لحل الاختلافات حول المقولات الإيجابية.

وليس هذا هو الحال بالنسبة للمقولات المعيارية؛ لأن المسائل المعيارية تشمل دائمًا أحكامًا على قيمة، فإن الأساس للاعتقاد بأن لها إجابات صوابًا وخطأً أضعف بكثير ممَّا عليه الحال بالنسبة للمسائل الإيجابية. يتطلب الأمر أن تؤسس مقولات معيارية معينة على مجموعة أساسية من المبادئ التي تحدد القيم المناسبة. وهذه قد تكون مجموعة من المعتقدات الدينية، أو فلسفة خلقية، أو أيديولوجيا سياسية، أو مجموعة من المعايير الثقافية، وربما تشير ببساطة إلى ما يفضله الناس أو يهتمون به (ما يريده الناس، أو ما يُعتبَر جيدًا بالنسبة لهم)، لكن لأن الناس يختلفون اختلافات عميقة بشأن هذه المبادئ الأساسية، يمكن أن تختلف الإجابة على سؤال معياري اختلافًا كبيرًا من شخص لشخص. حتى مقولة مثل «القتل خطأ»، وقد تبدو صحيحة بشكلٍ واضحٍ للوهلة الأولى، تولد بسرعة اختلافات حين تتأمل حالات صعبة من قبيل قتل من يعانون من أمراض ميئوس منها، أو عقوبة الإعدام، أو الحرب. بالإضافة إلى ذلك، النظر إلى دليلٍ لا يساعد على حل الاختلافات في المسائل المعيارية الصرفة. المسائل المعيارية بالتالي مثيرة بشكل أكثر عمقًا من المسائل الإيجابية، وأقل قابلية لحل متفق عليه بشكل متبادل.

تعتمد المناظرات السياسية، والمناقشات حول سياق معين للفعل بشكل يكاد يكون دائمًا على كلٍّ من المقولات الإيجابية والمعيارية. ويرجع هذا إلى أن معظم الاختيارات السياسية تتم لأسباب إجرائية: نؤيد القيام بشيء ما لأننا نعتقد أن من المحتمل أن تكون نتائجه طيبة. المناقشات حول الأفعال («هل نرفع الضريبة على السجائر؟») تعتمد جزئيًّا على المقولات الإيجابية عن النتائج المترتبة عليها («إذا رفعنا الضريبة، إلى أيِّ حدٍّ يقل التدخين؟»، «ما الفوائد الصحية التي يحققها هذا التخفيض في التدخين؟»، «ما مقدار السجائر التي يتم تهريبها؟»). وتعتمد أيضًا على المناقشات المعيارية عن مدى جودة هذه النتائج أو سوئها («هل من العدل زيادة دخل الضرائب من الفقراء؟»، «هل يجدر بنا قبول الزيادة المتوقعة في الجريمة لتحقيق الفوائد الصحية المتوقعة؟»)؛ وأيضًا على المناقشات المعيارية بشأن قبول الفعل نفسه («هل محاولة جعل الناس يقللون من القيام بسلوك غير صحي المهمة الحقيقية للحكومة؟»). وبشكل مماثل، يرى من يؤيدون عقوبة الإعدام أنها تثني عن اقتراف جرائم شنيعة (إيجابي)، وأن تطبيقها لا يعتمد على التعصب العرقي (إيجابي)، وأن الحذر الإجرائي يمكن أن يقلل خطر تنفيذ الحكم في شخص بريء إلى الصفر تقريبًا (إيجابي)، وأن القتلة يستحقون الموت (معياري)، وأن من العدل والقانون أن تقوم الدولة بإعدامهم (معياري). ويرى المعارضون أن الردع غير فعال (إيجابي)، وأن نتائج الأحكام يعتمد على التعصب العرقي (إيجابي)، وأن معدل الأخطاء — إعدام أبرياء — مرتفع وسيبقى مرتفعًا (إيجابي)، ومن الخطأ أن تقوم الدولة بعمليات قتل (معياري).

في قضية تغير المناخ، تجمع أيضًا المناقشات في كل جوانب المناظرة بين المقولات الإيجابية والمعيارية. يرى أنصار العمل على خفض انبعاث غازات البيوت الزجاجية أن المناخ ارتفعت حرارته، وأن أفعال الإنسان مسئولة إلى حد كبير عن الارتفاع الحديث، ومن المحتمل أن تستمر التغيرات وتتسارع — وكلها مقولات إيجابية. ويرون أيضًا أن التأثيرات الناجمة على الموارد والأنظمة البيئية والمجتمع من المحتمل أن تكون شديدة بشكل لا يحتمل، وأننا يمكن أن نحد من تغير المناخ في المستقبل بتكلفةٍ مقبولة — تصريحات تجمع بين المقولات الإيجابية عن طبيعة التأثيرات المتوقعة، وفرص التغير التكنولوجي، والتأثير وتكلفة الاستجابات، مع مقولات معيارية عن مدى قبول هذه التكاليف. كل هذه المقولات، إيجابية ومعيارية، يفنِّدها المعارضون للعمل على التقليل من الانبعاث.

لكن بينما قد تشمل المناقشات السياسية كلًّا من المقولات الإيجابية والمعيارية، فإنها لا تأتي محدَّدةً بدقة أو معقودة بشكل منفصل. في الحقيقة، كثير من المناقشات، كالتي ذكرناها سابقًا، تضفر بين العناصر الإيجابية والمعيارية. على سبيل المثال، تأمل التصريح، «علم المناخ غير مؤكد بدرجة لا تسمح له بتبرير القيود المكلفة على نمونا الاقتصادي.» يقول إن القيود على الانبعاث غير مبررة، وتبدو وكأنها مقولة معيارية، لكن المقولة تعتمد أيضًا على فرضيات مضمرة بشأن مسائل إيجابية، تشمل ما نعرفه (ومدى ثقتنا في معرفتنا به) عن مدى السرعة التي من المحتمل أن يتغير بها المناخ، والتأثيرات التي تنجم عن ذلك، والوسائل المتاحة للحد من سرعة هذه التغيرات، وتكلفتها وصعوبتها. التي تطرح هذه المناقشة ربما وضعت هذا كله في الاعتبار للوصول إلى حكمها بأن القيود على الانبعاث ليست مبررة، لكنك عند سماع هذه المناقشة، عليك أن تضع في الاعتبار إن مصيبة في هذه الفرضيات لَتقرر إن كنت ستتفق أم لا مع استنتاجها. ربما تتفق معها تمامًا على وضع المعرفة العلمية التي قد تبرر الفعل، وتختلف معها بشأن الاستنتاج إذا اختلفت معها بشأن حالة المعرفة العلمية.

يمكن أن تكون الفرضيات المضمرة خلف أية مناقشة معيارية مثلما يمكن أن تكون إيجابية. تأمل المقولة، «اتفاقية كيوتو قد تكلف الاقتصاد الأمريكي مئات البلايين من الدولارات بينما تعفي الصين والهند من أي أعباء.» تصرح بشيء ما عن تكاليف سياسة معينة، وتبدو وكأنها مقولة إيجابية، لكن التصريح له أيضًا قوة بلاغية؛ حيث إنه يتضمن بقوة أن من الخطأ أو ربما من الحماقة بالنسبة للولايات المتحدة أن تنضم إلى اتفاقية كيوتو. سواء كانت المقولة الإيجابية صحيحة أم لا، تكتسب هذه القوة البلاغية من عدة فرضيات مضمرة، بعضها إيجابي وبعضها معياري: إن هذه التكلفة باهظة جدًّا، مقارنة بالفوائد التي قد تعود بها اتفاقية كيوتو على الولايات المتحدة؛ إن فرض الأعباء الأولية لتخفيض الانبعاث على كاهل الدول الصناعية الكبرى جائر؛ والسياقات الأخرى للعمل المتاحة أمام الولايات المتحدة أفضل.

هذا التماس بين مقولات إيجابية ومعيارية، وبين مناقشات صريحة وفرضيات مضمرة قوية، يعوق مشاورات معقولة بشأن القرارات السياسية. يثير الارتباك، ويؤجج الصراع، ويجعل من الصعوبة على المواطنين التوصل إلى رأي مستنير. وقد يكون هذا التماسًا غير متعمد أحيانًا، أو قد يكون متعمَّدًا ليثير الارتباك في المناظرة، من قبيل حجب مناطق اتفاق محتمل. بالطبع، لا يمكن دائمًا فصل أجزاء المناقشة بدقة، لكن الفصل بينها بقدر المستطاع، وجَعْل الفرضيات الأساسية التي ترتكز عليها المناقشات السياسية صريحة، يمكن غالبًا أن يقلص الصراع ويحدد أسسًا لفعل متفق عليه بين أناس يحملون مبادئ سياسية مختلفة.

فصل المقولات الإيجابية عن المعيارية مهم خاصةً في قضايا البيئة؛ نتيجة الدور المركزي الذي لعبته المقولات الإيجابية، بشأن سلوك الأنظمة البيئية، في هذه المناظرات. يعرض المشاركون في المناظرات السياسية حول البيئة مواقفهم غالبًا باعتبارها مؤسسةً على العلم، حتى حين يقدم آخرون مقولات علمية معارضة تمامًا. ربما يقول مؤيد: «يوضح الدليل العلمي أن انبعاث غازات البيوت الزجاجية على يد الإنسان يرفع حرارة الأرض.» ويقول آخر: «لا يوجد دليل علمي على أن انبعاث غازات البيوت الزجاجية على يد الإنسان يرفع حرارة الأرض.» بافتراض أن المصطلحات في هذَين التصريحَين معرفة بوضوح واتساق، لا يمكن أن يكون الاثنان صحيحَين. يمكن أن يساهم حل النزاع حول المقولات الإيجابية مساهمة جوهرية في الحد من الاختلاف بشأن سياق الفعل الذي علينا أن نتبعه.

وهذا الحل ممكن غالبًا. في الحقيقة، في الكثير من قضايا البيئة، المعرفة المتعلقة بالموضوع أكثر تقدُّمًا والاتفاق العلمي أكثر قوة مما قد تعتقد من مراجعة المناظرة السياسية في الصحيفة أو في الويب. وهذه بالتأكيد هي الحال بالنسبة لتغير المناخ العالمي. نعرف أكثر عن المناخ، وكيف يتغير، وكيف يحتمل أن يستمر التغيير في ظل الضغوط الإنسانية المستمرة، مما قد توحي به نظرة على مناظرة سياسية. لفهم السبب، نستكشف في البداية كيف تعمل العملية الاجتماعية التي نسميها «العلم». ثم نستكشف كيف تجري عملية صناعة القرار السياسي، وما يحدث حين تلتقي معًا هاتان العمليتان الاجتماعيتان المختلفتان حقًّا.

(٢) كيف يعمل العلم؟

العلم عملية تطور معرفتنا الجمعية بالعالم بفرض مقولات إيجابية واختبارها. العلم نشاط اجتماعي — ليس بمعنى أن الحفلة نشاط اجتماعي، شيء نقوم به بهدف المتعة في صحبة الآخرين، لكن في الحقيقة بمعنى أن ما يقوم به فريق رياضي أو أوركسترا نشاط اجتماعي: نشاط يكتسب قوته من تسخير مهارات أناس متعددين وجهودهم سعيًا لتحقيق هدف مشترك. قوة العملية الاجتماعية للعلم في الإجابة على مسائل إيجابية وتطوير معرفتنا بالعالم، رغم أنها ليست مطلقة أو كاملة، لا نظير لها في تاريخ الإنسان.

كما هو الحال مع فريق رياضي أو أوركسترا، ينضم الناس إلى جماعة العلماء بالتدريب والممارسة؛ حتى يظهروا أن مهاراتهم ومعرفتهم كافية للمساهمة في هدف المجموعة. أيضًا كما هو الحال مع فريق رياضي أو أوركسترا، هناك قواعد وإرشادات تحدد كيف تسعى جماعة علمية وراء هدفها، وكيف يساهم العلماء فرادى في الجهد الجماعي. في العلم، تشكل القواعد والإرشادات منهجًا — وصف ما يقوم به العلماء يوجد في افتتاحية كل كتاب دراسي تمهيدي في العلم. مع اختلاف أوصاف المنهج العلمي في التفاصيل، لكنها في جوهرها بنية منطقية من ثلاثة أجزاء؛ الأول: وضع فرضيات أو حدس عن كيفية عمل العالم — وتسمى فرضيات. الثاني: تقديم تفسير لما تتضمنه الفرضية للوصول إلى دليلٍ ينبغي أن نكون قادرين على ملاحظته. ثالثًا: اختبار الفرضية بالنظر إلى الدليل.

يمكنك استخدام هذه البنية المنطقية للبحث لفحص أية مسألة إيجابية، صغرت أو كبرت: «لماذا تختفي مفاتيحي باستمرار؟» أو «من قتل كوك روبين؟» أو «كيف تتكون النجوم؟» أو «هل يختطف الغرباء الناس؟» أو «هل نشاط الإنسان يرفع حرارة الأرض؟» في مجالات علمية معينة، توجد قيود إضافية في تطبيق هذا المنهج تأتي من الحالة الحالية للمعرفة المقبولة في المجال، تحدد ما يعتبر مسألة مهمة وإجابة مهمة مقبولة. إن فرضية تُناقِض المعرفة المستقرة تعتبر — بشكل معقول — خطأً مؤكدًا تقريبًا، ومن غير المحتمل أن تلقى أي اهتمام. على سبيل المثال، فرضية جديدة بأن الأرض ثابتة في الفضاء والأجسام السماوية تدور حولها، أو أن الإصابة بالميكروبات لا تسبب أمراضًا، لن تلقى أي اهتمام.

لكي تساهم فرضية في تقدم المعرفة العلمية، يجب أن تكون قابلة للاختبار. وهذا يعني أنها يجب أن تتضمن توقعات معينة عن الأشياء ينبغي أن تكون قادرًا على ملاحظتها. إن المعاني المعينة لفرضية هي ما يجعلها عرضة للتفنيد بالدليل. إذا نظرت بدقة ولم ترَ ما تقول الفرضية إنك ينبغي أن تراه، أو ترى ما تقول الفرضية إنك لا ينبغي أن تراه، تستنتج أن الفرضية يحتمل أن تكون خطأ. ربما ينبغي تعديلها لتكون متوائمة مع الدليل، لكن هذه الإضافة المتعلقة بالكفاءات والتعقيد للفرضية لتضع في اعتبارها الدليل المضاد يُنظَر إليها بريبة. يمكن أن تساهم الفرضية المحددة والقابلة للاختبار، التي حين تختبر يتبين أنها خطأ، في تقدم المعرفة العلمية. ربما، على سبيل المثال، تساعد الجهود المباشرة للوصول إلى خطوط مثمرة أكثر من البحث عن تشجيع شخص على وضع فرضية أفضل، لكن الفرضية التي ليست لها نتائج قابلة للملاحظة، أو كانت نتائجها مبهمة أو مائعة جدًّا بحيث يستحيل معرفة ما قد يعتبر دليلًا مضادًّا، عديمة الجدوى في البحث العلمي؛ لهذا ليس لدى العلم ما يقوله عن المسائل المتعلقة بالمعتقد الديني، مثل وجود الرب.
يقدم اختبار الأبوة توضيحًا بسيطًا لكيفية استخدام الدليل لاختبار فرضية. قبل ظهور اختبار الدنا DNA، كانت الأنماط المعروفة من وراثة فصائل الدم تستخدم غالبًا في اختبار معرفة الأب البيولوجي لطفل عند إنكار هذا الطفل. إذا كانت فصيلتا دم الأم والطفل من نوعَين معينَين، فإن هذا يحد من الفصائل المحتملة لدم الأب. على سبيل المثال، إذا كانت فصيلة دم الأم A وفصيلة دم الطفل B، لا يمكن أن تكون فصيلة دم الأب إلا B أو AB. تأمل فرضيتك بأن جيمس هو الأب. حتى تكون هذه الفرضية صحيحة، ينبغي أن تكون فصيلة دم جيمس B أو AB. إذا لاحظت أن فصيلة دم جيمس A فإن هذه الملاحظة (باستثناء احتمال الخطأ في الملاحظة أو خلط العينات) تنفي بحزم فرضية أن جيمس هو الأب. لاحظ، مع ذلك، إذا وجدت أن فصيلة دم جيمس B، فإن ذلك لا ينفي الدليل أنه الأب، لكنه لا يثبت أيضًا أنه الأب. الأب الحقيقي يمكن أن يكون جيمس، ويمكن أن يكون أي رجل آخر فصيلة دمه B أو AB.٢

يوضح هذا خاصية عامة للبحث العلمي، ترفض الفرضيات بحسم أكبر من الذي يتم به دعمها. ولأن الفرضيات تصاغ لتتضمن دليلًا معينًا قابلًا للملاحظة، فإن الدليل المضاد الحاسم يقضي على الفرضية عادة؛ لكن الدليل المؤيد يمكن أن يظهر أحيانًا بالتزامن، حتى لو كانت الفرضية خطأ. تلخص هذه الخاصية أحيانًا بقول: إن العلم لا يثبت شيئًا أبدًا؛ لأنه بينما تظل فرضية على قيد الحياة لفترة كافية وتقبل بالاختبار المتكرر باعتبارها صحيحة، تبقى دائمًا عرضة للخطأ بدحضها باختبار ما في المستقبل.

في بعض مجالات العلم، تتولد الملاحظات المستخدمة لاختبار الفرضيات من خلال التجارب، بعزل الظاهرة مجال الاهتمام في مختبر ومعالجة بعض الشروط بفاعلية مع التحكم في شروط أخرى لتوليد ملاحظات تستهدف بدقة الفرضية التي نختبرها. يمكنك أن تفعل هذا إذا كنت تدرس التفاعلات الكيميائية، أو سلوك أشباه الموصلات، أو الخصائص الوراثية لذبابة الفاكهة. لكن بالنسبة لبعض المسائل العلمية، من قبيل مسائل تتعلق بسلوك الغلاف الجوي للأرض، أو تكوُّن النجوم، أو تطور الحياة في الماضي السحيق، لا يمكنك القيام بمثل هذه التجارب التي يتم التحكم فيها في مختبر. لا يمكن، ومن غير المقبول، أن نضع الأرض في مختبر، ونعالج بعض خصائص الغلاف الجوي لنلاحظ الاستجابة، لكن يبقى من الممكن غالبًا ملاحظة العمليات التي تحدث بشكل طبيعي لجمع الأدلة المطلوبة لاختبار الفرضية.

على سبيل المثال، تقول نظرية النسبية العامة التي وضعها أينشتاين: إن الجاذبية ينبغي أن تثني مسار شعاع الضوء، بالضبط كما تثني مسار كرة ألقيت في الهواء. رأى عالم الفلك سير أرثر إدنجتون أن هذا الجزء من النظرية يمكن اختباره بملاحظة وضع مجموعةٍ من النجوم يكون موضعها، كما نراه على الأرض، قريبًا جدًّا من حافة الشمس. إذا انثنى ضوء ينتقل من نجم إلى الأرض وهو يمر خلال مجال جاذبية قوية قرب الشمس، فينبغي إذن أن يظهر وضع النجم (مقارنة بالنجوم الأخرى) منحرفًا عن موضعه حين يلاحظ في السماء في الليل. الشمس، مع ذلك، ساطعة جدًّا بحيث تكون الطريقة الوحيدة لملاحظة الموضع الظاهري للنجم حين يكون قريبًا من الشمس أثناء كسوف الشمس. سافرت مجموعة إدنجتون إلى برنسبل، بعيدًا عن ساحل أفريقيا، لالتقاط صور فوتوغرافية للنجوم أثناء كسوف الشمس في ٢٩ مايو ١٩١٩م. أظهرت مقارنة هذه الصور الفوتوغرافية بصور للنجوم نفسها في الليل أن الضوء انثنى حقًّا بجذب جاذبية الشمس، بقدر قريب مما توقعته نظرية النسبية العامة.

العمل الذي قام به العلماء فرادى في مجموعات ليس إلا الخطوة الأولى في العملية الاجتماعية المتعلقة بالعلم. سواء افترض العمل مقولة نظرية («عندي تفسير جديد لثقب الأوزون») أو ملاحظة («لدى مقياس لتدفق الكربون بين الغابات والغلاف الجوي»)، ينبغي الحكم عليه من قبل المجموعة العلمية المناسبة. تبدأ هذه العملية بتدوين العمل والنتائج — مع وصف دقيق لما تم عمله وكيفية القيام به، والبيانات، والحسابات أو طرق التحليل الأخرى، بشكل مثالي بتفصيل كافٍ؛ بحيث يمكن لشخص على دراية كبيرة بهذا المجال أن يقوم بالعمل مرة أخرى — ويوافق على نشره في دورية علمية.

يأتي التحكُّم الرسمي الأول الذي يمارسه الوسط العلمي على نوعية العمل العلمي في هذه النقطة. لن تنشر الدوريات العلمية بحثًا حتى يفحصه نقديًّا علماء آخرون خبراء في الموضوع. في هذه العملية، وتُعرف بمراجعة الرفاق، وظيفة المراجعين النظر إلى أي أخطاء أو ضعف — في البيانات المستخدمة، أو الحسابات، أو طرق إجراء التجارب، أو تفسير النتائج — قد تلقي بظلال من الشك على نتائج البحث. العملية تتم عادة دون ذكر أسماء، وهكذا يكون المراجعون أحرارًا في تقديم رأيهم المهني الصادق دون خوفٍ من إحراج أو جزاء.

تتعلق المتابعة في مراجعة الرفاق بكل شيء في المسار العلمي. ليجذب عمل علمي الانتباه ويحظى بالاحترام، يجب أن ينشر في دوريات يراجعها الرفاق. يجب أن تذهب عروض المنح العلمية أيضًا عبر مراجعة الرفاق. ليحصل العلماء على وظائف ويحتفظوا بها ويحققوا كل الأشكال الأخرى من المكافآت والمكانة العلمية، عليهم أن ينجحوا في الحصول على عملهم من خلال مراجعة الرفاق.

مراجعة الرفاق مصفاة بالغة الفاعلية، تحجب معظم الأخطاء عن النشر، لكنها لا يمكن أن تمنع كل المشاكل. يفشل المراجعون أحيانًا في ملاحظة خطأ واضح، وهناك أنواع من الأخطاء لا يستطيع المراجعون التعرف عليها. لا يستطيعون معرفة إذا كان المؤلف أساء قراءة ملاحظات جهاز، أو دوَّن رقمًا خطأً، أو إن كانت العينات الكيميائية المستخدمة في تجربة ملوثة. بالإضافة إلى ذلك، لا تستطيع مراجعة الرفاق غالبًا كشف الحيل البارعة، كما هو الحال في حالاتٍ نادرةٍ حين يكون العمل العلمي محل المناقشة لم يُجرَ حقًّا.

لكن مراجعة الرفاق ليست إلا المستوى الأول من مستوياتٍ كثيرةٍ للاختبار وضبط الجودة المطبق على المقولات العلمية. عند نشر مقولةٍ مهمةٍ أو جديدةٍ في دورية، يختبر العلماء الآخرون النتيجة بمحاولة تكرارها، غالبًا باستخدام مجموعات مختلفة من البيانات، أو تصميم التجارب، أو تقنيات التحليل. بينما يمكن أن يقترف عالِمٌ خطأ، أو يُجري تجربةً واهية، أو يسيء تفسير النتائج (وربما يفشل المراجعون من الرفاق في إدراك ذلك)، من غير المحتمل أن تقع عدة مجموعات مستقلة في الخطأ نفسه؛ وبالتالي، وعلماء آخرون يكررون ملاحظة، أو يختبرون مسألة باستخدام مقاربات مختلفة ويحصلون على الإجابة نفسها، يتزايد قبول الوسط للمقولة باعتبارها صحيحة.

على سبيل المثال، مبكرًا في الخلاف حول استنفاد الأوزون، اقترحت نظرية أن انطلاق الكلوروفلوروكربونات ينبغي أن يتسبب في نقص الأوزون، لكن لم يكن هناك نقص يمكن رؤيته بالملاحظة في ذلك الوقت. في أوائل ثمانينيات القرن العشرين، بدأ قليل من العلماء افتراض أن النقص يمكن ملاحظته في آخر مقاييس الأوزون. وكانت هناك مشاكل كثيرة في البيانات، مع ذلك، وحين قام بفحصها علماء آخرون، استنتجوا أن النقص المفترض لا يمكن تمييزه عن تلف جهاز القياس، وكان من المعروف أنه يحدث. ونتيجة لذلك، رفضت هذه المقولات. ثم في ١٩٨٨م، اقترح تحليل جديد يحتوي على بيانات أحدث دليلًا أقوى على النقص؛ لأن هذه المقولة كانت بالغة الأهمية، راجعت ثلاث فرق علمية أخرى البيانات التي تقف وراء المقولة الجديدة وأعادوا تحليلها، كما قاموا بتحليل البيانات ذات الصلة. في هذه المرة وجدت الفرق الأخرى أيضًا نقصًا في الأوزون، مماثلًا في الحجم لذلك الذي قام بحسابه الفريق الأول؛ ومن ثم تم تأكيد النتيجة، وقبل علماء الغلاف الجوي وجود نقص حقيقي في الأوزون العالمي.

ما مدى صلابة مراجعة الرفاق حقًّا؟

بالغة الصلابة. ربما تتوقع أن تكون مراجعة الرفاق مجرد موافقة، أو طريقة يربت بها العلماء على ظهور بعضهم البعض، لكنها عادة اختبار نقدي جدًّا للعمل المعروض للنشر. خطاب الرفض التالي من محرر دورية (حررت غفلًا من الاسم) يعطي مذاقًا لمدى ضرورة العملية.

العزيز دكتور سميث

تلقيت مراجعات بحثك، «النظائر، والإشارات الموسمية، والانتقال قرب التروبوبوز الاستوائي».٣ على أساس هذه المراجعات، أعتذر لأنني لا أستطيع قبول هذا البحث للنشر في شكله الحالي. كان قرارًا صعبًا، حيث أوصى المراجع A والمراجع B بالرفض، بينما موقف المراجع C أكثر إيجابية بشأن الدراسة، لكن حتى المراجع C لديه شكوك خطيرة، بشأن مشاكل رقمية محتملة في النموذج ومقارنة غير كافية للنتائج بالملاحظات. بالنسبة للمراجع A والمراجع B غير واثقين تمامًا من أن النموذج ملتزم بشكل كافٍ بالملاحظات القليلة المتاحة. واهتمَّ المراجعون جميعًا بأن حساسية النموذج للكثير من البارامترات parameters المتناغمة يجعل النتائج متوقعة. وبوضع خطورة هذه المسائل في الاعتبار، لا أستطيع قبول المخطوطة. ومع ذلك، حيث إن المراجع A اقترح إمكانية إجراء الدراسة مرة أخرى حتى يكون قبولها ممكنًا، والمراجع C مؤيد لها بشكلٍ عام أحثك على مراجعة البحث بدقة وتقديم نسخة جديدة — إذا كنت تعتقد أن هذه المسائل يمكن معالجتها بشكل كافٍ. فيما يتعلق بذلك، يطلب المراجع A تحليلًا أكثر حساسية تمامًا، ويطالب كل المراجعين بتبرير أكثر تفصيلًا للكثير من القرارات التي اتخذت في تشكيل النموذج. وينبغي القيام بذلك بالإشارة إلى الملاحظات حيث يكون ذلك ممكنًا، وحيث لا يتم ذلك يمكن أيضًا استخدام المناقشات والنتائج الفيزيائية من دراسات سابقة. إذا اخترت هذا المسار، من فضلك عليك أن تنتبه إلى كل تعليقات المراجعين، كبرت أو صغرت، وتستجيب بالتفصيل على كل نقطةٍ أثارها كل مراجع.
مع تحياتي
جون ك. اسم مستعار، المحرر
ماذا يعني هذا؟ لم يقتنع المراجع A والمراجع B أن التحليل العلمي للبحث يدعم استنتاجاته. بينما أوصى المراجع C بقبول البحث، نظر المحرر بدقة إلى المراجعات والبحث، وقرر أنه يتفق مع المراجع A والمراجع B، ورفض البحث. لكن بينما كانت هذه النسخة غير مقبولة، فقد ينجح المؤلفون في جعل العمل قابلًا للنشر. ينصحهم المحرر بمراجعة العمل، ومراعاة انتقادات المراجعين، والمحاولة مرة أخرى.

هذه العملية متعددة الطبقات، المتعلقة بنقد المقولات العلمية الجديدة واختبارها وتكرارها عملية عامة وجماعية وغير شخصية. يقع العلماء فرادى في أخطاء، وهم عرضة للانحياز أو التعصب أو الحماس، مما قد يعيق رؤيتهم، مثلما هو حالنا جميعًا، لكن مهما تكن القوة التي قد يأمل بها العالِم في الإجلال نتيجة قبول مقولته الجديدة، أو رغبته في نتيجة تتفق مع معتقداته السياسية أو مصالحه المالية، يعرف العلماء أن أية مقولة يفترضونها، وخاصة إذا كانت مهمة، سوف يفحصها بشكل نقدي علماء آخرون وأن العمل المهلهل المنحاز، أو ضعيف السند من المرجح أن يكتشف أمره. بالإضافة إلى ذلك، يضفي العلماء التقدير والمكانة على المدققين في أعمالهم، منتقدين وعادلين في آرائهم، وحذرين في تقديم المقولات. ويمكن أن تدمر المقولات المتطرفة، أو الاختبار المتعصب أو المنحاز، أو تسجيل النتائج بشكل يشوبه نقص في الأمانة والسمعة إلى حدٍّ بعيد بشكل يجعل لدى العلماء بواعث قوية لتوخي الحذر.

نتيجة هذه العملية من الاختبار الجماعي، والبواعث المضمرة فيها، جعل العلم محافظًا جدًّا. يقع عبء البرهان على عاتق الشخص الذي يجعل أية مقولة تعزِّز المعرفة الحالية أو تناقض معتقدًا حاليًّا. كلما كانت المقولة التي تقدم جديدة وأكثر أهمية، زاد التفحص والاختبار اللذان تخضع لهما وارتفع معيار الدليل المطلوب لقبولها: تتطلب المقولات الاستثنائية دليلًا استثنائيًّا. وهذه هي الطريقة التي يحافظ بها العلم على استقرار مجموعة المعارف التي يتلقاها، ويحمي بها نفسه من الأخطاء والبدع.

هذه العملية المتعلقة بصياغة الفرضيات واختبارها من خلال ملاحظات دقيقة مكررة لا تولد حقيقة مثبتة. لا يثبت العلم شيئًا أبدًا. حتى الفرضيات التي خضعت لاختبار متكرر وتُقبَل، تبقَى عرضة للسقوط باختبار ما في المستقبل، لكن بعض المقولات تم التحقق منها بشكل جيد، بجمع أدلة مستقلة، تحل الخلافات بشأنها، وترفض المقولات المعارضة، حتى إنها تعتبر حقائق ببساطة. على سبيل المثال، مما يقبل الآن باعتباره حقائق أن بناء الدنا DNA حلزوني مزدوج، وأن الذرة تخضع لقوانين ميكانيكا الكم، وأن احتراق الوقود الحفري زاد من غزارة CO2 في الغلاف الجوي. هذه المقولات تم التحقق منها بشكلٍ جيد حتى إن خضوعها للمزيد من الاختبار يعتبر غير ضروري وغير مهم.

هل يعمل العلم بهذه الطريقة حقًّا؟

ليس بالضبط، لكن بشكل قريب منها بما يكفي. هذا الوصف مبسط للطريقة التي يمارس بها العلم في الحقيقة. كشفت عدة عقود من البحث في تاريخ العلم وسوسيولوجيا العلم كيف وكم تختلف ممارسة العلم عن هذا النموذج، وبشكلٍ خاصٍّ كيف تطبع العوامل الاجتماعية ممارسة العلم. كانت البصيرة الأساسية أكثر من غيرها بصيرة توماس كوهن، الذي أدرك أن التقدم الطبيعي في مجال علمي يعتمد على مستوًى عميقٍ من الافتراضات المشتركة التي تحدد أي الأسئلة مهمة، وأي خطوط البحث واعدة، وأية فرضيات مقبولة ومهمة. هذه الافتراضات المشتركة، التي دعاها كوهن «النماذج»، لا تفحص صراحة وحتى لا يدركها بالضرورة العلماء الذين يتبنَّونها. نادرًا ما تتغير النماذج، في الفترات الثورية التي تتبع تراكم كتلة حاسمة من «الشواذ» — نتائج لا تتوافق مع النموذج المقبول، لكنها تنحَّى جانبًا بشكل مؤقت.

العلم ليس عمليةً منطقيةً مجردة، لكنه مسعًى إنساني جماعي. على هذا النحو، تختلف ممارسته الفعلية عن هذا الوصف المثالي بطرق متنوعة. تؤثر العوامل الاجتماعية، مثل المكانة والكاريزما، والمهارات البلاغية إلى حدٍّ ما على تحديد المناقشات التي تحظى بالاهتمام والثقة. لا تختبر المقولات كلها أو تُكرَّر على الفور. والآراء التي تحظى بالإجماع فيما يتعلق بالأسئلة المثيرة والمهمة لا تتشكل على أسس منطقية صرفة، لكن قوة هذه العمليات الاجتماعية على التأثير في محتوًى ما يقبل باعتباره معرفةً علميةً محدودةً ومؤقتة. المقولات البارزة التي لا تصمد أمام الاختبار تُرفَض في النهاية، بصرف النظر عمَّن يدعمها. والمعتقدات المقبولة التي تراكم شواذ كافية يعاد اختبارها في النهاية، وتنقح أو ترفض، مهما تكن مشجعة أو عصرية.

كيف يمكنك أن تعرف إن كان الوسط العلمي المناسب قد قبل المقولة باعتبارها «صحيحة»؟ الطريقة الأكثر مصداقية أن تطلع على أدبيات المراجعة التي قام بها الرفاق من أجل تأكيدات متعددة مستقلة. بالطبع هناك عوامل أخرى توضع في الاعتبار بالإضافة إلى عدد التأكيدات. بعض الاختبارات أكثر صرامة من غيرها، على سبيل المثال، بالضبط كما أن اختبار الأبوة بواسطة الدنا أكثر صرامة — أكثر احتمالًا في رفض التوافق — من اختبار فصيلة الدم. حين تتعارض الملاحظات الأحدث التي روجعت جيدًا مع الملاحظات القديمة، تمنح الملاحظات الجديدة قيمةً أكبر لأن أدوات الملاحظة تتحسن عمومًا مع تقدُّم التكنولوجيا. المدى الذي تُختبر به المقولات المتنافسة وتُرفض مهم أيضًا — إذا طرحت كل الفرضيات ورفضت واحدة بوضوح، يُحتمَل أكثر قبول الفرضية المتبقية، على الأقل مؤقَّتًا، حتى إذا كان الدليل المؤكد الذي يدعمها ليس قاطعًا.

تؤثر سمعة العلماء القائمين بالعمل أيضًا على رغبة الوسط في الإيمان بمقولة. من المحتمل أن يمنح العمل نفسه قدرًا أكبر من التصديق حين يقوم بالعمل عالم له شهرة راسخة في العمل الدقيق الوافي، مما لو قام به عالم مجهول أو معروف بأنه قام بأعمال ضعيفة في الماضي. حمل تأكيد إدنجتون للنسبية العامة قيمة أكبر، وربما قُبِل بشكلٍ أسرع، نتيجة سمعته البارزة فيما يتعلق بالملاحظات الدقيقة بشكلٍ بالغ الدقة.

حتى لو كانت المعرفة العلمية مؤقتةً دائمًا وغير مثبتةٍ دائمًا، يقدم الإجماع العلمي القوي قاعدة أفضل للاعتماد على حقيقة مقولة إيجابية مما تقدمه أية عملية إنسانية أخرى، فيما يتعلق بالسعي وراء المعرفة. بالطبع يحتمل أن يكون إجماع علمي قوي خطأ. نتذكر هذه الاحتمالية في الحالات التي تتضارب فيها نتائج جديدة وفي النهاية تُسقِط فهمًا كان مقبولًا من قبل، لكن بينما يحدث هذا ويولد كثيرًا من الإثارة والانتباه حين يحدث، لكنه نادر الحدوث.

خطر أن يتبين فيما بعد أن إجماعًا كان خطأ بالنسبة لأنواع من المقولات العلمية؛ أكبر من أنواع أخرى. الخطر أعظم ما يكون بالنسبة للنظريات الأساسية، خاصة إذا كانت أقوى نبوءاتها تتعلق بمسائل تتجاوز قدرتنا الحالية على الملاحظة. لن نندهش كثيرًا إذا حلَّت ذات يوم محل نظرية أينشتاين عن الجاذبية نظريةٌ أخرى، بالضبط مثلما سبق أن حلت نظرية أينشتاين محل نظرية نيوتن عن الجاذبية. ويكون الخطر أقل ما يكون بالنسبة للمقولات الملموسة البسيطة، مثل ملاحظة مفردة أو مقياس مفرد. حين يتكرر فحص ملاحظة باستخدام طرق متنوعة وتُقبَل باعتبارها صحيحة، من غير المحتمل تمامًا أن يتم إسقاطها فيما بعد. بين هاتين الحالتين المتطرفتين، المقولات المتعلقة بالارتباطات بين ملاحظات مختلفة نستنبط منها السبب والنتيجة على أرضية أضعف إلى حد ما، لكنها تبقى قوية جدًّا. قد نندهش بشدة إذا علمنا في المستقبل أن التدخين لا يزيد من خطر الإصابة بالسرطان، أو أن كيمياء الكلور لا تسبب ثقب الأوزون في القطب الجنوبي، رغم إمكانية حدوث أيٍّ منهما من حيث المبدأ.

الدرس الذي نستنتجه من هذه المناقشة هو أنه حين يكون هناك إجماع علمي قوي في نقطة إيجابية، فليس أمام مَن يهتمون بالإجابة من خارج الوسط العلمي المناسب أفضل من الاعتماد على الإجماع. لسوء الحظ أنه ليس مفيدًا دائمًا؛ لسببين: ربما لا يوجد إجماعٌ قوي على مسألة علمية مرتبطة بالسياسة؛ أو ربما يوجد إجماع لكن يصعب على أي شخص خارج المجال ملاحظته. ربما لا يوجد إجماع لأن مسألة جوهرية تكمن أبعد من القدرات الحالية للمعرفة أو البحث، أو ببساطة لم تجتذب قدرًا كبيرًا من الجهد العلمي، ربما لأن المسألة، رغم الأهمية المدركة بالنسبة للسياسة، تعتبر قليلة الأهمية في المنظور العلمي. بشكلٍ آخر، ربما تكون المسألة محل بحث، تجمع أدلة لكنها لم تُحَل تمامًا، ربما مع اختلاف العلماء حول مدى ثباتها. من نتائج الطبيعة الحذرة المحافظة للعلم أن قبول مقولات جديدة يحدث ببطء، ربما بشكل أبطأ بكثيرٍ مما يلزم عملية صناعة السياسة.

مثال: اكتشاف ثقب الأوزون في القطب الجنوبي وتفسيره:

يوضح اكتشاف ثقب الأوزون في القطب الجنوبي والتأكد منه والبحث عن سببه كيفية فحص المقولات العلمية واختبار الفرضيات. في ١٩٨٢م، لاحظ باحثون مع المسح البريطاني للقطب الجنوبي أن الكمية الكلية للأوزون على محطتهم في أكتوبر — في أوائل ربيع القطب الجنوبي بدا أنها تنخفض بشكل حادٍّ عن مستويات ستينيات القرن العشرين والسبعينيات. (يوضح الشكل ٢-١ هذه البيانات، ممتدة إلى منتصف تسعينيات القرن العشرين.) بدا الأوزون في الشهور الأخرى طبيعيًّا. رأى العلماء في البداية أن الخطأ قد يكون ناجمًا عن الجهاز — وهو تفسير محتمل دائمًا لملاحظة غير متوقعة على نطاق واسع — وقضوا عامَين في فحص نتائجهم والتأكد منها قبل تسليمها للدورية العلمية Nature، حيث ظهر بحثهم في يونيو ١٩٨٥م. خلقت الملاحظات عاصفة علمية مشتعلة. تمت مراجعة النتائج من قبل الرفاق، لكن هذه النتيجة الدرامية احتاجت تأكيدًا مستقلًّا. وحدث ذلك سريعًا بمراجعة البيانات الأرشيفية من جهاز في قمر صناعي، وبمزيد من عمليات القياس على أيدي مجموعات عديدة.

وهكذا كان الفقد حقيقيًّا، لكن ما سببه؟ تنبَّأ علماء الغلاف الجوي لعشر سنوات أننا سنرى استنفاد الأوزون نتيجة الكلوروفلوروكربونات، لكن هذا الفقد الملاحَظ كان يحدث في زمان ومكان مضادين حقًّا للمكان الذي قالت نظرية الأوزون — الكلوروفلوروكربونات، وكانت أكثر بكثير. لم يكن من الواضح إذن ما إن كانت الكلوروفلوروكربونات هي السبب، أم أنه نتيجة لسبب آخر.

طوال السنة التالية، فُرِضتْ ثلاث نظريات متنافسة لتفسير الفقد الفظيع، تتضمن كلٌّ منها أشياء مختلفة ينبغي أن تكون قابلةً للملاحظة في منطقة فَقْد الأوزون. رفضت الملاحظات في عام ١٩٨٦م وعام ١٩٨٧م بشكل قاطع نظريتَين من هذه النظريات، وقدَّمت دعمًا قويًّا للثالثة.

فرضت النظرية الأولى أن الأوزون كان يُدمَّر نتيجة أكسيدات نيتروجين تحدث بشكلٍ طبيعي، وزادت في طبقة الاستراتوسفير فوق القطب الجنوبي بعد ذروة دورة ١١ عامًا من الطاقة الشمسية. وإذا كان هذا صحيحًا، كان ينبغي وجود عدة دلائل. ينبغي أن يصاحب فقد الأوزون تركيزٌ عالٍ من أكسيدات النيتروجين، وينبغي أن يكون أكثر ما يكون في الاستراتوسفير العليا حيث يحدث معظم إنتاج أكسيد النيتروجين. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن يكون هناك فقد مماثل للأوزون بعد سنوات الذروة الشمسية السابقة، مثل التي حدثت بين عام ١٩٥٨م وعام ١٩٦٩م، وينبغي أن تعكس ما فقد بحلول منتصف ثمانينيات القرن العشرين. لم تجد الملاحظات في ١٩٨٦م تأكيدًا لأيٍّ من هذه النبوءات، واستبعدت هذه الفرضية بسرعة: كان فقد الأوزون أكبر ما يكون في الاستراتوسفير السفلي، وكان مصحوبًا بمستويات منخفضة، وليست مرتفعة، من أكسيدات النيتروجين؛ بالإضافة إلى ذلك، لم تكشف سجلات الأوزون فقدًا مماثلًا بعد الذرى الشمسية السابقة، وكان الفقد يتسارع بوضوح، ولا يتراجع، خلال الثمانينيات.

افترضت النظرية الثانية أن التغيرات في حركة هواء الاستراتوسفير على مستوى العالم تقلل انتقال الأوزون إلى القطب الجنوبي. هذه النظرية أيضًا تنبَّأت بعدة ملاحظات خاصة. ينبغي أن تكون درجات الحرارة في مناطق الفقد باردة بشكل غير معتاد. وينبغي أن تكون دوامة رياح الاستراتوسفير التي تحيط بالقطب الجنوبي في الشتاء أقوى من المعتاد، وتستمر لفترة أطول في الربيع. والأكثر حسمًا، ينبغي أن تكون الحركة العامة للهواء تحت منطقة الفقد وفيها إلى أعلى. مع أن الملاحظات الأولى قدمت دعمًا محدودًا لهذه النظرية — بدا أن الدوامة أقوى بشكل غير معتاد وبدا أن الجو في أكتوبر يزداد برودة — رُفضت هذه النظرية في ١٩٨٧م حين صار من الواضح أن هواء القطب الجنوبي يهبط عمومًا، ولا يرتفع كما تتطلب النظرية.

fig6
شكل ٢-١: مجمل الأوزون في الغلاف الجوي في أكتوبر فوق خليج هالي، القطب الجنوبي، مقيسًا بالمسح البريطاني للقطب الجنوبي. ويتم التعبير عن كمية الأوزون في العمود بوحدات دوبسون Dobson Units (DU) (المصدر: بتصرف عن Fig. 7.2 of Dessler (2000)).
افترضت النظرية الثالثة أن الأوزون يُدمَّر بتفاعلات كيميائية تم التعرف عليها حديثًا يحفزها الكلور المحمول إلى الاستراتوسفير بواسطة CFCs. افترض علماء مجموعات متعددة تفاعلات مختلفة، لكنها جميعًا تطلبت أن نوعًا معينًا من الكلور، أول أكسيد الكلور (ClO)، ينبغي أن يتواجد بوفرة حيث يحدث فقد الأوزون. وجدت ملاحظات متزامنة للأوزون وأول أكسيد الكلور من الطائرات خلال ثقب الأوزون في سبتمبر ١٩٨٧م دعمًا قويًّا بشكل لافت لهذه الفرضية. زاد أول أكسيد الكلور مائة ضعف في كلِّ مرةٍ تدخل فيها الطائرة منطقة فقد الأوزون، ويهبط مرة أخرى حين تغادرها. هذا الارتباط السلبي بين أول أكسيد الكلور والأوزون — حين يزيد أول أكسيد الكلور يقل الأوزون — كان دقيقًا تمامًا مما جعل كثيرًا من الملاحظين يدعونه «بندقية الدخان» — إحدى الحالات النادرة التي تقبل فيها الفرضية على أساس ملاحظة واحدة قوية. على مدى الشهور القليلة التالية، والنتائج تراجع من أجل النشر وتناقش في الاجتماعات العلمية، تَشكَّل إجماع قوي، استمر وازداد، حول أن CFCs والمواد الكيميائية المرتبطة بها هي السبب الأساسي لثقب الأوزون.

بشكلٍ بديل، قد يوجد إجماع في وسط علمي ويصعب على أي شخص خارج المجال أن يراه. تركز المناقشات العلمية على ما يهم العلماء: ليس ما رسخ، لكن على الجديد، وغير المؤكد، والخلافي. بالإضافة إلى ذلك، حتى حين يوجد إجماع قوي على نقطة معينة، ربما يحجبه عمن هم خارج المجال قليل من المؤيدين ذوي الصوت العالي لرأي معارض، حتى لو كان هذا الرأي المعارض قد رفض بحسم. وحيث إنه حتى العلماء في المجالات الأخرى قد يفتقرون إلى المعرفة الخاصة للحكم على مزايا المقولات المعارضة في الأدبيات المتخصصة، فإن ممثلي السياسة غير العلميين لا يمكن أن يأملوا هم أنفسهم في صياغة أحكام مستقلة. عليهم في الحقيقة أن يعتمدوا على شكل من التلخيص والتوليف لما يعرفه الوسط العلمي، وإلى أي حد من الثقة يعرفه. يناقش القسم [الحد من الأضرار: دور التقييم العلمي] دور هيئات التقييم العلمي في تقديم مثل هذا التوليف.

(٣) السياسة ومناظرات السياسة

لا تهتم السياسة بالمسائل الإيجابية، لكنها تهتم بالفعل الجماعي: لا تهتم بما هو صحيح، لكن بما سنفعل؟ تطوق السياسة عمليات النقاش والتفاوض والصراع حول أفعال أو قرارات مشتركة — غالبًا قرارات ما سوف تتبناه الهيئات الحكومية من سياسات. ومثل معظم ساحات التنافس، تتضمن السياسة نزاعًا لكنه نزاع مقيد. المنافسات الرياضية، تُعرَّف الحدود بقواعد اللعبة كما يفرضها ويفسرها الحكام. في السياسة، تُعرَّف الحدود ببنية القواعد والمؤسسات التي تتخذ فيها القرارات. في دولتنا، تتم صناعة السياسة في بنية معقدة من دساتير وقوانين وتقاليد تسلم بسلطات معينة لاتخاذ القرارات وفرض قيود متنوعة على ممارسة تلك السلطة.

تكون السلطة التي عليها اتخاذ القرارات بسيطةً ومطلقةً أحيانًا: يتمتع رئيس الولايات المتحدة بالقدرة على منح العفو في الجرائم الفيدرالية. والأغلب، رغم ذلك، أن تُحدَّد السلطة بقواعد تحدُّ من كيفية ممارستها، أو بسلطة مرتبطة بها يحتفظ بها آخرون. على سبيل المثال، في ظل قانون الهواء النظيف في الولايات المتحدة، تتمتع هيئة حماية البيئة بسلطة تشريع قواعد للحد من المواد الكيميائية التي تستنفد طبقة الأوزون، لكن لكي تقوم هيئة حماية البيئة بذلك، ينبغي أن تقدم دليلًا على أن المادة الكيميائية المطلوب الحد منها مستنفدة للأوزون بقوة كافية تجعلها تقع تحت متطلبات القانون، ويجب عليها نشر القواعد المقترحة لمدة ٩٠ يومًا لتلقي التعليقات، وينبغي عليها الرد على التعليقات التي تتلقاها قبل إصدار القواعد النهائية. إذا فشلت هيئة حماية البيئة في الوفاء بهذه المتطلبات، ربما يكون للأطراف الذين لا يتفقون مع القاعدة القدرة على إلغائها بالاعتراض عليها في المحكمة. بالإضافة إلى ذلك، حيث إن سلطة هيئة حماية البيئة على وضع هذه القواعد مخولة لها من قبل الكونجرس في قانون الهواء النظيف، يمكن للكونجرس تعديل هذه السلطة أو سحبها بتعديل القانون.٤
أحيانًا، وخاصة بالنسبة للقضايا التي لم تضع لها الحكومة تشريعًا من قبل، قد تكون السلطة المرتبطة بالقضية موزعةً على نطاق واسع، أو محددةً بصورة مبهمة، أو غير محددة على الإطلاق. كلما كانت القضية أحدث والخطوط الموجودة للسلطة أقل وضوحًا، كانت العملية السياسية مائعة بصورة أكبر فيما يتعلق بطبيعة القرارات الأساسية، ومن يضعها، ومن يؤثر فيها، والعوامل التي تساهم في الوصول إلى النتيجة. تختلف النظم السياسية في الدول المختلفة في الانفتاح العام بالنسبة للتأثير الشعبي على القرارات، وفي قنواتها الخاصة بالنسبة للتأثير. حتى في النظم المنفتحة بشكل كبير كما في الولايات المتحدة، رغم ذلك، تكون ممارسة التأثير على قرار سياسي صعبة، وتتطلب مزيدًا من الوقت، أو الطاقة، أو المال، أو المهارة الاستراتيجية أو الحظ. ولأنها بهذه الصعوبة، فإن من يتحركون للتأثير على السياسة في أية قضية يمثلون عادة كسرًا ضئيلًا من الناخبين.٥

العدد الضئيل الذي يتحرك للتأثير على السياسة يفعل ذلك لأسباب كثيرة. ربما يعتنق البعض آراء قوية بشأن الصواب الذي عليه القيام به أو الاهتمامات الأفضل للأمة. قد يتوقع البعض أن يستفيدوا من القرارات المقترحة أو يلحق بهم الضرر بطريقة معينة — على سبيل المثال، تؤثر على صحة عائلاتهم أو رفاهيتها، أو تساعد سُبل عيشهم أو تؤذيها، أو تؤثر على قيمة ممتلكاتهم أو ربحية أعمالهم. قد يكون لدى البعض طموح لممارسة قوة سياسية أو تأثير سياسي. يمكن لأيٍّ من هذه الدوافع أن تثير خلافات بين مجموعات تسعى للتأثير على السياسة. قد تتنافس مجموعتي مع مجموعتك لتكون علامة أساسية في الصفقة في سياسة البيئة؛ قد تفيد القاعدة المقترحة صناعتي وتضر صناعتك؛ أو قد أعتقد بحماس أن البيئة تحتاج إلى مزيدٍ من الحماية، وتعتقد بالحماس والإخلاص نفسيهما أن قواعد البيئة تهدد الحريات الأساسية.

يتحدث الناس أحيانًا، كما نفعل هنا، عن «المناظرة السياسية» في قضايا عامة مثل تغير المناخ، لكن وصف صناعة السياسة بالمناظرة مضلل إلى حدٍّ ما. تكسب مناظرة بإقناع الناس — أطراف ثالثة غير متحيزة، ومناوئيك أحيانًا — بأن الحجج التي في صالح مسار العمل الذي تقترحه أقوى من تلك التي على الجانب الآخر. في صناعة السياسة، قوة الحجج على كل جانب مهمة، لكن باعتبارها عاملًا من عوامل كثيرة تؤثر فيما يحدث. يستخدم ممثلو السياسة طرقًا كثيرة لتشكيل دعم للقرارات التي يريدونها: الحجج المنطقية الجيدة حين تكون متاحة، لكن أيضًا الحجج المتحيزة أو غير الدقيقة، اتهامات بالتعاطف أو التعصب، الإطراء أو التلاعب، الوعود والتهديدات، صفقات لتبادل الدعم في قضايا أخرى، وأحيانًا — ورغم أن هذا غير قانوني في معظم الدول - الرشوة والإكراه.

لكن في هذا الخليط المعقد من العوامل التي تشكل القرار السياسي، الحجج المنطقية مهمة عادة على الأقل بشكل ضئيل، وأحيانًا بشكل كبير. تكون الحجج مهمة أكثر حين تكون قضية بارزة بشكل كافٍ، وتدرك باعتبارها تتمتع بدعم مالي مرتفع، وأنها تجذب انتباه الجماهير وتدقيق وسائل الإعلام. يزيد هذا التدقيق من اهتمام المشرعين والمسئولين بالتصرف بكفاءة ونزاهة فيما يخص المصلحة العامة — وبرؤيتهم وهم يتصرفون على هذا النحو — وهكذا يقلصون المجال بالنسبة لمزيد من الأشكال الأكثر غباءً وتستُّرًا من التأثير السياسي، التي قد تكون مربكة إذا اكتُشِفت. تكون الحجج المنطقية أكثر أهميةً أيضًا حين تكون القضية جديدة تمامًا وتكون طبيعتها، بالتماثل النسبي مع القضايا الأخرى، ونتائج الأعمال البديلة، غير واضحة. في ظل هذه الظروف، قد يكون كثير من الممثلين متشككين بشأن السياق الأفضل: قد تقدم مبادئهم السياسية العامة دليلًا واهيًا، وربما تكون اهتماماتهم غير واضحة. يتسم تغير المناخ بهذه الخصائص: قدر كافٍ من البروز بحيث تتعرض صناعة القرار السياسي لتدقيق شديد، بجدة شديدة لتحدي خطوط السلطة الموجودة، وشكوك شديدة حتى إن الكثير من الممثلين لا يتفقون بشكل متوقع طبقًا للمبادئ السياسية لأيٍّ منهم أو لكيفية تأثير القضية عليهم — رغم اكتساب القضية بشكل كبير، على مدى السنوات القليلة الماضية، كثيرًا من الأنصار في الولايات المتحدة.

وبالتالي، تغير المناخ قضية نتوقع فيها أن تكون الحجج المنطقية، الإيجابية والمعيارية، مؤثرة. في الحجج المعيارية، تكون مناظرة صريحة بين وجهات نظر متنافسة، ربما تكون بعضها متعارضة بشكل مباشر، مهمة. إذا كانت مجموعة في مناظرة عن تغير المناخ ترى أن التزامنا الأساسي حماية البيئة، بينما ترى أخرى أن الأولوية للحريات الفردية، ليس أي من المجموعتين على صواب أو خطأ. من الملائم تمامًا لأنصار هذه الآراء المتبارية أن يتنافسوا لإقناع صناع السياسة والمواطنين. ليس للعلم والعلماء سلطة خاصة في هذه المناظرة. مع ذلك، في الحجج الإيجابية ذات الصلة، مثلما هو الحال بالنسبة للتغير الملحوظ في المناخ، أسباب هذه التغيرات، والطبيعة المحتملة لتغير المناخ في المستقبل، في ظل ما يدخله الإنسان من إضافات، تتمتع المعرفة العلمية بسلطة خاصة؛ ومن ثم تساهم بشكل أكبر، لكن هذه المساهمة المحتملة كثيرًا ما تعاق بالافتقار إلى فهم الاختلافات بين المناقشات العلمية والمناقشات السياسية.

يتعلق أهم هذه الاختلافات بدوافع المشاركين، والقواعد التي يعملون في ظلِّها. يكتسب العلماء مكانةً مهنية بتقدم المعرفة المشتركة، وأيضًا بحرصهم في تفسير المقولات الجديدة وحيادهم في تقييم المقولات المتنافسة. بينما توجد اختلافات ومنافسات حقيقية في المناظرات العلمية، تقدم هذه المعايير عناصر أساسية للاهتمام المشترك، وهكذا من النادر أن تكون المجادلات العلمية خالصة، نزاعات «محصلتها صفر». يفيد تقدمُ المعرفة المشروعَ العلمي في مجموعه، حتى إذا حظي الشخص الذي حقق الاكتشاف الفائدة الأكبر.

في المناظرات السياسية، يمكن أن تكون هناك أيضًا اهتمامات مشتركة على نطاق واسع — على سبيل المثال، في عدم ضياع المال العام في مشاريع عديمة الجدوى أو على الفساد، أو حماية الدولة من تهديدات قوًى أجنبية معادية — لكن الاهتمامات المتنافسة أكثر بروزًا. يكافأ ممثلو السياسة على نجاحهم بطرق متعددة؛ حيث مكسب شخص يعني خسارة الآخر، من قبيل اكتساب السلطة والحفاظ عليها، مشرعين سياسات تتوافق مع مبادئهم السياسية، وموجهين فوائد عمل الحكومة (على سبيل المثال، الإنفاق على مشاريع الأعمال العامة) إلى مؤيديهم وعناصرهم. حتى حين تكون قضية مثل تغير المناخ جديدة جدًّا وغير مؤكدة، حتى إن الناس يرون بوضوح أقل أين تكمن اهتماماتهم المادية، تظل هذه البواعث تدخل عناصر تنافسية في كل القرارات السياسية.

يتعلَّق الاختلاف الثاني الأساسي بين المناقشات العلمية والسياسية بقواعد المناقشة المقبولة. القواعد في المجالَين كلَيهما غير مدوَّنة غالبًا، مدفوعة فقط بقبول الآخرين واستهجانهم، لكنها تبقى مهمة. قواعد الحجة العلمية مقيِّدة جدًّا. مهما يكن دافع العلماء، فعليهم أن يتناقشوا وكأن دافعهم بشكل صرف السعي وراء المعرفة. العالِم الذي يكسر القواعد — الذي يقدم مقولات جارفة اعتمادًا على دليل محدود، أو يفشل في الاعتراف بأنه يمكن أن يكون مخطئًا، أو ينتقي الأدلة بشكل انتهازي ليدعم رأيه، أو يتجاهل الأدلة المعارضة أو يقدمها بصورة سيئة، أو يقدم حججًا مفعمة بالعاطفة، أو يهاجم المعارضين هجومًا شخصيًّا — يخاطر لا محالة بإلحاق الأذى بسمعته وموقفه المهني.

قواعد المناقشة السياسية أكثر تساهلًا بكثير. في المناظرات السياسية، المقولات المبالغ فيها أو المنتقاة أو المتحيزة، ومناشدات العواطف، والهجمات الشخصية التي ليس لها علاقةٌ بموضوع القضية المثارة؛ مؤثرة غالبًا ونادرًا ما تؤدي إلى عقاب أو حتى تُستهجَن. حتى الحيل الأكثر عدوانية، من قبيل الهجمات الشخصية التي لا ترتبط بالموضوع ارتباطًا جوهريًّا، ومناشدات التحيز، والكذب الصريح، لا تُقيَّد إلا بشكل ضعيف. ربما يفعل الغضب الشعبي هذا، لكن من النادر أن يستمر طويلًا ليكون مؤثرًا، بينما ينبغي أن يكون المعارضون السياسيون حذرين في وضع مثل هذه الحيل في الحسبان، حيث إنهم أيضًا قد يستخدمونها أحيانًا. بالإضافة إلى ذلك، هناك طرق كثيرة للفوز بموقف في مناظرة سياسية. إحدى هذه الطرق التمتع بسمعة بالنسبة للمعرفة والصدق، لكنها تمثل جمهورًا مهمًّا، أو حقيقيًّا بأن من المحتمل أن تكون مؤثرًا؛ وبالتالي لا يعرض فقد المصداقية العلمية موقفًا في مناظرات سياسية للخطر بالضرورة. من منظور العواقب الأقل نتيجة السير عبر هذا الخط، يكون أنصار السياسة أكثر رغبة من العلماء في المغامرة بالمصداقية لتحقيق أهدافهم.

(٤) حين يلتقي العلم والسياسة

الكثير من المناظرات السياسية، بما فيها واقعيًّا كل قضايا البيئة، يعتمد جزئيًّا على المقولات الإيجابية عن العالم بأن المعرفة العلمية، من حيث المبدأ، يمكن أن تفض الاشتباك. وتعتمد رغبتنا في إنفاق الأموال وفرض قيود على بعض الأنشطة اعتمادًا جزئيًّا على طبيعة ما تحدثه، أو يحتمل أن تحدثه من تغيرات المناخ — طبيعتها وحجمها وسرعتها وتأثيرها على من نهتم بهم وما نهتم به. وهذه مسائل إيجابية يمكن للعلم تقديم حلول لها.

لكن لا يمكن للعلم وحده — أو بالنسبة لهذا الموضوع، المقولات الإيجابية وحدها — أن يخبرنا بما علينا القيام به. حتى لو كانت النتائج البيئية للأعمال البديلة موصوفة بشكل كامل وبثقة، فإن إقرار ما ينبغي القيام به لا يزال يتطلب تقييم مدى اهتمامنا بالنتائج والأعباء التي نقبلها للتقليل منها. ومن الأسهل رؤية هذا في الحالات المتطرفة. إذا أشارت الأدلة العلمية بثقة إلى أن بعض التقنيات والأنشطة لا تمثل أي خطر على البيئة، فمن الواضح أنه لن يكون هناك دعم للحد من هذا النشاط على خلفية بيئية. وعلى العكس، إذا أوضحت أدلة قوية أن نشاطًا ما من المحتمل أن يجلب معه تغيرات مأساوية تهدد باندثار حياة الإنسان على الأرض، لن يكون علينا أن نبالي كثيرًا بما إن كان الناس يحكمون على هذا النشاط بأنه شيء سيئ قبل اتخاذ القرار بالحد منه.

نادرًا ما نتمتع بهذه الثقة الشديدة بشأن النتائج المتطرفة، بالطبع، لكن حتى في المناظرات السياسية الواقعية، هناك دعم على نطاق واسع لدرجة ما من الحيطة في قضايا البيئة — تجنب التغيرات البيئية الخطيرة الراسخة بشكل كافٍ، حتى لو كان هذا يعني تحمل بعض النفقات والأعباء. ويمنح هذا قوة خاصة للمقولات العلمية بشأن الكيفية التي تغير بها أنشطة الإنسان البيئة، رغم وجود مساحة للاختلافات السياسية مختبئة في تلك المحددات في الجملة السابقة: «التغيرات الخطيرة» (مسألة إيجابية جزئيًّا بشأن طبيعة التغيرات، مسألة معيارية جزئيًّا بشأن كيفية تقييمها)؛ «الراسخة بشكل كافٍ» (مسألة إيجابية جزئيًّا بشأن مدى رسوخها بثقة، مسألة معيارية جزئيًّا بشأن الثقة التي تبرر الفعل)؛ «بعض النفقات والأعباء» (مسألة إيجابية جزئيًّا بشأن طبيعة النفقات والأعباء المطلوبة لخفض الخطر بدرجة معينة، مسألة معيارية جزئيًّا بشأن النفقات التي تكفل تحقيق مثل هذا الخفض).

يعني هذا الوضع الخاص للمقولات العلمية أن المناظرات العلمية ومناظرات سياسة البيئة ترتبط ارتباطًا وثيقًا. من ناحية، المعرفة العلمية بشأن نتائج سياقات بديلة للفعل ضرورية لاتخاذ قرار عام مسئول في قضايا البيئة. ومن الناحية الأخرى، يريد كل ممثل سياسي أن يزعم أن مواقفه مؤسسة على العلم، بصرف النظر عن طبيعة موقفه. وهذه جزئيًّا حيلة بلاغية عامة؛ حيث إن أي موقف يمكن أن يلتزم بسمعة العلم في سعي نزيه وراء الحقيقة يبدو أكثر إقناعًا، لكنه أيضًا يخدم الغرض الأضيق لتقديم مواقف خاصة. إذا كنت تستطيع إقناع الناس بأن الدليل العلمي يشير إلى أن الخطر الذي يهدد البيئة مستقر وثابت، فمن المحتمل أكثر أن يدعموا فعلًا مكلفًا أو قيودًا لتجنب الخطر؛ أقنعهم بالعكس، ويكون من المحتمل أكثر أن يرفضوا القيود. هذا ما يجعل الكثير من ممثلي السياسة، والكثير منهم جهلة نسبيًّا بالعلم، يميلون للدخول في مناقشات علمية.

نتيجة اختلاف الأهداف والقواعد في المجال العلمي والمجال السياسي، يفرض هذا التفاعل المشوش — المستحيل تجنبه — بين العلم والسياسة التحدي على الجانبَين. تتحدى السياسةُ العلمَ؛ لأن المسائل الإيجابية التي تعتبر مناسبة للقرارات السياسية ربما تصاغ بشكل سيئ، أو يضعها ممثلو السياسة إطارًا لأغراض بلاغية لصالحهم. على سبيل المثال، مسائل من قبيل «هل تغيُّر المناخ يمثل أزمة؟» أو «هل نواجه كارثة مناخية؟» يحتمل أن تحبط محاولات لتقديم مادة علمية مفيدة؛ لأنها تعتمد تمامًا على مسائل غير علمية تتعلق بالتعريف الذي تقدمه لكلمة «أزمة» أو «كارثة». حتى حين تصاغ مسائل علمية مرتبطة بالسياسة بوضوح وحياد، ربما تتجاوز القدرات العلمية الحالية على تقديم إجابة لها، الآن وربما لسنوات طويلة. هذه هي الحالة، على سبيل المثال، بالنسبة للتنبؤات الدقيقة بتغير المناخ في مواقع معينة: كيف سيتغير المناخ حيث أعيش، وما آثاره؟ لكن كثيرًا ما تتطلب المناظرة السياسية إجابات واضحة ومحل ثقة وسريعة، وغير متعاطفة مع الحذر العلمي.

ولأن كثيرًا من العلماء يفضلون التركيز على أعمالهم العلمية، فإن مَن يدخلون في مناظرة عامة يفعلون ذلك بخليط غريب من الدوافع. بعضهم ذوو اهتمامات مدنية وشجعان؛ ويؤمن البعض بأن مكانتهم العلمية تمنح وزنًا معينًا لآرائهم السياسية؛ ويسعى البعض إلى الساحة العامة لعوائدها الخاصة — الصيت أو الشهرة، وأحيانًا التأثير أو الربح. بالإضافة إلى ذلك، في ساحات السياسة من الصعب تمييز المقولات العلمية الراسخة من المقولات غير النموذجية، أو تنم عن جهل، أو الشاذة، أو تتسم بالكذب الصراح. حتى حين يكون الإجماع العلمي في نقطة قويًّا ومؤسسًا بشكل جيد، قد يصعب إقناع الجمهور العادي حين تجادل ضد مناوئ ماهر بلاغيًّا، خاصة إذا كان شخصًا يعمل طبقًا للقواعد الأكثر تساهلًا للمناظرة السياسية.

العلماء الفرادى الذين يودون المشاركة في المسئولية في مناظرة عامة يواجهون مأزقًا بشعًا. قد يحاولون نقل حالة المعرفة والشك بشكل يتسم بالمسئولية، فيتعرضون لخطر اعتبار حذرهم العلمي تردُّدًا أو عجزًا عن الكلام بوضوح. أو قد ينحُّون جانبًا نزعتهم العلمية المحافظة، ويحاولون صياغة فهمهم في مصطلحات أبسط يحتمل أكثر أن تلقى صدًى وتُفهَم في مجال عام، ويتعرضون لخطر الاتهام بالتطرف أو السعي وراء الشهرة. يحاول بعض العلماء حل هذه الورطة برسم حدود واضحة بين أدوارهم بوصفهم علماء ومواطنين، معبرين بدقة عن آراء محددة لعلماء، ثم يغيرون موقفهم صراحة للحديث بشكل أكثر بساطة وأكثر قوة بوصفهم مواطنين مهتمين بالقضية، لكن من الصعب الحفاظ على هذه الحدود عمليًّا. يقدم موقف علمي لمتحدث بشكل لا فكاك منه اعتمادًا إضافيًّا لآرائه السياسية، حتى حين يستخدم الموقف العلمي لكسب المنصة بهذه الطريقة يضع هذا الموقف في خطر. بالإضافة إلى ذلك، لا يزال أحيانًا موقف من يحاولون وضع هذه الحدود بين الآراء العلمية والشخصية مستهجنًا؛ بسبب تسييس علمهم، من قِبَل زملائهم في العلم أو، وهو الأكثر، من قِبَل ممثلي السياسة الذين يتبنون آراء معارضة. إذا وضعنا كل هذه المخاطر في الاعتبار، من السهل أن نفهم الأسباب التي تجعل كثيرًا من العلماء يحجمون عن الانخراط في مناظرة عامة في قضايا ترتبط بخبرتهم العلمية، حتى لو كانوا يفعلون ذلك من واقع مسئوليتهم المدنية.

يفرض أيضًا التفاعل بين المناقشات العلمية والسياسية تحديًا صعبًا على ممثلي السياسة من غير العلماء، فَهُم باستثناءات نادرة، يفتقرون إلى الوقت والتدريب على قراءة نقدية للأدبيات المراجعة من قِبَل الرفاق. وتحمل محاولات غير المتخصصين للقيام بتقييم مستقل للمقولات العلمية خطر الوقوع في الخطأ بشكل كبير؛ لأنه حتى المقولات الزائفة تمامًا يمكن صياغتها لتبدو مستساغة من قبل شخص لا يعرف المجال. مرة أخرى، يقدم تاريخ المناظرة حول طبقة الأوزون مثالًا واضحًا. في ١٩٧٤م، خلال شهور من اقتراح أن الكلور في الكلوروفلوروكربونات يمكن أن يدمر أوزون الاستراتوسفير، بدأ المعارضون السياسيون للحد من الكلوروفلوروكربونات ادعاء أن هذا مستحيل؛ لأن جزيئات الكلوروفلوروكربونات أثقل بكثيرٍ من الهواء بحيث لا يمكن أن ترتفع إلى الاستراتوسفير. يبدو هذا الادعاء وكأنه بديهي: رأى كل شخص تقريبًا مزيجًا من سوائل مختلفة الكثافة، مثل الجازولين في الماء أو الزيت والخل في السلطة، وفيها يستقر السائل الأثقل في القاع، لكن سواء كان الادعاء بديهيًّا أو لم يكن، فهو زائف بوضوح بالنسبة لأي شخص يعرف خصائص الغلاف الجوي. الغلاف الجوي ليس وعاءً منعزلًا تمامًا، لكن الرياح تقلبه باستمرار، رأسيًّا وأفقيًّا، وهكذا فإن الغازات طويلة العمر مثل الكلوروفلوروكربونات تُمزَج في تركيز متسق من السطح إلى ما فوق الاستراتوسفير، بصرف النظر عن وزنها. ورغم الزيف الواضح لهذه المقولة بالنسبة لأي شخص على معرفة مناسبة، فقد تكرر ظهورها في المناظرة العامة لأكثر من ٣٠ عامًا، دليلًا مفترضًا على أن الكلوروفلوروكربونات لا يمكن أن تلحق الضرر بطبقة الأوزون.

لا تمثل صعوبة تقييم المقولات العلمية المتنافسة مشكلة بالنسبة لممثلي السياسة الذين يريدون ببساطة اختيار المقولات العلمية لتدعيم مواقفهم. إن المعايير المتساهلة للمناظرة السياسية تمنح هؤلاء الممثلين قدرًا هائلًا من الحرية. يمكنهم أن فحص عدد كبير من الأبحاث العلمية المنشورة في نزاع معين للعثور على عددٍ قليلٍ منها يدعم قضيتهم، حتى لو كانت أبحاثًا قديمة، من المعروف أنها خطأ، أو دحضتها بحسم أعمالٌ أخرى. من بين آلاف البشر الذين يحملون شهادات علمية، يمكنهم العثور عادة على بعض المعارضين أو الانتهازيين بشكل كافٍ لمواصلة وضع سجل للمقولات التي يعرف فعليًّا كل من يعمل في المجال أنها خطأ. إلى زمنٍ حديثٍ يرجع لبضع سنوات، أراد بعض العلماء أن ينشروا على الملأ أنه ليس هناك دليل مقنع علميًّا للربط بين التدخين والسرطان. يمكن لمؤيدين بمصادر كافية أن يدعموا ماليًّا مشاركة هؤلاء الأفراد في المناظرات السياسية، أو حتى يمولوا برامج للبحث يعتقدون أن من المحتمل أن تؤدي إلى نتائج في صالحهم.

للنجاح في هذه الاستراتيجية، لا يتطلَّب الأمر بالضرورة الفوز في مناقشات معينة. ينعم الوضع الراهن بمزية كبرى في أية مناظرة سياسية، حيث إنه يستهلك طاقة سياسية جوهرية لإحداث أي تغيير. في قضايا البيئة، لا تُفرَض قيود على النشاط أو التكنولوجيا في الوضع الراهن عادة؛ وبالتالي ربما ينجح مناوئو القيود الإضافية بانشقاق علمي مبالغ فيه ببساطة، إذا أقنعوا الناس بأن المعرفة العلمية التي تشير إلى خطر إضافي «مشكوك فيها تمامًا» بدرجة لا تبرر تغيير الوضع الراهن. ولا يمكن أحيانًا تحقيق هذا بمجرد تقديم مناقشات كافية، حتى لو كانت كلها سيئة، لإصابة الناس بالحيرة. مع مقولة يبدو أنها تلغي مقولة مضادة، يمكن حتى لمناقشة مستقرة أن تصاغ لتبدو وكأنها تعادُلٌ لصالح الوضع الراهن بقوة.

مع انتشار هذه الحيل على نطاق واسع، تحتوي مناظرات سياسة البيئة على نغمات متنافرة من المقولات العلمية المتنافسة والمقولات المتضادة، التي تنطلق دون اعتبار لقوة الدليل المصاحب لها، أو عدد العلماء الذين يدعمونها ومكانتهم. لا يمكن بسهولة تمييز المقولات الراسخة جيدًا، التي تحظى بإجماع علمي يكاد يكون عامًّا من الآراء المدعومة من أقلية ضئيلة متحيزة. يدرك بالتالي كثيرٌ من المواطنين وصانعي السياسة الجهل المفرط والشك؛ حيث يتوفَّر قدر كبير من المعرفة، ويدركون نزاعًا خطيرًا حيث يكون هناك إجماع طاغٍ.

في ظلِّ هذه الظروف، تكون الخيارات محدودة أمام المواطنين أو ممثلي السياسة في مصارحة أنفسهم. قد يختار البعض ببساطة الاعتقاد بأن المقولات المتفقة مع خياراتهم السياسية، أو الوقوف بجانب الآخرين الذين يشاركونهم آراءهم السياسية العامة — لكن هذه المقاربة خطيرة؛ حيث إنه لا يوجد سبب يجعلك تتوقع أن الطبيعة ستقف بشكل ملائم في صف خياراتك أو آرائك السياسية. قد ينسحب البعض ببساطة من القضية ويتركها للآخرين لحسمها. إن الذين يرغبون في أن يضعوا في اعتبارهم حقيقة للمعرفة العلمية في اتخاذ قرار بشأن الأعمال التي يدعمونها؛ يمكن أن يجدوا صعوبة في معرفة طبيعتها. وبالنسبة للغالبية، ليس هناك بديل للاعتماد على مستوًى ما من الثقة، سواء في الأفراد أو المؤسسات، لكن من الصعب أن نعرف فيمن نثق أو في ماذا، وإلى أي حد تكون هذه الثقة. ربما يكون لدى البعض مستشار ثقة يتمتع بخبرة علمية مناسبة، لكن في أية قضية معينة أو نزاع لن يكون لدى الغالبية مثلُ هذا المستشار.

تقدم الصحافة غالبًا مساعدة ضئيلة. لا يفهم الصحفيون في أحيانٍ كثيرة القضايا العلمية بشكل أفضل من ممثلي السياسة. وحتى حين يفهمها الصحفيون، فإنهم يتبعون معيارًا مهنيًّا بتقديم توازن بين الآراء المتعارضة. بالإضافة إلى ذلك، يؤدي النزاع إلى زيادة مبيعات الصحف. وحيث إن حتى القضايا المستقرة ربما يثار الجدل حولها من قِبل أقلية، تبالغ الصحافة عمومًا في تقديم الانشقاق العلمي وتقلل من شأن الإجماع. والأسوأ مع ذلك، كثيرًا ما تفضل التغطية الشكل الدرامي، وهكذا قد تمنح الصحافة بروزًا معينًا ليس فقط لآراء الأقلية، لكن لآراء متطرفة. يُعرَض تأمُّل عالِمٍ بأن تغير المناخ العالمي ربما يحدث عودة مفاجئة إلى ظروف العصر الجليدي، أو تقديم مثل هذا السيناريو الهش في فيلم جماهيري، من أجل التغطية الدرامية. وهذا ما تفعله مقولات حفنة من «المتشككين بشأن المناخ» من أن الإجماع العلمي في قضية المناخ مؤامرة سياسية، لكنها لا تقدم التقرير الدقيق عن محتوى هذا الإجماع والدليل الذي يدعمه.

(٥) الحد من الأضرار: دور التقييم العلمي

يرسم القسم السابق صورة كئيبة لأمراض المناظرة العلمية والسياسية المتضافرة، لكن الوضع ليس ميئوسًا منه. ربما يستحيل تجنب الاعتراف بأن تغير المناخ قضية صعبة ومثيرة للنزاع، لكن في الوقت الحالي، المناظرة أكثر تشوشًا وإثارة للنزاع أكثر مما يتطلب الأمر، بسبب إساءة التصور على نطاق واسع لحالة المعرفة العلمية في المسائل الإيجابية ذات الصلة بالقضية. في رأينا، من الممكن إقامة مناظرات سياسية بحيث يمكن أن نقلل من حوافز ممثلي السياسة وفرصهم لممارسة هذه الإساءة في التصور.

يكمن أحد المفاتيح الضرورية لمثل هذا التحسن في فصل المناظرة السياسية، وتحويلها إلى مسائل منفصلة واضحة الصياغة، وملاحظة طبيعة الأسئلة الإيجابية المتعلقة بالمعرفة العلمية للعالم، وطبيعة الأحكام المعيارية للمبادئ السياسية وتقييم التكاليف المناسبة والفوائد والأخطار. لا يمكن دائمًا رسم هذه الحدود بوضوح، لكن محاولة القيام بذلك قدر المستطاع يمكن أن تجلب منافع جمَّة. بالنسبة للأفراد المشاركين في المناظرة السياسية، تضيف محاولة هذا الفصل بين المقولات الإيجابية والمعيارية إلى فهم المناقشات التي يقدمها الآخرون، في تقديم قاعدة أفضل لاتخاذ قرار بشأن مَن نثق فيه، وبأية درجة، وفي أية مسائل، وفي التوصل إلى رأي مستنير بشأن ما نفضل من القرارات. بالنسبة للمناظرة السياسية عمومًا، يحتمل أن يقلل السعي وراء هذا الفصل بين المسائل الارتباك والخلاف، ويقدم قاعدة أكثر صحة للبحث عن مسارات للفعل قد تحظى بدعم على نطاق واسع.

بقدر ما يمكن لبعض التمييز بين المسائل الإيجابية والمعيارية أن يستمر، يكون أفضل تعامل مع النوعين التعامل معها بطرق مختلفة. المسائل الإيجابية — من قبيل الدليل على التغير الحالي في المناخ، التغيرات المحتملة على مدى العقود القادمة، ونتائجها — من الأفضل فحصها بعمليات علمية، لا بعمليات ديموقراطية. بالنسبة لهذه المسائل، حين يوجد إجماع قوي بين خبراء العلم المتعلق بالأمر، نكون أقرب للوصول إلى معرفة على أسس جيدة، جديرة باهتمام كبير في المناظرات السياسية. لا يوجد الإجماع القوي للخبراء، بالطبع، في كل المسائل الإيجابية المرتبطة بالسياسة دائمًا. حين لا يوجد، يكون المؤشر الأفضل لحالة المعرفة العلمية مدى الحكم وانتشاره بين الخبراء المختصين، بالقدر الذي يمكن ملاحظته. حين تكون للقرارات السياسية مخاطر مرتفعة تعتمد على إجابة مسألة إيجابية — على سبيل المثال، كيف سيتغير المناخ في ظل مختلف أشكال الانبعاث في المستقبل — لا يمكن أن يكون أمام ممثلي السياسة أفضل من التسليم بمثل هذا الإجماع أو الانتشار لحكم الخبراء، بوصفه صورة حقيقية للمعرفة الحقيقية والشك.

المشكلة مع هذه النصيحة، كما ناقشنا من قبل، أن ممثلي السياسة لا يمكن أن يلاحظوا بشكل يعول عليه مثل هذا الإجماع أو الانتشار لأحكام الخبراء بأنفسهم، بل ينبغي عليهم الاعتماد على مستشار علمي بشكل ما أو عملية استشارية. ومع ذلك، قليل من ممثلي السياسة لديهم مستشارهم العلمي الموثوق به، وعلى أي حال لا يمكن لمستشار فرد أن يقدم نصيحة يمكن الاعتماد عليها في كل المسائل من كل مجالات العلم؛ وبالتالي هناك حاجة لعملياتٍ استشاريةٍ علميةٍ يمكن أن يعتمد عليها العديد من ممثلي السياسة، لتقديم إجابات يمكن الاعتماد عليها، وجديرة بالثقة، ويسهل فهمها للمسائل العلمية المرتبطة بالسياسة. تسمى عملية توليف المعرفة العلمية وتقييمها وتوصيلها لتوجيه السياسة أو القرارات «التقييم العلمي». وهناك طرق كثيرة لتنظيم عمليات التقييم العلمي ومعالجتها، لكنها تتضمن عادة تشكيل لجنة من الخبراء المختصين تحت إشراف هيئة كفء نزيهة. تُكلَّف اللجنة بمراجعة المعرفة الراهنة والشكوك في مسائل مرتبطة بالسياسة، وتكتب تقريرًا عامًّا يشمل ملخصات يمكن لغير المتخصصين فهمها بوضوح.

تربط التقييمات العلمية مجالات العلم والسياسة الديموقراطية، لكنها تتميز عن كلٍّ منهما. تختلف عن العلم لأنها، بدلًا من أن تقدم حدًّا نشطًا وخلافيًّا للمعرفة في مسائل مهمة لاهتمامها الثقافي الفعلي، تسعى إلى وضع إفادات مُجمَع عليها فيما يتعلق بالمعرفة والشكوك في مسائل مهمة؛ بسبب نتائجها بالنسبة للسياسة والقرارات. وتختلف عن مناظرة السياسة الديموقراطية لأنها تعكس التشاور في مسائل إيجابية بين خبراء العلم مؤسسة على معرفتهم المتخصصة، وليس بين كل المواطنين أو ممثليهم بشأن ما يجب عمله.

الحاجة إلى تقييم علمي فعَّال لدعم صناعة سياسة البيئة على كلٍّ من المستوى القومي والمستوى الدولي؛ معروفة على نطاق واسع لمدة ٢٥ عامًا على الأقل. هناك طرق كثيرة للقيام بتقييمات علمية، وهيئات كثيرة تقوم بها. تطلب الحكومة الفيدرالية في الولايات المتحدة غالبًا من الأكاديمية القومية للعلوم؛ تقديم النصح في المسائل العلمية والتقنية المرتبطة بالسياسة القومية، وأسست أحيانًا هيئات خاصة للتقييم العلمي في قضايا ذات أهمية خاصة أو مثيرة للخلاف. ويمكن للتقييمات العلمية أن تلعب دورًا أقوى في صناعة سياسة البيئة على المستوى الدولي؛ لأنها يمكن أن تصدر تصريحاتٍ موثوقًا فيها بشأن المعرفة العلمية التي تسمو على الاختلافات في مواقف السياسة القومية. على سبيل المثال، لعبَت هيئات تقييم علم الغلاف الجوي عن أوزون الاستراتوسفير دورًا مؤثِّرًا بشكل خاص في الوصول إلى اتفاق دولي للحد من المواد الكيميائية المستنفدة للأوزون، بصياغة تصريحات واضحة للغاية وموثوق فيها بشأن قضايا علمية محورية.

ينبغي للتقييمات العلمية الناجحة أن تجتاز بمهارة المسار بين متطلبات العلم والسياسة، ملبية معايير الجانبين. ينبغي أن تحشد صفوة خبراء العلم لتقديم ملخص دقيق وموثوق فيه للمعرفة الحالية، وتتحرر بقوة من التحيز في أجندتها ومشاركتها وعملياتها ونتاجها — وتتجنَّب تمامًا أي أثر للصياغة لصالح إجابة معينة. وينبغي أيضًا أن توصل بوضوح، بمصطلحات بسيطة تجعلها سهلة الفهم في المناظرة السياسية، وأن تكون مناسبة للقرارات المطروحة في الأجندة، وأن تقدم في الوقت المحدد للاستفادة منها. لكي تكون مفيدةً للسياسة، يتطلب الأمر تقييمات للتعبير عن أحكام ما كانت لتصدر صراحة في عمليات علمية خالصة، من قبيل الأحكام بشأن أين يقف مركز مناظرة علمية، أو القوة النسبية لمختلف المقولات المتنافسة، أو الثقة التي تأسست بها نقاط معينة. ومثل هذه الأحكام ليس من الطبيعي التعبير عنها صراحةً في الجلسات العلمية؛ لأن العملية العلمية يمكن أن تحقق هذه الحلول ضمنيًّا، ويمكن أن تنتظرها، لكن تقديم توليف مفيد للمعرفة الحالية من أجل السياسة قد يتطلب صياغتها صراحة.

لا تنجح التقييمات دائمًا في القيام بمساهمات فعَّالة في المناظرات السياسية. يمكن أن تفشل في القيام بذلك بطرق كثيرة. على سبيل المثال، تفقد بعض التقييمات مصداقيتها بوضع توصيات سياسية صريحة، أو بشكل آخر تتجاوز خبرتها الموثوق فيها. فشلت تقييمات أخرى في توليف المعرفة الحالية في رأي موجز ومتماسك، حتى بعيدًا عن النفور من صياغة أحكام صريحة عن القوة النسبية للمقولات الحالية المتنافسة أو انتشار المعرفة الحالية. ليس هناك نموذج مفرد للكيفية التي يمكن للتقييمات أن تعالج بها بفاعلية الحدود بين المناظرة العلمية والمناظرة السياسية، لكن يمكن لمناطق عديدة من المهارة والحكم أن تقدم مساهماتٍ قويةً لتحقق النجاح. على قادة التقييمات الناجحة أن يبقوا على آذانهم يقظة لتحديد المسائل الإيجابية التي يدرك ممثلو السياسة أنها مرتبطة بالقضية ارتباطًا قويًّا. عليهم أن يكونوا قادرين على حث المشاركين العلميين على مستوًى من التوليف والتكامل من النادر أن يصاغ صراحة في صيغ علمية خالصة، ويبقوا محافظين على المعايير القوية للمناظرة العلمية. عليهم أيضًا أن يصدروا حكمًا فعالًا ليبقى في مجال خبرتهم، وعليهم أن يكونوا قادرين على نقله بوضوح إلى جمهور السياسة من غير المتخصصين في العلم، دون التضحية بالدقة العلمية.

الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ، أو IPCC، التي ناقشنا تأسيسها في الفصل الأول، هي الهيئة الأساسية المسئولة عن التقييمات العلمية الدولية لتغير المناخ. منذ تأسيس IPCC في ١٩٨٩م أنجزت أربعة تقييمات شاملة لتغير المناخ في ١٩٩٠م، ١٩٩٥م، ٢٠٠١م، ٢٠٠٧م — كما أنجزت الكثير من التقارير الأصغر والأكثر تخصصًا. كلٌّ من التقييمات الشاملة مشروع هائل. تشمل التقارير مئات العلماء من عدة دول مؤلفين ومراجعين، ومن بينهم الشخصيات الأكثر احترامًا في المجال. وقد عملت هذه المجموعات على مدار سنوات طويلة لإنتاج كل تقييم شامل، وخضعت تقاريرهم لعملية مراجعة مضنية على مراحل متعددة موثقة بشكل عام. من منظور عدد العلماء المشاركين ومكانتهم وقوة عملية المراجعة التي قاموا بها، اعتبرت تقييمات IPCC على نطاق واسع التصريحات الموثوق فيها بشأن المعرفة العلمية عن تغير المناخ. ونشير إلى هذه التقييمات بشكلٍ متكررٍ في تلخيص المعرفة العلمية الحالية في كل أجزاء هذا الكتاب. بالإضافة إلى ذلك، نناقش في الفصل الخامس بمزيد من التفصيل كيف اكتُسِبت المكانة الموثوق فيها، وكيف يمكن الدفاع عنها وتعزيزها.

كما أكدنا، المسائل الإيجابية ليست متاحة كلها للمناظرة السياسية. لا تزال العملية الفعالة للتقييم العلمي التي تدفع المسائل الإيجابية ذات الصلة إلى منتديات الخبرة، تترك مسائل معيارية متنوعة يجب طرحها، صراحة أو ضمنيًّا، لاتخاذ القرار. وتشمل، على سبيل المثال، كيفية تقييم مختلف أنواع التغيرات المحتملة في المناخ مع ما يصاحبها من مخاطر ونفقات، بما في ذلك المواقف من الشك؛ وكيفية المفاضلة بين الحاضر وأضرار المستقبل؛ ومدى التفاؤل بشأن إمكانية التغير التكنولوجي في المستقبل لتخفيف المشكلة؛ وكيفية تقدير توزيع المفاضلات المرتبطة بالخيارات السياسية البديلة. على عكس المسائل الإيجابية بشأن المناخ، يتم التعامل مع هذه المسائل على أفضل وجهٍ في المداولات العامة والعمليات الديموقراطية المرتبطة بصنع القرار. إن الادعاء على نطاق واسع بأن الاختلافات الحالية بشأن سياسة تغير المناخ المنبثقة أساسًا من الاختلافات بشأن حالة المعرفة العلمية سمحت لصانعي السياسة بتجنب التعامل مع مسئوليتهم الحقيقية، وهي استخدام هذه المسائل المتعلقة بالقيم السياسية في ضوء الوضع الحالي للمعرفة العلمية لإقرار ما عليهم القيام به. لا يمكن دائمًا رسم الحدود بين المسائل الإيجابية والمعيارية عمليًّا بنقاء، لكننا نؤكد أنه يمكن فك الاشتباك بينها أكثر بكثير مما حدث في المناظرة الحالية، وأن الجهود المكرَّسة للقيام بذلك يحتمل أن تؤدي إلى مناظرة سياسية مستنيرة تتسم بقدر أقل من النزاع، وربما حتى تساعد في تحديد الاختيارات السياسية المقبولة على نطاق واسع.

تتبع الفصول المتبقية طموحنا للتمييز بين المسائل الإيجابية والمعيارية. على أساس التمهيد العلمي الموجز في الفصل الأول، يحدد الفصل الثالث المسائل الإيجابية الأكثر أهمية بشأن المناخ في المناظرة السياسية الحالية، ويلخص الوضع الحالي للمعرفة العلمية بشأنها، ويتضمن مناقشة لعدة مقولات مضادة منتشرة على نطاق واسع. ويفحص الفصل الرابع الاستجابات السياسية البديلة في قضية تغير المناخ، مركِّزًا على المعرفة الحالية للاختيارات المتاحة، ومدى فعاليتها المحتملة، وتكاليفها ونتائجها المحتملة. ويضع الفصل الخامس خطوطًا عريضة للوضع الحالي لسياسات تغير المناخ، ثم يعود إلى اهتمامنا الأساسي بشأن التشويه المتحيز وإساءة استخدام المعرفة العلمية والشك في المناظرة السياسية. نرسم الخطوط العريضة لبعض الأمثلة البارزة لمثل هذه المناقشة، ونناقش بتفصيل أكثر كيف يمكن لعمليات التقييم العلمي الفعال أن تقلل حرية الاختيار والحوافز، بالنسبة لمثل هذا التشويه للحقيقة. أخيرًا في الفصل الخامس، نخطو بشكل ما إلى دور المؤيدين أنفسهم، ونقدم خطوطًا عريضة لمقاربة سياسة تغير المناخ التي تتمسك بالأمل في تجاوز الورطة الحالية، وضمان موافقة على نطاق واسع.

(٦) قراءات إضافية بالنسبة للفصل الثاني

  • Alexander Farrell and Jill Jäger, eds. (2005), Assessments and Global Environmental Risks: Designing Processes for the Effective Use of Science in Decision-making, Washington, DC: Resources for the Future.
تفحص الدراسات التي جمعت في هذا المجلد كيف صممت وعولجت التقييمات العلمية والتقنية بخصوص العديد من قضايا البيئة، لتقديم بصائر عملية في كيفية القيام بتقييمات فعالة. صادرًا عن المشروع البحثي نفسه الصادر عنه مجلد Mitchell et al. المذكور فيما يلي، يستخدم هذا المجلد الإطار نفسه لتقييم التقييمات طبقًا لمصداقيتها العلمية، وشرعيتها، وملاءمة القرار وبروزه.
  • Sheila Jasanoff (1990), The Fifth Branch: Science Advisors as Policymakers, Cambridge: Harvard University Press.

تفحص هذه الدراسة عن هيئات الاستشارات العلمية لمؤسسات حكومة الولايات المتحدة العمليات التي تم بها التفاوض بشأن الحدود بين المجالات العلمية والسياسية في عدة خلافات تنظيمية، والشروط التي ساهمت إلى حدٍّ ما في الحفاظ المستقر والمستمر على هذه الحدود — والعلاقة الاستدلالية إلى حدٍّ ما بين النصيحة العلمية واتخاذ القرارات التنظيمية — في كل حالة.

  • Thomas Kuhn (1962), The Structure of Scientific Revolutions, Chicago: University of Chicago Press.

كانت هذه الدراسة للعمليات الاجتماعية التي تساهم في تقدُّم فروع العلم؛ أول دراسة تلاحظ التناقض بين الطريقتَين المختلفتَين تمامًا لتغير الفهم العلمي: إنه تقدم طبيعي تراكمي يعتمد على بنية عميقة غير مفحوصة للفرضيات المشتركة (سماها كوهن «النماذج») بشأن الأسئلة المهمة والخطوط المهمة والواعدة في البحث؛ والهبات الثورية العارضة التي تلي تراكم كمية حاسمة من النتائج التي لا تتناسب مع النموذج.

  • Ronald Mitchell, William Clark, David Cash, and Nancy Dickson, eds. (2006), Global Environmental Assessments: Information and Influence, Cambridge, MA: MT Press.

تفحص هذه المجموعة المؤلفة من دراسات لعمليات التقييم العلمي في عدة قضايا بيئية؛ الآليات التي يمكن بها للتقييمات توجيه القرارات السياسية والتأثير فيها، والظروف التي تحدد إن كانت ستحقق ذلك. تفحص الكيفية التي تعمل بها التقييمات وكيفية استخدامها في المواقف السياسية، وتبرهن على أن التقييمات الفعالة، بالإضافة إلى كونها مقبولة علميًّا، يمكن أن تعتبر أيضًا شرعية في العملية التي تقوم بها وفي مساهمتها، وينبغي أن تقدم نتائجها بمصطلحات بارزة بشكل كافٍ ومناسبة لصناع القرار.

  • William D. Ruckelshaus (1985), Risk, Science, and Democracy, Issues in Science and Technology, 1:3, Spring 1985, pp. 19–38.

يرى ركلشوس، مدير هيئة حماية البيئة في الولايات المتحدة في ظل حكم الرئيسين نيكسون وريجان، أن السياسة البيئية الفعالة تعتمد على الحفاظ بشكل كافٍ على الفاصل بين العمليات ذات الأسس العلمية في تقييم المخاطر البيئية، والعمليات السياسية أكثر فيما يتعلق باتخاذ القرار فيما يجب عمله بشأن المخاطر المؤسسة على أفضل المعارف العلمية المتاحة.

١  ورلد سيرز World Series: بطولة في البيسبول تُلعب بين الاتحاد الأمريكي American League والاتحاد القومي National League منذ ١٩٠٣م. (المترجم)
٢  الاختبارات الوراثية الحديثة أقوى من اختبارات فصيلة الدم؛ لأنها ترصد خصائص كثيرة، لكن نتائجها، مثل اختبارات فصيلة الدم، حاسمة في النفي فقط: إذا لم يتطابق الدنا الخاص بك مع كل خصائص العينة موضوع القضية لا تكون العينة منك. إذا تطابقت كل الخصائص، فمن المحتمل أن تكون العينة منك لكن بصورة غير مؤكدة. في أحد الأشكال المبكرة لاختبار الدنا في موضوع الأبوة، على سبيل المثال، التطابق التام يبقى تقريبًا عند فرصة ٠٫٢٪ — فرصتين في الزوج — بأن الأب ليس أنت، لكنك شخص آخر تطابقت خصائصه مع كل الخصائص التي تم اختبارها.
٣  التروبوبوز Tropopause: الحد بين التروبوسفير والاستراتوسفير، على ارتفاع ٨–١٨كم. (المترجم)
٤  حيث إن هذا القسم من القانون يلبي التزام الولايات المتحدة في ظل معاهدة دولية، اتفاقية مونتريال، فإن تغيير القانون لسحب هذه السلطة قد يضع الولايات المتحدة في وضع المنتهك للمعاهدة. وبينما قد يجعل هذا الكونجرس يفكر مرتين بشأن القيام بمثل هذا التغيير، لكنه لا يستبعد سلطته في القيام بذلك؛ لأن الولايات المتحدة لها سلطة الانسحاب من المعاهدات الدولية.
٥  ومع ذلك، لا تعني الأعداد القليلة لمن ينشطون في قضية، أن أعدادًا قليلة تهتم بها: يأتي الرأي العام في كل الأشكال والأحجام. لا توضع قضية في الأجندة السياسية دون أن يكون هناك على الأقل عدد صغير من الناس يهتمون بها، لكن بقية الشعب قد يفهمون القضية أو لا يفهمونها أو قد يبالون بها أو لا يبالون، ومن يبالون بها قد يتفقون عمومًا أو ينقسمون فيما بينهم بقوة. يحاول النشطون في قضية ادعاء أن موقفهم تدعمه بقوة «الأغلبية الصامتة» حين يستطيعون. تميل الآراء العامة لأن تكون الأقوى ومعظمهم منقسمون في قضايا تثير اختلافات عميقة في المبدأ، من قبيل الإجهاض أو عقوبة الإعدام. بينما يعبر معظم الناس عن دعم قوي لحماية البيئة، لا يثار هذا إلا نادرًا لدرجة قوة الآراء المشحونة عادة بالبعد الخلقي.