تمهيد
«لا يُظهِر الإنسان عظمتَه حين يلمس طرفًا واحدًا، بل حين يلمس الطرفَين معًا في آنٍ واحد، ويشغل كل ما يقع بينهما من فراغ.»
إن أعمال كامي وشخصيته — وهو في هذا يزيد عن أيِّ كاتبٍ معاصر — يُمثِّلان وحدةً متكاملة، لا يُمكِن الفصلُ فيها بين الكاتب الروائي والمسرحي، وبين المفكِّر الفيلسوف، بين رجل السياسة، وبين رجل المجتمع والأخلاق؛ فلا يستطيع المرء أن يفصل بين كامي الإنسان الذي ساهم في خلال الحرب الأخيرة في المقاومة السريَّة للاحتلال الألماني مساهمةً فعَّالة، ووقف في عديدٍ من القضايا الاجتماعية موقفَ المُكافِح الباسل، ووضَع نفسَه، كما يقول، في صفوف الضحايا والمعذَّبين والمحتقَرين، وحلَّل الداء الروحي الذي انتشر في كيانِ عصره وحاول أن يجد له الدواء، وعاش في ألوان الصراع التي كابدها جيله إلى حدِّ التوتُّر والتمزُّق، أقول لا يمكن للمرء أن يفصل هذا الإنسان عن شخصياتٍ مثل سيزيف وميرسو وريو، ممن ساروا في طريق الأمانة والعذاب إلى أقصى مداه؛ فمن الخطأ، إن لم يكن من الخطر أيضًا، أن ننظُر إلى الكاتب والمفكِّر بمعزلٍ عن الإنسان الذي يقف على أرض الواقع أو الصحفيِّ الذي ينبض قلبه بمأساة الجيل.
في هذه الصورة الكليَّة يُصبِح المُحال ضروريًّا ضرورةَ التمرُّد، كما يُصبِح التضامُن بغير التمرُّد على المُحال في أشكاله الميتافيزيقية والتاريخية المختلفة أمرًا يصعُب تصوُّره أو التفكير فيه. بهذا نُحاول أن نفسِّر الفكر من خلال الفكر نفسه، أعني بغير حاجةٍ إلى أن نُضيف إليه أفكارًا أو ألفاظًا أخرى غريبةً عليه، وسوف يرى القارئ، دون حاجةٍ إلى التأكيد من جانبنا، أننا لم نُحاول أن «نُمذهِب» هذا الفكر — فما أبعدَه عن أن يكون مذهبًا مغلقًا مكتفيًا بنفسه! — ولا أن نحشُره في زمرة الفلسفات الوجودية أو فلسفات الوجود، وهو الخطأ الذي يقعُ فيه الكثيرون في هذه الأيام، والذي طالمًا أبعدَه كامي عن نفسه في أحاديثه وكتاباته.
بقيَت ملاحظةٌ صغيرةٌ أُحب أن أسوقها بين يدَي هذا الكتاب؛ فلمَّا كان المقصود منه أن يكون بحثًا في الفكر الفلسفيِّ عند كامي لا دراسة في أدبه وفنِّه، فقد رأينا ألا نتعرض للأعمال الأدبية إلا بمقدار ما تُبيِّن الموقف الفلسفي أو تُلقي عليه مزيدًا من النور. ولا شك أن مُحبي أدب كامي وفنِّه سيأسفون لهذا الشر الذي كان لا بد منه، حتى لا يتجاوز الكتاب حدوده المرسومة، ولكن لا شك أيضًا أنهم سيجدون في الترجمات الأمينة التي تتوالى في السنوات الأخيرة على نحوٍ جديرٍ بالحمد والثناء عوضًا عن هذا القصور، كما سيجدون في غيرِ هذه الدراسة ما يُشبِع شوقهم إلى البحث والتفكير.
فلتكُن هذه المحاولة خطوةً متواضعةً لفهمِ واحدٍ من أكثر المفكِّرين في عصرنا الحديث نبلًا وشجاعةً وأمانة، واحد من أولئك الذين يفتخر الإنسان بأنه كان له الشرف أن ينبض قلبه وإياهم في زمنٍ واحد.