خاتمة الكتاب أو خلاصة ما تقدم
تربي المعاشر أبناءهم
ويشقى الأنام بما ربتوا
وما الناس إلا نبات الزما
ن فليحصد القوم ما نبتوا
أبو العلاء المعري
إذا كنت قد عملت بالوصية، كما في صدر هذا الكتاب، وطالعته بكل تَمَعُّنٍ، وكنت مع
ذلك قد
تمكنت من التغلب على مؤثرات تربيتك السابقة لضبط نفسك عن الاندفاع مع عوامل الهوى،
١ غير مداجٍ أو متوارٍ، رغبة أو رهبة، أو مصادٍ بدعوى الحكمة،
٢ مستقلًا في أحكامك،
٣ غير مستهوًى بكثرة تغالبك،
٤ أو منقادٍ لقول ليس من صميم العلم،
٥ ولو أن قائله عالم عظيم،
٦ فالعلم مباح لك كما هو مباح لسواك،
٧ منقادًا في تساؤلك
٨ لأحكام العقل لا لرغائب القلب،
٩ وفي علمك لاختبارات الطبع لا لأحكام الوضع،
١٠ ناظرًا إلى الحقيقة عارية عن كل ملابسة،
١١ فلا يسعك إلا الاعتراف معي مضطرًا بما يأتي:
-
أولًا: أن علوم الأقدمين علوم نظر١٢ أكثر منها علوم عمل، أو فلسفتهم عقلية١٣ أكثر مما هي محسوسة، مجردة أكثر مما هي مادية، متحكمة مفارقة
أكثر منها لازمة ملازمة، موضوعة أكثر منها مطبوعة، روحانية أكثر منها
جسمانية، كلامية١٤ أكثر منها اختبارية، متمنيات مرغوبة أكثر مما هي حقائق
مقررة.
-
ثانيًا: أن علوم الأقدمين وفلسفتهم انتقلت إلينا وبقيت زمانًا طويلًا كل علومنا
وفلسفتنا، ولا تزال حتى اليوم روح فلسفتنا وعلومنا العقلية والأدبية
والدينية.
-
ثالثًا: أن حالة الإنسان الاجتماعية ونظاماته وشرائعه وقوانينه، حتى استعداد
عقله، وأميال نفسه، وغرضه في أبحاثه مستفادة كلها في كل أطواره في التاريخ
من علومه ونظره الفلسفي في الكون.
-
رابعًا: لا يُنْكَر أن العلوم الاختبارية المادية الطبيعية قد ارتقت اليوم جدًّا
عما كانت في الماضي، ولا يُنْكَر أن علوم الكلام قد انحطت اليوم، وقل الميل
جدًّا إلى مباحثها، وتغير كذلك ما ترتب عليها من النظريات الاجتماعية
والأدبية والدينية، ولا يُنْكَر أيضًا أن حالة الإنسان الاجتماعية في
الماضي كانت أتعس جدًّا منها اليوم.
-
خامسًا: إذا قابلنا بين الشعوب والأمم والحكومات اليوم في أقطار المسكونة كافة
نجد بينها تفاوتًا عظيمًا جدًّا بالنظر إلى كل ذلك، ونجد أيضًا أنه حيثما
كانت علوم الكلام والنظريات المترتبة عليها منتشرة أكثر كانت العلوم
الطبيعية منحطة، وكان الإنسان منحطًّا متقهقرًا، وحالته الاجتماعية سيئة
كذلك، والضد بالضد.
وللحكم في هذه القضايا لا نصعد إلى العصور الأولى للإنسان الأول، لننظر إليه من خلال
آثاره
١٥ المبعثرة في طبقات الأرض كشهب متناثرة ذات لمعان ضئيل يحيط بها ضباب كثيف، ولا
ننزل إلى أعماق التاريخ غير المدون الضائع في ليل من الغموض دامس،
١٦ حتى ولا التاريخ المدون الذي حاكته قرائح القوم الشعرية في العصور الميثولوجية
١٧ أم نسجته أميالهم الوحشية في العصور الحماسية،
١٨ بل ننظر إلى ذلك من عهد التمدن اليوناني القديم
١٩ الذي بنينا عليه تمدننا الحديث، بل من عهد الأديان المعتقد أنها موحاة في نظر
الأمم التي تأتمر بها في أكثر المسكونة،
٢٠ فالأقدمون كانت أكثر علومهم من موضوعات العقل الاجتهادية أكثر مما هي من
معلومات الطبع التقريرية، وإنما كثرت عندهم هذه العلوم لأن قلة اختبارهم في أول الأمر
لم
تمكنهم في تعرُّف الأشياء التي حولهم والتي فيهم، من الوقوف على النسبة الحقيقية فيها،
التي
تربط الأسباب بالمسببات؛ لاختفائها أحيانًا كثيرة في سلسلة من المتلازمات طويلة، فتبدو
لهم
كأنها متفاكة منفصلة حيث هي مترابطة متصلة،
٢١ فغلب فيهم حيال هذا الجهل القول بالأسباب الغريبة المفارقة المتحكمة، التي لا
تفع في أفعالها تحت ضابط،
٢٢ ونظروا إلى الطبيعة كلها من خلال ذلك، وجدُّوا في تعرف هذه الأسباب الغريبة
وانتقلوا فيها من تجريد إلى تجريد حتى المبدأ،
٢٣ وهكذا وضعوا علومهم الفلسفية ونظرياتهم في الكون والاجتماع على مراقبة ناقصة،
وما بُني على الناقص فهو ناقص ضرورة.
وقلَّ من شذ منهم عن ذلك، ولو أنَّ به ميلًا إلى المحسوس أو حدسًا بأن الإضافة ليست
إلا
في الأحكام المستفادة منه؛ لقلة المستندات الاختبارية التي كانت له لدفع الوهم، فيضطر
هو
نفسه أيضًا إلى التعويل على علوم الكلام نفسها، فيدفع المثل بالمثل، مما كان يجعل كلامه
مضطربًا لا يفرق كثيرًا عن كلام مخالفيه في الغرابة والإبهام؛
٢٤ لأن جميع الفلاسفة في القديم نظروا في مباحثهم في الكون إلى السبب والغاية
المجردتين لا إلى تعرف الكائن المحسوس، فلم يدركوهما، وانصرفوا بهما عن الواقع.
•••
فلهذه الأسباب استتبت الغلبة في علوم الأقدمين للنظر المجرد على النظر المقيد، وللفلسفة
الروحانية على الفلسفة المادية، ولعلوم الكلام على علوم الاختبار، واعتُبِرَتْ — نظرًا
إلى موضوعها
٢٥ ووعورتها — من العلوم العالية
٢٦ التي استغرقت فيها العقول الراقية، واستنفدت فيها قواها، وصرفتها عن سواها،
وباتت إلى عهد قريب روح العلوم الاختبارية نفسها أيضًا.
٢٧
وهذه الفلسفة وعلومها هي التي انتقلت إلينا بكتب أرسطوطاليس،
٢٨ حتى غلب عليها اسم الفلسفة الأرسطوطاليسية، فبنينا عليها علومنا العقلية
والأدبية والدينية، وسائر نظاماتنا الاجتماعية، ونظرياتها رسخت فينا حتى مازجت عندنا
كل
شيء، ولا يزال مفعولها يعمل في عقلنا حتى اليوم.
وإذا تحرينا العلوم الموضوعة وغاياتها المقصودة من عهد أرسطو إلى اليوم، ونظرنا إلى
مباحث
الذين اشتهروا بعده من العلماء والفلاسفة ظهرت لنا هذه الحقيقة بأجلي بيان، بل ذكر أسماء
هذه العلوم يغني عن بيان حقيقتها، ويدلنا دلالة كافية على أنها من موضوعات العقل المنصرف
إلى المباحث التجريدية، لا من معلومات الطبع المستفادة من البحث في المحسوس؛ كالعلم الإلهي،
وعلم النفس، والعلم الطبيعي نفسه الذي هو مرادف العلم الإلهي عندهم في المعنى، والعلوم
العقلية، والعلوم الآلية، وهي كالعلوم العقلية في التجرد، وتحت كل علم من هذه العلوم
الأصلية علوم فرعية كثيرة جدًّا؛ كعلم المنطق، وعلم الكلام، وعلم اللاهوت، والفقه الأكبر
حتى الأصغر، والعلم اللدني، وسائر علوم الأدب: كالبيان والبديع والمعاني إلخ.
•••
وقد زاد شأن هذه العلوم استقلالًا بعد اليونان؛ حيث كانت الإحاطة بها مقرونة بالإحاطة
بسائر فروع العلوم الاختبارية أيضًا، وزادت تجردًا كذلك، وزادت فروعها، وتَسَفَّلتْ أيضًا
إلى المباحث السخافية المبتذلة، وشيدت لها المعاهد الخاصة،
٢٩ حيث صارت كل هذه العلوم النظرية الكلامية الاعتقادية — الشاغلة للعقل على كثرة
مشاغله، والمُضَيِّعة للوقت على قِصَرِهِ، والصارفة للفكر عن الاهتمام بالمحسوس المفيد،
والتي لا تشيد كوخًا، ولا تقلي بيضة
٣٠ وحدها بضاعة العالم والفيلسوف والإمام، فيلبس الجبة، ويطيل الأودان، ويقرن
القلنسوة، ويُكوِّر العمامة، ويتهادى في مشيته اختيالًا كأنه اكتشفت سر الخلود، وما اكتشف
حقيقة سوى سر الخبط والخلط، حتى إذا حاك قصة أراك الحبة قبة، أو أراد التعليل عن قضية
نظرية
كلامية أمكنه أن يروغ ما شاء؛ إذ هو غير مقيد في برهانه المتقلقل تَقيُّد الرياضي
والميكانيكي في برهانهما المحكم.
وإذا ألقيت نظرة إجمالية على المؤلفات الكثيرة التي تعد بمئات مئات الألوف في هذه
الموضوعات المختلفة الفلسفية العقلية الأدبية، وما صرف فيها من القوى الراقية ضياعًا،
وما
رسخ بسببها في العقل والطبائع من الميل إلى المباحث الفارغة، والانصراف بها عن العلوم
النافعة، وما أحدثته في الأمور الاجتماعية من التضليل والتغرير، فلا أعلم إذا كان يجوز
لك
أن تكون مُمْتنًّا كثيرًا لأرسطو الذي أورثنا هذه الفلسفة، ولابن سينا الذي نقلها إلينا
بعده.
٣١
بل اقرأ فصلًا من تهافت الفلاسفة للغزالي، وتهافت التهافت لابن رشد، وقل لي: ماذا
تفهم؟
بل ألفت نظرك إلى المباحث العقيمة الجدلية المقامة على القضايا المنطقية، وقل لي: إنْ
كان
يجوز أن يصدر كل ذلك عن عقول سليمة.
بل حاول إن استطعت قراءة المجلدات الضخمة في مسائل سخافية استحالية وتحليلية وتحريمية،
وقل لي: إذا كان ذلك يفرق كثيرًا عن الهذيان!
بل انظر إلى هذا السبيل الجارف الذي طما اليوم حتى كاد يبتلع فيه كل قوى الإنسان،
ولا
سيما أنَّ الاعتقاد فيه لا يزال راسخًا في العقول أنه من منتجات العقل الراقية، ولم يتطرق
إليه الريب بعد كما تطرق إلى العلوم الفلسفية والعقلية والدينية نفسها، أريد به سيل كتب
الأدب الرائجة سوقها اليوم جدًّا، وهي عبارة عن أقاصيص موضوعة خيالية ارتقت مع الإنسان
من
حكايات ألف ليلة وليلة الطافحة بكل غريب
٣٢ إلى الأقاصيص المتناهية اليوم بالتأنق في السبك، والدقة في الوصف، والرقة في
الخيال مع بعدها في كلا الحالين عن الحقيقة، ثم انظر إلى سلطانها على العقول حتى الراقية،
وقل لي: ما هي منفعتها العلمية بل الأدبية نفسها؟ أليست في جملتها تبذيرًا لقوى الاجتماع
وتضليلًا للعقل في آن واحد؟
وينقلب ترددك في القضاء على هذه الفلسفة، وكل ما بني عليها من التعاليم الموضوعة
إلى
السخط إذا علمت أنها كانت السبب لوقوف الإنسان عن التقدم في علومه الصحيحة
٣٣ قرونًا عديدة، ولا يزال أثرها فينا شديدًا حتى اليوم، وطيفها لا يزال حالًّا
حتى على علومنا الطبيعية نفسها، سواء كان في تأييدها
٣٤ أو في أسلوب بسطها، ولا نزال حتى اليوم نُصَعِّب فهمها بإدخالنا عليها كل تعقيد لفظي
٣٥ ووصفي، مما لنا من ذلك التراث القديم، كأن الحقيقة إذا وصفت بسيطة تضحى
مبتذلة.
وناهيك بما في هذا الالتزام في البحث، دون الالتجاء إلى العمل والاختبار من تعويد
العقل
وتربيته على حب الإغراب، ولا شيء أسهل عليه حينئذٍ من ركوب متن السفسطات المنطقية، حتى
في
العلوم المادية نفسها، ألا ترى العلماء أنفسهم وأصحاب العقول الراقية في المسكونة قاطبة
كيف
أنهم يميلون حتى اليوم إلى مباحث فارغة، ويصرفون أثمن أوقاتهم في التنقيب عن هذه الآثار
الأدبية القديمة،
٣٦ ويعيرونها من الالتفات ما لو صرفوا بعضه في العلوم الصحيحة،
٣٧ والاشتغال بما أمامهم؛ لأفادوا الاجتماع فوائد لا تُحْصى، ووقوهما من زيادة
التضليل.
ولم يقتصر ضرر هذه الفلسفة المجردة على العلوم الصحيحة والطبيعية، بل تناول كل شيء
حتى
الأديان نفسها.
خذ مثالًا شريعة القرآن، فإنها بين الشرائع الدينيةِ الشريعةُ الوحيدة الاجتماعية
العملية المستوفاة
٣٨ التي ترمي إلى أغراض دنيوية حقيقية، بمعنى أنها لم تقتصر على الأصول الكلية
الشائعة بين جميع الشرائع، بل اهتمت اهتمامًا خاصًّا بالأحكام الجزئية، فوضعت أحكام
المعاملات، حتى فروض العبادات أيضًا، وهي من هذه الجهة شريعة عملية مادية، حتى إن الجنة
نفسها لم تخرج فيها من هذا الحكم من أشجار وأثمار وأنهار إلى آخر ما هنالك.
وطالما جرى اتباعها عليها صلحت أمور دنياهم على سواهم بالقياس إلى حالة البشر في
تلك
العصور؛ لأن كل شيء نسبي في هذا الوجود، حتى دخلت عليهم علوم اليونان الفلسفية ومباحثها
المجردة، فمالوا بها إلى العلوم الكلامية، وأطلقوها على الدين، ووضعوا الفقه الأكبر؛
فكثرت
البدع بينهم، وشرُّها في تمكين هذا النوع من النظر الصوفي، فانصرفوا بذلك عن غاية الدين
العملية المادية إلى المرامي المجردة، والمنازع النظرية، وسائر علوم الجدل الأدبية المقامة
عليها، حتى إلى ما لا علاقة له بالدين مطلقًا.
٣٩
وحل ذلك حتى على شعرهم نفسه؛ فانقلب من خطته الوصفية التقريرية، كما كان الغالب فيه
في
الجاهلية إلى هذه الصورة الخيالية الواهية، وتبذلوا فيه بأن صار أكثره لسان حال تهتكهم
في
غزلهم، ومرمى ذل نفوسهم في تزلفهم، وإغراقهم في اختلاقهم مدحًا أو ذمًا فتقهقروا، وما
زالوا
متقهقرين حتى اليوم. ولو بقيت وجهتهم في مجتمعهم شريعة القرآن وحدها كما هي فيه، لما
قام في
وجههم حائل يصدهم عن الارتقاء، إلا ما يقوم من كل شريعة اجتماعية جمدت على الأيام،
٤٠ غير أن الشارع الحكيم نفسه وضع لهم مخرجًا من ذلك الجمود بآيات النسخ نفسها
التي آتاها في قرآنه في حياته لعلهم يتدبرون.
٤١
وقد كان لروح هذه الفلسفة أسوأ وقع في أحوال الإنسان الاجتماعية أيضًا، ولا أكلفك
الوقوف
في الماضي البعيد، بل انظر إلى الماضي القريب، فقد كانت أوروبا — حتى إلى عهد قريب «١٥٠
سنة» — مِلكَ الأُمراء يَحكمونها بحق السيادة المطلقة، ويستولون عليها كما يستولي المالك
على ملكه، ويضمونها أو يقتسمونها بالميراث أو بالزواج، وكانت السلطة تسري من فوق إلى
تحت،
من الأمير الذي كان كل شيء إلى الشعب، الذي لم يكن شيئًا مذكورًا، فلم يكن له أدنى صوت،
ولم
يكن شأنه في التاريخ إلا شأن المتاع يُباعُ ويُشْرَى، ولم يكن له حق في اشتراع الشرائع
التي
تحكمه، أو سن النظامات والقوانين التي تسوسه، وبالجملة لم يكن له وجود أدبي مطلقًا، ومع
ذلك
فقد كانت تلك المبادئ الفلسفية والعلوم الكلامية، ولا سيما الدين القائم عليها، في زهوتها
وإبَّان مجدها.
بل انظر إلى الحاضر اليوم لترى كيف أن أثر كل ذلك في شرائعنا ونظاماتنا وحكوماتنا،
وسائر
معاملاتنا، وغايتنا في حياتنا لا يزال يتنازعنا في مجتمعنا، ويصرفنا عن تعاوننا، ويدفعنا
إلى تمزيق بعضنا بعضًا، وكيف أن الحكومات لا تزال تؤيد التعاليم المبنية عليها بالقوة
والمظاهرات، فتقيم لها المعاهد الخاصة
٤٢ لتطمس بها على الشعب؛ لحفظ السيادة العمياء عليه،
٤٣ بل انظر إلى هذا الشعب الجاهل نفسه كيف أنه ينتصر بها لسواه على نفسه، فإن
حاولت أن تخرجه من جهله قام عليك كأنك امتهنته كما في هذا القول:
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهن
انظر إلى كل ذلك لا في الشرق السخيف بأممه وحكوماته وملوكه؛ حيث غاية كل هذه العلوم
تفوق
كل غاية في مجتمعه،
٤٤ بل انظر إليه في أرقى الممالك اليوم على ما هي عليه من الفرق الجسيم عما كانت
عليه في الماضي عزة ومنعة، فمع معرفتها أن ارتقاءها إنما كان بهجرها كثيرًا من ترهات
الماضي
فهي لا تتنازل عن الباقي برضاها،
٤٥ بل انظر إلى الجنايات الكثيرة التي تُرتَكَبُ كل يوم بحق الجموع والأفراد تحت
طي هذه المبادئ القائمة عليها مرامي الأديان
٤٦ والأوطان،
٤٧ كما هو شائع بين الناس حتى الآن، ولا تستغرب بعد ذلك إذا كان المجتمع لا يصلح
صلاحًا تامًّا بها.
٤٨
•••
وإذا نظرنا إلى الاجتماع نظرًا عمليًّا من حيث ذلك كله لزمنا القول: إن الشرقي فيه
اليوم
على نوع خاص فَضْلة لا عُمْدة، وهو في علومه حتى اليوم حالم، أي إن علمه نظر أكثر منه
عمل،
والمدارس التي تعلمه العلوم الحديثة لا تخرج في تعليمها عن هذا الحد، فهو في الاجتماع
شريك
سلبي لاقتسام المنفعة، لا إيجابي للعمل لها، بل هو يقتسمها مرغمًا في ورودها إليه من
الخارج، ويقوم في سبيلها معارضًا من الداخل، وإذا استثنينا اليابان نوعًا نقول: إن هذا
الحكم يشمل اليوم أهل الشرق الأقصى والأدنى وسواهم ممن شاركهم في جمودهم من الأمم التي
لا
شأن لها اليوم في العلم العملي الراقي، ولو أطلقنا عليهم شريعة «شو»،
٤٩ وهي كشريعة النحل في الإبقاء على النافع وقتل غير النافع،
٥٠ لوجب أن يهلكوا عن آخرهم، بل لوجب أن يُباد أكثر البشر في المعمورة كلها
باعتبار هذا النافع منطبقًا على مرامي أرقى فكر اليوم؛ لأن القسم العامل لصلاح المجتمع
حتى
في البلاد الراقية ليس إلا دون الطفيف، لولا أن هذه النظرية من حظ الاجتماع غير ممكنة؛
لأن
الاجتماع مدفوع إلى الصلاح بطرق عملية أصح ليس فيها شيء من هذا التبذير. ولو أمكن العمل
بهذه الشريعة لما درينا أين يكون مقام «شو» وأمثاله في هذا التنازع العنيد؛ لأن الأقوى
ليس
الأصلح دائمًا، ولا هو واحد في كل حال.
٥١
و«شو» يزعم، وزعمه فاسد، أنه يستند إلى مذهب دارون في بقاء الأنسب، لا بالانتخاب
الطبيعي
فقط، بل بالانتخاب الصناعي أيضًا، ومن رأيه أن هذا الانتخاب الأخير المعقول يجب أن يكون
غرض
الاجتماع البشري العاقل إلى أن يبلغ الغاية من ارتقائه بخلق الإنسان الأسمى أو «السبرمان»،
كما يسميه بلغة الإنكليز،
٥٢ وشو متفق في ذلك مع الفيلسوفين الألمانيين «شوبنهور» و«نتشه»، في أن شريعة
الاجتماع كشريعة الطبيعة نفسها، لا يجب أن تعرف شفقة ولا رحمة، فتقتل العاطل أو تمنع
تناسله، ولا تُبقي إلا على الأنسب.
٥٣
ولكن هؤلاء الفلاسفة الثلاثة الحالمين — القانطين كما أُسمِّيهم — لم يقولوا لنا:
متى يجب
العمل بشريعتهم اليوم أو غدًا؟ وهل كان يجب العمل بها منذ البدء؟ لأن الإنسان ليس واحدًا
في
طبيعة هذا التفوق، ولا في علمه هو نفسه لتقديره، ولو صح العمل بها في كل العصور عن إرادة
ومقدرة لغلب على الاجتماع منذ البدء التقهقر حتى يعود ويندمج ثانية في الحيوان الأعجم،
ولبقي في صورة همجية هائلة لا عقل له ولا علم، كأنه الوحش الأكبر؛
٥٤ لأن الإنسان إنما ابتدأ متوحشًا جاهلًا، وتفوقه حينئذٍ إنما كان بقوته البدنية
وكثرته، بل ماذا كانت حالة الاجتماع لو عمل بها بعد ذلك أيضًا، كما في عصور الحماسة في
أوروبا يوم كانت صناعة الحرب أرقى الصناعات في نظر الناس، وصناعة الكتابة أحقرها، يوم
كان
الأمير لا يفخر إلا بالسيف، ويهزأ بالقلم، ويحتقر العلم؟ لو عمل بها حينئذٍ لعمل بناءً
على
أن ذلك هو الأنسب، والأقوى كذلك، ولما كان قدر أن يعلم شيئًا، أو يعمل شيئًا مما نعتبره
الأصلح اليوم.
على أن النظرية وإن كان يستند بها إلى مذهب دارون كليًّا، إلا أنها ناقصة في جزئياتها
لاختلاف العوامل الداخلة فيه، مما يحصل الارتقاء فيه نتيجة عمياء، سواء كان ذلك في الطبيعة
الصامتة، أو في الاجتماع العاقل، ولولا ذلك لما ارتقى الاجتماع، وعمل الارتقاء وإن كان
الدافع فيه «الأنانية»، إلا أنها هي نفسها خاضعة لناموس التكافؤ والتكافل،
٥٥ الذي بموجبه يتم الارتقاء قسرًا، ولو بعد التذبذب الطويل، باعتبار أنه الأنسب
والأصلح لمصلحة المجموع، لا لفئة من هذا المجموع، والاجتماع نفسه العاقل لا يستطيع التصرف
بهذا النظام إلا في حدود معلومة مهما تعاظم شأنه، وقويت إرادته، إلى أن يصبح فيه ذلك
بالعلم
الكثير في حكم المطرد اضطرارًا أيضًا لا عن إرادة غالبة.
وهذا يجعل نظرية أمثال هؤلاء الفلاسفة حلمًا قاسيًا لا حقيقة عملية، ويا ليته مع ذلك
حُلْمٌ لمصلحة الاجتماع، ولكنه حُلْمٌ لو صح لسار به القهقري، حتى وهو في أرقى حالاته؛
لأن
ارتقاء الإنسان ليس له حد، كما أن علمه ليس له حد أيضًا حتى يقف عنده، ويقصر ارتقاءه
وعلمه
عليه دون الأخذ بسواه.
ولا يبقى عندك أدنى ريب في كل ما تقدَّم إذا علمت أن أوروبا نفسها لم تبتدئ تصطلح
إلا منذ
القرن الثامن عشر، حين بزغت شمس العلوم الطبيعية ضئيلة في أول الأمر، وأخذ ضياؤها ينتشر
بين
الناس، ويبدد غيوم تلك العلوم المظلمة، فتنبهت الأمم حينئذٍ، وأخذت تتغير في نوع أحكامها،
تارة بالثورات، وتارة بالنشوء التحولي، تارة بالحروب وتارة بالسِّلم، ولكن الاجتماع لم
يَخْط الخطوة الصائبة في سبيل ارتقائه الحقيقي حتى صار ارتقاؤه أسلم، إلا مِن بَعدِ ما
تأيَّد مذهب التحول الطبيعي،
٥٦ وركَّز على قواعد ثابتة، وتحولت به قوى العقل من التخبط في دياجير الخيال إلى
الدرس الاختباري، فارتقت حينئذٍ العلوم الطبيعية ارتقاءً عظيمًا كاد يربط أطراف العالم
بعضها ببعض، وسوف تجعله وطنًا واحدًا،
٥٧ فغلبت حينئذٍ قوى التحول الارتقائي
٥٨ في الاجتماع غلبة ظاهرة على قوى الاحتفاظ التقهقري، وصار كل عمل اليوم في
قُطْرٍ يرن صداه في الأقطار الأخرى بالانصياع لا بالمقاومة.
٥٩
•••
وقد قل الميل إلى تلك المباحث العقيمة عن ذي قبل، وقل الاعتناء بالعلوم العقلية والفلسفية
في المدارس الراقية،
٦٠ مجردة كانت أم مادية، وإذا كان العلماء الطبيعيون في القرن الماضي لجئوا إلى
الفلسفة أحيانًا لرَدِّ غارات مقاوميهم، فإنما فعلوا ذلك اضطرارًا لدَفْعِ المثل بالمثل
مع
انصياعهم في برهانهم إلى الدليل الحسي الراهن، وإذا كان لعلوم النظر شأن كبير في العلوم
الطبيعية نفسها حتى اليوم؛ فلأن العلوم الطبيعية نفسها لا تزال في أولها، ولم تنتشر
الانتشار الكافي بعد؛ ولأن مجرى الأفكار أيضًا لا يزال متأثرًا جدًّا بتلك المبادئ النظرية
العريقة فيها منذ القدم،
٦١ ولكنه سيأتي يوم — وما هو في تاريخ الاجتماع ببعيد — تسقط فيه قيمة هذه المباحث
الكلامية الفلسفية، بل يُنظر إلى أصحابها كأنهم صبية يلعبون، أو مصدعون يهذون؛ إذ يصبح
العلم كله علم اختبار، ويتمرن العقل عليه بالمزاولة، ولا يعود يستعذب سواه، فيقل النظر
ويكثر العمل، ويقوم البرهان الرياضي والميكانيكي مقام البرهان العقلي والقياس المنطقي،
ولا
يعود يصدق إلا بمعجزات العلم وحده، وينتفي من العالم كل ما ليس من العلم على حد ما في
هذا
القول:
لو كان ربُّكم كمركوني
٦٢ لما
ضقتم وضاقت بالغريق نجاةُ
٦٣
رصد السفينة ثم نجَّى قومها
في حين لم تفدِ النجاة صلاةُ
علمٌ عجائب هديه مشهودة
لا علم غيب تدعيه هُداةُ
هذا الصحيح وليس ما أوحى به
سيناء أو طابور أو عرفات
وهكذا إلى أن تزول سائر العقبات التي أقامتها تلك العلوم الكلامية الفلسفية في سبيل
ارتقاء الإنسان في اجتماعه، والتي أشدها هولًا الحاسة الدينية
٦٤ والحاسة الوطنية،
٦٥ على أن هاتين الحاستين آخذتان — اليوم — في الضعف، ولو مهما تَقَوَّلَ فيهما
المتقولون، وترقق فيهما المترققون، والفضل في ذلك للعلوم الطبيعية من جهة الاختراعات
الصناعية التي تربط العالم بعضه ببعض، ولعلم درس الأحياء من جهة معرفة نسبة الكائنات
بعضها
إلى بعض، ونسبة أفعالها إلى الطبيعة، وستزولان تمامًا كلما ارتقت هذه العلوم وانتشرت
بين
الناس، أو أنهما لا تبقيان بسطوتهما — كما هو اليوم — فتسقط حواجز الأديان،
٦٦ وتُمْحى حدود الأوطان، وهكذا يصير الإنسان إنسانًا حقيقيًّا، ويكون الإنسان
اليوم الحلقة الواصلة بين الإنسان الحقيقي والحيوان.
•••
والعقبة التي يقدَّر لها عمر أطول من سواها هي عقبة التفاهم؛ أي اللغة، ولكن العلوم
الطبيعية نفسها بجعلها العالم كأنه مدينة واحدة، بتقريبه المسافات بينه، ستجعل التنازع
شديدًا جدًّا بين اللغات
٦٧ حتى يُقضى على الكثير منها، الذي لم تكن له في هذه العلوم شأن يذكر،
٦٨ وكأن البقاء اليوم غير مقدور إلا للغات ثلاث، سيقتصر التنازع عليه في المستقبل
بينها، وهي: الإنكليزية والألمانية والفرنسوية، وكان الراجح حتى الربع الأول من القرن
الماضي أنْ يكون الفوز للفرنساوية؛ لأنها أسبق اللغات، وأُمَّتها أسبق الأمم إلى المبادئ
الاجتماعية الراقية، لولا أنه سطا عليها بعد ثورتها الشهيرة عاملان قويان، كانا كالغل
في
عنقها، والقَيد في رِجلها، وهما: تيار كتب الأدب المجونية الخيالية التي بلغت صناعتها
بينهم
مبلغًا برزوا فيه على سائر الأمم، واستغرقت فيها أعظم العقول الراقية، وهوَّست بها الآخرين،
٦٩ وتيار علم آخر هو: علم الحقوق،
٧٠ الذي أورثه نبوليون لأمته وللعالم أيضًا، بعد أنْ كبح ثورتها، وردها عن غايتها
النبيلة، وحوَّلها إلى مطامعه الخاصة، وصرفها إلى ما صارت إليه في زمانه وبعده. فهذان
العاملان الصارفان للأفكار الراقية عن الاشتغال بالعلوم الصحيحة، سيكون ضررهما على العالم
أجمع، وعلى فرنسا خاصة، أشد من ضرر النظريات الدينية، التي ما كادت تتخلص من شراكها في
ثورتها الأولى، حتى وقعت من ذلك في شراك أخرى أشد وأدهى،
٧١ على أنَّ كل ذلك اليوم عقبات صغيرة في سبيل ارتقاء الإنسان الكلي
٧٢ في العمران؛ لسرعة ارتقاء العلوم الطبيعية وسهولة انتشارها.
•••
وأنا أسمع من هنا غمغمة، وأرى أناسًا يقومون ويقعدون، وخاصة وعامة يهزءون أو يسخطون،
وربما قام منهم متحمسون تُحدِّثهم نفوسهم لو أنهم لا يصبرون، وكلهم يقولون: كيف تريد
أنْ
تعيضنا بعلمك المقيد، وفلسفتك المحدودة عن ذلك العلم المطلق، وتلك الفلسفة التي لا تقف
في
سبيلها عند حد، بل تخرق حجب المادة، وتتطلع إلى ما وراء المنظور؟ بل كيف تريد أن تصرفنا
بماديتك الأرضية وتصوراتك الترابية — ولو أنها حقائق — عن تلك المصابِّ العالية، والأفكار
السامية، التي يناجي الإنسان بها أمانيه، بل آماله، بل نفسه وربه؛ إذ يصعد بالخيال إلى
سماء
المآل، ويراها بذلك الجمال في فراديس الآمال — ولو أن ذلك تنقُّل في بروج الأوهام، وتطلُّع
إلى صروح المحال — وهل يجد العقل فيها تلك اللذة التي يجدها في هذه؟ أم هل يجد وجدانه
٧٣ فيها تلك الراحة التي يرتاح إليها؟ وأين عظمة كتب العلماء من عظمة كتب
الأنبياء؟ بل أين جمال مصنوعات تلك المشهودة من جمال موضوعات هذه الموعودة؟ بل أين مقدرة
علوم أولئك المقيدة من مقدرة مواهب هؤلاء المطلقة: من غرائب عجائب العصور الميثولوجية،
وما
تخلف لنا عنها من مأثورات التجلي الموعود بين البروق والرعود، فنزول اللوح المسطور على
ذلك
الطور بين النار والنور، فذلك الوجود والصعود المخالفين لطبيعة الوجود، إلى ما سال من
العجائب على لعاب العناكب؟! أم هل تقاس كتب القصاصين الطبيعيين اليوم، أم أي مؤلف آخر
يؤلفه
أي عالم في الهواء والماء والتراب لتقرير ما فيها من الحقائق، أو في المحراث والمعول
والعمل؛ لبيان ما فيها من المنافع بكتب أساطين الأدب، ولا سيما القصاصين الفرنسويين،
الذين
أحرزوا قصب السبق اليوم في ميدان «الرومان»، حتى بلغ منهم التأنق في السبك، والدقة في
الوصف، والرقة في التصور، أنهم وصفوا الخيال بارق من الخيال؟!
بل أين أشعار المعري التقريرية التي تكاد تنقصم صلابةً من أشعار الفارض الخيالية التي
تكاد تذوب رقة؟ بل أين وقعها في النفس من أشعار شكسبير الموضوعة، وما يتخللها من الخيال
الرائع، الذي يستفز الطبع، ويستهوي العقل؟ بل أين جمود قولك هذا:
لازم الموت في الوجود حياة
لازمت في وجودها الموت قسرا
حاول الناس منعه وبمنع الموت
منع الحياة في الكون طرَّا
من لِينِ قولك هذا:
وحكيم من يزدري بحياةٍ
كل يوم تزداد بالطول قصرا؟
بل أين فتور كل ذلك من حرارة هذا القول الحماسي:
إذا استل منا سيد غرب سيفه
تفزَّعت الأفلاك والتفت الدهر؟
بل أين جفاف مثل قولك هذا العلمي:
وما الحب من أدنى فأعلى إلى الرجا
فما فوق إلا الشوق في كبد السُّهَى
ترقى بنا حتى النهى وهو دونها
كما في نيوب الليث أو في حشى الثرى
من طلاوة مثل هذا القول الخيالي:
وهززته بقصيدة لو أنها
تليت على الصخر الأصم لأغدقا؟
بل اسأل أي فتى متعلم، أو أية فتاة متعلمة أنْ تقرأ فصلًا في مخترعات الكهرباء قبل
أن
تقرأ رواية من سقط الوضع، بل اسأل عالمًا اليوم أنْ يقرأ مقالًا في تحولات المادة قبل
أن
يقرأ كتابًا في مناجاة الأرواح؛ فأنك لا تفلح، ولماذا؟
لأن لتكيفات الطبع والعقل الشأن الأول في إعداد ما فيها من القابليات، وأثر الخيال
في هذه
القابليات أعرق في القدم من أثر الحقائق، فالإنسان لم يعرف الحقائق في أول الأمر، وما
عرف
إلا الأوهام، فانطبع فيها، وتكيف لها، وشاد بنيانه العقلي والأدبي عليها، ونسج كلامه
على
منوالها، فصارت نفسه لا ترتاح إلى مباحث الحقائق، ولا تلتذُّ بها كما تلتذُّ بموضوعات
الخيال؛ لأن اللذة والراحة إنما هما المطابقة بين فعل الفاعل وقابلية القابل، حتى إن
لغته
نفسها تضيق بهذه المباحث، فليس لها فيها تلك السلاسة، ولا تلك السعة التي أحرزتها في
المباحث الأدبية، وحتى إن عقله يتعب منها.
فالقول أن تصورات الأحلام يلزم الاستمساك بها لأنها تبدو لنا أجمل من تصورات الحقائق،
وأنها أصح كذلك؛ لأن الوجدان يرتاح إليها، وأن ترويض العقل بمباحثها الكلامية التافهة
أنفع
لنا من تدريبه على البحث في المحسوس المفيد؛ لأنها أعذب له، وأسهل عليه، يقتضي منه أن
يكون
الخيال أصدق من الحس، وأن يكون كذلك الكذب على النفس أنفع من الصدق لها، وأن تكون الأوهام
نفسها أنفع لنا من الحقائق، وأن يكون الاشتغال بالكلام الفارغ والمناقشات العقيمة أفضل
من العمل،
٧٤ وأن تكون إضاعة الوقت بتنميق المقالات الخلافية في مسائل جدلية؛ لترسيخ الميل
في العقل إلى المباحث النظرية المجردة أفضل من الاشتغال باختراع آلة لجر الأثقال، وأن
يكون
الطيران بمناطيد الخيال في قبب الأحلام أنفع من الطيران بمناطيد الصناعة في فسيح هذا
الفضاء، فكيف لا تسوء حال الإنسان الذي لا ترتاح نفسه إلا إلى ذلك في العمران؟ فلا الحياة
مما يُزدرَى به، ولا الأفلاك تتفزَّع، ولا الدهر يلتفت، ولا الصخر يغدق، حتى ولا المروج
نفسها تورق بمثل هذا الكلام، وما هو إلا زيادة تضليل للعقل، وتبذير في قوى الاجتماع على
غير
طائل، ولكن ذلك نشأ في الإنسان اضطرارًا على هذه الكيفية، وسيتحول عنه اضطرارًا أيضًا،
وما
التنبيه إليه إلا حثٌّ للإسراع في هذا السبيل.
فكما أنَّ ذلك نشأ في العقل والطبع بغلبة الغريب، والبحث في الماهيَّات والحقائق
المجردة
أولًا، فهو سينقلب ضرورة متى تمكَّن الضد فيهما بغلبة المحسوس، والبحث في الطبائع
والكيفيات، وهو آخذ اليوم بالتحوُّل كلما أخذ نظر الإنسان المادي يتقرر فيه أكثر، وسوف
يبدو
له ذلك الجمال سخيفًا قبيحًا، وتصير الحقائق البسيطة التي لا صبر لنا اليوم على التبحر
فيها، أو أننا نريدها مبهرجة،
٧٥ مما يستحب إلينا جدًّا، وتجلب مطالعاتها لنا الراحة المطلوبة، واللذة المرغوبة،
وتتحول لغاتنا
٧٦ إليها، ويتغير منهجنا في بسطها من المركب المعقد إلى البسيط الصريح،
٧٧ حينئذ يجد الإنسان في مطالعة كتب الحقائق لذة لا تدانيها اللذة التي يجدها
اليوم في كتب الخيال الموضوعة، وموضوعات الأدب المصنوعة،
٧٨ ويجد كذلك في الأرض التي صبا عنها، فأهملها فردوسًا موسويًّا
٧٩ حقيقيًّا مشهودًا، فيهتم به ليجعله لنفسه كذلك، ويستعني به عن ذلك الفردوس
الخيالي الضائع؛ إذ لا يعود يرى الحقيقة إلا في مثل هذا القول:
لا يصلح الإنسان مجتمعًا
ما دام فيه الدين والوطن
ولم يزل من علمه خطلٌ
يضيع فيه العقل والزمن
مُحلِّقًا في الغيب مختبلًا
كأنما الغيب له عَطَن
ويهمل الأرض وما كنزت
وإنما الأرض له سكن
وعلمه إن لم يكن عملًا
يرتاض فيه العقل والبدن
يستخرج الأسرار ما خفيت
وتصدق العين بها الأذن
وشرعه إن لم يكن شرعًا
وسنة الكون له سنن
وليس فيه مرهِق نهمٌ
وليس فيه مرهَق يَهنُ
موطنه العالم أجمعه
ودينه السلام لا الفتن
•••
حبائل الدين لهم شركٌ
لصيد قوم دونهم غُبِنوا
إن لم يكونوا مركبًا لهم
أخنى على أيديهم الثَّفَنُ
٨٢
ظلم عليهم منهم وبهم
من جهلهم في رأسهم رسن
والمرء إن ما اعتاد متربة
فإن تصنه فهو يمتهَن
وما هو حلمٌ ما أقول، ولكنه الحقيقة لو أنك تنظر إلى الاجتماع في الدهور الطويلة،
فتقابل
ما كان بما هو كائن؛ لتعلم ما سيكون، والبعض القليل الذي حصل يدل دلالة كافية على الكل
المنتظر. وما الأجيال والدهور في عمر الاجتماع بالشيء الكثير.