المُحال
تمهيد
«خنق الجلَّادُ الكاردينال كارافا بحبلٍ من حرير، انقطع منه، كان عليه أن يُحاوِل مرة ثانية، تطلَّع الكاردينال إلى الجلَّاد، دون أن ينبسَ بكلمةٍ واحدة.»
«نحن نعلم أن الشمسَ تكون في بعض الأحيان مُعتِمة.»
(١) المُحال١ في الاستعمال اللغوي
أي معنًى تُحاول هذه الكلمة أن تعبِّر عنه، وهي تُلغي كما يبدو من اسمها كل معنًى؟ وماذا يمكن أن يُقال عمَّا يستعصي في ظاهره على كل مقال؟ وهل في وُسْع العقل أن يحكم بشيءٍ عن كل ما ينفي العقل ويُخالِف المعقول؟
-
(أ)
قد يدلُّ «المُحال»، كما تُخبرنا المعاجم اللغوية والفلسفية، عن أمرَين؛ فهو قد يعبِّر تارةً عن فساد في اللغة أو الذوق العام، أو عمَّا لا يستقيم مع القواعد المألوفة في هذه اللغة أو هذا الذوق،٢ وهو تارةً أخرى يدُل على ما يُنافي العقل ويخرج عمَّا يمكن الحكم عليه بالخطأ أو بالصواب. والأساس المنطقي في الأمرَين واحد؛ فالخروج عن قواعد اللغة هو في الوقت نفسه خروج عن قواعد المنطق التي تحكُم هذه اللغة، والخروج عن قواعد المنطق يستتبع بالضرورة الخروج عن اللغة التي يحكُم المنطق بناءها ويجعلها صالحةً للتفاهُم والتعبير؛ ففي استطاعتنا إذن أن نأخذ الكلمة بوجهٍ عام للدلالة على ما يُخالِف العقل، وبوجهٍ أعم على ما يعجز العقل عن أن يُقرِّر في شأنه إن كان يُخالفه أو لا يُخالفه. وأعَم من هذا وذاك وأشدُّ غموضًا إطلاقُ كلمة المُحال في لغة كل يومٍ على ما يعتقد الإنسان أنه يُخالف العقل، سواءٌ في ذلك أكان الحديثُ عن لفظةٍ أو فكرة أو إنسان.٣ ومن المألوف في حياتنا اليومية أن نُطلِق صفة الاستحالة على كل ما يتعارض مع ما نسمِّيه عادةً ﺑ «العقل السليم»، وأن نبادر فنقول إن كل ما يُناقِض عاداتِنا العقلية والفكرية، أو ما لا يدُل على دلالةٍ معينةٍ تواضَعنا عليها بحُكم العقل أو حُكم التقليد فهو مُحال.
-
(ب)
أما في الفلسفة فنحن نفهم عادةً تحت كلمة المُحال ما يتعارض مع قوانين المنطق؛ فالفكرة «المُحالة» فكرةٌ لا سبيل إلى التوفيق بين عناصرها والتأليف بين أجزائها. والحكم «المُحال» حكم يتضمن غلطًا ينتهي به بالضرورة إلى نتيجةٍ باطلة، ويكشف عن الفساد في بنائه الصوري. والمُحال بهذا المعنى أعم من التناقُض — الذي يجمع الضدَّين في حكمٍ واحدٍ وفي وقتٍ واحد بالذات — وأقل تعميمًا من الخطأ والفساد؛ لأنه لا يدُل على صدق ولا على كذب، وقد يدلُّ عليهما معًا في وقتٍ واحد.
-
(جـ)
ولا يندُر أن نقع في الكتابات الفلسفية وأشباهها على مثل هذه القضية: «العالم مُحال». ألا تعني هذه القضية أن العالم مجرَّد عن المعنى، أو أنه خالٍ من كل غايةٍ يمكن أن يهدف إليها الموجود من وجوده؟
لو أن الأمر كان كذلك لما كان في مثل القضية ما يستحق القليل أو الكثير من الكلام؛ لأنها ستترك عندئذٍ مجال العقل وتدخل في مجال العاطفة والانفعال. وقد تُثير فينا ما تُثيره صرخة نفسٍ يائسةٍ خاب ظنها في الحياة، ولكن العقل سيُعرِض عنها في كبرياء وسيجد أنها لا تستحق منه قليلًا ولا كثيرًا من العناء؛ فما أكثر ما تنطلق مثل هذه الصرخات من شفاه الحائرين والمعذَّبين، ومَن فقدوا في عدالة الأقدار كل أملٍ ورجاء! وما أكثر ما سمعناها تتردَّد كالصدى الضائع المكتوم إثر كوارث الطبيعة في لشبونة أو أجادير، من أفواه أُناسٍ كانوا يقدِّسون التجانُس والكمال في معبد الطبيعة فإذا بهم يقفون أمام أطلاله الخرِبة، ويَرونَ بأعينهم ما آل إليه أفضل العوالم الممكنة! «كما تقول عبارة ليبنتس المشهورة». وسواء كان ذلك عن قصدٍ أو عن غير قصد، فإن مثل هذه العبارة المريرة «العالَم مُحال، أو العالم لا معنى له» قد تدلُّ على خيبة الأمل كما تدلُّ على عدم المبالاة، ولكنها قد تُعبِّر كذلك عن حال التوقُّف والانتظار، حيث لا يعني المُحال الصدق ولا البطلان، ولا يدلُّ على الخطأ ولا على الصواب.
فإن كان المُحال لا يعني أمرًا من بين هذَين الأمرَين اللذَين لا يتعدَّاهما الفكر بحال، وإذا كان من اللازم المحتوم لكل قضيةٍ أن تكون إما صادقة أو كاذبة ولا توسُّط بينهما — على نحو ما يقضي به المنطق التقليدي وما يقول به «الحس السليم» الذي نسير على هُداه في حياتنا اليومية — فهل هنالك إمكانيةٌ ثالثة بين هذَين الأمرَين أو وراءهما؟ هل يمكن أن تكون هناك قضيةٌ لا يجوز عليها الصدق ولا الكذب، أو يجوز أن تكون صادقةً وكاذبةً في آنٍ واحد، بحيث يمكن أن نطلق عليها اسم المُحال؟
ذلك ما نودُّ الآن أن ننظُر فيه من وجهة نظر المنطق، تاركين المُحال ودلالاتِه المختلفة عند كامي إلى حين، لنقف وقفةً قصيرة عند الأزمة التي نشبَت في أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن بين المناطقة والرياضيين، وهي التي تُعرف باسم «أزمة الثالث المرفوع».
(٢) المُحال والمنطق: أزمة قانون الثالث المرفوع
لا يشُك اليوم اثنان في أن هناك في مجال الفكر العلميِّ الدقيق ظاهراتٍ تتعدَّى حدود التصوُّرات التقليدية في المنطق الصوري، والرياضة والفزياء الكلاسيكية. وظاهرة المُحال هي إحدى هذه الظاهرات التي لا تنطبق عليها قوانين المنطق التي صاغها أرسطو، والتي أدت إلى الأزمة المعروفة بأزمة «الثالث المرفوع».
أدى تطوُّر العلوم الطبيعية منذ نهاية القرن التاسع عشر إلى إعادة النظر في المسلَّمات الرياضية وفي الأسس التي تقوم عليها الفزياء الرياضية ممَّا أدى بدَورِه إلى إثارة الجدل حول مبدأ الثالث المرفوع ومدى انطباقه على المجالات الجديدة التي لم يكن المنطق التقليدي يعرف عنها شيئًا.
فالمنطق الذي تسير عليه العلوم الطبيعية الحديثة كما نسير عليه في حياتنا اليومية بطريقةٍ تلقائيةٍ هو المنطق التقليدي أو منطق القيمتَين. أما المكتشفات الجديدة التي هزَّت كيان العلم فقد كان لا بد لمواجهتها من تجاوُز منطق الثالث المرفوع إلى منطقٍ ذي قيمٍ متعددة، يسمح على الأقل بإيجاد قيمةٍ متوسطة بين اللا والنعم، وبين الصدق والكذب. وقد أفضت إلى هذه المباحث المنطقية صعوبتان تسبَّبت إحداهما عن المفارقات التي قابلَها التفكير الرياضي في نظرية المجاميع، وفي مشكلة اللامتناهي، والأخرى فيما يُسمَّى بمنطق الكَم التي استلزمَت ضرورة تعديل قوانين الميكانيكا (ومن المعروف في تاريخ المنطق الحديث أن هانز ريشنباخ هو الذي طبَّق منطق القيم المتعددة على ميكانيكا الكَم).
والحقيقة أن هذه المشكلة في جوهرها مشكلةٌ فلسفية، والنزعتان المتعارضتان فيها تكشفان عن تأثير صراعٍ قديمٍ محتدم في مجال الفلسفة نفسها. ولما لم يكن في استطاعتنا أن ندخُل في تفاصيل أزمة أُسس الرياضة من وجهة نظرٍ علميةٍ بحتة، لافتقارنا إلى التخصُّص الدقيق من ناحية، واقتصارنا على الجانب الفلسفي وحده من ناحيةٍ أخرى، فسوف نكتفي بالكلام عن مبدأ الثالث المرفوع وحدَه، وعن الأزمة التي عاناها في السنوات الأخيرة وأدت بالبعض إلى الشك في صلاحيته صلاحيةً مطلقةً، والنقد الذي وجِّه إليه من جانب النزعة الحَدْسية الرياضية ومن أصحاب المنطق المتعدِّد القيم.
- (١)
يُوجد في المتتالية (ف) عددٌ له خاصية (١).
- (٢)
جميع أعداد المتتالية (ف) لهم الخاصية (١).
- (١)
لا يُوجد في المتتالية (ف) عددٌ له خاصية (١).
- (٢)
لا تحتوي جميع أعداد المتتالية (ف) على الخاصية (١).
ولا بأس هنا من أن نذكُر حكايةَ المفارقة الطريفة التي يمثِّل بها العالِم المنطقي بروور للموقف الحرِج الذي وجد الرياضيون والمناطقة أنفسَهم فيه، وهي الحكاية المعروفة بحكاية العمالقة المنطقيين؛ فقد كان هؤلاء العمالقة يسكنون جزيرةً نائية، ويقتلون كل غريبٍ يسوقه سوء حظه إلى شواطئها. لقد كان على كل غريبٍ أن يُجيب على سؤالٍ معيَّنٍ يُوجِّهُه العمالقة إليه. وسواءٌ أكانت الإجابة صادقةً أو كاذبة فلم يكن له مفرٌّ من أن يُضحَّى به على مذبح الصدق أو مذبح الكذب. وذات يومٍ يُوجِّه العمالقة كعادتهم سؤالهم الخالد إلى أحد الغرباء: ماذا سيكون مصيرك؟ ويُجيب الغريب قائلًا: سوف يضحَّى بي على مذبح الكذب. ويُفاجَأ العمالقة وتشيع الحَيرة بينهم. لقد اكتشف الغريب الإجابة التي تفلِتُ من تقابُل الأضداد وتتجاوزُ الصدق والكذب جميعًا، وتتعدَّى بذلك مبدأ الثالث المرفوع. لقد أعجز العمالقةَ الحُكم على إجابته بالصدق أو بالكذب، وفوَّت عليهم فرصةَ التضحية به على أحد المذبَحَين!
أما ريشنباخ فقد ذهب مذهبًا آخر، لقد أراد أن يُدخِل على المنطق حسابَ احتمالاتٍ يسلِّم فيه بقيمٍ ثلاث: ١، ٠، ١ / ٢ حيث تكون ١ / ٢ هي القيمة المنطقية غير المحدَّدة. هذه القيمة الثالثة هي النتيجة المترتِّبة على فزياء الكم، أو بعبارةٍ أدقَّ على علاقة عدم التحدُّد التي قال بها هيزنبرج. وبذلك يكون المنطق التقليدي الذي وضع أرسطو بناءه المتكامل، وظَن الفلاسفة إلى عهد «كانْت» أنه لا يمكن إضافة شيءٍ جديد إليه، أقول يُصبِح هذا المنطق التقليدي مجرد حالةٍ خاصة من حالات منطق الاحتمالات، لا يُراعى فيه الاحتمالان المتطرفان، ونعني بهما الاحتمالية اللامتناهية، أو اليقين، واحتماليَّة الصفر أو الكذب (وقريبٌ من هذا محاولات ج. ل. ديفوش في إقامة منطقٍ عامٍّ يضع فيه الأساس المنطقي للفزياء الحديثة).
والحقُّ أن محاولات أصحاب المنطق ذي القيم الثلاث (بل وأصحاب المنطق ذي القيم المتعدِّدة إلى ما لا نهاية له من القيم مثل لوكازيفتش وأتباعه) لها ما يُبرِّرها من الواقع العلمي الحديث؛ فالموقف الحاضر في العلم الطبيعي في الرياضة والفزياء على السواء، قد لفَت أنظار العلماء إلى مراجعة الأُسس التي يقوم عليها المنطق وتعديل شكلها التقليدي، وإعادة النظر في مجموعة المسلَّمات البديهية التي يقوم عليها الفكر، وبخاصةٍ بعد أن تبيَّن لهم من نتائج البحوث في بعض فروع الرياضة والفزياء والرياضية أن بعض البديهيات الواضحة لم تعُد من البداهة والوضوح بما كانت عليه من قبلُ. وليس هنا مكان التعرُّض لهذه المُشكِلات وتتبُّع تطوُّرها منذ احتدام أزمة الأُسس الرياضية إلى اليوم. إن ما نريده لا يتعدى الإشارة إلى الفكرة الرئيسة التي قدح بها بروور ومدرسته شرارة تلك الأزمة، وإلى إمكانية وجود قيمةٍ ثالثة بين الصدق والكذب من وجهة النظر الصورية البحتة؛ أي صلاحية مبدأ الثالث المرفوع كمبدأٍ ومثالٍ منطقي.
-
(أ)
فبالنسبة للأعداد التي لم تحدَّد بعدُ في متتالية حرَّة (ف) مثل ١، ٦، ٢٨، ٣، ٩، ١١ … تكون القضية القائلة إن «ف تحتوي على العدد ٤» قضيةً مستحيلةً وخاليةً من كل معنًى مثلها في ذلك مثل القضية الأخرى القائلة «إن ف لا تحتوي على العدد ٤».١٦ والقضية الوحيدة التي يمكن أن تُقال فيكون لها معنًى هي هذه القضية: «المتتالية ف يمكن أن تحتوي على العدد ٤ ويمكن ألا تحتوي عليه»، وإذن فكل ما نستطيع قولَه من وجهة النظر الصورية هو ما يلي: كل مقولةٍ عن متتاليةٍ حرَّة وكل مقالٍ منفصل يخالف معناها فهي مقولةٌ متناقضة في ذاتها.
-
(ب)
يرفض بروور مبدأ الثالث المرفوع باعتباره المبدأ الذي تقوم عليه كل معرفة. وهجومه عليه، وإن يكن له ما يُبرِّره من الناحية الموضوعية، لا ينصبُّ في الحقيقة على مبدأ الثالث المرفوع Tertium non datur بمعناه المنطقي الخالص. يقول بروور: «في رأيي أن مسلَّمة الحل (يعني بذلك المسلَّمة التي تقول إن كل مشكلةٍ رياضية فهي قابلةٌ في أساسها للحل، وهذه المسلَّمة تقوم بدورها، في النزعة الرياضية الصورية، على صحة مبدأ الثالث المرفوع) ومبدأ الثالث المرفوع كلاهما فاسد، وقد نشأ الاعتقاد بهما من الناحية التاريخية من استخلاص المنطق التقليدي من رياضة المجاميع الجزئية لمجموعةٍ متناهية بذاتها، ثم إعطاء هذا المنطق بشكلٍ قبليٍّ وجودًا مستقلًّا عن الرياضة وتطبيقه أخيرًا بغيرِ حق — على أساس هذه القَبْلية المزعومة — على رياضة المجاميع غير المتناهية.»١٧وبروور بهذا الزعم يُسيء فهم المنطق الأرسطي في منشئه ومعناه، وهو الذي أراد به أن يُثبِت دعائم العلم الحق والتقنين المضبوط، ويقع في الخطأ الذي نُصادفه كثيرًا لدى الرياضيين وأصحاب المنطق الرياضي؛ فالواقع أن الأمر هنا يتعلَّق بصحة التصوُّرات المنطقية لا بنظرية المجاميع المتناهية، لقد استخلص أرسطو الصورة المنطقية مستجيبًا في ذلك للحاجة إلى تدعيم التفكير التصوُّري وتأمينه ولنزعته الأصلية لكل ما هو شكلي وصوري. وحين أراد أن يضرب الأمثلة لِما يقول لم يستطع لسوء الحظ أن يستغني عن الاستعانة بالعيانات الكمية، مما أدَّى إلى بعض اللبس في أقواله.١٨
-
(جـ)
إن مبدأ عدم التناقُض والثالث المرفوع مبدآن صحيحان صحةً مطلقة بالنسبة لكل ما هو موجود؛ أي بالنسبة لما هو كائنٌ أو لما يمكن أن يكون. وهما بذلك يقومان على أساس جوهر الموجود نفسه وطبيعته. وقد لاحظ أرسطو بنفسه أن مبدأ الثالث المرفوع يتعلَّق بالحاضر والماضي، وبذلك يمكن للإيجاب والسلب أن يكونا صادقَين أو كاذبَين. أما في مجال الممكن والمستقبل — ما بقيَت أسبابهما مجهولة — فلا يمكن لإيجاب ولا سلب أن يُحكَم في شأنهما بالصدق أو بالكذب «لأن الأمر فيما يتعلَّق بما لا وجود له، ولكن يمكن أن يُوجد أو لا يُوجد، يختلف عنه فيما يتعلَّق بما هو موجود.» كما تقول عبارة أرسطو التي أوردناها من قبلُ.
-
(د)
كثيرًا ما يُساء استخدامُ مبدأ الثالث المرفوع وتطبيقُه في أفكارنا اليومية وتأمُّلاتنا المنطقية؛ فكم من أحكامٍ تُواجهنا نجدها حقًّا متقابلةً تقابُل الضدَّين، حتى إذا أمعنَّا النظر فيها وجدنا أن مبدأ الثالث المرفوع لا ينطبق عليها ولا يصحُّ لها؛١٩ فقولنا مثلًا إن «جوته شاعرٌ من شعراء العاصفة والاندفاع»،٢٠ وقولنا إنه «ليس شاعرًا من شعراء العاصفة والاندفاع». وقولنا إن «الحصان أبيض» أو إنه «ليس بأبيض» أمثلةٌ مختلفة لأحكامٍ لا تحتوي على تضادٍّ ولا انفصالٍ حقيقي؛ ولذلك فكلاهما فاسدٌ من وجهة النظر المنطقية الخالصة؛ فالقضية الأولى تنطبق على جوته في مرحلةٍ من مراحل تطوُّره العقلي والفني، ولكنها لا تنطبق عليه في مرحلته الكلاسيكية أو مرحلة شيخوخته المتأخرة. وكذلك الشأن في القضية الثانية؛ فالحصان قد يكون أبيض في الجبهة، أسوَد الساقَين، بحيث يمكن القول عنه إنه أبيضُ وأسودُ في وقتٍ واحد. غير أننا لو توخَّينا الدقة لوجدنا أن هناك أوصافًا معيَّنة بذاتها أو أضدادها هي التي يمكن لها وحدها أن تُطلَق على شيءٍ معيَّن في نقطةٍ مكانية وزمانيةٍ بعينها. وهنا لا بد من اتِّباع مبدأ التفرُّد بكل دقةٍ وتحديد الواقع المكاني والزماني تحديدًا تامًّا لكي يمكن التحقُّق من القضية التي نَقولُها عنهما بعد ذلك؛ فجوته في مثالنا السابق يمكن في مرحلةٍ زمنية معيَّنة أن يكون شاعرًا من شعراء العاصفة والاندفاع أو لا يكون، كما يمكن للحصان في نقطةٍ معينةٍ من جسمه أن يكون أبيضَ أو أسوَد، ولكنه لا يمكن أن يحتمل الاثنَين معًا في آنٍ واحد ومن جهةٍ واحدة.وإذن فمبدأ الثالث المرفوع يصلُح لأن يُطبَّق على الأحكام المتضادَّة بحق (مثل أ هي ب، وأ ليست هي ب) لا على الأحكام المتقابِلة تقابلًا عكسيًّا بحيث يمكن أن يكون كلا الحكمَين فاسدَين في وقتٍ واحد، كما يمكن أن يقوم بينهما حكمٌ ثالث. وإذن فالاعتراضات التي يُوجِّهها بعض الرياضيين والمناطقة إنما تنطبق على الفصل Disjunktion الفردي لا على مبدأ الثالث المرفوع بما هو كذلك.
-
(هـ)
ما أهمية هذه القيمة الثالثة التي تحدثنا عنها إذن، والتي لا ينطبق عليها الصدق ولا الكذب، وقد تكون مع ذلك صادقةً وكاذبةً في وقتٍ واحدٍ، هذه القيمة التي نُطلِق عليها أوصافًا مختلفة، فنصفها حينًا بأنها تلك التي لا يُمكِن البرهنة عليها أو تحديدها، ونَصِفها حينًا آخر بالمُحال؟ الواقع أن هذه الكلمات إن كانت قد احتفظَت حتى الآن بمعنًى حَدْسيٍّ يزيد على طابعها التقليدي، فإنها لا تدُل في الواقع على قيمةٍ منطقية، بل على استحالة التوصُّل في بعض الأحوال إلى تحديدٍ دقيق للقيمة المنطقية، فهل يجوز لنا أن نجعل من افتقاد القيمة المنطقية قيمة؟ ربما كان هذا الحلُّ مُريحًا من الناحية الشكلية الخالصة، ولكنه لن يُغيِّر من الموقف الأصلي في شيء؛ فهذه القيمة الثالثة تدُل في حقيقة الأمر على العجز عن تقرير الصدق أو الكذب في أحوالٍ معيَّنة. إنها تُعبِّر، كما قلنا من قبلُ، عن موقفٍ لم يُقطَع فيه بشيء، وفي مثل هذا الموقف لن يكون مبدأ الثالث المرفوع هو المبدأ الوحيد الذي لا بُد من طرحه والاستغناء عنه، بل إن القدرة على المعرفة هي نفسها التي ستتعطَّل وتُصاب بالبلبلة أو الجمود.٢١
-
(و)
لا يمكن أن يكون مبدأ الثالث المرفوع مبدأً خاطئًا. ومع ذلك فقد يكون من واجبات المعرفة في لحظةٍ من لحظات تاريخها أن تَسمحَ على الأقل في بعض الظروف بوجود قيمةٍ ثالثةٍ إلى جانب قيمتَي الصدق والكذب أو التأكيد والنفي لقضيةٍ من القضايا. ولا يصحُّ أن يؤدِّي هذا الاستثناء إلى طرح مبدأ الثالث المرفوع. إنها تبيِّن حدوده وحسب. فمثال المعرفة، الذي يجد التعبير عنه في هذا المبدأ المنطقي، لا يصح النيل منه أو الانتقاص من شأنه. إن عليه أن يحتفظ بكل ما فيه من دقته وإحكامه. ومع ذلك فإن من الواجب أن نضيف أنه ينبغي تطبيقه بحذر، وأن الفكر ليس قادرًا على تطبيقه في جميع الأحوال. ولقد اعترف بذلك أحد المناطقة التقليديين أنفسهم، وهو برادلي؛ حيث يقول: «إن مبدأ الثالث المرفوع على الرغم من أهميته وضرورته، ليس صادقًا صدقًا مطلقًا. إنه يفترض عالمًا منفصلًا يتألَّف من وقائع غير مترابطةٍ، وحقيقته نسبية ومقصورة على الواقع كما هو ماثل في مثل ذلك العالم.»٢٢
-
(ز)
ربما دار في خلد القارئ بعد هذه الملاحظات التي سقناها عن مشكلة المُحال في المنطق الحديث أن في استطاعتنا أن نبحث عن طبيعة المُحال عند كامي، وهو الذي يهمُّنا في هذا المقام بوجهٍ خاص، بطريقةٍ منطقيةٍ صورية. غير أننا سنتبيَّن من الفصل القادم أن الأمر على خلاف ذلك تمامًا، وأن المُحال عند كامي لا يمكن أن يُفهم إلا بطريقةٍ ديالكتيكية-وجودية. ونودُّ قبل أن نتعرَّض لذلك بشيءٍ من التفصيل أن نُقرِّر هذه الحقائق التي انتهينا إليها من حديثنا السابق فيما يتعلق بالبناء المنطقي للمُحال:
- (١)
المُحال إمكانيةٌ ثالثة بين الصدق والكذب، أو التأكيد والنفي، أو النعم واللا؛ فهو قد يدلُّ على ما ليس بصادقٍ ولا كاذب، كما قد يدُلُّ على ما هو صادق وكاذب في آنٍ واحد.
- (٢)
إن إمكانية وجود المُحال لا يصحُّ أن تؤدي إلى نبذ مبدأٍ أساسي من مبادئ المعرفة الإنسانية، ألا وهو مبدأ الثالث المرفوع، بل ترسمُ حدوده وتبيِّن ظروف صلاحيته أو عدم صلاحيته. إن من حق الفكر، بل من واجبه، أن يبحث إمكانياته وحدوده، ولكن معرفة الحد لا يصحُّ أن تؤدِّي إلى تغيير المطلب الأساسي الذي ينشدُه العقل في الحقيقة، بل الأصحُّ من ذلك أن نقول إن مبدأ المعرفة نفسه هو الذي يُشعِرنا بوجود الحد؛ فالثنائية التي يقوم عليها كل فهمٍ وكل معرفة، ونعني بها ثنائيةَ الصدق والكذب والإيجاب والسلب، لا بُد من أن تظل قائمةً لا تُمس، وكل مساسٍ بها إنما يكون على حساب الفهم والمعرفة أنفسهما.
- (٣)
وقد يكون من الأنسب أن نُوجِّه المشكلة وجهةً جديدة لعلَّها أن تُفيدنا في الفصول القادمة، وذلك بأن نقدِّم مشكلة المعنى على مشكلة القَطع في أمر الصدق أو الكذب. وسوف نرى فيما بعدُ أن قضيتَين كهاتَين: «العالم له معنًى»، و«العالم ليس له معنًى» ليستا في الحقيقة قضيتَين متضادَّتَين ولا يُعبِّران عن فصلٍ حقيقي؛ فالواقع أن المعنى في مثل هذه القضية: «العالم لا معنى له» إنما يكمن في خلُّوها من المعنى؛ فهي إذن لا تُمثِّل القضية المناقضة للقضية التي تقول: «إن للعالم معنًى»، ولا يمكن لهذا السبب أن تُمتحَن على أساسٍ منطقيٍّ «صوري».
- (٤)
يمكننا أن نصف المُحال بأنه ما لا سبيل للبرهنة عليه. إنه يدُل — إن صح أن له دلالةً على الإطلاق — على حالٍ من الانتظار والتوقُّف عن الحكم؛ أعني أنه لا يدُل على موقفٍ نهائي. إنه نوعٌ من السلب النسبي، يحتوي في داخله على بذرة الإيجاب.
- (١)
ويُسمِّي المنطقي البولندي الكبير لوكازيفتش هذا المبدأ باسم المبدأ ذي القيمتَين، أما عن تجاوُزه له إلى منطق القيم المتعددة الذي يمكِن أن يقوم إلى جانبه المنطق التقليدي ذو القيمتَين وأن يستقل عنه، وعن جهود المدرسة البولندية المنطقية في هذا السبيل فيمكن الرجوع فيها إلى كتاب ل. م. بوشنكي «أصول المنطق الرياضي»، بادر بورن، ١٩٥٤م، ص٩٢–٩٥؛ وإلى كتاب المنطق الصوري، فرايبورج، ١٩٥٦م، مطبعة ك. ألبير، ص٣٤١–٣٤٤، ٤٦٩–٤٧٢؛ وإلى مقال لباول لنكه، في مجلة البحث الفلسفي، المجلد الثالث، ١٩٤٨م، ص٣٧٨–٣٩٨، ص٥٣٠–٥٤٦، بعنوان: «أشكال المنطق ذي القيم المتعدِّدة ومشكلة الحقيقة».