المسعودي في سطور
يتَّصل نسب المسعودي بالصَّحابي الجليل عبد الله بن مسعود الذي خرج إلى العراق يعلم الناس هناك القرآن والسنة، أيام الخليفة الثالث عثمان بن عفان، ولما وقع خلاف بشأن المصاحف بينه وبين عثمان استدعاه إليه في المدينة وآذاه، وكان ذلك من أسباب ثورة أهل العراق على الخليفة عثمان، وبعدئذٍ استقرت أسرة المسعودي (نسبة إلى الجد ابن مسعود) في العراق، تشتغل في ميادين العلم والأدب، بعيدًا عن السياسة، إلى أن أنشئت بغداد، في عهد الخليفة العباسي الثاني أبي جعفر المنصور، فسكنت فيها.
وقد جاء مولد المسعودي في عهد الخليفة المعتضد بالله الذي تولى الخلافة سنة ٢٧٩ﻫ/٨٩٢م، ولكن المعلومات التي وصلت إلينا عن طفولته وحياته في عاصمة العباسيين قليلة نادرة، إلا أن الثابت هو أنه أمضى زهرة شبابه في بغداد التي كانت مركزًا حضاريًّا عالميًّا لا يضاهى في ذلك العصر، إذ كانت تضم أغنى المكتبات، وأشهرَ العلماء والفقهاء، وقد عاش المسعودي في كنف أسرته العربية العريقة التي عملت على تزويده بقسط وافر من العلم والثقافة، وظل في عاصمة العباسيين إلى أن غادر العراق، وبدأ الترحال وهو في مقتبل الشباب.
وإذا كنا لا نعرف عن نشأة المسعودي وحياته الشخصية وأسرته إلا قليلًا، فإن التراث العربي ذكره وتحدَّث عن مؤلفاته ورحلاته. وقد وردت معلومات مستفيضة عن إنتاجه العلمي، ونشاطه بوصفه جغرافيًّا ومؤرخًا ومثقفًا، في كتب ابن النديم، والنجاشي، وابن حزم، والذهبي، والسبكي، وابن خلدون الذي سماه «إمام الكُتَّاب والباحثين».
على أن المسعودي اقترب خطوة من طريقة التحليل التاريخي، وتقصي الدوافع والأسباب، ولم يُسلِّم بصحة كل ما كان متداولًا قبله من أخبار ومعلومات، فقد بذل جهده، بقدْر ما سمحت له ظروف عصره، في أن يضع أمورًا كثيرة موضع الاختبار، والمشاهدة، والتحليل، والمقارنة … فلم يدع شيئًا وقع عليه نظره، أو عرض له، أو استرعى انتباهه من ظواهر طبيعية، وعادات، وأديان، ووقائع، وثقافات إلا أعمل فكره فيه، وسجله بموضوعية وحياد، بعيدًا عن التعصب والهوى، واعيًا قيمة هذه الفضيلة حق الوعي، فهو القائل عن كتابه «مروج الذهب»: «لم أنتصر فيه لمذهب، ولا تحيزت إلى قول، ولا حكيت عن الناس إلا مجالس أخبارهم، ولم أعرض فيه لغير ذلك» (ج٤، ص٣٨٦).
ولئن كان المسعودي قد سار على خُطى اليعقوبي، معاصر الطبري، فإنه أضاف إلى طريقته ما يمكن أن يوصَف اليوم بالجمع بين الدراسات التاريخية والجغرافية، وتتصف كتب المسعودي بنظرة أعمق وأكثر دقة مما كان عليه أسلافه من الجغرافيين والرحالة العرب كالمقدسي والبيروني. وبينما يُعَد الإصْطخري وأبو الفداء ممن اتبعوا طريقة المسعودي، ينظر الباحثون إلى صاحب «المقدمة» ابن خلدون (٧٣٢–٨٠٨ﻫ/١٣٣٢–١٤٠٦م) على أنه من أبرز من نسجوا على منوال المسعودي الذي لم ينجُ من نقده العادل، رغم اعتراف ابن خلدون بما لسلفه العظيم من أفضال علمية كبيرة.
- (١)
دراسات دينية تتناول القرآن والحديث.
- (٢)
وأخرى دنيوية تتناول التاريخ، والجغرافيا، والفلسفة، والمنطق، والطب، والرياضيات، والكيمياء.
وبقي جوهر هذه الثنائية في النظر إلى العلوم قائمًا، رغم اختلاف الصياغة؛ فاستمر هذا التقسيم زمنًا طويلًا، ففي الجزء الأوَّل من كتابه «العبر وديوان المبتدأ والخبر» يقول ابن خلدون الذي وُلد بعد وفاة المسعودي بحوالي أربعة قرون:
«إن العلوم صنفان: صنف طبيعي للإنسان يهتدي إليه بفكره، وصنف نقلي يأخذه عمن وضعه، والأول يشمل العلوم الحكمية الفلسفية، وهي التي يمكن أن يقف عليها الإنسان بطبيعة فكره، ويهتدي بمداركه البشرية إلى موضوعاتها ومسائلها.
كان المسعودي منذ صغره يحب القراءة، ويقدر الكتاب عاليًا، ويظهر ذلك من تضمينه «مروج الذهب» أقوالًا للحكماء عن الكتاب، منها، مثلًا:
«الكتاب نِعم الجليس والعمدة، إن شئت ألهَتك نوادره، وأضحكتك بوادره، وإن شئت تعجبت من غرائب فوائده، وهو ميت ينطق عن الموتى، ويترجم عن الأحياء، وهو مؤنس ينشط بنشاطك وينام بنومك، ولا نعرف جارًا أبرَّ، ولا خليطًا أنصف، ولا رفيقًا أطوع، ولا معلمًا أجمع، ولا صاحبًا أظهر كفاية ولا أقل جناية، ولا أجدى نفعًا، ولا أحمد أخلاقًا، ولا أدوم سرورًا، ولا أعجل مكافأة.
إن نظرتَ إليه أطال إمتاعك، وشحذ طباعك، وأيد فهمك، وأكثر علمك، وتعرف منه في شهر ما لا تأخذه من أفواه الرجال في دهر.
ونقرأ عند ميكولسكي أن اهتمام المسعودي كان منصبًّا على الدراسات التاريخية والجغرافية، فقد كانت الجغرافيا علمًا متطورًا عند العرب؛ فحاولوا قياس درجات طول الكرة الأرضية أيام المأمون (٨٢٧م)، في حين لم تقم أوروبا بمحاولات من هذا النوع إلا في القرنين السادس عشر والثامن عشر.
ويضيف المستعرب الروسي ميكولسكي أنه بعد أكثر من ألف عام بيَّن المستعرب الإيطالي نالينو، والرياضي الألماني شوي، أن علماء الفلك العرب لم يخطئوا في عملهم هذا إلا بمقدار كيلومتر واحد، على أن سبب هذا الخطأ يعود إلى عيوب أدوات القياس في تلك الأيام، وكانت أوروبا في العصور الوسطى وعصر النهضة تستخدم ما توصل إليه العرب من اكتشافات وإنجازات علمية، وبفضلهم اكتشف كولومبوس أمريكا، وقد أقيم في عهد المأمون مرصدان فلكيان، الأول في حي الشماسية في بغداد، والثاني على جبل قاسيون قرب دمشق.
غير أن د. علي حسني الخربوطلي، في كتابه: (المسعودي، سلسلة «نوابغ الفكر العربي»، ٣٨، دار المعارف بمصر، ١٩٦٨م) يجعل سنة ميلاده حوالي عام ٢٨٧ﻫ/٨٩٨م، وربَّما لهذا السبب يقول إن أول رحلة له خارج بغداد كانت سنة ٣٠٩ﻫ، إذ هيهات أن يكون بدأ رحلاته وهو بعد ولد في الرابعة عشرة من عمره!
ولا سند لقول كاتب مادة «المسعودي» في («الموسوعة العربية»، المجلد ١٨، ص٥٧٣) بأن المسعودي بدأ رحلاته سنة ٣٠٣ﻫ/٩١٥م، وقام برحلتين فقط، زار في الأولى فارس والهند والصين وعمان وجزيرتي مدغشقر وزنجبار، وفي الثانية أذربيجان (!) والشام، وتوفي عن خمسة وثمانين عامًا (!)، و«بلغت مؤلفاته سبعة عشر كتابًا»! فالثابت، كما سنرى لاحقًا، هو أن عدد مؤلفاته المفقودة يزيد على ثلاثين!
وإذا كان كراتشكوفسكي يذكر في كتابه «تاريخ الأدب الجغرافي العربي، ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم، بيروت، ١٩٨٧م» أن المسعودي ولد في بغداد في بداية القرن العاشر الميلادي (!)، فإن «الموسوعة العربية العالمية» (المملكة العربية السعودية، ج٢٣، ١٩٩٦م، ص٢٤٨) تكتفي بذكر سنة وفاته (٣٤٦ﻫ/٩٥٧م)، وتقول إنه «وُلِد ببغداد في بداية القرن الرابع الهجري» (!)، وله رحلة إلى «بلاد فارس عام ٣٠٣ﻫ/٩١٥م» (؟!). غير أن هذا يعني، لو صح، أن المسعودي بدأ رحلاته وعمره أقل من ثلاث سنوات!