تغيُّر المناخ العالمي بين العلم والسياسة: دليل للمناقشة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الخامس

حالة سياسة المناخ ومسار إلى الأمام

لخصت الفصول السابقة المعرفة الحالية والشك بشأن المناخ وكيفية تغيره، والدليل على الأسباب البشرية للتغيرات الملحوظة، ومجال التغيرات المتوقعة هذا القرن، وأيضًا المعرفة الحالية الأقل تحديدًا بشأن التأثيرات والاستجابات المحتملة لتغير المناخ. هذا الفصل الأخير سياسي أكثر من بضعة مفاهيم؛ أولًا: نفحص السياسات الحالية للموضوع، مع مراجعة سياسات الممثلين الأساسيين وأوضاعهم. ثانيًا: نلخص ونقيِّم المجادلات الرئيسية المطروحة ضد القيام بفعل جادٍّ للحد من تغير المناخ. أخيرًا: نقدم أحكامنا الخاصة بطبيعة الاستجابة لقضية المناخ، التي تبدو مناسبةً من منظور المعرفة العلمية والاحتمالات السياسية الحالية.

(١) سياسات تغير المناخ: السياسات والأوضاع الحالية

رغم أن تغير المناخ وضع على الأجندات السياسية في وقتٍ مبكرٍ يرجع إلى ١٩٩٠م، لم يحدث إلا تقدم ضئيل في المناظرات السياسية في تسعينيات القرن العشرين، ولم يحدث في الواقع أي تقدُّمٍ بين عام ٢٠٠١م وعام ٢٠٠٨م، سواء في الولايات المتحدة أو على المستوى الدولي. في هذه الفترة، قطع الاتحاد الأوروبي وبعض الدول الأعضاء الرائدة فيه، وأيضًا بعض الولايات والمقاطعات في أمريكا الشمالية، خطوات أولية مهمة، لكن حتى هذه بعدت كثيرًا عن المطلوب للبدء في التحول المطلوب في قطاع الطاقة. لم تَقُم سلطاتٌ أخرى إلا بأعمالٍ رمزيةٍ وصغيرةٍ بالغة الضعف بالنسبة للمهمة المطلوبة، أو لم تَقُم بشيءٍ على الإطلاق.

بدأ هذا الوضع في التغير أواخر ٢٠٠٧م وفي ٢٠٠٨م، حين تجمعت عوامل عديدة — بما في ذلك نتائج وتقييمات علمية جديدة، واهتمام شعبي كبير في الكثير من الأمم، وزيادة النشاط في كونجرس الولايات المتحدة وحكومات الولايات، وفي حملة الانتخابات الأمريكية في ٢٠٠٨م — لتزيد الدعم لعمل على المدى القريب. تحركت في أعقاب مؤتمر كوبنهاجن المقترحات والمجادلات السياسية عن تغير المناخ بسرعةٍ نحو الهدف وقد تطورت، وهكذا فإن أي وصف يمكن أن نقدمه هنا للمخاطر يكون الزمن قد تجاوزه. ولتقديم سياق للمناظرات السياسية المستمرة، يقدم هذا القسم لمحةً لموقع المقترحات والمناظرات السياسية في أوائل ٢٠١٠م.

كما ناقَشْنا في الفصل الرابع، تشمل الاستجابات الكبرى لتغير المناخ تدابير التعديل لخفض انبعاث غازات البيوت الزجاجية، وتدابير التكيف لخفض الحساسية لتأثيرات تغير المناخ، وخيارات هندسة المناخ لفحصها تأمينًا ضد خطر التغير الشديد في المناخ بصورة غير متوقعة، أو فشل مقاربات التعديل والتكيف، لكن المناظرة الحالية تركِّز أساسًا على التعديل؛ لأنه الاستجابة التي بالنسبة لها يتطلب التخلف الطويل بأوضح ما يكون قرارات على المدى القريب، والاستجابة التي تتضمَّن بأوضح ما يكون ممارسة سلطة الحكومة على الأعمال الخاصة. باستثناءاتٍ قليلة، يعتبر التعديل وهندسة المناخ طرحًا لاختيارات المستقبل وليسا طرحًا فوريًّا، وأقل اقتحامًا لحياة المواطنين واختياراتهم. هنا، نتتبع أولويات المناظرة الحالية: بينما نلاحظ أن التكيُّف سيكون جزءًا أساسيًّا من استراتيجية تغير المناخ، ويتبين أيضًا أن تدابير هندسة المناخ ربما تكون مهمة، نركز في الأساس على القرارات والمناظرات بشأن التعديل.

في الولايات المتحدة الأمريكية، ركدت سياسة المناخ سنوات عديدة بعد قرار الرئيس بوش في ٢٠٠١م بعدم التصديق على اتفاقية كيوتو. وكما لخصنا في الفصل الأول، لم تتضمن سياسات الولايات المتحدة في ظل إدارة بوش إلا هدفًا ضعيفًا غير ملزمٍ بشأن كثافة الانبعاث (الانبعاث لكل دولار من الناتج المحلي الإجمالي)، بالإضافة إلى برامج وأبحاث تطوعية. بداية من ٢٠٠٣م، بدأت مشاريع القوانين في الكونجرس تقترح تدابير أقوى، متضمنة أهداف انبعاث على مستوى الأمة ونظم تصاريح للانبعاث قابلة للتداول بالنسبة لأكبر المصادر المعنية. نما نشاط الكونجرس في ٢٠٠٨م، حين قدمت سبعة مشاريع قوانين بشأن تغير المناخ، تقترح تخفيضات في الانبعاث تصل إلى ٧٥٪ بحلول ٢٠٥٠م، لكن حين عرضت هذه المشاريع مقدمًا في المناظرة، لم يتم إصدار تشريعٍ بأيٍّ منها.

بقليل من العمل على المستوى الفيدرالي، مرَّت قيادة المناخ في الولايات المتحدة إلى الولايات حول ٢٠٠٢م. وقد شرَّعتْ معظم الولايات الآن شكلًا من سياسة المناخ أو خطة عمل، وتبنَّت أكثر من ٢٠ ولايةً أهدافًا لخفض شامل للانبعاث على مستوى الولاية. بالإضافة إلى ذلك، طوَّرت ثلاث مجموعاتٍ من الولايات — في الغرب، والغرب الأوسط، والشمال الشرقي — نظامًا إقليميًّا للذروة والتجارة بالنسبة للمصادر الكبيرة للانبعاث. بدأت مجموعة الشمال الشرقي، المبادرة الإقليمية بشأن غازات البيوت الزجاجية (RGGI)، مزادات علنية في ٢٠٠٨م للتصاريح المطلوبة للمصادر الكبرى بدايةً من ٢٠٠٩م، لكن الذروة المرتفعة في هذا النظام أدَّت إلى وفرة في التصاريح — وخاصة في ركود ٢٠٠٨-٢٠٠٩م — وكانت أسعار هذه التصاريح ١٠–١٥ دولارًا فقط لطن الكربون (٣-٤ دولارات لطن CO2).
كان أقوى فعلٍ على مستوى الولايات في كاليفورنيا، التي أصدرت تشريعًا بحدٍّ إجباري على انبعاث الولاية عند مستويات ١٩٩٠م بحلول ٢٠٢٠م، مع هدفٍ إضافيٍّ لتخفيض ٨٠٪ بحلول ٢٠٥٠م؛ معايير السيارات والأدوات والوقود المحتوي على كربون؛ ونظام للذروة والتجارة قيد الإنشاء ليتكامل مع البرنامج الإقليمي للمبادرة الغربية بشأن المناخ. تتطلب معايير المركبات، وتعتمد على السلطة الفريدة لكاليفورنيا في ظل قانون الهواء النقي في الولايات المتحدة لتنظيم تلوث السيارات، تتطلَّب تخفيضات على مراحل في انبعاث CO2، تبدأ في ٢٠٠٩م وتصل إلى ٣٠٪ بحلول ٢٠١٦م. وتأخر هذا المعيار في البداية نتيجة تحديات قانونية ورفض وكالة حماية البيئة EPA التخلِّي عن قانون الهواء النقي وهو ما تتطلبه كاليفورنيا للتنظيم بما يتجاوز المعايير القومية. تراجعت إدارة أوباما عن هذا الرفض؛ ومن ثم أُعلِنت في مايو ٢٠٠٩م معايير جديدة صارمة على المستوى القومي مماثلة لتلك التي اقترحتها كاليفورنيا، متطلبة متوسطًا اقتصاديًّا للوقود يبلغ ٣٥٫٥ ميلًا لكل جالون بالنسبة للسيارات والشاحنات الخفيفة بحلول ٢٠١٦م.

استمر العمل بكثافة خلال ٢٠٠٩م لتطوير سياسات بشأن غازات البيوت الزجاجية في الكونجرس والسلطة التنفيذية. صدر بشقِّ الأنفس مشروع قانون رئيسي للبيئة والطاقة، يتسق عمومًا مع تصريحات من الإدارة، في يونيو عن مجلس النواب. ويشمل هذا المشروع سلسلة من الأهداف لخفض الانبعاث في الولايات المتحدة؛ بحيث يزداد الخفض بمرور الزمن ليصل تقريبًا إلى ٨٠٪ بحلول ٢٠٥٠م. وتتحقَّق هذه الأهداف أساسًا بنظام الذروة والتجارة بالمشاركة في مزادات علنية تزداد بمرور الزمن، ويستخدم الريع لتمويل تكنولوجيات الطاقة النظيفة والإعفاءات الضريبية للعاملين. ويتضمَّن المشروع أيضًا بنودًا لتنظيم الانبعاث في مختلف القطاعات، ودعم البحث والتطوير، وعمليات للتقييم العلمي والتقني، ومراجعة التدابير التنظيمية. وتبقى بنود سياسية خاصة في تغيرٍ مستمرٍّ مع استمرار العملية التشريعية، بداية من العمل في مجلس الشيوخ؛ حيث صوتت على مشروع قانون مماثل إلى حدٍّ بعيدٍ لجنة البيئة والأشغال العامة في نوفمبر ٢٠٠٩م، رغم اعتراضات الأقلية الجمهورية، ولم يعرض بعدُ على مجلس الشيوخ.

بينما تدعم السلطة التنفيذية إصدار تشريعٍ جديد، تستجيب أيضًا لقرار المحكمة العليا في ٢٠٠٧م بالإعداد لتنظيم غازات البيوت الزجاجية في ظل قانون الهواء النقي. في قضية ماساشوسيتس ضد وكالة حماية البيئة، وجدت المحكمة أن غازات البيوت الزجاجية ملوثات كما يعرفها القانون، وهكذا ينبغي على وكالة حماية البيئة أن تصدر ما يسمى «نتائج خطرة» سواء كانت تهدِّد الصحة العامة أو الرفاهية، ويجب تنظيمها إذا كانت تفعل ذلك. أصدرت وكالة حماية البيئة النتائج المطلوبة في مارس ٢٠٠٩م، واقترحت قواعد للانبعاث من المصادر الكبيرة الثابتة والمركبات في سبتمبر. ويجب أن يتناسب تنظيم غازات البيوت الزجاجية بشكل أخرق مع إطار قانون الهواء النقي، وهكذا قد يكون من المفضل إصدار تشريع جديدٍ مُعَدٍّ لهذا الغرض، لكن يمكن، في الحد الأدنى، أن يقدم هذا الرسوخ الواضح للسلطة التشريعية التي تتمتع بها وكالة حماية البيئة؛ تهديدًا مفيدًا لتشجيع الدعم السياسي لوضع ضوابط لغازات البيوت الزجاجية أكثر براعة وكفاءة، في ظل تشريع جديد. وفي الوقت ذاته، أزاحت بعض المقترحات التشريعية التي يتم تداولها هذه السلطة عن قانون الهواء النقي؛ ومن ثم يقدم التشريع الجديد السلطة القانونية الوحيدة لضبط انبعاث غازات البيوت الزجاجية. وسوف تستمرُّ هذه المفاوضات في كل الاحتمالات حتى تكتمل المناظرة الحالية بشأن تشريعٍ جديدٍ للمناخ.

في مقابل الولايات المتحدة، حيث صار فجأة تطوير سياسة بشأن تغير المناخ أكثر جديةً في حملة انتخابات ٢٠٠٨م، اتبع الاتحاد الأوروبي مبادراتٍ طموحةً خاصة بالمناخ لما يزيد عن عقد. ويحتمل أن تفي بعض دول الاتحاد الأوروبي بتعهداتها عن الفترة الأولى من اتفاقية كيوتو، رغم أن بيانات حديثة توحي بأن الاتحاد الأوروبي ككل سوف يقصر بعض الشيء في الوفاء بها. إن المملكة المتحدة وألمانيا في أقوى الأوضاع، وسوف تخفض الدولتان الانبعاث بما يتجاوز تعهداتهما في كيوتو؛ نتيجة للجمع بين الظروف المواتية والسياسات القوية. وأعادت أحدث خطة أوروبية بشأن المناخ — صدر تشريع بها في ديسمبر ٢٠٠٨م، رغم المقاومة الكبيرة من المجموعات الصناعية وبعض الدول الأعضاء — تأكيد الهدف المعلن للاتحاد الأوروبي بخفض الانبعاث ٢٠٪ تحت مستويات ١٩٩٠م بحلول ٢٠٢٠م، أو ٣٠٪ إذا أصدرت الدول الصناعية الأخرى الكبرى تشريعات بقيودٍ مماثلة. ويتضمَّن البرنامج معايير للكهرباء المتجددة، وكفاءة المركبات، والوقود منخفض الكربون، وذُرَى الانبعاث القومي بالنسبة لقطاعات معينة، وتمويل مسيرة مشاريع اصطياد الكربون، وتدابير أخرى.

إن محور برنامج الاتحاد الأوروبي بشأن المناخ نظام تجاري للانبعاث بالنسبة للمصادر الكبيرة، يغطي ٤٠٪ تقريبًا من الانبعاث الكلي. وقد عانت المرحلة الأولى من هذا النظام، ٢٠٠٥–٢٠٠٧م، من حصص مرتفعة من التصاريح بواسطة السلطات القومية وشهدت تقلبًا كبيرًا في الأسعار، بما في ذلك الانهيار المفاجئ للأسعار في منتصف ٢٠٠٦م. وشهدت المرحلة الثانية، وتقابل الفترة ٢٠٠٨–٢٠١٢م من تعهدات كيوتو، صراعًا أكبر لكنها شهدت أيضًا إنجازًا أكبر، حيث طلبت مفوضية الاتحاد الأوروبي من عدة أممٍ خفض حصصها، للاقتراب أكثر من الهدف الكلي لكيوتو. وفي هاتَين المرحلتَين، تطلب النظام توزيع كل التصاريح تقريبًا بالمجان. وقد واجهت خطط للتحرك باتجاه المزادات في المرحلة الثالثة، ٢٠١٣–٢٠١٧م، معارضة قوية، وتم الاتفاق على أن خفض المزايدة الأولية إلى ٢٠٪ ضروري لضمان تبنِّي الخطة الجديدة للمناخ. ولا تزال المفاوضات جارية لتوسيع النظام؛ ليشمل الانبعاث من الطيران والنقل البحري، وتحقيق ضريبة كربون على نطاق أوسع للحد من خسائر التنافس، إذا فشل الشركاء التجاريون للاتحاد الأوروبي في القيام بعملٍ صارمٍ بصورة مماثلة.

أصدرت البلاد الصناعية الأخرى برامج للحد من الانبعاث، بدرجات متفاوتة من الجدية، لكن ليس من بينها ما يفي بتعهداتهم في كيوتو. تضمن برنامج اليابان بشأن المناخ في ٢٠٠٥م أهدافًا للتخفيض على مستوى القطاعات، ووضع معايير للكفاءة، وتشجيع المركبات منخفضة الانبعاث من خلال برامج حكومية دعائية للشراء، وأيضًا تدابير تطوعية متنوعة، وتعويل أساسي على الانهيارات والقروض المشتراة. وتم التعهُّد بضماناتٍ إضافيةٍ في ٢٠٠٨م وتضمنت بعد تغيير الحكومة في ٢٠٠٩م إعلان برنامج للذروة والتجارة على المستوى القومي، وتعهد بتخفيض الانبعاث الكلي بنسبة ٢٥٪ تحت مستويات ١٩٩٠م بحلول ٢٠٢٠م. من الدول الصناعية الرئيسية، كانت كندا أكبر الدول تقصيرًا في الوفاء بتعهداتها في كيوتو؛ لأنها صدقت على المعاهدة بعد عقد نمو الانبعاث بقوة، وكانت برامجها للتعديل ضعيفة، ومشاورات غير مثمرة تسعى للإجماع على التعديل. كما في الولايات المتحدة، اتخذت بعض الأقاليم الكندية خطوات أقوى مما اتخذَته حكومة الدولة: تشق كولومبيا البريطانية الطريق ببرنامج شامل، يتضمن ضريبة إقليمية على الكربون.

وشهدت السنوات القليلة الأخيرة أيضًا تطورًا كبيرًا في الخطط والسياسات المتعلقة بغازات البيوت الزجاجية في الدول النامية والاقتصاديات الناشئة. حتى الآن، أعلن اثنان فقط من الاقتصاديات النامية الكبرى أهدافًا للانبعاث القومي الإجمالي. تعهدت كوريا الجنوبية بتخفيض الانبعاث ٤٪ تحت مستويات ٢٠٠٥م بحلول ٢٠٢٠م، مدعومة بسياسات متعددة تشمل نظامًا للذروة والتجارة وبرنامج مبتكر لوضع ملصق خاص بغازات البيوت الزجاجية على المنتجات. أعلنت جنوب أفريقيا عن خطة للانبعاث تصل إلى قمتها بحلول ٢٠٢٥م، تستقر لمدة عشر سنوات، ثم تقل. وتبنَّت دول نامية أخرى كثيرة سياسات للتعديل، وأعلن بعضها عن أهدافٍ لتخفيض كثافة الانبعاث (الانبعاث بالنسبة للناتج المحلي الإجمالي). في أواخر ٢٠٠٩م، تعهدت الصين بخفض الكثافة ٤٠–٤٥٪ تحت مستويات ٢٠٠٥م بحلول ٢٠٢٠م، وأعلنت الهند أنها ستخفض الكثافة ٢٤٪ بحلول التاريخ نفسه. وتدعم الهدفَين قوانينُ محليةٌ متعددة واستراتيجيات طموحة لابتكار طاقةٍ نظيفة، خاصة في الصين. توقَّعت إحدى المنظمات غير الحكومية أن تخفض السياسات التي تم تشريعها الانبعاث في ٢٠٢٠م تحت خط الأساس بنسبة ١٣٪ في الصين، وبنسبة ١٩٪ في الهند، رغم النمو الاقتصادي السريع المتوقع.

تحدث كل هذه المبادرات القومية في ظلال المفاوضات الدولية المستمرة. كما ناقشنا في الفصل الأول، دخلت اتفاقية كيوتو حيز التطبيق في ٢٠٠٥م، بعد التصديق الروسي عليها، وفي الحقيقة كل الأمم الآن باستثناء الولايات المتحدة أطراف فيها. ونحن الآن في الفترة الأولى لتعهدات كيوتو ٢٠٠٨–٢٠١٢م، لكنَّ أممًا قليلة جدًّا من التي وافقت على الحد من الانبعاث القومي في هذه الفترة (تسمى «أمم المرفق ١») سوف تحققه.

ورغم هذه القرارات، حققت المفاوضات منذ بالي تقدمًا ضئيلًا عما قبل الورطة. تحقَّق تقدم ضئيل أو لم يتحقَّق أي تقدم في البنود الأكثر أهمية في الأجندة، طبيعة التعهدات الجديدة الخاصة بالتعديل بالنسبة للبلاد الصناعية والنامية والعلاقة بينها، وطبيعة التكنولوجيا والمبادرات المالية لدعم مساهمة الدول النامية. تقدمت مفاوضات التعديل بالنسبة للبلاد الصناعية والنامية على مسارات منفصلة، وقد أصرت الدول النامية على الإبقاء على عدم الربط بينها، وعلى الوفاء بتعهدات الدول الصناعية أولًا. في مناقشات الدول الصناعية في ٢٠٠٨م، واجهت المقترحات الأوروبية بتخفيض ٢٥–٤٠٪ بحلول ٢٠٢٠م مقاومة قوية من اليابان وروسيا وكندا وأستراليا وآخرين — كل من كانوا، باستثناء الولايات المتحدة، يتنقَّلون بين الإدارات وعدم المشاركة بشكلٍ فعَّال. وكان الإنجاز الأكبر حتى الآن الموافقة على «تمويل للتكيُّف» بفرض ضريبةٍ على مشاريع التعديل الدولية، لكن المبالغ المتضمنة أصغر بكثيرٍ من البلايين العشرة المطلوبة سنويًّا لدعم التعديل والتكيف في الدول النامية. يركز الآن كثيرٌ من المشاركين في خَفْض التوقعات بالنسبة لكوبنهاجن — كما حدث مرات كثيرة في تاريخ الجهود الدولية بشأن تغير المناخ — وإعادة تعريف الغرض منه بوصفه بداية ومفاوضات بنيوية جادة وليس إتمامها. ثمة مبادرة كبرى للولايات المتحدة يمكن أن تعطي زخمًا للمفاوضات، لكن ربما لم يَحِن الوقت للتسليم بنتائج ملموسة في كوبنهاجن.

من بين الممثلين الرئيسيين غير الحكوميين، تفضل جماعات البيئة تعديلًا مبكرًا وأقصى دعم للأهداف الأكثر صرامةً (على سبيل المثال، استقرار التركيز عند ٤٥٠ جزءًا في المليون مكافئ CO2، مع زيادة الاهتمام حتى بالأهداف الأكثر صرامةً مثل ٣٥٠ جزءًا في المليون)، والمتطلبات الأكثر حزمًا لفعل على المدى القريب (على سبيل المثال، نقطة النهاية العليا لوضع الاتحاد الأوروبي، تخفيض ٤٠٪ للبلاد الصناعية بحلول ٢٠٢٠م). إن أوضاع الصناعة في التعديل أكثر اختلاطًا، وقد كشفت عن حركة أكبر على مدى السنوات القليلة الماضية. في المناظرات المبكرة بشأن المناخ في تسعينيات القرن العشرين، عارض معظم ممثلي الصناعة التعديل بقوة، ودعم كثيرون الهيئات غير الحكومية الخاصة بالصناعة، وقد امتدَّت معارضتها إلى إنكار الدليل العلمي. ومن أبرز هذه الجماعات التحالف العالمي للمناخ Global Climate Coalition، وتشكل سنة ١٩٨٩م من جماعةٍ من منتجي الوقود الحفري والمصانع الرئيسية المستخدمة للطاقة. بدأ هذا التحالف في التفكك أواخر التسعينيات حين رفض بعض الأعضاء موقفه المتطرف، بداية من دو بونت وبي بي في ١٩٩٧م، ورويل دوتش/شل١ في ١٩٩٨م. وكان لخسارة اثنين من المنتجين الرئيسيين للبترول أهمية خاصة، حيث بدأت هذه الشركات في تغيير مواقفها بوصفها شركات للطاقة مسئولة بيئيًّا.
بدأ عدد قليل من قطاعات الأعمال دعم التعديل مبكرًا. وتشمل مجموعات صغيرة مثل صناعة التزحلق («دول الجزر الصغيرة small island states» للقطاع الخاص)، التي أيدت مشروع قانون للتعديل في ٢٠٠٣م، وأيضًا القطاعات الكبيرة مثل التأمين والتمويل، التي اعتبرت تغير المناخ خطرًا على قيمة الأصول، وفرصة للأسواق من أجل موارد مالية جديدة. في البداية كان نفوذ هذه المجموعات أقل من نفوذ المجموعات المناهضة للتعديل، أو التي تجلس على الحافة، لكن هذا التوازن تحول بمرور الزمن. زيادة عدد المصانع الكبيرة التي سلمت الآن بخطورة تغيُّر المناخ، وتحولت من معارضة التعديل ببساطة إلى تأييد مبادئ من أجل سياسات للتعديل يمكنهم التعايش معها — على سبيل المثال، ينبغي أن تكون هذه السياسات مربحة، ودولية، ومؤسسة على تقييمٍ علميٍّ للمخاطر، وتطبق على نطاقٍ واسعٍ وبالتساوي ولا تستهدف صناعات معينة. بحلول ٢٠٠٥م، شارك كثيرٌ من منتجي الطاقة، والأجهزة الكهربية، والشركات الصناعية الهيئات غير الحكومية المهتمة بالبيئة لدعم تخفيض الانبعاث بشكلٍ منظم. دعت إحدى هذه الجماعات، الشراكة للعمل من أجل البيئة Climate Action Partnership في الولايات المتحدة، إلى نظامٍ للذروة والتجارة في الولايات المتحدة في ٢٠٠٧م، واقترحت مخططًا لسياسة تفصيلية في أوائل ٢٠٠٩م، متضمنة تخفيضات على مراحل تصل إلى ٨٠٪ بحلول ٢٠٥٠م — وتشبه مقترحات الإدارة الحالية والكونجرس.

كما هو الحال دائمًا بالنسبة للجماعات الكبيرة المتنوعة، يعكس هذا التحول في وجهات نظر المؤسسات الصناعية باتجاه دعم حذر للتعديل، دوافعَ واهتماماتٍ متنوعة. ربما غيَّر بعض قادة الشركات وجهات نظرهم بإخلاصٍ بناءً على دليلٍ علميٍّ على المخاطر الشديدة لتغير المناخ. ربما يرى آخرون أن التعديل حتمي، عاجلًا أو آجلًا، ومن الحكمة أن يشاركوا في المفاوضات بشكلٍ بنَّاء. وربما رأى آخرون أن التحول إلى تكنولوجيات لطاقة آمنة للمناخ يحمل فرصًا للعمل. وربما يناور للاستيلاء على الريع الذي ستمنحه دون شك السياسات الصارمة للتعديل.

لهذا التحوُّل في مواقف الصناعة جماعة يسارية تقلَّصت في العدد والمكانة، تعارض بصلابةٍ العمل على تغير المناخ، مؤسسة أيضًا على أسباب واهتمامات متنوعة. ومنها، يدرك البعض أن أيَّ جهدٍ جادٍّ للتعديل يهدد اهتماماتهم الجوهرية. على سبيل المثال، يتضمن المعارضون الباقون بعض مَن يستثمرون بكثافة في الفحم أو الهيدروكربونات الثقيلة مثل الرمال النفطية، رغم أن بينهم أيضًا بعض الشركات تحمي مضاربتها وتعول على اصطياد الكربون — متشجعة تحت شعار «فحم نقي» — للحفاظ عليها. وتدرك هيئات أخرى وأفراد تغير المناخ والاستجابات المحتملة أساسًا فيما يتعلق بالأيديولوجيات السياسية المتنافسة، وهكذا من غير المحتمل أن يقنعهم دليل الأساس العلمي لمخاطر تغير المناخ، أو التصورات التكنولوجية لطاقة آمنة للمناخ. مع هذا المجال من الآراء، تحول بوضوح المشهد السياسي للفعل فيما يتعلق بتغير المناخ، لكنه بقيَ معقدًا ومثيرًا للخلاف.

(٢) سياسات تغير المناخ: المجادلات الباقية ضد الفعل

على ضوء التحول الحديث في الآراء السياسية إلى زيادة الاهتمام بمخاطر تغير المناخ والدعم المتزايد لفعل جادٍّ، من المعقول أن نتوقع تحول المناظرة من التساؤل عن القيام بفعل، إلى التساؤل عما ينبغي القيام به، لكن هذا ليس صحيحًا تمامًا. تبقى سياسات العمل من أجل المناخ مثيرة للخلاف، مع وجود كثيرين من الممثلين والهيئات لا يزالون يعارضون بقوة عمل أي شيء على المدى القريب. ورغم تقلص أعداد هذه الجماعة ومكانتها وتأثيرها، فإنها لا تزال تضم كثيرًا من الشخصيات البارزة في السياسة والحكومة، وأيضًا بعض قادة الصناعة والكثير من المنظمات غير الحكومية والأفراد. وتتنوع هذه المجموعات في أسباب معارضتها للفعل، لكن هناك اشتراك مهم في الادعاءات التي تدعمها لعدم القيام بفعل. والدليل العلمي على تغير المناخ والدعم السياسي للفعل يقوى، تصبح بعض المجادلات المقدمة متطرفة باطراد، وحادة وغير مستساغة، لكن هذه المجادلات لا يزال يعتنقها ممثلون سياسيون أقوياء يمارسون تأثيرًا مستمرًّا على الرأي العام؛ ومن ثم يجب تقديمها، وهو ما نقوم به في هذا القسم.

مثل الأوضاع السياسية الحالية، المقولات التي تطرح لمعارضة تَبنِّي عمل بشأن المناخ هدف متحرك. وتبقى بعض الاستمرارية، على مدار الزمن ومن قضية إلى أخرى، ومن المفيد أن نقدم لمحة عنها. نجمع هذه المجادلات في أربع مجموعات: هجمات على اتفاقية كيوتو؛ ومقولات أن التعديل الجاد باهظ التكاليف؛ وإنكار الدليل العلمي بشأن تغير المناخ وما يرتبط بهذا الإنكار من هجمات على العمليات والمؤسسات العلمية؛ ومجادلات نوعية بشأن الشك وأهميته بالنسبة للقيام أو عدم القيام بعمل. يلخص هذا القسم وينتقد هذه المجادلات بدوره.

نوع أخير من المقولات، وهو يزداد بروزًا والمجادلات الأخرى يصبح الدفاع عنها متعذرًا بشكل مطرد، يعتمد على أدوات بلاغية خالصة دون أساس جوهري. على سبيل المثال، يضع مؤيدو قضية المناخ في صيغة سؤال، «هل تغيُّر المناخ يمثل أزمة؟» وتعتمد الاستجابة لهذا بشكل أساسي على مسألة تعريف ما يمثل أزمة، منطقة يتميز فيها المُناظر الأكثر مهارة، وليس المُناظر الذي يحمل دليلًا علميًّا أقوى ليقدمه عن مخاطر تغير المناخ. هذه الحيل في المناظرة تستدعي بشكل متكرر الأُطر أو الرموز السياسية العريضة، التي تعالج تغير المناخ بوصفه صراعًا بين أيديولوجيات سياسية، لا قضية تعتمد على تقييم الدليل العلمي أو الآراء العلمية، بشأن الفعل الذي يكفله هذا الدليل. وكثيرًا ما تصاحبها أيضًا هجمات شخصية على شخصيات عامة يؤيدون القيام بعمل قوي، مثل نائب الرئيس السابق أليجور أو جيمس هنسن، العالم في ناسا. يمكن أن تكون هذه الحيل قوية في المناظرات العامة، خاصة في تحريك الدعم على أساس انتماءات سياسية جاهزة، لكنها لا تحتوي على محتوًى جوهريٍّ ومن ثم لن نطرحها هنا.

(٢-١) الهجمات على اتفاقية كيوتو

رغم أن اتفاقية كيوتو ونقاط ضعفها تتناقص أهميتها، بوصفها بؤرة لصناعة السياسة والمفاوضات تتجاوز نهاية فترة تعهدات كيوتو في ٢٠١٢م، لا تزال الهجمات على الاتفاقية تتكرر في المجادلات ضد التعديل. كثيرًا ما كانت الاتفاقية، لسنوات عديدة بعد تبنيها، تهاجَم بوصفها «تحمل عيوبًا قاتلة». وقد صارت معظم هذه الهجمات في غير موضعها؛ حيث صححت المفاوضات التالية أكثر نقاط ضعف الاتفاقية حدة، لكن استمرت ثلاثة انتقادات ضد تعهداتها الجوهرية بالتعديل: عشوائية وغير مؤسسة على العلم؛ بالغة القوة وبالغة الضعف في الوقت ذاته — بالغة القوة وباهظة التكاليف على المدى القريب، لكنها أضعف من أن تحقق تخفيضًا ذا أهمية على المدى القريب في تغير المناخ العالمي.

من هذه الانتقادات، أول اثنين صحيحان حقًّا لكنهما ليسا كافيَين أبدًا لاتخاذ موقف برفض الاتفاقية. وكما ناقشنا في الفصل الرابع، إن العثور على أساس مقبول لجهد مشترك بين الأمم من أكبر التحديات في مفاوضات تغير المناخ. فرضت اتفاقية كيوتو أهداف انبعاث قريبة المدى على الدول الصناعية فقط لأسباب عملية ومبدئية، لكنها فعلت ذلك في خطوة أولى فقط. وفُهِم على نطاق واسع أن مسئولية البلاد النامية في المشاركة في جهود التعديل ينبغي أن تنمو مع نمو اقتصادياتها وانبعاثها — السؤال متى وبأي قدر. وتبقى هذه النقطة الأكثر أهمية، وأكثر إثارة للخلاف في المفاوضات الحالية.

وصحيح أيضًا أن حدود الانبعاث التي نصت عليها الاتفاقية عشوائية؛ لأنها تسوية قائمة على مساومة بين أمم كانت تسعى إلى أهداف أكثر صرامة، وأخرى تسعى إلى أهداف أضعف أو رفض أي هدف. وهي في هذا تشبه كل النتائج التي يتم التفاوض بشأنها سياسيًّا: عشوائية اتفاقية كيوتو ليست نقطة ضعف خاصة بها. والأهداف غير «مؤسسة على العلم»؛ لأن المعرفة العلمية لا يمكن أن تحدد هدفًا خاصًّا. يمكن للعلم أن يوجه القرارات بشأن الأهداف، بتصور نتائج المسارات البديلة للانبعاث — تغير المناخ بشكل أسرع نتيجة ضعف ضوابط الانبعاث، تغير أبطأ من التغيرات القوية. ربما حتى يحدد العلم مسارات الانبعاث التي تحمل مخاطر زائدة لمفاجآت تغيرات المناخ، رغم أن ذلك يتطلب تقدمًا جوهريًّا عن المعرفة الحالية، لكن من دون عتبة بيئية معروفة بشكلٍ يوثق فيه بأن الاتفاق التام ينبغي تجنُّبه، لا يوجد هدفٌ للانبعاث «مؤسس على العلم» أكثر من أهدافٍ أخرى أو أقل منها. يمكن لهذا الاتهام أن يوجَّه ضد أي هدف، لكنه أساسًا بلا معنًى.

تغير الاتهام الثالث الموجه ضد أهداف الاتفاقية — أنها قوية جدًّا وضعيفة جدًّا — بمرور الزمن منذ تبنِّي الاتفاقية في ١٩٩٧م. في ذلك الوقت، مع أكثر من عقد من إتاحة الوقت لتحقيق الأهداف، بدت طموحةً وقابلةً للتحقيق، لكن بمرور السنوات دون جهود جادَّة للتعديل واستمرار الانبعاث في النمو، صارت الأهداف مكلفةً باطراد وفي النهاية من المتعذر تحقيقها. في الوقت ذاته، ثبتت الأهداف الانبعاث فقط على مدًى واحدٍ قريب، فترة خمس سنوات، بينما يتطلَّب الاستقرار أن ينخفض الانبعاث بحدَّةٍ على مدار عقودٍ عديدة. وهكذا كانت الأهداف أضعفَ من أن تؤدي إلى استقرار تغير المناخ؛ لأن الهدف منها لم يكن حلًّا شاملًا، بل خطوة أولى يجب تقويتها بمرور الوقت. بهذه الصورة تعمل المعاهدات البيئية الفعَّالة.

تتجاوز الأحداث الآن هذه الهجمات على كيوتو، والمفاوضات تعمل باتجاه اتفاقٍ جديدٍ بشأن المناخ، لكنها تبقى مناسبة لأن انتقادات مماثلة يمكن، ومن المرجَّح، أن توجه ضد أي اتفاقٍ في المستقبل يتضمَّن أهدافًا تتعلَّق بالانبعاث. سوف تعكس مرة أخرى بنود الاتفاق القادم بشأن المناخ المساومة السياسية بين ممثلين يتبنون آراء مختلفة عن حجم التعديل الذي يبرِّره الدليل؛ وبالتالي، تكون عشوائية مرة أخرى، وسياسية، وغير مؤسسةٍ على العلم، بالضبط مثل أهداف كيوتو. وبشكلٍ مماثل، يكون الاتفاق القادم بشأن المناخ مرةً أخرى مجرد خطوةٍ تالية — على أمل أن تكون أكثر جدية — تفرض تكاليف على المدى القريب، لكن تبقى في ذاتها أضعف من أن تحدث استقرارًا في المناخ؛ وبالتالي تكون معرضةً للهجمات ذاتها التي وُجِّهت لاتفاقية كيوتو: بتجاهل الطبيعة التطورية لأي اتفاقٍ بيئي، والتعامل معه بوصفه الحل الوحيد الشامل، وليس مجرد خطوةٍ على مسارٍ يدرك بشكل غير تامٍّ باتجاه التغيرات المطلوبة على نطاق كبير؛ ومقارنته بحلٍّ مثالي يتعذَّر تحقيقه حاليًّا، بدلًا من الاختيارات البديلة المتاحة بشكلٍ معقول. ستبقى هذه الهجمات البلاغية ويمكن توقُّعها، ولا يعني هذا أنها تتمتَّع بأفضلية.

(٢-٢) سوف يكون التعديل باهظ التكاليف

ثمة مجموعةٌ ثانية من المجادلات حول مقولة عدم القيام بفعلٍ وهي أن جهدًا جادًّا للتعديل سوف يكون باهظ التكاليف ومدمِّرًا اقتصاديًّا. يستخدم بعض هذه المجادلات فرضيات متحيزة لتضخيم التكاليف الحالية، ولا تركز فرضيات أخرى إلا على تكاليف التعديل دون اعتبارٍ للمنافع التي يجلبها التعديل بتجنُّب مخاطر تغيُّر المناخ.

ناقشنا التقديرات الحالية لتكاليف التعديل في الفصل الرابع. إن التعديل بالقدر المطلوب لاستقرار المناخ عند مستويات تتصف بحصافة معقولة مكلفًا، رغم أن معظم التحليلات توحي بأن التكاليف سوف تكون يسيرةً — خسارة ١ أو ٢٪ من الناتج الاقتصادي في المستقبل. والكثير من تكنولوجيات خفض الانبعاث متاحة أو قيد التطوير، تقدم قائمة كبيرة من الاحتمالات تمتد بسلاسة من الصغير والفوري إلى الكبير وطويل المدى. إن تنوُّع الخيارات التكنولوجية المتاحة حاسم فيما يتعلق بثقتنا في أن تكون التكاليف يسيرة؛ لأن ذلك يعني أن إمكانية التخفيضات الكبيرة لا تعتمد على تكنولوجيا واحدة. ومع ذلك لن تكون التكاليف موزعةً بالتساوي عبر الاقتصاد: تهتم القطاعات التي يحتمل أن تتحمَّل تكاليف أعلى من التحول باتجاه طاقة آمنة للمناخ، بتضخيم التكاليف للمجتمع عمومًا، لكن التكاليف المرتفعة على مستوى القطاعات تمثِّل مشكلةً سياسيةً في العثور على توزيع مقبول للتكاليف، وليست سببًا لتجنُّب العمل تمامًا.

إن تكاليف التعديل أيضًا موضع شك كبير، كما توضح الدراسات التي لُخِّصتْ في الفصل الرابع؛ وبالتالي من السهل توليد تقديرات للتكاليف أعلى بكثير، على سبيل المثال، بوضع مجموعةٍ محدودةٍ من التكنولوجيات في الاعتبار، أو بتركيز انتقائي على عيوب كل تكنولوجيا وأوجه قصورها (وخاصة التكنولوجيات التي لم تكتمل)، أو بتجاهل الابتكار، والاهتمام فقط بالتكنولوجيات التجارية اليوم. ومن السهل أيضًا إنتاج تقديرات مرتفعة للتكلفة بافتراض سياسات تعديل مصممة بشكلٍ سيئ، لكن بقدر ما تعتمد شكوك التكاليف على تفاصيل السياسة، فإن ذلك يقدم دليلًا لكيفية تصميم سياساتٍ جيدة. وبقدر ما يعتمد الشك بشأن التكاليف على الخصائص الاقتصادية والتكنولوجية المجهولة اليوم، يبدو الآن جزء ضئيل من المشهد فيما يتعلق بمزيدٍ من التحسين لتوقعات التكاليف دون البَدْء في بذل الجهد. يتطلب أي أمل لتحقيق التخفيضات المطلوبة البدء فورًا رغم الشكوك التي يتعذَّر تجنُّبها، وبعد ذلك تكييف القرارات والسياسات ونحن نتعلم أكثر.

أخيرًا، لا تُضمَن أية تكلفة للتعديل إذا كان التعديل لا يجلب منافع؛ وبالتالي يستحيل أن نقدِّر إن كان مستوًى لجهد التعديل مكلفًا جدًّا دون أن نضع في الاعتبار أيضًا منافعه. هكذا ترتبط المقولات بأن تكاليف الحد من تغير المناخ كبيرةٌ جدًّا بالمقولات بأن المنافع من وراء القيام بذلك صغيرة، أي المقولات عن شدة تغيُّر المناخ والتأثيرات التي يمكن تجنبها بالتعديل. وهذه بدورها ترتبط بالمجادلات الأكثر شيوعًا ضد القيام بفعل لمواجهة تغير المناخ، تلك المجادلات التي تنكر الأساس العلمي للمخاطر.

(٢-٣) العودة إلى الإنكار العلمي: الهجوم على الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغيُّر المناخ (IPCC)

من كل المجادلات التي أثيرت ضد القيام بعمل بشأن تغير المناخ، الهدف الأبرز علم المناخ، سواء إنكار نقاط خاصة من المعرفة العلمية، أو الهجوم على استقامة العلماء وعمليات التقييم العلمي التي توصل هذه المعرفة. لخص القسم [المقولات المضادة] مقولات شائعة مقدمة في ساحات السياسة تنكر نقاطًا معينة من معرفة علم المناخ، وبيَّن خطأها. ويفحص هذا القسم الاستراتيجية البلاغية ذات المستوى الأعلى التي تتلاءم معها هذه المقولات الخاصة، والهجمات على العلماء وهيئات التقييم العلمي التي تصاحبها بشكلٍ مطَّرد.

تتبع المقولات الخاصة التي تنكر حقيقة تغير المناخ وخطورته بنية بلاغية من أربعة أجزاء، من شكل يسميه المحامون «جدل في البديل». تعلن هذه المقولات في المقام الأول أن تغير المناخ لا يحدث؛ والثاني، وحتى إذا كان يحدث فهو ناجم عن سبب طبيعي وليس عن سبب إنساني؛ والثالث، وحتى إذا كان الإنسان سبب حدوثه، فإنه لن يتغير أكثر بكثير، لكنه سيكون محدودًا دون تدخُّل نتيجة لشكل ما من التغذية الرجعية السلبية؛ والرابع، حتى لو كانت هذه التغيرات كبيرة، فسوف تكون في حالة توازن ولن تكون ضارَّةً بشكل خاص وربما حتى تكون مفيدة.

تكرر طرح مقولات مماثلة عن قضايا بيئيةٍ أخرى تنكر المعرفة العلمية بالبنية البلاغية نفسها، حينما أنتجت هذه القضايا مناظرات سياسية متنافسة. بشكل يحمل مفارقة، غالبًا ما تصبح هذه المقولات أكثر بروزًا والمعرفة العلمية تقوى. ومثل الحملات السياسية السلبية، إساءة تقديم المعرفة العلمية في المناظرات السياسية مسألة عالية المخاطر، لكنها استراتيجية فعالة بشكل احتمالي متاحة للجانب الخاسر. تقدم طبقة الأوزون مرة أخرى توازنًا قويًّا ودالًّا. في أوائل تسعينيات القرن العشرين، والإجماع السياسي يتطوَّر لمواجهة المواد الكيميائية التي تستنفد الأوزون — مؤسسًا على اتفاقٍ قوي — وإن يكن غير كامل — المعرفة العلمية بشأن مساهمتها في استنفاد الأوزون، طوَّر ردُّ فعل معادٍ وقوي، انتشر على نطاق واسع في المناظرات السياسية، العديدَ من الشكوك والخلافات العلمية الحقيقية المتبقية، مع مجموعة متنوعة من المقولات المثيرة للسخرية التي فُنِّدت لفترةٍ طويلة، في محاولة لمقاومة الإجماع السياسي المتنامي. أكد المشاركون في رد الفعل بشأن الأوزون — بما فيهم أفراد يلعبون الآن الدور ذاته في مناظرة المناخ — أن الأوزون لا يتناقص، وأن أي نقص لوحظ هو نتيجة تذبذبات طبيعية، وأن الخسارة مستقبلًا محدودة في ذاتها، وأن تأثيرات فَقْد الأوزون ستكون متواضعة أو حتى مفيدة، وقد بالغ فيها المتشائمون والانتهازيون. وبشكل مماثل في تغير المناخ، مع نمو الدليل على حقيقة تغير المناخ وخطورته بقوة، يرى معظم المواطنين وصناع السياسة أنه يجب ضمان استجابة جادة، واضطر من يستخدمون المقولات العلمية لمعارضة القيام بعمل إلى اللجوء باطراد إلى مقولات متحيزة ومضللة، أو مقولات زائفة تمامًا.

يستخدم المؤيدون هذه الحيل المتعلقة بتقديم مضلل للمعرفة العلمية، أو حجب المسائل الراسخة أو إنكارها؛ لأنها تؤثر غالبًا. تحظى المقولات التي تسمَّى «علمية» باحترام خاصٍّ في المناظرات السياسية وتنجح غالبًا في الإقناع، خاصة حين تدعم آراء سياسية سابقة للمستمعين، أو يقدمها شخص يعتنق قيمًا سياسية مماثلة؛ ومن ثم فهي حوافز قوية لحشو المجادلات السياسية بمقولات علمية — مقولات جيدة إذا كنت تعتنقها، سيئة إذا كنت لا تعتنقها. بالإضافة إلى ذلك، خطر تكذيبك لصالح مقولات علمية ضعيفة أو متحيزة أو مفندة صغير؛ لأن الدليل والمناظرة في ساحات السياسة أكثر رخاوة مما في الساحات العلمية. ونتيجة الاستخدام الواسع لهذه الحيل أن الكثير من المواطنين يؤمنون بأن النقاط الرئيسية في علم المناخ مثيرةٌ للخلاف وموضع شكٍّ إلى حدٍّ كبير، وهي في الحقيقة معروفة بوضوح وموضع اتفاقٍ قوي. في الوقت ذاته، أعاق انحرافُ المناظرات السياسية إلى المجادلات العلمية الخادعة، مناقشةَ المسائل الاقتصادية والسياسية، الإيجابية والمعيارية، التي ينبغي أن تُجرى عليها مناظرة عامة أكثر قوة.

رغم أن اختفاء هذه الحِيَل غير محتمل، فإن تأثيرها يمكن أن يتقلَّص إذا قيَّم المشاركون في المناظرات السياسية هذه المقولات بشكلٍ أكثر تشككًا. إن تناول المقولات العلمية بتشكُّكٍ في المناظرات السياسية أداة ذات قيمة — بالنسبة للمقولات التي يُروَّج لها بوصفها «مثيرة للتشكك» وبالنسبة للمقولات الأخرى — حتى لو كان الفحص الذي يعتمد على التشكُّك من قِبل ممثِّلي السياسة لا يمكن أن يناظر القوة التي تُدقَّق بها في الجلسات العلمية. إن التشكُّك باتجاه المجادلة التي تتم مناصرتها فضيلة، ومما يدعو للسخرية أن الذين يقدمون مقولاتٍ علميةً مشوهة عن تغير المناخ يسمون أنفسهم «متشككين»، حيث يعتمد نجاحهم على صُنَّاع السياسة والمواطنين، وليس فحص مقولاتهم بدقة شديدة.

يعني التشكك العملي في مناظرةٍ سياسيةٍ التساؤل حول أصل المقولة المطروحة، والمفترض أنها علمية وحول أساسها. مَن المصدر أو ما المصدر؟ وهل هناك أسباب يمكن تأملها بوصفك خبيرًا نزيهًا؟ ربما يكون الحصول على شهاداتٍ علميةٍ مؤشرًا جيدًا للخبرة، اعتمادًا على المجال، لكنه ليس ضمانًا للنزاهة. هل تتأسَّس المقولة على بحثٍ منشورٍ خضع لمراجعة الرفاق؟ إن المقولات التي تتأسَّس على أعمالٍ علميةٍ منشورة خضعت لمراجعة الرفاق؛ أكثر مصداقية عمومًا — لكن ذلك لا يعني أنها صحيحة دائمًا — بينما المقولات المقدمة بشكلٍ حصري أو بشكل أساسي في مطبوعات منشورة بشكل ذاتي (على سبيل المثال، الدوريات غير العلمية، أو مطبوعات هيئات الدفاع، أو مقالات الرأي في الصحف، أو سجلات الويب) — أقل مصداقية عادة، إلا إذا كانت تنقل نتائج من مصادر أخرى خضعت لمراجعة الرفاق. هل تم تأكيد المقولة بدراسات إضافية خضعت لمراجعة الرفاق، وقُبلت على نطاق واسع من المجموعة العلمية المناسبة؟ هل هناك آراء علمية معارضة؟ وإذا كان الحال كذلك، من يعتنقها — ما عدد الناس، أو ما مستوى الخبرة بالموضوع — وما الأسس لقول إن رأيًا ما أو آخر صحيح؟ ينبغي لأطراف مناظرة سياسية طرح هذه الأسئلة، بالضبط كما يطرحها العلماء في تقييم مقولة علمية. المقولات بأن بحثًا علميًّا واحدًا خضع لمراجعة الرفاق يمثِّل معرفةً مستقرة، أو، بشكلٍ أكثر تطرفًا، تسقط فهمًا راسخًا في ذاتها، تضمن تشككًا قويًّا. ويصحُّ هذا أيضًا على أي مصدرٍ يستخدم لغةً انفعاليةً أو يلجأ إلى الهجمات الشخصية، أو يقول إنه لا حدود لليقين في مقولاته أو مداها، أو لا يعلن الدليل الذي يضعف مقولته. وأخيرًا، من المهم خاصةً أن تتشكَّك في أصدقائك، وفي المقولات التي يبدو أنها تدعم مبادئك أو مواقفك السياسية. إنك أكثر عرضة لخطر التضليل بالمقولات العلمية الخادعة أو الخطأ التي تتسق مع معتقداتك أو ميولك السياسية، بصرف النظر عن طبيعتها، لكن حقيقية العالَم، وحقيقية المعرفة العلمية بشأنه، لا توضع في القيم السياسية.

وبصرف النظر عن كيفية اتباع ممثلي السياسة لهذه النصيحة، لا يمكن تقييم المقولات العلمية في المناظرات السياسية بالدقة التي تقيَّم بها في جلسات علمية. وهذا هو السبب في أن مناظرة سياسة المناخ تتطلب تقييمات علمية جديرة بالثقة، ناتجة عن عمليات ذات مصداقية وشرعية وبارزة، وتتمتع ببعض الحماية ضد الهجوم الحزبي. كما ناقشنا في القسم [الحد من الأضرار: دور التقييم العلمي]، تلخص التقييماتُ وتؤلف وتقيم المعرفة العلمية لتسترشد بها القرارات أو المناظرات السياسية. تقدم IPCC التقييمات العلمية بالنسبة لتغير المناخ، لكن IPCC تخضع باطِّراد لهجوم من الممثلين أنفسهم الذين ينكرون النقاط الرئيسية للمعرفة العلمية بشأن تغير المناخ.
بمعنى أن أي شخص يودُّ أن يحافظ على أساس علمي مفترض لرفض العمل بشأن المناخ؛ عليه أن يهاجم تكامل IPCC، حيث إن عدم القيام بذلك يسلم بنقاط المعرفة العلمية التي تعزِّز الاهتمامات الحالية. والخطر الحقيقي للتحيُّز في التقييمات العلمية لقضايا البيئة يبرِّر الفحص بوضوح. من الصعب معالجة تقييم لتحقيق معايير علمية مرتفعة، وتقديم معلومات مفيدة للسياسة أيضًا، ولم تنجح التقييمات دائمًا. بالإضافة إلى ذلك، يتمنى كثيرٌ من الممثلين أن يمارسوا تأثيرًا سياسيًّا على تقييمات IPCC إذا استطاعوا، لكن الاتهامات ضد IPCC لم تثبت أمام الفحص.
أخذت هذه الاتهامات ثلاثة أشكال متميزة. قليل منها هاجم IPCC جملة، مدعيًا أنها في الحقيقة ليست هيئة علمية، بل هيئة سياسية، متحيزة لتضخيم مخاطر تغير المناخ وإخماد الشك والمعارضة. حتى لحظة تفحص لعملية IPCC وتقاريرها توضح أن مثل هذه الهجمات الشاملة زائفة بوضوح. جوهر تقييمات IPCC مراجعات علمية شاملة في قضايا محددة تتعلق بتغير المناخ، يجري كل منها فريق من عشرات الخبراء في ذلك الموضوع من أمم متعددة ويراجعها عشرات آخرون. على ضوء عدد العلماء المشاركين واتساع آفاقهم ومكانتهم، والدقة والنظرة النقدية التي يراجعون بها الأدبيات العلمية، والشدة التي تراجع بها من قِبَل الرفاق — مع إتاحة كل المراجعات واستجابات المؤلفين منشورة — تقييمات IPCC تصريحات محددة لعلم المناخ الحالي، وتُستخدَم على نطاق واسع بوصفها مراجع علمية، وتُقبَل بوصفها جديرة بالثقة فعليًّا بواسطة كل ممثلي السياسة المنشغلين بالموضوع.
وكان الاتهام الثاني أكثر براعة وهو أنه بينما التقارير الأساسية الصادرة عن IPCC مراجعات علمية نزيهة، فإن التصريحات الملخصة — (وخاصة الملخص) المعدة لصُنَّاع السياسة، وهو ملخص قصير وغير تقني يضع مسوداته ممثلون قوميون في جلسة بكامل الأعضاء — يشوه التقرير الكامل بتضخيم المخاطر والتقليل من شأن الشكوك والشروط، حاقنًا تحيزًا متشائمًا عن علم المناخ وموقفًا سياسيًّا نشطًا. يستحق هذا الاتهام مزيدًا من الفحص الجاد؛ حيث وُجِدت حالات سابقة شوهت فيها ملخصاتُ التقييمات العلمية في قضايا بيئية أخرى التقريرَ الرئيسي — رغم أن هذه الحالات السابقة شملت ملخَّصات قلَّلت من شأن المخاطر البيئية، ولم تبالغ فيها.
لكن هذا الاتهام ليس أفضل من الاتهام الأكثر شمولًا فيما يعتنقه من تحيُّزٍ سياسيٍّ ضد IPCC كلها. تخفي الملخصات دائمًا التفاصيل والشروط: تفعل ذلك؛ لأنها ملخصات. في كتابة مسودات ملخصات IPCC، للمؤلفين العلميين الرئيسيين حق الفيتو فيما يتعلق بالتغيرات المقترحة، بدقة للحماية من إدخال خطأ أو تحيز سياسي في هذه المرحلة. وغير هذه الحماية، يضمن نطاق المشاركة في العملية وشفافيتها أن أية محاولة لجعل نص الملخص متحيزًا لموقف جماعة يواجه بضغوط معارضة، ويحدُّ بشدةٍ بالطبيعة المفتوحة للتداولات. إعادة فحص ملخصات IPCC بشكل متكرر — بما في ذلك مراجعة تقييمات ٢٠٠١م التي طلبتها بشكل خاص إدارة بوش من الأكاديمية القومية للعلوم، وجدت أنها تمثل بنزاهةٍ التقرير الكامل، واضعة في الاعتبار الحاجة إلى تلخيص تقارير من آلاف الصفحات في بضع صفحات مكتوبة لجمهور غير متخصص.
الاتهام الأخير، الموجَّه ضد IPCC وعلماء المناخ بشكل أكثر عمومية، أنهم يضخمون الثقة والتشاؤم لتقديم اهتماماتهم الخاصة، أساسًا لضمان مزيدٍ من تمويل البحث. ذكرت في البداية في رواية على قائمة أفضل المبيعات — أي في عمل قصصي — وكانت هذه التهمة حاضرةً فيما بعد بوصفها حقيقة في عدة مقالات مؤيدة، وفي أعمدة الرأي في الصحف، وبشكل أحدث بعد انتشار بضعة مقتطفاتٍ محيرةٍ من أرشيف بريد إلكتروني سُرِق من وحدة بريطانية لأبحاث المناخ في أواخر ٢٠٠٩م. والتهمة مثيرةٌ للسخرية لأسبابٍ كثيرة، من أوضحها أنه إذا رغب علماء المناخ في زيادة تمويل توقعاتهم بشكل فاسد، فهذه ليست طريقة فعالة لتحقيق ذلك. النتيجة السياسية الرئيسية للمعرفة العلمية الحالية بشأن مخاطر المناخ أن الجهود الجادة للحد من تغير المناخ والاستجابة له مبررة، لكن ماذا تعني هذه الجهود للبحث العلمي؟ من المحتمل أن تتضمَّن الجهود زيادةً كبيرةً في البحث في تكنولوجيات طاقة آمنة للمناخ، وفي القطاعات المتأثرة بتأثيرات المناخ وطرق خفض تعرُّضها لهذه التأثيرات، لكن في عالمٍ مقيدٍ بميزانية، من المحتمل أن ذلك يعني دعمًا أقل لأبحاث المناخ بدرجة أكبر — حتى لو كان هناك مبرر جيد للتوسع في أبحاثٍ في علم المناخ؛ وبالتالي حين يعلن علماء المناخ أن المعرفة الحالية تدعم جهودًا جادة للحد من مخاطر تغير المناخ؛ فهم يجادلون ضد اهتماماتهم المهنية. وينبغي أن يُضفي هذا على نتائجهم مصداقية أكبر.
تقع كل هذه الهجمات على عملية التقييم العلمي في أحد خطأَيْن؛ الخطأ الأول: أن تتخيَّل احتمال أن يتآمر علماء المناخ في العالم للكذب بشأن ما يعرفون — بصرف النظر عمَّا إذا كان دافعهم فرض ميولهم السياسية على العالم، أو تقديم اهتماماتهم الفاسدة، أو أن حكومات نشطة تجبرهم بشكل ما — على أن يبقى هذا سرًّا. حتى إذا أرادوا ذلك، فهناك أسباب عديدة تجعلهم لا يستطيعون ذلك. يزدهر العلم على التبادل الصريح للأفكار والمجادلات، ويكافئ مَن يأتون بأفكار جديدة مقنعة ومقولات مضادة — طالما خضعت لقواعد المجادلة النزيهة والدليل. العلماء المشاركون في IPCC كثيرون، ومتنوِّعو القوميات والآراء السياسية، وأكثر معرفةً واحترامًا بكثيرٍ من القليل من الهامشيين والانتهازيين الذين يختلقون اتهامات تحمل طابع المؤامرة. والقول بأن مثل تلك المجموعة يمكن أن تكون تحت تأثير الإغواء أو الضلالات، أو الخوف لدعم أخرق لمقولات علمية خطأ — وأنهم من ثَم يمكن أن يحتفظوا بهذا السلوك الفاسد سرًّا — لا يُحتمل.
الخطأ الثاني الأساسي هو الفشل في فَهْم أهمية أن IPCC هيئة تقييم علمي، وليست هيئة علمية صرفة. تقع هيئات التقييم بين عالمَي العلم والسياسة، ويجب أن تعالج التوترات الناجمة عن ذلك. تختلف مهمة توليف المعرفة الحالية في شكلٍ خاضعٍ لقواعد العلم، ومفيد أيضًا للسياسة عن كتابة مراجعةٍ علميةٍ وأكثر تحديًا. اتبعت IPCC هذا التوازن من خلال عمليات تكون الحكومات مسئولةً عنها اسميًّا، لكنها لا تمارس أي تأثير على التقييمات الكاملة، وهي مراجعات علمية تمامًا. عالجَت تقييمات IPCC، مع كل التحديات التي تواجهها، هذه التوترات بفاعلية. حافظت مشاوراتها على مستوًى مؤثرٍ من الاستقلال عن التدخل السياسي، رغم البنية التنظيمية التي يمكن أن تهدد هذا الاستقلال. إلى حد أن التوليف الحقيقي للتصريحات عن حالة المعرفة العلمية بشأن تغير المناخ في كل مكان يوجد في تقييمات IPCC. إنها، والتقييمات العلمية الأخرى التي تحقق نوعية مماثلة من المشاركة والمشاورات ومراجعة الرفاق، «المعيار الذهبي» بالثقة في التصريحات العلمية المرتبطة بالسياسة، وليس أمام ممثلي السياسة أفضل من الاعتماد عليها.
في الحقيقة، إذا حدث أي تحيز في عملية IPCC، فمن المحتمل أن ينشأ عن النزعة المحافظة العامة لدى العلماء في تقييم المقولات الجديدة؛ ومن ثم يحدث في الاتجاه المضاد لما تزعمه هذه الانتقادات. ومن الناحية الأخرى، تمنح هذه النزعة المحافظة سلطة هائلة وكاسحة لاستنتاجات التقييمات. وربما تكون مسئولة عن الطريقة الوحيدة التي ربما تقصر بها IPCC في مسئولياتها: من خلال قدر كبير من الحذر العلمي، ربما لا تتحدث بوضوح كافٍ في قضايا ذات أهمية سياسية كبيرة لم يتم حلها علميًّا بشكل تام. كانت أخطر الخلافات حول التقييم الرابع من هذا النوع: إغفال احتمال انهيار ألواح الجليد من توقعات ارتفاع مستوى البحر، وإغفال سيناريوهات الانبعاث الأعلى من ملخص الرسوم البيانية عن توقعات تغير المناخ في المستقبل.

(٢-٤) مجادلات الشك الشامل

إنكار نقاط خاصة في المعرفة العلمية والهجوم على تكامل تقييمات علمية؛ حيلتان فجَّتان وخطرتان نسبيًّا. سعى أحيانًا المعارضون المحنكون للقيام بعمل بدلًا من ذلك لتصوير أن مجادلاتهم «علمية» دون تقديم أية مقولة علمية خاصة يمكن تفنيدها. ثمة طريقة قوية للقيام بذلك وتتمثل في الإشارة إلى الشك في علم المناخ عمومًا، بدلًا من الاعتماد على نقطة معينة. وكان ذلك شائعًا في حيل المناظرة في كثير من قضايا البيئة، وصار بارزًا خاصة منذ انتخابات ٢٠٠٤م في الولايات المتحدة، حين نصحت مذكرة سياسية تم تسريبها المرشحين الجمهوريين بشأن كيفية التعامل مع تغير المناخ. قدمت المذكرة تصريحًا مباشرًا بشكل مذهل عن هذه الاستراتيجية وأهدافها.

«تبقى المناظرة العلمية مفتوحة. يعتقد المصوتون أنه لا يوجد إجماع في المجتمع العلمي حول ارتفاع حرارة العالم. وعلى الجماهير أن تؤمن بأن القضايا العلمية مستقرة، وأن آراءها حول ارتفاع حرارة العالم تتغير طبقًا لذلك؛ ومن ثم تحتاجون إلى الاستمرار في جعل الافتقار إلى اليقين العلمي قضية أساسية في المناظرة … تنتهي المناظرة العلمية [أمامنا] لكنها لم تغلق بعد. لا تزال هناك نافذة لفرصة تحدي العلم.»٢

أثارت المجادلة ثلاث نقاط؛ الأولى: توجد شكوك كبيرة في المعرفة العلمية حول تغير المناخ وتأثيرات الإنسان عليه. الثانية: وبتأمل هذه الشكوك الهائلة، سيكون القيام بأعمال مكلفة للحد من الانبعاث ونحن لا نعرف ما إن كانت مبررة، مسألة تفتقر إلى الشعور بالمسئولية. الثالثة: علينا بدلًا من ذلك السعي إلى خفض الشكوك بمزيد من البحث، قبل أن نجعل التراجع عن هذه التعهدات مستحيلًا.

المقولة الأولى: هناك شك هائل في المعرفة العلمية الحالية حول تغير المناخ؛ صحيحة. حين أعلن الرئيس بوش أن الولايات المتحدة لن تصدق على اتفاقية كيوتو صرح قائلًا: «لا نعرف مدى ما قد يكون لتأثير التذبذبات الطبيعية على ارتفاع الحرارة. لا نعرف بأي قدر يمكن لمناخنا أن يتغير، أو بأي قدر يتغير، في المستقبل. لا نعرف بأية سرعة يحدث التغير، أو حتى كيف يمكن أن تؤثر بعض أفعالنا عليه … وأخيرًا، لا يمكن لأحد أن يعرف بأي قدر من اليقين ما يمثل مستوًى خطيرًا في ارتفاع الحرارة؛ ومن ثم المستوى الذي ينبغي تجنُّبه.»٣ كانت هذه التصريحات صحيحة تمامًا حين أعلنها في ٢٠٠١م، وتبقى صحيحة اليوم.

لكن وصف هذا الشك بأنه هائل، أو الإيحاء بأنه لا يوجد شيء ذو أهمية نعرفه عن تغير المناخ، خطأ ببساطة. كما ناقشنا في الفصل الثالث، هناك نقاط كثيرة في علم المناخ تتقدم فيها المعرفة تمامًا، وعدة نقاط أساسية — مثل إن كانت حرارة المناخ ترتفع، وإن كانت أنشطة الإنسان مسئولة أساسًا، وإن كان من المحتمل أن تستمر الحرارة في الارتفاع — راسخة بما لا يدع مجالًا للشك. لا نعرف كل شيء — وهو ما يعني أنه لن يكون هناك شك — لكننا نعرف الكثير.

بالإضافة إلى ذلك، النقطة الأساسية في هذه المجادلة — يتطلب تبرير الفعل استبعاد الشك العلمي، أو على الأقل تحقيق مستوًى أعلى من الثقة والدقة بشأن مستقبل المناخ وتأثيراته، مما تقدمه المعرفة الحالية — ليست مجادلة علمية إطلاقًا، بل حكمًا معياريًّا بشأن متى تكون الجهود المكلفة مبررة لتجنب خطر غير مؤكد. تفترض المجادلة أن الوضع الراهن، عدم القيام بأي عمل، ينبغي أن يستمر حتى يتبين أن من الأفضل القيام بعمل. بالإضافة إلى ذلك، بذكر «الشك العلمي» بوصفه سببًا لعدم القيام بعمل، تفترض المجادلة أن المعيار المطلوب للتوضيح استبعاد الشك بشكل تام أو شبه تام.

تعتمد هذه المجادلة على تماثل، يعلن صراحة أحيانًا لكنه كثيرًا ما يعلن ضمنيًّا، مع مجالات القرارات الأخرى حين نتطلب معيارًا مرتفعًا من الأدلة لتبرير قرار معين. أبرز مثالين لهذا التماثل هما القانون الجنائي والبحث العلمي. تتطلب قواعد المحاكمات الجنائية أن المتهم يعتبر بريئًا حتى يتبين الادعاء أنه مذنب «دون شك معقول.» في البحث العلمي، كما ناقشنا في الفصل الثاني، حين تدَّعي نتيجة جديدة ما يناقض المعرفة الحالية، لا تُقبَل حتى يتبين أنها ذات معيار عالٍ من الإقناع، ويمكن التحقُّق منها بتكرارها مرات عديدة بشكل مستقلٍّ.

في هاتَين الحالتَين، يتأسس طلب معيار مرتفع من الأدلة على حكم معياري للخطورة النسبية للنوعَين المحتملَين من الخطأ. في أي قرار في ظل الشك هناك خطر لا يمكن تجنبه في القيام بالاختيار الخطأ، لكن الأخطاء يمكن أن تحدث بأكثر من طريقة. يمكن أن يكون الحكم الجنائي خطأً بإدانة متهم بريء، أو بتبرئة شخص مذنب؛ يمكن أن يكون الحكم العلمي خطأً بقبول مقولة جديدة يتبين أنها خطأ، أو رفض قبول مقولة يتبين أنها صحيحة. تتطلب المحاكمات الجنائية ذنبًا يتبين أنه لا يعتريه شك معقول، ومن هنا يأتي تحيز القرار لصالح المتهم؛ لأن المجتمع حكم لفترة طويلة أن إدانة متهم بريء أسوأ من تبرئة متهم مذنب. في العلم، تعكس الحاجة إلى أن تكون المقولات الجديدة محققة بشكل قوي توازنًا مماثلًا لتكلفة الخطأَين المحتملَين. قبول مقولة جديدة غير صحيحة مكلفٌ جدًّا؛ لأنها يمكن أن تربك الأبحاث التالية وتوجهها خطأ، وتلقي بالشك على الكيان المتراكم للمعرفة السابقة، لكن الفشل في قبول مقولة جديدة صحيحة أقل تكلفة؛ لأن هذا الرفض مؤقت دائمًا. المقولة الصحيحة التي لا تقبل في البداية تجمع عادة أدلة إضافية تدعمها حتى تلبي معيار القبول؛ ومن ثم فإن تكلفة هذا المعيار المرتفع تتمثل فقط في تأجيل قبول المقولة حتى تتوفر أدلة أكثر.

في هذين المجالين، النقطة الحاسمة أن قواعد القرار تُختَار عمدًا، معتمدة على أحكام معيارية بشأن أي خطأ أسوأ. كلما حكمنا بأن الخطأ أسوأ حاولنا أن نجعل ذلك الخطأ غير محتمل، بتحيُّز عملية اتخاذ القرار ضده. ونحن نفعل ذلك، نقبل برغبتنا خطأ أكبر بارتكاب الخطأ الآخر؛ لأننا نحكم عليه بأنه أقل سوءًا.

في مناطق القرارات الأخرى نستخدم أشكالًا مختلفة من التحيز، تعكس أحكامًا مختلفة لمدى سوء أن نخطئ في كل اتجاه. في القانون المدني — دعاوى قضائية خاصة لا يتمثَّل الخطر فيها إلا بغرامات أو قيود مالية، ولا تتعرض فيها الحياة أو الحرية للخطر — لا يوجد أساس واضح للحكم بأن من الأسوأ أن نخطئ بطريقة أو أخرى (لصالح المدَّعِي أو المتهم)، وهكذا فإن الدعاوى المدنية تُقرَّر دون تحيز، على أساس «رجحان الأدلة.» سياسة الأمن القومي في الولايات المتحدة والأمم الأخرى دعمت غالبًا الأفعال بالغة التكاليف بصورة متطرفة للدفاع ضد حتى التهديدات غير المحتملة؛ لأن تكلفة عدم الاستعداد لمواجهة التهديد الذي لم يتجسد يُحكَم بأنها شديدة جدًّا.

يمكن أن تتحيز عمليات اتخاذ القرار مع عمل أو ضده في أية منطقة سياسية: أحيانًا يستعين نشطون في مجال البيئة بالمجادلات نفسها لتحيز مؤيد لعمل، كما يُقدَّم بشكل شائع في الأمن القومي، لكن هذا ليس اختيارًا علميًّا، بل حكمًا بشأن أي الأخطاء نهتم بتجنبها أكثر. تتأسس المجادلة ضد القيام بعمل يتعلق بالمناخ على شك عام يقترح تحيزًا متطرفًا ضد القيام بعمل: عدم القيام بأي شيء حتى نعرف أنه ضروري لتجنب تأثيرات خطيرة لتغير المناخ. بوضوح، تحمل هذه المقاربة خطرًا مرتفعًا إذا لم نعمل ما يكفي، أو بالسرعة الكافية؛ لأن مستوى الثقة المطلوبة لتبرير الفعل ربما لا يمكن الوصول إليه، حتى تكون التأثيرات الشديدة قد حدثت بالفعل أو يكون تجنبها مستحيلًا. يمكن أن يبقى هذا هو المسار الصحيح، لكن فقط إذا حكمنا بأن من الأسوأ بكثير أن نعمل بقوة كبيرة من ألَّا نعمل بقوة كافية — أي إن تكاليف التعديل الكبير جدًّا أسوأ بكثير من تأثيرات التغير الشديد جدًّا في المناخ.

لكن كما لخصنا في الفصل الرابع، لا يوجد أساس للاعتقاد بأن هذا صحيح. في الحقيقة، يبدو الوضع العكسي أكثر احتمالًا. لتوضيح هذا، تأمل الطرفين. الأول، افترضْ أن تغير المناخ وتأثيراته يتبين أنها تقع في قاع مجال الشك الحالي أو تحته: بتعبير آخر، افترضْ أننا محظوظون بشأن تغير المناخ بقدر ما نستطيع ظاهريًّا. في هذه الحالة، سيفرض برنامج كبير للتعديل تكاليف غير ضرورية، ربما بين بضعة أعشار في المائة وعدة أرقام صحيحة في المائة خسارة من الناتج المحلي الإجمالي في المستقبل، اعتمادًا على حجم البرنامج — رغم أنه حيث إن التكلفة ستكون ممتدة على مدار قرن، حتى في هذه الحالة يمكن تجنب الكثير من التكاليف بتقليص الجهود المستقبلية بمجرد أن نعرف أنها غير ضرورية. لكن في الطرف المضاد — أي حين نكون غير محظوظين ويقع تغير المناخ وتأثيراته عند قمة مجال الشك الحالي أو فوقه — ثم لا نتبع تعديلًا كبيرًا يفرض تكاليف وأخطارًا أكبر بكثير من هذه التكاليف المتواضعة نسبيًّا للتحكم الزائد، بما في ذلك الاحتمال المتزايد لحدوث تغيرات فجائية أو كارثية.

مع وجود مخاطر موضع شك على الجانبين، تتطلب استجابة حكيمة للمناخ معالجة التكاليف والأخطار بشكل متناسق، والموازنة بين مخاطر أن نفعل الكثير جدًّا وأن نفعل القليل جدًّا. في هذا، يشبه تغير المناخ القضايا السياسية الأخرى فيما يتعلق بالمخاطر العالية التي تتطلب القيام بفعل في ظل الشك، بما في ذلك الاستجابة للتهديدات الأمنية من قبيل قُوًى أجنبية معادية أو الإرهاب، ووضع سياسة اقتصادية، ومعالجة كل أنواع أخطار الحياة والصحة والأمان. في المناخ، كما في كل تلك المجالات، لا يعني مجرد وجود الشك أن الاستجابة الصحيحة هي عدم القيام بأي فعل حتى يفرضه دليل قاطع، أكثر من أن اللمحة الأولى لخطر بعيد تعني أن الاستجابة الصحيحة هي أقصى جهد ممكن، بصرف النظر عن التكلفة. في الواقع، يجب المقارنة بين الأخطار والتكاليف والمنافع على الجانبَين — تلك الناجمة عن القيام بالكثير جدًّا، وسريعًا جدًّا، وتلك الناجمة عن القيام بالقليل جدًّا، ومتأخرًا جدًّا — والموازنة بينها. في تقييم هذا التوازن بالنسبة لتغير المناخ، وجدت كل التحليلات الجادة أن القيام بتعديل مبكر له ما يبرره: ولا تختلف إلا في حجم العمل الذي تراه مثاليًّا وسرعته، وحتى في هذا الاختلافات بينها صغيرة بشكل يدعو للدهشة.

(٣) وهكذا ماذا ينبغي أن نفعل؟ توصيات لاستجابة فعالة

نرى أن المعرفة والأدلة الحالية عن مخاطر تغير المناخ كافية لتبرير فعل قوي، يبدأ فورًا، رغم الشكوك التي تبقى في كل أوجه قضية المناخ. إذا تأملنا خطر الأضرار الخطيرة التي تعكس ببطء، فسيكون عملًا غير مسئول أن ننتظر معرفة دقيقة عن شكل مخاطر تغير المناخ وحجمها، قبل أن نقدم على فعل للحيلولة دون وقوعها. المجادلات التي تُقدَّم الآن ضد القيام بعمل مهم على المدى القريب، كما لخصناها من قبل، خطأ، أو مضلِّلة، أو — بقدر صحتها — لا تبرر مزيدًا من التأجيل.

لكن أي فعل؟ حتى قبول الحاجة إلى عمل، هناك شك كبير وعدم اتفاق بشأن ما ينبغي القيام به بصورة خاصة. كما ناقشنا في الفصل الرابع، يتطلب تصميم السياسات التي تحدُّ من تغير المناخ بفاعلية، وتحدُّ من التكاليف، وممكنة سياسيًّا وقابلة للاستمرار، اختيارات متعددة موضع صراع وشك. كيف يتحدد موضع الجهد بين السياسات التي تستهدف الانبعاث مباشرة، وتلك التي تشجع الابتكارات لتسهيل تخفيض الانبعاث في المستقبل؟ بالنسبة للسياسات التي تستهدف الانبعاث مباشرة، ما الاختيار الأفضل ضمن الإجراءات التقليدية، ضرائب الانبعاث، أم نظم الذروة والتجارة، أم الجمع بينها — في سلطات الدول مفردة وعبر الحدود؟ كيف يمكن بناء الثقة في تحقيق السياسات والتعهدات، خاصة بين دول متعددة مختلفة القدرات والثقافات؟ ما المؤسسات والعمليات المطلوبة لتقييم السياسات وتكييفها عبر الزمن، استجابة للمعرفة الجديدة والظروف والقدرات المتغيرة؟ وأخيرًا، كيف يمكن المشاركة في الجهود والأعباء المطلوبة، بين الأمم وعلى مر الزمن؟ تتطلب هذه الأمورُ قراراتٍ، صريحة أو ضمنية، لنتخطى الورطة الحالية.

لا ندعي إجابات قاطعة أو حلولًا سحرية لهذه المشاكل، لكن المعرفة الحالية تقدم أساسًا معقولًا لاعتبار بعض الاختيارات واعدة أكثر من غيرها. في هذا القسم الختامي، نعرض مجموعة توصيات لأعمال واعدة في رأينا أكثر من غيرها. رغم أن التكيف والعناصر الأخرى سوف تكون مكونات أساسية لاستجابة متكاملة للمناخ، تركز توصياتنا على مبادرات التعديل — المتفقة مع المناظرة السياسية الحالية، وحكمنا بشأن الموضع الذي تكمن فيه أولويات الفعل الأكثر إلحاحًا.

ينبغي لاستراتيجية كاملة للتعديل أن تحتوي على أربعة عناصر: الأهداف لتحديد نطاق الوسط المطلوب للتغيرات على المدى الطويل؛ والأفعال على المدى القريب التي تخطو الخطوات الأولى باتجاه هذه الأهداف؛ واستراتيجية سياسية لبناء المشاركة المطلوبة عبر الزمن، من الخطوات الأولى إلى الاكتمال؛ وعمليات لتقييم الأهداف والأفعال وتكييفها في ضوء المعرفة المتغيرة والخبرة والقدرات. هذه العناصر ليست منفصلة تمامًا في التنفيذ، ولا تحتاج إلى إقرارها بترتيب معين، لكنها تقدم تقسيمًا مفيدًا. نطرح توصياتنا لكل عنصر بدوره.

(٣-١) الوسط والأهداف على المدى الطويل

يتطلب الحد من تغير المناخ تحويل نظام الطاقة في العالم للاعتماد على تكنولوجيات الطاقة الآمنة للمناخ. مثل هذا المسعى الهائل الذي يحتاج إلى عدة عقود من الصعب الاستمرار فيه، أو حتى فهمه دون تحديد هدف. ضمَّن المتفاوضون في الاتفاقية الإطارية، مدركين هذا، هدفًا صريحًا في المادة ٢: استقرار تركيز غازات البيوت الزجاجية «عند مستوًى يمنع التدخُّل البشري الخطير في نظام المناخ.» إنه هدف رائع، حظي باتفاق عالمي تقريبًا حين أُعلِنَ بهذا المستوى من التجريد، لكن ليس هناك خطٌّ واضح يحدد التدخل الخطير في نظام المناخ، نتيجة للشك العلمي حول تأثيرات المستويات المختلفة من التركيز، والاختلاف المعياري حول التأثيرات المقبولة والجهود التي تستحق البذل لتجنبها. جزئيًّا نتيجة لهذه الصعوبات المتعلقة بالتصور، وجزئيًّا نتيجة الصراع السياسي، لم تنجح المفاوضات التالية في جَعْل هذا الهدف إجرائيًّا أكثر حتى هدف ٢ درجة مئوية في اتفاقية كوبنهاجن، ويبقى تأثيره موضع شك.

ومع ذلك حدث، خارج المفاوضات الدولية، تقدم كبير في بناء الدعم لأهداف حذرة بشكل معقول تتعلق بالحد من تغير المناخ. كما ناقشنا في الفصل الرابع، اشتملت الأهداف المقترحة على الحد من ارتفاع الحرارة إلى ٢-٣ درجات مئوية أعلى من درجات الحرارة فيما قبل الصناعة، أو قيود مرتبطة بها على القوة الإشعاعية (على سبيل المثال، ٢٫٥–٤٫٥ وات/م٢) أو مستويات تركيز غازات البيوت الزجاجية (على سبيل المثال، ٥٥٠ جزءًا في المليون مكافئ CO2)، مع اقتراحات حديثة بأن الأهداف ينبغي أن تكون أقل حتى ١٫٥ درجة مئوية أو ٢٫٣ وات أو ٣٥٠ جزءًا في المليون على سبيل المثال. تتضمن هذه الأهداف بدورها مجالًا من مسارات الانبعاث، مع انبعاث عالمي يصل إلى الذروة خلال عقد أو اثنين ثم ينحدر خلال بقية القرن. على سبيل المثال، وضحت سيناريوهات IPCC أن استقرارًا عند ٤٥٠–٥٠٠ جزء في المليون مكافئ CO2 يتطلب انخفاض الانبعاث ٥٠–٨٠٪ عن مستويات سنة ٢٠٠٠م بحلول سنة ٢٠٥٠م. سواء تم التعبير عنها بوصفها ارتفاعًا في الحرارة أو القوة أو التركيز، تحمل أكثر هذه الأهداف صرامة تخفيضًا لمخاطر تغير المناخ، لكنها تتطلب تخفيضات أكثر حدة في الانبعاث بشكل أسرع — مما يعني تكاليف وجهودًا أعظم. في رأينا، يبدو أن الطرف الأدنى لهذه الأهداف، حول ٤٥٠ جزءًا في المليون مكافئ CO2، يعكس التوازن الأكثر حكمة لتكاليف التعديل وتأثيرات المناخ المشكوك فيهما. مثل هذا الهدف الطموح بصورة بشكل لا يمكن إنكارها، يمكن أيضًا أن يبقى على خيار التحول حتى لحدود أكثر صرامة في تغير المناخ، في حالة ارتفاع الاحتمالات السيئة في انتشار حساسية المناخ، ينبغي إدراك التغذية الرجعية أو التأثيرات طويلة المدى.
اقترح على نطاق واسع محللون مستقلون ومنظمات مستقلة أهدافًا مماثلة، وصادق عليها باطراد ممثلون سياسيون قوميون في بلاد متعددة. وتم التعبير عن هذه الأهداف بمصطلحات عالمية، مع ذلك، ومن ثم يتطلب اشتقاق أهداف لبلاد أو مناطق معينة فرضياتٍ إضافيةً بشأن توزيع الجهود. على سبيل المثال، هدف تخفيض انبعاث الولايات المتحدة ٨٠٪ تقريبًا عن مستويات ١٩٩٠م بحلول ٢٠٥٠م — مماثل للأهداف التي أُعلِنَت في حملة أوباما والمقترحات التشريعية الحالية — متسق مع استقرار مستويات التركيز عند ٤٥٠ جزءًا في المليون مكافئ CO2، في ظل فرضيات المشاركة النسبية للأعباء بين الدول الصناعية، والتبنِّي التدريجي لتعهدات التعديل من قِبَل البلاد النامية في الأعوام العشرين القادمة.

يمكن لوضع أهداف صريحة تقديم منافع عديدة لاستراتيجية المناخ. يمكن للأهداف الصعبة القابلة للتنفيذ أن تحفز القيام بعمل، وتركز الانتباه، وتقدم سياقًا لتقييم التدابير قريبة المدى واختيارها، حتى لو كانت العلاقة بين التدابير قريبة المدى والأهداف بعيدة المدى موضع شك. يمكن أيضًا للأهداف الصريحة أن تقدم أساسًا لمحاسبة صانعي القرار، لكن مناقشات أهداف المناخ تعقدت بالفشل في التعرف على الفروق المهمة التي تظهر حين تكون إمكانية تحقيق الهدف والجهود المطلوبة للوفاء به موضع شك. يمكن أن تكون الأهداف الصعبة القابلة للتنفيذ محفزات قوية، لكنها إذا كانت صعبة حقًّا لن يتم الوفاء بها غالبًا. تستخدم هذه الأهداف غالبًا في مواقف أخرى، على سبيل المثال، تطوير الألعاب الرياضية أو التكنولوجيا، لكنها نادرة في السياسة أو المواقف السياسية، حيث تعلن الأهداف عادة لمحاسبة المسئولين. الأهداف من أجل المساءلة لا تعلن الطموحات، بل توقعات خط الأساس: يتوقع أن يتم الوفاء بها، ويؤدي عدم الوفاء بها إلى نتائج سلبية — إن لم تكن عقوبات مادية، فستكون استهجانًا أو ارتباكًا، وهو ما تسعى الحكومات إلى تجنبه أيضًا. في ظل الشك، ربما يرفض حتى الممثلون الذين تعهدوا بالحد من الانبعاث الأهدافَ الطموحة إذا اعتُبرِت توقعات لا طموحات؛ وبالتالي إذا استُخدِمت الأهداف للمساءلة أو كان هناك خطر يمكن أن تمثله (على سبيل المثال، من نشطين يسعون بأثر رجعي لإعادة تعريف الطموحات بوصفها متطلبات)، يحتمل ألَّا يقبل الممثلون إلا الأهداف الضعيفة التي يثقون تمامًا في أن بوسعهم تحقيقها.

مع تعرض التصريحات عن أهداف هذه المناورات، كان من الصعب على الهيئات السياسية أن تستخدمها بشكل فعال. في رأينا، المنفعة من وراء إعلان الأهداف صراحة تفوق المخاطر. ينبغي أن تعلن الحكومات القومية والهيئات الأخرى صانعة القرارات الأهداف بالنسبة إلى التعديل، ومن المفضل أن تكون في صورة مسارات افتراضية للانبعاث تدمج التخفيضات على المدى القريب والمتوسط والطويل. رغم أنه ينبغي أن تكون هناك أيضًا إجراءات لتغيير المسار إذا ما بررت ذلك معرفة جديدة أو ظروف تغيرت، بالقول فقط إن مسارًا افتراضيًّا يشكل توقعات المستثمرين والآخرين الذين يتخذون قرارات طويلة المدى، وهو أمر حاسم لتحقيق التغيرات المطلوبة.

يجب الوفاء بشروط عديدة، مع ذلك، لاستغلال القوة المحفزة للأهداف دون أن يُطلَب من الحكومات تحمل مخاطر غير متوقعة. ينبغي لتصريحات الأهداف أن تكون صريحة بشأن سياسات وأفعال خاصة مقترحة، وتأثيراتها المفترضة على الانبعاث، متضمنة الشك. ينبغي أيضًا لتصريحات الأهداف أن تعلن فرضيات صريحة بشأن الشروط الأخرى التي تؤثر على فعالية السياسات والأفعال، متضمنة جهود التعديل التي يبذلها آخرون. هذا الطلب مماثل لطلب إعلان الفرضيات الاقتصادية التي تؤسس توقعات ميزانية الحكومة على المدى البعيد. وقد يكون من المفيد أيضًا الإعلان أيضًا على هدفين يختلفان في الطموح وفي توقع التحقيق — توقع وطموح.

لكن بينما قيمة الأهداف بوصفها إشارة أو أدوات تحفيزية على المستوى القومي واضحة، فإن قيمتها في المفاوضات الدولية أقل وضوحًا. هنا يوجد خطر أكبر أن تصبح المفاوضات على الأهداف تشتيتًا مثيرًا للنزاع عن القرارات الأكثر إلحاحًا بشأن التدابير على المدى القريب، خاصة وأنه سيكون من الضروري تعديل الأهداف بمرور الزمن. ربما التسوية المناسبة هي التفاوض بشأن الأهداف التي تُعلَن ببعض الالتباس، وهكذا تعكس فهمًا مشتركًا وتقريبيًّا بأنه ينبغي خفض الانبعاث كثيرًا بحلول منتصف القرن. وليس من الضروري أن تكون كل الأهداف القومية متماثلة. ويمكن أن نتوقع منها أن تقدم مؤشرات لمناظرة جارية، تعلن فيها أنشط الحكومات أهدافًا قوية، وتعلن الحكومات الأخرى أهدافًا أضعف. إذا نسقت ائتلافات غير رسمية في أهداف مشتركة، وتدابير لمتابعتها، ودعم التحليل، رائع — لكن ليس على حساب المخاطرة بتأخير خطوات أولية ملموسة. الانتظار لاتفاق تام على الأهداف، مثل الانتظار لاستبعاد الشك العلمي، قد يعني الانتظار طويلًا جدًّا بحيث يتعذر تحقيق الأهداف المرغوبة. بينما ندعم الحوار المستمر بشأن الأهداف، فإن ذلك ينبغي أن يحدث بالتوازي مع المناقشات والقرارات بشأن أفعال ملموسة، تتقدم دون انتظار لاتفاق تام على الأهداف.

(٣-٢) الأفعال على المدى القريب

بصرف النظر عن الأهداف التي يتم تبنيها، لن يحدث تقدم باتجاه التخفيضات المطلوبة في الانبعاث، دون أن يخطو شخص الخطوات الأولى. ماذا ينبغي أن تكون هذه الخطوات، ومن ينبغي أن يخطوها؟ في هذا، نقترح نقلة كبيرة عن الممارسة الحديثة. حيث إن المناظرات السياسية بشأن المناخ بدأت في أوائل تسعينيات القرن العشرين، فقد افترض على نطاق واسع أن الموضع الأولي للفعل هو المفاوضات الدولية، التي تحفز السياسات القومية وتمكنها وتنسقها. عكست هذه المقاربة معرفة أن المشكلة تتطلب حلًّا عالميًّا، واهتمامًا بأنه إذا عملت الأمم منفصلة، فإن من يفعلون أكثر سيرون أن جهودهم تُحبَط بخسارة التنافس وتسرب الانبعاث.

لكن سواء بُرِّرت هذه الاهتمامات أو لم تُبرَّر — وتوحي الدراسات الحديثة بأنها كانت مبالغًا فيها — فإن هذه المقاربة لم تحقق فعليًّا أي تقدم في خفض الانبعاث. في رأينا أن القيادة الزائدة خلال الأفعال القومية تحمل وعدًا أكبر بكسر الورطة الحالية. ينبغي أن تكون السياسات الفعالة للتعديل منسقة عالميًّا لتكون فعالة — في النهاية — لكن المشاركة والتنسيق العالميَّين الكاملَين ليسا مطلوبَين في البداية، والانتظار لتحقيقهما ربما لا يؤدي إلا إلى تأخير الخطوات الأولى المطلوبة.

وبالتالي نقترح أن الأولوية الأولى ينبغي أن تكون إعلان الولايات المتحدة عن استراتيجية متماسكة وفعالة للتعديل، تناظر أو تتجاوز قيادة المناخ التي مارسها الاتحاد الأوروبي إلى حد بعيد، وأن تثب قفزة البداية للسعي إلى موافقات دولية جادة وعلى قاعدة عريضة. وستكون مبادرات الاقتصاديات الصناعية الأخرى الكبيرة للإعلان عن استراتيجيات مماثلة موضع ترحيب، لكن التطور الأولي وإعلان استراتيجية للولايات المتحدة ينبغي ألَّا ينتظر التنسيق مع الآخرين.

ينبغي لهذه الاستراتيجية الخاصة بالتعديل أن تتبع المبادئ والبنية الموضحة في الفصل الرابع. ينبغي أن تشجع الاستثمار الخاص وتطوُّرَ تكنولوجيا موارد الطاقة الآمنة للمناخ بوضع حوافز واضحة ومتسقة. وينبغي أن يكون تركيزها على المدى الطويل، وتبدأ فورًا بهدوء، وتزيد من صرامة السياسات بمرور الزمن، لتقدم الحوافز المطلوبة والمستدامة والشفافة للاستثمارات والابتكارات طويلة المدى، وتحد من التكاليف، وتقدم استقرارًا لخطط الاستثمار. وينبغي أن تسعى إلى خفض التكاليف إلى أدنى حد بالسماح بالمرونة في إنجاز ممثلي القطاع الخاص، وتسخير قوى السوق إلى أقصى حد يتسق مع سياسة فعالة. ستواجه هذه المبادرة تحديات سياسية نزيهة، لكنها متسقة مع النوايا المعلنة لكلٍّ من إدارة أوباما والقادة الكبار في الكونجرس. والمبادرة التي نقترحها، في تفاصيلها، أقوى بقليل من مشاريع القوانين التي تتحرك في الكونجرس في ٢٠١٠م.

ينبغي أن تتضمن آليات هذه الاستراتيجية القومية للتعديل العناصرَ الثلاثةَ التي ناقشناها في الفصل الرابع: على صعيد الاقتصاد، السياسات المؤسسة على السوق لوضع أسعار على الانبعاث؛ ودعم أبحاث الطاقة الآمنة للمناخ وتطويرها؛ والإجراءات والتدابير الأخرى الملائمة — إضافة إلى المؤسسات والآليات لدعم هذه التدابير وتكييفها بمرور الزمن في ضوء المعرفة الجديدة والخبرة والقدرات. على صعيد الاقتصاد، تمثل السياسات المؤسسة على السوق العنصرَ المركزي. إنها تقوم بالعمل الرئيسي لخلق حوافز للاستثمار وتطوير التكنولوجيا، بالإشارة إلى أن انبعاث غازات البيوت الزجاجية تكبر تكلفته باطراد عبر حياة الاستثمارات الحالية. وينبغي أن تنتشر بقدر ما يمكن باتساق وشفافية عبر الاقتصاد. وينبغي أن تبدأ تدريجيًّا لتجنب الارتباك، وتظهر باتساق متبعة جدولًا معلنًا بوضوح لزيادة امتداد الصرامة لعدة عقود على الأقل.

الخياران الرئيسيان لسياسة تفرض هذه الأسعار للانبعاث هما ضريبة الكربون، وينبغي أن تضع سعر الانبعاث صراحةً، أو نظام الذروة والتجارة، وفي ظله يوضع سعر الانبعاث ببيع التصاريح. وكما ناقشنا في الفصل الرابع، يعتقد الآن على نطاق واسع أن الضرائب أفضل وتحمل مخاطر أقل، لكن كل الزخم السياسي تقريبًا، في الولايات المتحدة وأماكن أخرى، يفضل نظم الذروة والتجارة. إذا كانت هناك فرصة للاختيار بينهما، على المرء أن يوازن المخاطر المعروفة لنظم الذروة والتجارة مقابل المعوقات السياسية الكبيرة لضرائب الكربون، متسائلًا عمَّا إذا كان من الممكن جعل ضريبة الكربون ممكنة سياسيًّا، ومدى الضعف الذي قد ينتج عنها. ومع ذلك، إذا وضعنا الزخم الحالي في الاعتبار، يبدو أن المسار المفضل هو تصميم نظام للذروة والتجارة يكون فعالًا إلى أقصى حدٍّ، وكفؤًا وشفافًا، ويتجنب المخاطر المعروفة قدر المستطاع — ومتابعة تحقيقه وفاعليته بدقة، وعلى استعداد لتغيير مساره إذا لزم الأمر.

بالنسبة للولايات المتحدة، ربما تبدأ ذروة مناسبة بتخفيض ٥–١٠٪ عن المسار المتوقع للانبعاث في خلال ٣–٥ سنوات، مع جدول للتخفيض يعلن مسبقًا باتجاه هدف مستقبلي صارم، على سبيل المثال، تخفيض ٨٠٪ بحلول ٢٠٥٠م. ربما يبدأ السعر المكافئ للانبعاث حول ٣٥–٧٠ دولارًا لكل طن مكافئ كربون (١٠–٢٠ دولارًا/طن CO2) ويزيد ٥–١٠٪ سنويًّا بقيم حقيقية. ينبغي ألَّا تحدد التصاريحُ الانبعاثَ في سنة واحدة، لكن يمكن بدلًا من ذلك أن تسمح بانبعاث طن واحد في أي وقت على مدار فترة ممتدة، وربما غير محدودة. وبشكل مماثل، إذا كانت التصاريح لمدة أقصر، ينبغي أن يسمح لحائزي التصاريح أن يحتفظوا بها في بنك مجانًا للاستخدام في المستقبل، والاقتراض لخفض الانبعاث في المستقبل بشروط كافية للحد من الاحتيال ومخاطر التخلف عن السداد.

للتأكد من أن نظام الذروة والتجارة يقدم الحوافز المطلوبة على المدى الطويل، ينبغي أن يتضمن حدودًا صريحة لمجال السعر الذي تباع به التصاريح — سقفًا للسعر وحدًّا أدنى له — يزيدان عبر الزمن طبقًا لجدول يعلن عنه سلفًا وذروة الانبعاث تضيق. سقف السعر هو «صمام الأمان» — السعر الذي عنده تبيع الحكومة مزيدًا من التصاريح بأية كمية، مما يحد من المخاطر المالية لقفزات الأسعار إذا ضاقت الذروة بسرعة شديدة، مقارنة بسرعة تطور التكنولوجيات الآمنة للمناخ وإنتاجها. طلب الكثير من مصادر الانبعاث صمام أمان، وعارضه كثير من جماعات البيئة لأنهم يريدون اليقين في الانبعاث الكلي الذي يبدو أن ذروة صارمة تقدمه. في رأينا، من المهم تضمين صمام الأمان للحد من الارتباك نتيجة القفزات الشديدة في السعر. (وعلى أية حال، اليقين البادي لذروة انبعاث خادع: إذا قفزت الأسعار بشكل مرتفع جدًّا، تصبح الذروة متراخية أو معلقة، حتى لو لم يكن هناك صمام أمان صريح.) لكن ينبغي أن يكون مستوى صمام الأمان مرتفعًا، يبدأ من ضعف مستوى السعر الاستهلالي المتوقع أو ثلاثة أمثاله؛ ومن ثم لا نصل إليه إلا في ظل ظروف متطرفة جدًّا (أو غير محتملة) تجعل الذروة تتراخى بشكل مؤقت حقًّا، في استجابة معقولة على المدى القصير.

ينبغي أن يكون الحد الأدنى للسعر سعرًا منخفضًا يعلن سلفًا عنده تسترد الحكومة كميات غير محدودة من التصاريح، وتسحبها من السوق. يحد الحد الأدنى للسعر من خطر أن تصبح الذروة متراخية جدًّا؛ ومن ثم تفشل في تقديم الحوافز المطلوبة. قد يكون المستوى الاستهلالي للحد الأدنى للسعر نصف السعر المتوقع، ربما ١٥–٢٠ دولارًا/طن كربون. لخلق الحوافز المطلوبة على المدى الطويل للاستثمار وتطوير التكنولوجيا، ومن الضروري رفع سقف السعر والحد الأدنى له بمرور الوقت طبقًا لمسار طويل المدى يعلن عنه سلفًا، زيادة ربما ٥–١٠٪ سنويًّا، كلما ضاقت ذروة الانبعاث. إذا لم يرتفعا، فإن النظام يعمل والذروة تضيق ببساطة وكأنه ضريبة كربون عند سعر صمام الأمان.

ثمة طلب آخر لتشجيع أقصى فعالية لنظام الذروة والتجارة يتمثل في توزيع أكبر عدد ممكن من التصاريح بالمزاد، وليس منحها بالمجان لمصادر الانبعاث الحالي. بينما تقول النظرية إن هذا لا يحدث اختلافًا في الحوافز الهامشية لمصادر الانبعاث ليصدر عنها انبعاث — فرصة بيع تصريح أخذ مجانًا تعطي حافزًا قويًّا لتخفيض الانبعاث بقدر الحاجة لشراء تصريح للانبعاث — فإن هذه المواقف ربما تختلف بقوة في ظل فرضيات معقولة عن مدى ابتعاد السلوك الحقيقي لمصادر الانبعاث عن النظرية. طرح التصاريح في مزاد ضروري أيضًا لتجنب الانتقالات الكبيرة للثروة إلى مصادر الانبعاث، وهو ما يحدث حين توزع التصاريح مجانًا. إذا واجه طرح كل التصاريح في مزاد في البداية مقاومة كبيرة جدًّا، ينبغي إذن طرح جزء في المزاد، مع جدول صارم للانتقال إلى المزاد بشكل تام بمرور الزمن، في فترة لا تزيد عن عشر سنوات. وينبغي أن يؤخذ هذا التعهد بشكل ملزم قدر المستطاع، على سبيل المثال، بجعل خطة ميزانية الحكومة تعتمد على الريع المفترض من المزادات.

علاوة على نظام للذروة والتجارة وضريبة للكربون، يتطلب الأمر تدابير أخرى لوضع استراتيجية كاملة: دعم عام للبحث والتطوير في تكنولوجيات الطاقة الآمنة للمناخ، ومشاريع البرهان على كفاءة التكنولوجيا المبتكرة، وتدابير تنظيمية أخرى. دعم البحث ضروري لأنه حتى مع وجود سعر على الانبعاث، ينتج البحث والتطوير في تكنولوجيات آمنة للمناخ منافع غير مباشرة لا تظهر في الحوافز الخاصة. وعلى العكس من بعض المقترحات، لا يمكن أن تعتمد استراتيجية للمناخ بشكل حصري على البحث وتطوير التكنولوجيا، دون تدابير اقتصادية على نطاق واسع لوضع سعر على الانبعاث. ويكمن السبب في أنه حتى البرنامج الطموح للبحث يحتمل أن يطرح تكنولوجيات آمنة للمناخ أكثر تكلفة من البدائل التقليدية، فلا تنتشر بالقدر المطلوب من حوافز تولِّدها السياسة، أو متطلبات للقيام بذلك.

وتعزز التدابير التنظيمية الإضافية — تسمَّى غالبًا «تدابير قطاعية» لأنها تستهدف قطاعات أو تكنولوجيات صناعية خاصة ذات أولوية عالية — فعالية تدابير التعديل في مناطق ذات إمكانية تقنية عالية، لكن حيث حدَّت حوافز سوق الطاقة من الفاعلية. كما ناقشنا في الفصل الرابع، تشمل الأمثلة وضع قواعد، ومعايير لكفاءة المركبات، وقرارات تقسيم المناطق والتخطيط. لتجنب هذه الأعباء الظالمة على قطاعات معينة، ينبغي أن تتسق صرامة التدابير القطاعية مع حوافز السوق الواسعة بتقييم تكلفة دورة الحياة أو التقنيات التحليلية المرتبطة بها. وربما يقدم استخدام التدابير القطاعية مزايا في المفاوضات الدولية، بالسماح بالتنسيق بين الأطراف التجاريين في الأعباء التنظيمية المفروضة على قطاعات خاصة متداوَلة.

(٣-٣) التتابع الاستراتيجي: نحو استراتيجية عالمية لغازات البيوت الزجاجية

تعطي مثل هذه المبادرة، من الولايات المتحدة وربما من آخرين، طاقة جديدة للمفاوضات الدولية فورًا، لكن أمريكا وحدها لا يمكنها حل مشكلة تغير المناخ. يمكن لأي مبادرة من هذا النوع من قِبَل الولايات المتحدة، أن تكون فقط الأولى في سلسلة استراتيجية من خطوات تؤدي إلى الهدف المرجو: مساهمة دولية في نظام للمناخ منسق وفعال ومربح. للوصول إلى هذا الهدف، ينبغي أن تسهِّل كلُّ خطوةٍ الخطواتِ التاليةَ، بتشجيع الاستثمارات الخاصة المطلوبة، وتقديم حوافز كافية للمساهمين الحاليين للوفاء بتعهداتهم وليشارك مساهمون آخرون.

الخطوة الثانية في هذه السلسلة — تؤخذ فورًا بعد الإعلان عن المبادرات من جانب واحد، التي نقترحها، وربما حتى قبل ذلك بالتوازي مع تطورها — من أجل من يوافقون على هذه التعهدات الأولية للبدء في المفاوضات مع أممٍ أخرى لتوسيع تعهداتهم بشأن التعديل وتقويتها وتنسيقها، لكن مع أية أمم أخرى، وفي أي منتدًى؟ عند هذه النقطة، الاختيار الأبسط هو إجراء هذه المفاوضات في ظل وجود الاتفاقية الإطارية واتفاقية كيوتو. هنا تبدو مزية العمل في بنية مؤسسية موجودة، وتشمل اتفاقيتين موجودتين تشكلان طرقًا عديدة لعمل دولي مرن، يجب تقييمها مقابل العيوب التي أعاقت التقدم إلى هذا الحد — متضمنة تاريخ المناظرات القطبية، والمعارضة المحصنة جيدًا داخل الولايات المتحدة، وسجلًّا بالقرارات المتعجلة التي اتخذت دون تقييم للإمكانية أو التكلفة، وفقدان المصداقية التي تنشأ من فشل أمم كثيرة جدًّا في الوفاء بتعهداتها. عدم التقدم بعد بالي في نقاط مزمنة من النزاع، وخاصة العلاقة بين تعهدات الدول الصناعية والدول النامية، وأيضًا الورطة الإجرائية ورفض اتفاقية كوبنهاجن في مؤتمر كوبنهاجن نفسه، يوحي بأن حتى تبنِّي الاتفاقية من قِبَل المصادر الكبرى للانبعاث ربما لا يفسح المجال للتقدم في هذا المنتدى.

بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن تتناول أية محاولة للسعي إلى اتفاق جاد خاص بالتعديل خلال هذه العملية أبسط عناصره البنيوية — المساهمة الدولية. بحثت الاتفاقية الإطارية واتفاقية كيوتو عن أوسع مشاركة ممكنة. تضم الاتفاقية الإطارية الآن أكثر من ١٩٠ عضوًا، وتضم اتفاقية كيوتو أكثر من ١٨٠. تعزز المساهمة الدولية شرعية العملية، وتوسع الفرص للتخفيض حيث يكون الأرخص؛ ومن ثم خفض تكاليف تحقيق أي هدف محدد، لكن المساهمة الدولية، مع الإجراءات أو معايير اتخاذ القرارات بالإجماع، تخلق أيضًا فرصًا قوية للإعاقة. كما أكدت كوبنهاجن من جديد، في منتدًى دولي، لا تستطيع مجموعة ترغب في خفض الانبعاث التفاوض بشأن كيفية القيام بذلك، دون الآخرين الذين لا يساهمون ولديهم صوت أو حتى فيتو.

يعوق هذا التنافرُ بين من يقبل التعهدات، ومن له كلمة في بنودها، اتخاذ قرارات فعالة بطرق متعددة. يمكن أن يفصل المفاوضات عن الاعتبارات العملية، حيث تتفاوض أطراف كثيرة حول بنود لن يطبقوها. ويمكن أن يخرج المفاوضاتِ عن مسار التعهدات من خلال جهود الأطراف الأخرى لضمان سوابق، أو بشكلٍ آخر مناورة من أجل مزية طويلة الأمد. ويمكن أن يعوق محاولات التفاوض لتوسيع المجموعة التي تقبل التعهدات، أو تطوير حوافز لتشجيع هذا التوسع. بشكل أكثر جدية، تقوي العالمية بعض الدول، مثل المصدرين الكبار للوقود الحفري، الذين قد يعارضون المسعى برمته. ويمكن أن يهتموا بإعاقة المفاوضات؛ حيث إنهم لا يفضلون فقط تجنب خفض الانبعاث الصادر عنهم، ولكن منع أيضًا الآخرين من القيام بذلك. لا يمكن في منتدًى عالميٍّ استبعاد هذه الأمم من مفاوضات التعديل، بينما معيار اتخاذ القرارات بالإجماع يعني أن حِيَلهم للإعاقة كثيرًا ما تكون فعالة.

لأن هذه عيوب يتعذر تجنُّبها في منتدًى دولي يحتمل أن تستمر وتعوق عملًا فعالًا، ليس لدينا إلا أمل ضئيل في تقدم جاد في المفاوضات في ظل الاتفاقية الإطارية واتفاقية كيوتو، أو أي منتدًى آخر بمشاركة عالمية. وهنا ينبغي أن تستمر المناقشات بالطبع، خاصة وأن أعمالًا قوية بواسطة المصادر الكبرى للانبعاث، التي تدعم اتفاقية كوبنهاجن، ربما تدفع إلى التقدم في ٢٠١٠م في ظل الاتفاقية الإطارية واتفاقية كيوتو بأكثر مما نتوقع، لكننا نشك في أن المعدل المطلوب من التقدم يمكن أن يتحقق هنا؛ لذا نوصي بعدم الاعتماد على هذا بوصفه منتدًى وحيدًا لمفاوضات المناخ. وينبغي السعي إلى عمل جاد على المدى القريب من خلال منتدًى أصغر، لا يوجد فيه متفرجون: من يشاركون ويشكلون الأفعال هم أنفسهم الذين يقومون بالأفعال.

أية أمم ينبغي أن يضمها هذا المنتدى الأصغر؟ يجب أن تكون المجموعة المشاركة كبيرة بشكل كافٍ للقيام بمساهمة كبيرة في التعديل العالمي وممثلة بشكل كافٍ؛ بحيث تقدم صفقةٌ بينها نموذجًا مقبولًا لاتفاق عالمي تالٍ. ويجب أن تكون المجموعة قليلة العدد بشكل يسمح بمفاوضات فعالة مع تبادل حقيقي للمنافع والالتزامات وتقليص فرص التوقف والإعاقة. بينما قُدِّمت مقترحات متنوعة، نعتقد أن المقاربة الواعدة أكثر ستكون مفاوضات بين مجموعة من أكبر مصادر الانبعاث والاقتصاديات في العالم، من بين كلٍّ من الدول الصناعية والدول النامية، عددها ١٢–٢٠ دولة تقريبًا. مماثلة في تكوينها لمجموعة العشرين، وللمجموعات التي شكلتها إدارتا بوش وأوباما لاستشارات غير رسمية بشأن المناخ، ويمكن لمثل هذه المجموعة أن تمثل حوالي ثلثَي الانبعاث العالمي الحالي؛ ولذا يمكن أن تمثل مساهمة كبيرة في خفض الانبعاث العالمي. ويمكن أن تكون اقتصادياتها كبيرة بما يكفي لخلق حوافز قوية للشركات والمستثمرين لتطوير تكنولوجيات آمنة للمناخ، وللحد من مخاطر تسرب الانبعاث. ويمكن أن تكون متنوعة بما يكفي أن يقدم اتفاقٌ بشأن تغير المناخ مقبولًا لهم نموذجًا معقولًا لاتفاق عالمي تالٍ. ويبقى أنها يجب أن تكون قليلة العدد بما يسمح باحتمال مفاوضة جادة، مع توقع أن يشارك كل المساهمين في المسئوليات كما يشاركون في المنافع، ودون فرص الإعاقة التي تقدمها الإجراءات الأكبر والأكثر رسمية.

يمكن لهذه المجموعة أن تتفاوض بشأن مجموعة من الأعمال المترابطة تتعلق بتغير المناخ والقضايا المرتبطة به، تكون مقبولة من المشاركين كلهم، وتضع الخطوط العريضة لصفقة عالمية تالية خاصة بالمناخ. ويمكن أن يكون الهدف الرئيسي الربط دوليًّا بين العناصر الثلاثة الرئيسية للاستراتيجيات القومية للتعديل: آليات على مستوى الاقتصاد لوضع سعر على الانبعاث، ودعم البحث والتطوير، والإجراءات القطاعية. وكما هو الحال على المستوى القومي، قد تكون الآليات على مستوى الاقتصاد العنصر الأساسي، ومدها دوليًّا المهمة الأكثر أهمية في بناء جهد فعال متعدد الأطراف، يتعلق بالتعديل بين هذه المجموعة.

ينبغي أيضًا أن تطرح هذه المفاوضات بشأن الجهود المتبادلة لتعديل النزاع بين الدول الصناعية والنامية في القلب من الورطة الحالية. يتطلب التعديل الفعال جهودًا عالمية، لكن كل الدول النامية تقريبًا تستمر في رفض حدود الانبعاث القومي (رغم قيامها بجهود قطاعية كثيرة)، بينما لا ترغب الدول الصناعية في اتخاذ خطواتٍ جادةٍ دون تأكيدات بأن الدول النامية سوف تشارك في الأعباء. في رأينا، المقاربة الواعدة لحل هذه الورطة مفاوضات متزامنة ومترابطة حول تعهدات التعديل لكل المشاركين، لكن مع أقوى التعهدات للبلاد النامية بأن تدخل هذه التعهدات حيز التنفيذ بعد فترة وبشروط محددة. في ظل هذه المقاربة، تقبل الدول الصناعية المشارِكة تعهدات صارمة بالتعديل تدخل حيز التنفيذ في غضون سنوات قليلة، ربما بالجدول نفسه، في المبادرة من طرف واحد، المقترح للولايات المتحدة، وسبق ذكره. يتم التفاوض بشأن تعهدات الدول النامية وتبنيها في الوقت ذاته، لكنها لا تصبح نافذة إلا فيما بعد، بعد الوفاء بشروط معينة. ويمكن أن تتضمَّن الشروط تعديلًا سابقًا تقوم به الدول الصناعية، وربما آخرون من قبيل تدابير لتقدم التطور، أو مؤشرات على شدة مخاطر تغير المناخ. بالتأكُّد من أن أعباء الدول النامية تعكس حالتها المختلفة ولا تعوق تقدمها، تكون هذه المقاربة مع مبدأ الاتفاقية الإطارية مسئولية مشتركة ومتميزة.

رغم أن هذه المقاربة تبدأ بجهود غير متماثلة، فإن هدفها هو الحركة باتجاه وضع تتماثل فيه الالتزامات: يساهم الكل توقعًا لمساهمة الآخرين كلهم، وتعتمد التزامات كل مشاركٍ على وفاء الآخرين بالتزاماتهم، مع مراجعة متبادلة وتقييم وتحليل سياسي لمساعدة الأطراف على الوفاء بأهدافهم بشكل فعالٍ وبأدنى تكلفة. تفرض المقاربة مخاطر على الدول الصناعية المشاركة، التي عليها القيام بجهود غير مشروطة للتعديل على الفور، بينما تؤجل الجهود المناظرة من الدول النامية وتكون مشروطة، لكن يمكن للبنود الخاصة في المفاوضات الحد من هذه المخاطر بطرق متنوعة، بجعل بعض تعهدات الدول النامية غير مشروطة (على سبيل المثال، السياسات القطاعية للتعديل، وهي في حالات كثيرة توسع فقط المبادرات الجارية بالفعل)، أو بجعل الدول الصناعية منذ البداية مسئولة فقط عن السياسات التي وعدوا بها، وليس بالضرورة التخفيضات الناجمة للانبعاث التي توقعوها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن الحد من المخاطر بالنسبة للدول الصناعية المشاركة بحقيقة أنها لن تستمر في جهودها، إذا لم يفِ الآخرون بتعهداتهم.

كيف يمكن عمليًّا تحقيق هذه الالتزامات بالتعديل، التي تم التفاوض بشأنها؟ جزئيًّا، يعتمد هذا على الشكل الذي تتبناه الأطراف محليًّا للجمع بين نظم الذروة والتجارة وضرائب الكربون. يمكن لهذه المفاوضات ربط نظم الذروة والتجارة بتبادل دولي للتصاريح، مع مراقبة مناسبة لحصة التصاريح وتجارتها وامتثالها للشروط. يتطلب مثل هذا النظام المتكامل للتصاريح القابلة للتداول مفاوضات صريحة بشأن خطوط الأساس التي يتم منها تحديد حقوق التداول.٤ وبشكلٍ بديل، يمكن لهذه المفاوضات أن تنسق مستويات ضريبة الكربون، وهدفها، وإعفاءاتها، وتفاعلاتها مع نظم الضرائب الموجودة، على ما يفترض بعائد للضرائب يبقى في بلده. في أيٍّ من الشكلَين، يمكن التفاوض بشأن بنودٍ خاصةٍ بحيث تبدأ كل أعباء التعديل للدول النامية المشاركة تدريجيًّا على مدار ١٠–٢٠ سنة كما ناقشنا من قبل، وتتحمل جزءًا صغيرًا من التكلفة، أو تتلقى حتى منفعة خالصة قبل هذه النقطة. وبصرف النظر عن التفاوض بشأن توزيع الأعباء، ينبغي أن تسمح آليات المرونة الدولية باستثماراتٍ فوريةٍ للتعديل في الدول النامية، مع مسئولية واضحة عن تأثيرات الانبعاث الصادر عنهم بمجرد رسوخ خطوط الأساس القومية. وحيث إن الدول المختلفة قد تختار الجمع بصورٍ مختلفةٍ بين نظم التصاريح والضرائب، ينبغي أيضًا أن تبني المفاوضات قدرة تحليلية لتقييم الصرامة الكلية لجهود التعديل ومقارنتها، والقدرة الإدارية لدَمْج النظم المختلفة.

وتشمل المفاوضات أيضًا العنصرَين الآخرَين لاستراتيجية التعديل، دعم البحث والتطوير والإجراءات القطاعية. ربما حتى يكون هذان العنصران في المفاوضات الدولية أكثر أهميةً من السياسة المحلية للتعديل؛ لأنهما يقدمان وسائل إضافية للحد من المخاطر وتوزيع المنافع لعقد صفقةٍ مقبولةٍ من كل الأطراف. ربما يشمل التفاوض حول التدابير القطاعية معايير تفضيلية مشتركة، أو أهدافًا لكثافة الانبعاث بالنسبة لقطاعاتٍ أو منتجاتٍ صناعية خاصة، على سبيل المثال، الصلب أو السيارات. يمكن لهذه التدابير أن تعتمد على الإرادة الواضحة للدول النامية الكبيرة في تبنِّي إجراءات خاصة للحد من الانبعاث أيسر من القيود على مستوى الاقتصاد. يمكن أيضًا أن تحد من الخسائر التنافسية أو تشوهات التجارة في قطاعات كثيفة الانبعاث ومتداولة. يمكن لمفاوضات أبحاث الطاقة الآمنة للمناخ أن تسهل تخفيض الانبعاث بتشجيع تطوير ابتكارات الطاقة الآمنة للمناخ وانتشارها، ويمكن للمفاوضات المصاحبة بشأن الدعم المشترك لهذه الجهود وانتشار الخاصية الناجمة والمنافع أن تقدم أدوات إضافية لتوزيع المنافع بين المشاركين، وهكذا تعقد صفقة شاملة قابلة للتطبيق.

يمكن أن تكون هذه المفاوضات أوسع من سياسة التعديل. رغم أنها قد لا تشمل معظم الأمم المعرضة للتأثيرات، ويبقى أن عليها أن تواجه تأثيرات المناخ ونقاط الضعف، خلال اتفاق على المشاركة في البحث، والتقييم، وبناء القدرة على التكيف، والاستجابة والتعويض. وقد تبدأ أيضًا تطوير إطارٍ تعاونيٍّ لأبحاث هندسة المناخ وتقييمها ونظامها. وربما تحتاج أيضًا أن تتضمن قضايا خارج سياسة المناخ، موجهة الأبعاد المرتبطة بسياسة الطاقة، والتكنولوجيا والتمويل، والتجارة والاستثمار والتنمية. ينبغي أن يُوجَّه اتساع الأجندة بطرح الأولويات الأساسية لكل المشاركين، وتقديم منافع كافية بالترادف مع الالتزامات؛ لتكون مقبولة من كل المشاركين.

تمثِّل هذه المفاوضات، إذا نجحت، خطوةً كبيرةً باتجاه استجابة عالمية فعَّالة لتغير المناخ، ولكن لحدوث ذلك، يجب أن يسهل الاتفاق الذي يتم التوصل إليه في هذه المجموعة التفاوضية الأولية، ولا يعوق، التوسع التالي باتجاه مشاركة تكاد تكون عالمية بانضمام أمم أخرى. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي أن يحدث هذا التوسع بسرعةٍ نسبيًّا لتخلق صفقة المجموعة الأولية حوافز مناسبة لتشجيعه. للحد من مخاطر أن تعانيَ المجموعة الأولية من عيوبٍ تنافسيةٍ مستمرة، مع التحول الناجم للاستثمار كثيف الانبعاث إلى مناطق لا تخضع للسيطرة، وتسرب الانبعاث، ينبغي أن يحد الاتفاق الأولي من الحوافز للصناعات عالية الانبعاث لتخرج من الاتفاق، ويمنح حوافز لبلاد إضافية لتنضم إليه. وإحدى وسائل منح هذه الحوافز من خلال تدابير التجارة التي تجعل أعباء تكاليف التعديل متساوية بين البضائع المنتجة داخل المجموعة المشاركة وخارجها.

يعتمد الشكل الخاص من هذه التدابير على سياسات التعديل التي يتم تبنِّيها. يمكن ضبط ضرائب الانبعاث عند حدود المجموعة المشاركة، تفرض على الواردات وتخصم من الصادرات، بما يتناسب مع الانبعاث الصادر في إنتاجها. في نظام للذروة والتجارة، يمكن تحقيق التأثير المكافئ بحصول الواردات على تصاريح انبعاث ومنح تصاريح جديدة للصادرات. وتؤدي هذه التدابير إلى توزيع تكاليف سياسة التعديل بالتساوي بين البضائع المتماثلة المنتجة داخل منطقة السيطرة وخارجها. بتخفيض الضغوط التنافسية لانتقال الصناعة عالية الانبعاث إلى الخارج، تستبعد هذه التدابير من مسار رئيسي لتسرب الانبعاث. بتخفيض المزايا التنافسية للمغامرات خارج منطقة السيطرة، سوف تخفض أيضًا الحوافز للحكومات التي تبقى خارج المجموعة.

تواجه هذه التدابير تحديات عديدة. وسيكون من الضروري الحكم عليها بالقبول في ظل قواعد منظمة التجارة العالمية، وسيكون عليها أن تظهر دقة كافية في أن تعزوَ الانبعاث للمنتجات. وربما سيكون من الضروري أن تجري هذه الحساباتِ هيئةٌ محايدة من الخبراء، مسئولة مجتمعة أمام كل الأمم المشاركة، مع عمليات لمراجعة حساباتها والاحتكام إليها؛ ومن ثَم الحد من مخاطر استخدام التدابير بوصفها حماية تجارية مستترة. وربما من الضروري أيضًا أن تكون مرنةً بما يكفي لتأخذ في الاعتبار حالة التنمية للشركاء التجاريين. إنها تحديات خطيرة، لكن يمكن، في رأينا، التغلب عليها بتصميمٍ دقيقٍ للتدابير والعمليات اللازمة لتحقيقها. ربما المجادلة الأفضل بالنسبة لهذه التدابير هي أنه إذا كان التهديد من تشريعها يحفز عددًا كافيًا من الأمم الأخرى للانضمام، فلن يكون من الضروريِّ تحقيق التدابير. كان استخدام مماثل للتدابير التجارية فعالًا بشكلٍ كبيرٍ في تحفيز الأمم للانضمام إلى اتفاقية مونتريال، متضمنة قيدًا واسعًا جدًّا ومرهِقًا جدًّا، حتى اعتبر غير علمي في النهاية. يمكن أن يكون لتدابير التجارة المرتبطة بغازات البيوت الزجاجية هدفٌ مماثلٌ — تحفيز هذا التوسع السريع في المشاركة وهي تُدرَس وتتطور حتى يصبح تحقيقها غير ضروري.

بإيجاز، يمكن أن يتقدَّم التتابعُ الاستراتيجي الذي نقترحه للابتعاد عن الورطة الحالية باتجاه عمل عالمي بخصوص المناخ، في ثلاث مراحل مترابطة؛ الأولى: تعلن الولايات المتحدة، وربما مع الاقتصاديات الصناعية الكبرى الأخرى، مجموعة جادة من تعهدات التعديل. الثانية: تتفاوض مجموعة الاقتصاديات العالمية الكبرى حول صفقةٍ شاملة في سياسة المناخ والطاقة، تشمل تعهدات بالتعديل متبادلة ومقبولة على مستوى القطاعات والاقتصاد. الثالثة: تنظم بنية هذه الصفقة التطور التالي لاتفاق عالمي بشأن تغير المناخ، ربما بالتفاوض على اتفاقية إطارية معدلة بخصوص تغير المناخ أو بروتوكول جديد في ظل تلك الاتفاقية. ولا يعتمد مفتاح المقترح على مفاوضات في منتدًى عالميٍّ بالنسبة للخطوات الأولى، بل يعتمد في الحقيقة على توحيدٍ لإعلانات رائدة من طرفٍ واحدٍ ومفاوضات في مجموعة صغيرة من الاقتصاديات العالمية الكبرى تسهل إدارتها.

لا نزعم أن نجاح هذه المقاربة مؤكد، أو أن فشل السعي لاتفاقات أقوى في ظل اتفاقية كوبنهاجن مؤكد، لكن آفاق العملية الحالية غير واعدة، والحاجة الملحة لعمل أكثر جدية هائلة. ثمة درس واضح لكوبنهاجن وهو أن قيادة المصادر الكبرى للانبعاث في مفاوضات عالمية ليست كافية؛ بسبب وجود فرص كثيرة جدًّا للإعاقة في منتدًى كبير. وينبغي التفاوض بشكل كامل حول تعهدات القادة والانتقال إلى التنفيذ قبل العودة إلى منتدًى عالمي. رغم أن مجموعة التفاوض التي نقترحها مماثلة للمجموعات التي شكلتها بشكل غير رسمي إدارتا بوش وأوباما، فإن تحقيق صفقة على نطاق كافٍ، وجادة بشكل كافٍ، يتطلب مؤسسات ودعمًا أقوى. قد يشمل نموذج مؤسسي واعد تنظيم تقدم قمة العشرين، على مستوى رؤساء الحكومات، مع دعم قومي (وربما دولي) مستمر. رغم الصعوبات، نحكم بأن مثل هذه المقاربة تحمل أعظم فرصة للنجاح. تسمح بمفاوضات منظمة لاتفاق أولي بشأن تغير المناخ، في ظل سيطرة أو الالتزام بالتعهدات. ويمكن أن تقدم مسارًا ممكنًا للتوسع المطلوب في المشاركة العالمية، ويحد من المخاطر بالنسبة لمن يتحركون مبكِّرًا. ويمكن أن يقدم قاعدة مؤسسية مستمرة متاحة لطرح المشاكل العالمية الأخرى التي لا تعالج بشكل كافٍ في المؤسسات الحالية.

(٣-٤) تعديل الاستجابات بمرور الزمن

قد تبدو المبادرة قريبة المدى التي طرحتها الولايات المتحدة والمفاوضات التي نقترحها؛ طموحةً جدًّا، لكنها تبقى خطوات مبكرة باتجاه معالجة فعالة لتغير المناخ لسببين؛ الأول: التحول المطلوب على هذا النطاق لا يمكن تحقيقه بالأفعال قريبة المدى وحدها، مهما تكن جريئة، لكنها تحتاج إلى جهودٍ مستمرةٍ لعقود طويلة. الثاني: ينبغي أن تتم هذه الخطوات على المدى القريب في ظل شكٍّ كبير يتعلق بتغير المناخ وتأثيراته، وتكاليف التعديل وفرصه؛ وبالتالي لا يمكن أن تنحصر في مسار مستقبلي كامل من خلال التحول المطلوب في الطاقة، لكن ينبغي تعديلها ونحن نتقدم، ونجمع الخبرة، ونتعلم أكثر. ليس التوسع المطلوب من مجموعة المفاوضات الأولية باتجاه المشاركة العالمية إلا بعدًا واحدًا ينبغي فيه أن تتكيَّف القرارات الأولية بمرور الزمن، ربما يكون البعد الأبسط والمتوقع أكثر من غيره. بالإضافة إلى ذلك، ينبغي إعادة تقييم المزج بين التكنولوجيات التي يتم تطويرها وتبنيها، وشكل السياسات وصرامتها لتحفيزها، وحتى هدف استقرار المناخ، بشكل دوري ومراجعتها بشكل فعال في ضوء الخبرة وتقدم المعرفة والقدرات. إن الدليل على حساسية أعلى للمناخ، أو تغير أسرع، أو تأثيرات أشد، أو تكاليف أقل للتعديل سوف يستلزم تقوية التعديل من خلال أسعار أعلى للانبعاث أو ذرًى وإجراءات أكثر إحكامًا، رغم الفجوات الزمنية الطويلة بين هذه الجهود وتأثيراتها على المناخ. سوف يوحي الدليل العكسي — حساسية أقل، أو تغيرات أقل، أو تأثيرات أخف، أو تكاليف أعلى للتعديل — بتراخي الجهود.

تخلق الحاجة إلى العمل الآن في ظل شك كبير ما قد يبدو مفارقة. من ناحية، مسار افتراضي على المدى الطويل للانبعاث في المستقبل وسياسات ينبغي أن تعلن الآن، لتمنح المستثمرين الحوافز المطلوبة على المدى الطويل. ومن الناحية الأخرى، ربما يتطلب التقدم مستقبلًا في المعرفة أو القدرات تغيير هذه المسارات ونحن نتقدم. وتتمثَّل طريقة حلِّ هذا التوتر في تعديل المسارات ولكن بحذر، مع الموازنة بين منافع التعديل طبقًا للمعرفة المتغيرة — أي تكلفة الاستمرار في مسار أو سياسة للانبعاث صار دون المستوى النموذجي من منظور المعرفة الجديدة — وتكاليف الارتباك، وشك المستثمر، وفقدان المصداقية بالنسبة للمسارات المعلنة نتيجة تغييرها. وهناك طرق عملية متنوعة يمكن لتعديلات السياسة أن تحدَّ بها من هذا الارتباك. ربما تتطلب التغيرات على مسارات أعلن عنها من قبل إشعارًا قبلها بسنواتٍ عديدة، أو تكون محدودة بتغيرٍ نسبيٍّ محددٍ سنويًّا. وبشكل بديل، يمكن للتعديلات أن تعالج رأس المال الجديد والموجود بصورة منفصلة، فارضة التغيرات فورًا على الاستثمارات الجديدة، وتمنح فترة سماح لرأس المال الموجود للوفاء بالمتطلبات الجديدة تدريجيًّا.٥

يمكن للقرارات الحالية أن تتنبأ بهذا الاحتياج للتعديل مستقبلًا، بوضع مرونة في بنية السياسات والاتفاقات قريبة المدى. يمكن أيضًا للقرارات الحالية أن تدعم البحث والتقييم ليكونا مفيدَين في توجيه القرارات المستقبلية، وأيضًا تطوير التكنولوجيا بحيث تقوى القدرة المستقبلية على معالجة القضية، على سبيل المثال، تكنولوجيات لمتابعة الانبعاث والأنشطة، مثل تلك المرتبطة باستخدام اليابسة، وهي غير عملية للتحكم الآن لكن ينبغي تضمينها وحدود الانبعاث تضيق.

سوف تتطلب أيضًا عمليات مراجعة السياسات وتعديلها، أكثر من هذه الطرق الواضحة التي يمكن للقرارات الحالية أن تدعم بها التعديلات المستقبلية، مجموعة من المؤسسات والإجراءات التي تنير القرارات المستقبلية وتوجهها. كيف ينبغي إقرار التعديلات المستقبلية، ومَن عليه اتخاذ القرارات؟ رغم الشك في أن تفرض إمكانية صناع القرار اليوم وشرعيتهم قيودًا قوية على قرارات المستقبل، يُقبَل شكل محدود من هذه القيود ويمارس على نطاق واسع في النظم البيئية الأخرى. استخدِمتْ هذه العملية، المؤسسة على التحكم في أجندة صناع القرار في المستقبل وإعطائهم معلومات مؤسسة على الخبرة، بفاعلية في اتفاقية مونتريال، وتوجد الخطوط العريضة لعملية مماثلة في الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ. وتشمل هذه العملية متطلبًا قانونيًّا يراجع السياسات بشكل دوري ويقيم كفاءتها بالنسبة للمعرفة والقدرات المتطورة. وتُقدَّم تقارير التقييم الصادرة عن هيئات الخبرة عن تقدُّم المعرفة العلمية والإمكانيات التكنولوجية لتوجيه هذه المراجعات السياسية الدورية. وتوحي خبرة اتفاقية مونتريال بأن تقييمات الإمكانيات التكنولوجية يمكن أن تكون حاسمة جدًّا، بمجرد أن تكون السياسات مناسبة، والأهداف تتحول باتجاه أعلى تخفيض للمخاطر، محددة فقط باعتبارات الإمكانيات التقنية والتكاليف.

(٤) الخلاصة

في الختام، لخص هذا الكتاب المعرفة العلمية الحالية فيما يتعلق بكيفية تغير المناخ وسببه، وكيف يحتمل أن يتغير على مدار القرن الحالي، والتأثيرات التي قد تحدث نتيجة له، وما يمكن القيام لمواجهته. وثَّقْنا الدليل العلمي الشامل على أن حرارة الأرض ترتفع، وأن تغير المناخ سوف يستمر مع تأثيراتٍ قد تكون شديدة في نهاية هذا القرن. وبناءً على هذا الدليل، جاء حكمنا بأن مخاطر مؤكدة جدًّا من تغير المناخ تحتاج إلى استجابة عاجلة ذات أولوية عالية، بهدف خفض الانبعاث في المستقبل والاستعداد لمناخ يعتريه الشك أكثر، وأقل لطفًا عما تمتعنا به في القرن الماضي. يجب أن تبدأ جهود ملموسة لبناء هذه الاستجابة فورًا.

رغم وجود دلائل لحركة ونحن نكتب في أوائل ٢٠١٠م، فإن المجتمع ليس مستعدًّا بعدُ لاستجابة جادة. وهناك أسباب كثيرة لهذا. يرتبط بعضها بالشك العلمي الذي يتعذر تجنبه — وهو لا يبرر عدم القيام بفعل، لكنه يقدم فرصًا بلاغية لتشويش القضية وتأييد التأجيل، ويجعل أيضًا من الصعب تحديد الفعل الذي يجب القيام به. ويرتبط بعضها بالتكاليف الباهظة للحد من تغير المناخ ومعالجته، وصعوبة تحديد السياسات التي توزع هذه التكاليف بشكل مقبول. مهما يكن خليط الأسباب، إن الأفعال الحالية غير كافية بكل معنى الكلمة مقارنة بخطورة القضية. رغم أن تغير المناخ معروف لأكثر من عقدَين، فإن الأمم الكبرى تقترب فقط من خط البداية للقيام باستجابات جادَّة. تبقى عمومًا المفاوضات والمناظرة على المستوى الدولي، حيث يجب أن يحدث الفعل الرئيسي، في ورطة عبر خطوط النزاع التي لم تتحرك إلا قليلًا، وحديثًا فقط. رغم الدلائل المتواضعة على أمل أن توجد في اتفاقية كوبنهاجن، لا يوجد أساس للثقة باقتراب حدوث تقدم مفاجئ.

من نواحٍ عديدة مهمة، تحظى مقاربتنا لمعالجة تغير المناخ بإجماع بادٍ. الأولوية الأكثر إلحاحًا أن تشرع الأمم الكبرى سياسات متسقة ومترابطة في المفاوضات الدولية، للحد من انبعاث غازات البيوت الزجاجية بتدابير مؤسسة على السوق، تضع سعرًا مناسبًا على الانبعاث، يكملها دعم للبحث والتطوير في تكنولوجيات الطاقة الآمنة للمناخ وإجراءات قطاعية أخرى. لاعتبار مهم، مع ذلك، نقترح فسحة من الممارسة والتوقعات الحالية: بدلًا من الاستمرار في البحث عن فعلٍ دولي بشأن المناخ، من خلال المفاوضات العالمية في ظل الاتفاقية الإطارية بشأن تغير المناخ، نؤيد مبادرة كبيرة من طرف واحد من الولايات المتحدة، تتبعها فورًا مفاوضات حول صفقة شاملة تربط تعهدات المناخ والطاقة بين مجموعةٍ صغيرة من الأمم الكبرى الصناعية والنامية. وتقدم هذه الصفقة جوهر المفاوضات بشأن المناخ.

لكن بصرف النظر عن تفاصيل الخطوات الأولى الجادة باتجاه معالجة تغير المناخ، من الضروري أن نقطعها. في ضوء أننا انتظرنا بالفعل وقتًا طويلًا، من الأهم بكثيرٍ أن نعمل شيئًا جادًّا بدلًا من القلق بشأن أن تأتي الخطوة الأولى صحيحة بدقة. وإذا وضعنا في الاعتبار الشكوك المتبقية والحواجز السياسية أمام الفعل الفعال، من المؤكد أن تأتي الخطوات الأولى ناقصة، وتكون في حاجة إلى التقييم والتعديل عبر الزمن؛ وبالتالي يكون تطوير مؤسسات وعمليات فعالة لدعم البحث والتقييم بفاعلية وتعديل السياسات مع اكتساب الخبرة، وتغير القدرات، وتقدم المعرفة، أكثر أهمية بكثير لمعالجة ناجحة لتغير المناخ من تفاصيل السياسات الأولية. ويمثل تطوير هذه العمليات الخاصة بالتكييف تحديًا جديدًا وحاسمًا.

تشبه معالجة إخلال الإنسان بمناخ الأرض تجريب ناقلة في مياه خطيرة. رغم أننا لا يمكن أن نتأكد، يبدو محتملًا باطراد أن هناك صخورًا أمامنا: ربما نُوجَّه بشكلٍ صحيح تمامًا. نعرف أن هذا هو الاتجاه الذي نبغي أن نسير فيه، لكننا لا نعرف المسافة التي علينا قطعها لتجنب هذه الصخرة، وما إن كانت هناك صخور أخرى من حولنا، أو الجدية التي علينا أن نسير بها دون أن نخاطر بتدمير السفينة. بالإضافة إلى ذلك، تحتاج سفينة كبيرة مثل هذه إلى أميال لتغيير مسارها. لسوء الحظ، لا يوجد أحد عند عجلة القيادة الآن. أفراد الطاقم تحت، يتجادلون عما إذا كانت هناك صخورٌ أمامهم حقًّا، وعن المسار الدقيق الذي ينبغي علينا أن نسلكه للوصول إلى هدفنا النهائي، ومن عليه أن يسلك الطريق بنا. وأفراد الطاقم يتجادلون، تقترب السفينة أكثر من الصخور. بشكلٍ ما، ما نحتاج إليه هو أن نصعد بعض الدرجات لنبدأ في الابتعاد عن الصخور — الآن. ولأن السير بالغ البطء، يجب أن نبدأ الابتعاد فورًا. في الوقت ذاته، نحتاج إلى أن نعرف المزيد عن موقع الصخور — ونعرف أيضًا، بالبدء في السير، كيف تستجيب السفينة ومدى الصعوبة التي يمكن أن نواجهها في تسييرها، لكن لا شيء من هذا الذي علينا أن نعرف المزيد عنه يبرر الانتظار في البَدْء في تسييرها: يعني فقط أن نسير بحذر، ونكون يقظين لكل ما يمكن أن نعرفه بشأن السفينة وأخطار المياه، ونحن نفعل ذلك. ربما علينا أن نتجنَّب الصخور، لكننا نحتاج إلى أن نبدأ الآن.

(٥) مزيد من القراءة حول الفصل الخامس

  • Joseph E. Aldy, A. J. Krupnick, R. G. Newell, I. W. H. Party, and W. A. Pizer (2009). Designing Climate Mitigation Policy. Discussion paper 08–16 (May). Washington, DC: Resources for Future. At www.rff.org/RFF/Documents/RFF-DP-08-16.pdf

مراجعة شاملة للقضايا الحديثة في تصميم السياسة لتخفيض الانبعاث، تشمل تقديرات للتكاليف والفوائد، والمسار المثالي لأسعار الانبعاث، وتصميم أدوات السياسة، والعلاقة بين الانبعاث وسياسات التكنولوجيا.

  • Joseph E. Aldy and R. N. Stavins, eds. (2009), Post-Kyoto International Climate Policy: Summary for Policymakers, Cambridge, UK: Cambridge University Press.

مناقشة للمقاربة البديلة للتفاوض بشأن اتفاقات جديدة بخصوص المناخ بعد ٢٠١٢م، تؤكد على المقاربات التي قد يتم التفاوض بشأنها في كوبنهاجن، بوصفها توابع لاتفاقية كيوتو.

  • Council on Foreign Relations (2008). Confronting Climate Change: A Strategy for U.S. Foreign Policy. Independent Task Force Report No. 61, G. E. Pataki and T. J. Vilsack, Chairs, New York: Council on Foreign Relations.

أحدث التقارير الكثيرة عن الهيئات العليا يقدم توصيات من أجل سياسة تغير المناخ في الولايات المتحدة، مع تركيزٍ خاصٍّ على الكيفية التي يمكن بها للولايات المتحدة أن تحقق دفعة للتأثير على ميول الانبعاث العالمي. ثمة ثلاثة بيانات موجزة معارضة تمسك بإيجاز بثلاثةٍ من أكثر الأبعاد الحالية حدة للخلاف السياسي — ما تكلفة دمج الانبعاث الحرج في خطوات على المدى القريب، سواء لصالح الضرائب أو نظم الذروة والتجارة، وما إن كان ينبغي للمفاوضات الدولية أن تركز في البداية على المعاهدات الملزمة تحت رعاية الأمم المتحدة، أو اتفاقات سياسية متبنَّاة في مواضع أصغر ورسمية بشكل أقل.

  • Robert Lempert (2009). Setting Appropriate Goals: A Long-term Climate Decision. Workshop, Shaping Tomorrow Today: Near-term steps towards long-term goals. Santa Monica: RAND Pardee Center. At www.rand.org/international_programs/pardee

مناقشة مبتكرة للاستراتيجيات البديلة على المدى الطويل لمعالجة تغير المناخ، الفرضيات التي تعتمد عليها كلٌّ منها، ودور الأنواع البديلة من الأهداف في تشكيل استراتيجية أقوى فيما يتعلق بالشكوك.

تقرير حلقة دراسية فحص كيف تحتاج سياسات المناخ للتعديل بمرور الزمن استجابة لتطور المعرفة، والشكوك، والقدرات، وأي القرارات قريبة المدى فيما يتعلق بالسياسات والمؤسسات قد يساهم بأفضل صورة للتكيف المستقبلي المطلوب.

١  Du Pont: شركة كيميائية أمريكية تأسست ١٨٠٢م. BP: شركة عالمية للبترول والغاز، مركزها الرئيسي لندن. Royal Dutch/Shell: شركة شل للنفط والغاز. (المترجم)
٢  J. Lee, “A call for softer, greener language,” New York Times, March 2, 2003, p. 1. The complete memo is posted by Environmental Working Group, at http://www.ewg.org.
٣  Remarks by President G. W. Bush, White House Rose Garden Briefing, June 11, 2001.
٤  على عكس بعض المقترحات، نرفض احتمالية التقدم الدال في الحد من الانبعاث بإنشاء أسواق دولية للتصاريح دون اتفاق على حصص التصاريح، أو خطوط الأساس للانبعاث. مثل هذه المقاربة تؤدي إلى حصصٍ غير مقيدةٍ وأسعارٍ للتصاريح منخفضةٍ جدًّا؛ بحيث تفشل في تقديم حوافز كافية لخفض الانبعاث، أو حتى لبناء تكامل نظام التداول ومتابعته.
٥  من الواضح أنه إذا تم العمل بهذه المقاربة، فإن أي تفضيل لرأس المال القديم لا بد أن يجدول في مدةٍ محددةٍ تمامًا، ويعلن عنها مسبقًا، للحد من الحوافز للحفاظ على استمرار رأس المال القديم في العمل لوقت أطول.