الحركة الدينية
بدأت العلوم الدينية في الأندلس بانتقال بعض الصحابة والتابعين حينما همَّ موسى بن نصير بغزو الأندلس وفتحها، فكان معه بعض الصحابة والتابعين؛ نذكر منهم: المُنَيْذر أو المنذر على اختلاف فيه، وهو صحابي، وممن دخلها من التابعين موسى بن نصير الفاتح، وعلي بن رباح، وحَنَش بن عبد الله الصنعاني، كانوا جنودًا في الجيش الفاتح، وهم مع ذلك حملة علم، وربما كان حنش هذا أعلم التابعين، وهو من أصل يمني؛ كان من أصحاب علي بن أبي طالب، وخرج مع عبد الله بن الزبير على عبد الملك بن مروان، وكان أهل الأندلس يفخرون بوجوده بينهم. وأما علي بن رباح فبصري تابعي، وكان له مكانة عند عبد العزيز بن مروان في المشرق.
- (١)
عبد الملك بن حبيب السلمي.
- (٢)
يحيى بن يحيى الليثي.
- (٣)
عيسى بن دينار.
فأما عبد الملك بن حبيب، فله فضل نشر مذهب مالك في الأندلس، إذ كان مالكيًّا، وفي بعض الأقوال أنه لقي الإمام مالكًا وأخذ عنه وكان فقيهًا عالمًا، ومعلمًا ممتازًا في إلقائه وسعة اطلاعه. وكان يقال في الأندلس: «فقيه الأندلس عيسى بن دينار، وعالمها عبد الملك بن حبيب، وراويها يحيى بن يحيى». وقد كانت الثقافة العامة بين المتعلمين الفقه والأدب، ثم التخصص، فترى أكثر علماء الأندلس فقهاء أدباء أولًا، ثم متخصصين، وهكذا كان عبد الملك هذا أديبًا مؤرخًا عالمًا باللغة والإعراب، له الأشعار الكثيرة، ثم متخصصًا في الفقه.
نعم؛ طَعَن بعضهم في بعض أحاديثه، وقالوا: إن له غرائب لم يعرفها المحدثون، ولكن الأكثرين على توثيقه. وأما يحيى بن يحيى الليثي، فقد أتم نشر مذهب الإمام مالك إذ كان رجلًا وقورًا مهيبًا ذا سلطة ونفوذ، فعمد إليه خلفاء الأندلس أن يختار هو القضاة وإذ كان مالكيًّا كان لا يختار إلا المالكية، وإذ ملأ الناس حب الدنيا رغبوا في المذهب للمنصب. وأسس يحيى لقضاة الأندلس أسسًا متينة، فقد وضع نظام القضاة، وسمِّي قاضي القضاة، وقاضي الجماعة، ورتب مجلسًا للشورى، وسمَّى أعضاءه، فكان إذا ترجم لشخص منهم كان من شرفه أنه من رجال الشورى. ومن الأسف أننا لم نقف على النظام الدقيق لهذا المجلس إلا نتفًا هنا ونتفًا هناك، وكل ما نستطيع أن نقوله: إنه كان ينظر في الفتيا وفي المشاكل الفقهية، ويبدي فيها رأيه. وكان عددهم في بعض الأزمان كما روى بعض المؤرخين ستة عشر، وأصل يحيى هذا من البربر، خرج إلى مالك في المدينة، وتفقه عليه، وروى الموطأ عنه، وروايته مشهورة في الشرق كله، وسمع من غير مالك، فسمع في مصر من الليث بن سعد، وفي مكة من سفيان بن عيينة، وعبد الله بن وهب، وعبد الرحمن بن قاسم العُتقي، وكان عفيفًا أمينًا، فكان في الأندلس كأبي يوسف في المشرق، إلا أن يحيى تعفف عن القضاء، وعن المناصب الحكومية، فزادت قيمته.
ومما يدل على جلالته وجاهه أن الأمير عبد الرحمن الناصر، اتصل بجارية يحبها في رمضان ثم ندم على ما فعل ندمًا كبيرًا، فسأل يحيى عن الكفارة، فقال له: تصوم شهرين متتابعين. فلما خرج قيل له: لِمَ لم تُفْت بمذهب مالك في التخيير بين الصوم وعتق رقبة، فقال: «لو فتحنا له هذا الباب لسهل عليه أن يتصل كل يوم بجواريه، ثم يعتق رقبة، ولكن حملته على أصعب الأمرين؛ لئلا يعود». وقد اتهم بإثارة الشغب في وقعة الرَّبَض المشهورة، ضد الأمير الحكم، ثم عفا عنه، وقد كان في الأندلس ملكًا غير متوج، ومات سنة ٢٣٤ﻫ.
وأما عيسى بن دينار فقد كان فقيهًا بارعًا، ومؤلفًا مكثرًا، ألف كتاب الهداية. ويقول ابن حزم: «إنه أرفع كتب جمعت في معناه على مذهب مالك، وأجمعها للمعاني الفقهية على المذهب». وقال بعض المؤرخين: «إنه لم يكن أحد في وقته أعلم منه». وقد جمع بين الفقه والزهد، وتولى قضاء طليطلة، ورأس الشورى بقرطبة، وعدوه أفقه من يحيى بن يحيى الليثي، وقد توفي سنة ٢١٢ﻫ على أشهر الأقوال.
وعلى الجملة: فقد كان هو وابن حبيب ويحيى أفراس رهان، كل له ميزته.
هؤلاء كانوا ناشري العلم الأولين في بلاد الأندلس، وجاء بعدهم طبقة أخرى قدمت العلم خطوة جديدة؛ من أشهرهم: قاسم بن أصبغ من أهل قرطبة، فقد ساح بالقيروان وبمصر وبالعراق، ثم عاد إلى الأندلس بعلم كثير، وكان بصيرًا بالحديث والرجال، ألَّف كتابًا طويلًا ثم اختصره، وسماه «المجتنى»، وقدمه للحَكَم المستنصر؛ وفيه من الحديث المسند ألفان وأربعمائة وتسعون حديثًا في سبعة أجزاء. فهو كذلك أكثر من الحديث وصنفه على أبواب الفقه، وكان له الفضل في نشر العلم بالأندلس على هذه الطريقة، وله مصنف جليل القدر، احتوى على بيان صحيح الحديث وغريبه، كما ألَّف في أحكام القرآن، وفي فضائل قريش، وفي الناسخ والمنسوخ، وقد ولد سنة ٢٤٧ﻫ.
وبَقِي بن مخلد، وقد ساعد أيضًا على تدعيم مذهب مالك، وكان واسع الاطلاع، وإنما قلنا: إنه نقل العلوم نقلة جديدة؛ لأنه جمع أحاديث كثيرة كما فعل الإمام أحمد، وصنفها على حسب أبواب الفقه، وبيَّن الاستنباط منها، فكانت كتبه كتب حديث وفقه معًا. هذا إلى سعة في التحصيل، فقد رووا أنه كان له مائتان وأربعة وثمانون شيخًا. ولما أراد ابن حزم أن يفخر بمن في الأندلس من علماء، كان بقيُّ هذا أحد الذين افتخر بهم وعدَّه من مفاخرها. وقد ألَّف بقي هذا تفسيرًا كبيرًا اطلع عليه ابن حزم، وقال: «أقطع أنه لم يؤلف في الإسلام مثل تفسيره، لا تفسير محمد بن جزير الطبري ولا غيره». وله كتاب في الحديث كبير، رتب فيه حديث كل صحابي على أبواب الفقه، فهو مسند ومصنف، قال ابن حزم: «وما أعلم هذه الرتبة لأحد قبله، مع ثقته وضبطه وإتقانه، واحتفاله في الحديث». وله مصنف في فتاوى الصحابة والتابعين. وعلى كل حال فقد كان دعامة من دعائم العلم في الأندلس.
وخطوة ثالثة: وهي التوسع في استنباط الأحكام من القرآن والأحاديث الصحيحة، وربما كان من خير من يمثل هذه الطبقة أبو عمر يوسف بن عبد البر، فقد ألَّف كتابًا سماه «التمهيد»، وكان كتابًا واسعًا، ملأه بالكلام على فقه الحديث، وألَّف كتابًا كبيرًا سماه «الكافي في الفقه» على مذهب مالك، قصره على ما بالفتى حاجة إليه؛ كما ألف كتابًا في الصحابة جليلًا اسمه «الاستيعاب» يترجم فيه لكل صحابي، ويورد أخباره، فكان أول كتاب من نوعه قبل أن يؤلف ابن حجر العسقلاني كتابه «التهذيب».
ولْنَسُقْ مثلًا في كيفية تطبيق هذا المبدأ، فهو مثلًا يعرض لمسألة قصر الصلاة في السفر، فيرى أن بعض الفقهاء حدد للسفر عدة أميال معينة، وبعضهم أطلق السفر على كل سفر، فيقول: إن بعضهم راعى السبب العقلي في القصر، وهو المشقة الشديدة، وبعضهم وقف عند النص. فكان هذا سبب خلاف، وهكذا في كل موضوع.
ثم كان أن اخترع الشافعي أصول علم الفقه كالذي عليه أكثر المؤرخين، فانتقل هذا إلى الأندلس، فألف فيه ابن حزم أصول الأحكام، وتبعه الشاطبي في كتابه «الموافقات»، فنرى أن الشاطبي أخذ فكرة الأصول عن الشافعي وأمثاله، ولكنه بحث موضوعات لم يبحثها المشارقة، وعرضها في أسلوب ألطف من الأسلوب الذي اتبعه المشارقة في كتابة الأصول، واستشهد أيضًا ببعض أحداث حدثت في الأندلس، وهكذا.
وقد دافع عن هذا المذهب إلى أن مات، وقد تأثر ابن حزم إلى درجة كبيرة أيضًا بأستاذه أبي علي الفاسي، وكان كما قال ابن حزم عاقلًا عالمًا عاملًا، متقدمًا في الصلاح والنسك. قال: «وما رأيت مثله علمًا وعملًا ودينًا وورعًا، فنفعني الله به كثيرًا، وقد علمت منه موقع الإساءة وقبح المعاصي».
وقد تعلم ابن حزم الحديث وتبحر فيه، وقد اتبعه كثيرون على مذهبه الظاهري، وخرجوا من مذهب مالك إليه، كما أن كثيرين ضاقوا به ذرعًا، وأنكروا عليه صراحته، وأعلنوا الحرب على كتبه، حتى بلغ بهم الغيظ أن أحرقوها علنًا في إشبيلية.
وقال في موضع آخر: «ثم ضرب الدهر ضرباته، وأُجلينا عن منازلنا وتغلب علينا جند البربر، وخرجت عن قرطبة سنة ٤٠٤ﻫ، وتقلبت في الأمور … إلخ». وظل يتلقى العذاب من خصومه السياسيين، وخصومه العلماء، والحق يقال: إن المذهب الظاهري، تغلغل في نفس ابن حزم، فلو قرأت مذهبه وكتبه وجدت أمثلة من نظرة الظاهري، ووقوفه عند حرفية النصوص.
ويظهر أنه كان ضيق الصدر حسب مزاجه، حاد اللسان، يصك به معارضه، مما أثار عليه خصومه، ولم يخلفه في الدفاع عن الظاهرية إلا ابن تيمية فيما بعد، وقد اختلف الناس في أصله، أكثر مؤرخي العرب يقولون: إن جده الأعلى كان نصرانيًّا وأسلم، وأن جده هذا كان مولى فارسيًّا ليزيد بن أبي سفيان. وذهب ابن سعيد وتبعه بعض المستشرقين إلى أن جده الأعلى هذا كان من القوط الذي غزوا إسبانيا، وأقاموا فيها. وأيًّا ما كان فقد كان أبوه وزيرًا للحاجب المنصور بن أبي عامر. فعاش عيشة أرستقراطية، وعني بابنه علي بن حزم، وعلمه على يد كثير من المشايخ، ولكن نكبه ابن أبي عامر، ونكب معه أهل بيته فشُرِّدوا، ونفوا، وتحملوا العذاب بعد العز والترف، وتوفي والده سنة ٤٠٢ﻫ، وفارق ابن حزم قرطبة، وذهب إلى المرِيَّة، وعاش هناك في هدوء، مشتغلًا بالعلم والتأليف، ثم عادت دولتهم واختير ابن حزم نفسه وزيرًا، ولكنه لم تطل وزارته، إذ نكبه سيده. وعكف أكثر وقته على التأليف حتى ذكر ابنه أنه ألف أربعمائة كتاب، قال صاعد: «كان ابن حزم أجمع أهل الأندلس قاطبة لعلوم الإسلام وأوسعهم معرفة، مع توسعه في علم اللسان والبلاغة، والشعر، والسيرة، والأخبار».
وقال الذهبي: «وكان إليه المنتهى في الذكاء وحدة الذهن، وسعة العمل بالكتاب والسنة، والمذاهب والملل والنحل، والعربية والآداب، والمنطق والشعر مع الصدق والديانة، والحشمة، والسؤدد والرياسة والثروة».
وقد قارب ابن حزم في عصره عبد الواحد المراكشي، فقال عنه: «إنه بعد أن استوزر نبذ الوزارة، واطَّرحها اختيارًا، وأقبل على قراءة العلوم، وتقييد الآثار والسنن، فنال من ذلك ما لم ينل أحد قبله بالأندلس، ومبلغ تصانيفه في الفقه والحديث والأصول والنحل والملل وغير ذلك من التاريخ والمُثُل، وكتب الأدب، والرد على المخالفين له، نحو من أربعمائة مجلد، تشتمل على قريب من ثمانين ألف ورقة. وهذا شيء ما علمناه لأحد ممن كان في مدة الإسلام قبله، إلا ابن جرير الطبري، فإنه أكثر أهل الإسلام تصنيفًا … ومن أجود ما أحفظ له بيتان قالهما في رجل نمَّام:
ولم يكتفِ ابن حزم بمهاجمة أصحاب الفرق الإسلامية، بل هاجم اليهودية والنصرانية، واستغل العقيدة الإسلامية بأن التوراة والإنجيل حُرِّفا عن أصلهما استغلالًا عظيمًا، وحاول بكل إمكانه أن يجد تناقضًا في كتبهم؛ ليبرر اتهامهم في تحريف النصوص.
ويظهر أنه ألَّف في ذلك رسالة خاصة، ثم أدمجت في الكتاب؛ كما تضمن الكتاب رسائل أخرى، وهذا ما سبب أن هذا الكتاب لم يخضع للمنهج المنطقي الدقيق، والقارئ له يدهش من طول نفَسه، وقوة حجته، وسعد اطلاعه، وبلاغته التي قد تفوق بلاغة الغزالي في إحياء العلوم. ومن مبتكرات ابن حزم في هذا الكتاب أنه أراد أن يستنبط من المذهب الظاهري الذي ذكرناه عقائد خاصة، مطبقة على هذا المذهب، والإنسان يعجب: كيف استطاع ابن حزم — هذا الذي عاش عيشة مترفة في القصور وبين الجواري — أن يؤلف مثل هذه الكتب، وربما ساعده على ذلك أنه كان ذا عقل لاقط يرى كل شيء، فيفهم سره، حتى دلال الجواري ومغازلتهن. وهاجم في كتابه القياس، والرأي، والاستحسان، والتقليد، والتعليل، وله رسالة بهذا الاسم لا تزال مخطوطة. وقد قال المنصور من الموحدين عند وقوفه على قبره: «كل العلماء عيال على ابن حزم». وقد صدق؛ فقلَّما نجد له نظيرًا، فقد شغل الناس في المشرق والمغرب بين مؤيد ومعارض.
وعلى الجملة، فقد قال فيه ابن حيان بحق: «إنه يصك معارضه صك الجندل»، فكان لا يأبه بمن يعارضه، عظيمًا أو غير عظيم، مبجلًا أو غير مبجل، كالأشعري، وأبي حنيفة، ومالك وغيرهم. ومن الأقوال الشائعة أن قلم ابن حزم كسيف الحجاج، كلاهما ماضٍ حاد. وقد اعتذر في بعض كتبه عن حدته بأنها كانت ترجع إلى مرض كان يلازمه؛ ولذلك كان محسدًا من فقهاء عصره من سنيين، وشيعة، ومعتزلة، يدسون له الدسائس عند الملوك، حتى يُبْعد من القصور، وربما كان هذا نعمة؛ لأنه أتاح له أن يتحفنا بتآليفه العظيمة القيمة.
وقد قال الذهبي فيه: «وقد امتحن هذا الرجل وشدد عليه، وشرد عن وطنه، وجرت عليه أمور لطول لسانه، واستخفافه بالكبار، ووقوعه في أئمة الاجتهاد بأقبح عبارة، وأفظ محاورة، وأمنع رد»، وظل صلبًا في مذهبه صلابة تستدعي الإعجاب. قال ابن حيان: «وأكثر معايبه عند المنصف له جهله بسياسة العلم»، ويعني بسياسة العلم: الملاينة والرد في هدوء ووقار.
والمطلع عليها يعجب لمنطقه الدقيق فيها، فهو يذكر أولًا معنى الفضل، وبم يتفاضل الصحابة كقاعدة للبحث مع الحجج المقنعة، العقلية والنقلية، ثم يفاضل على هذا الأساس بين الصحابة بالدليل. وهو يدل على سعة اطلاع وكبر عقل.
على كل حال حرك عقول الأندلسيين بتآليفه ودعوته إلى المذهب الظاهري، وقد كان الأندلسيون مقلدين مذهب مالك من غير بحث، فكنت ترى في أكثر مجالس العلماء من يؤيده، ومن يهاجمه، حتى اشترك في ذلك الأمراء أنفسهم، وربما كان أقواهم في الرد عليه والوقوف أمامه الفقيه الأندلسي المشهور «أبو الوليد الباجي» وكان فقيهًا متكلمًا، ولي القضاء مدة، وأكثر من التصانيف، ورحل إلى الشرق، ولقي كثيرًا من علمائه، وأخذ عنهم، وكان فقيرًا يعمل بيده ليعيش، وظل في الشرق نحو ثلاثة عشر عامًا يتبحر في العلوم، فلما قدم الأندلس، وجد أن ابن حزم لطلاوة حديثه، وقوة حجته، وقد أمال إليه كثيرًا من الناس، وشكك بعضهم، ورأى أن أهل الأندلس ليس منهم من هو في قوة جدله، فكلمه الأندلسيون في ذلك، وكانت له معهم مجالس مشهورة، في بعضها ينتصر ابن حزم، وفي بعضها ينتصر الباجي، فإذا انتصر الباجي هلل الناس وكبروا.
وربما كان أكثر ما يدل على قيمة هذه المناظرة وقوة كلٍّ، وتفوق ابن حزم على الباجي حكاية صغيرة لطيفة، إذ قال الباجي لابن حزم: «أنا أعزم منك همة في طلب العلم؛ لأنك طلبته وأنت معانٌ عليه: تسهر بمشكاة الذهب، وطلبته أنا وأنا أسهر بقنديل بائِت السُّوق، فقال ابن حزم: هذا كلام عليك لا لك؛ لأنك إنما طلبت العلم، وأنت في تلك الحال، رجاء تبديلها بمثل حالي، وإنما طلبتُه في حين ما تعلمه وما ذكرته، فلم أرج به إلا علو القدر العلمي في الدنيا والآخرة» فأفحمه.
وقد قال عياض العالم المشهور: «قال لي أصحاب الباجي: كان يخرج إلينا للإقراء وفي يده أثر المطرقة يحصل رزقه، إلى أن فشا علمه ونوَّهت الدنيا به، وعظم جاهه، وأجزلت صِلاته، حتى مات عن مال وافر». ومن مثل ما كانت تدور عليه المناظرة بين الباجي وابن حزم حديث روي، وهو أن النبي ﷺ وقَّع على صلح الحديبية، فظاهر الحديث يدل على أن محمدًا — عليه الصلاة والسلام — كتب اسمه، والقرآن يقول: إنه نبي أمي، فكيف التوفيق بين ذلك؟ أما ابن حزم فقال: إنه وقع كالظاهر، ولكن توقيعه لا ينفي أميته ككثير من الملوك يوقعون بإمضاءاتهم وهم أميون، أما الباجي وغيره، فيؤوِّلون التوقيع.
ولنسق لك صورة مما كان يجرى بين الظاهرية وخصومهم، فأصحاب المذاهب يقولون للظاهرية: إنكم جامدون عند اللفظ، لا تنظرون للمعاني المقصودة من روح التشريع، وكان الله ينعي على الكفار اقتصارهم على فهم ظواهر الدنيا، فقال: يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فكيف بمن اقتصر على ظاهر الشريعة؟ فيقول الظاهرية: إن القصد من الشريعة هو التعبد، وظهور سر الامتثال، أما التعمق في القياس والعلل، فيخرجها من حد التشريع الإلهي إلى التشريع الوضعي البشري.
نعم إن هناك عللًا للأحكام إذا نص عليها عملنا بها، أما إذا لم ينص عليها لم نستطع العمل بها. فمن أين يستفاد أن العلة في تحريم الربا هي الاقتيات والادخار، أو الكيل والوزن كما يقول أهل القياس، ومن أين يستفاد من قوله — عليه السلام: «الولد للفراش» أنه لو قال له الولي بحضرة الحاكم: زوجتك ابنتي وهو بأقصى الشرق، وهي بأقصى الغرب، فقال: قبلت هذا التزويج، وهي طالق ثلاثًا، ثم جاءت بولد لأكثر من ستة أشهر: إنه ابنه؛ لأنها صارت فراشه. فنحن ننكر هذا التمثيل وهذا التشبيه، والله تعالى يقول: وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ، ولم يقل: إلى آرائكم وأقيستكم. ويرد عليهم القياسيون بأن قوله: فَحُكْمُهُ إِلَى اللهِ لا يمنع القياس؛ لأن ما قيس على كلام الله فهو حكم الله أيضًا. فالنظر إلى المقاصد وهي اللب واجب، وهكذا. واستمر الباجي يناظر ابن حزم عهدًا طويلًا، والحرب بينهما سجال.
وكان ابن حزم كثير الاعتداد بنفسه، وقد نعى نفسه قبل وفاته فقال:
ومما يدل على اعتداده بنفسه قوله:
وهي قصيدة تدل على مذهبه بالأخذ بالنص مع تصوير لطيف لحال أعدائه معه.
واستمرت هذه الحركة طويلًا، منهم من يكفره، ويحُذِّر منه العوام والسلاطين، ومنهم من يدس له الدسائس ويتهمه بالسياسة التي تغضب الأمير، ومنهم من يقوِّله ما لم يقل. وفي ذلك يقول مخاطبًا لبعض أصحابه:
حتى بعض أهله حسدوه على فضله، وناصبوه العداء، وذو الفضل دائمًا محسود، وقد كان — رحمه الله — كما قال ابن حيان: «إذا حرك بالسؤال يتفجر معه بحر علم لا تكدره الدلاء». وقد روض نفسه على ذلك، فكان يكثر من قوله تعالى: وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ. وقوله — عليه الصلاة والسلام: «صل من قطعك، واعف عمن ظلمك»، وقول بعض الحكماء: «كفاك انتصارًا لمن تعرض لأذاك، إعراضك عنه»، ويقول هو:
وقد نبع في تخريج المذهب الظاهري نبوغًا جعله إمامًا يقتدى به، حتى عد صاحب مذهب ظاهري، وعرف أتباعه بالحزمية، وكان له أتباع على هذا المذهب مثل: ابن عبد البر المحدث، والحميدي المؤرخ، وقد مال إلى مذهبه ابن تومرت زعيم الموحدين. وقد انتصر مذهبه في المشرق أيضًا، فاعتنق مذهبه ابن سيد الناس الإمام المصري، وقد أخذ بلون منه محيي الدين بن عربي الصوفي الكبير، وابن رشد الفيلسوف الكبير.
وظلت الحركة بعده بين مؤيد ومهاجم، حتى ظهر بعد قرن تقريبًا العالم المشهور أبو بكر بن العربي، وانتشر ذكره في المشرق كما انتشر في الأندلس، وكان قد رحل إلى الشرق، وتتلمذ للإمام الغزالي في دمشق، فجاء إلى الأندلس موطنًا نفسه على مهاجمة تعاليم ابن حزم. وكان لسِنًا قوي الحجة، فخلف أثرًا كبيرًا في الأندلس وغيرها.
وكان ابن الباجي يعمل على تفنيد مذهب الظاهرية، وكان يوفَّق أحيانًا، ولا يوفق أحيانًا، وكان واسع العلم، وقالوا: إن كل من رحل لم يأتِ بمثل ما أتى به ابن العربي إلا الباجي. وكان متفننًا في المعارف كلها، مع خُلق متين، وقضاء صائب، والتزم الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، حتى أوذي في ذلك. قال فيه القاضي عياض: «إنه أقبل على نشر العلم وبثه، وكان فصيحًا حافظًا، كثير الملح، مليح المجالس».
ولنذكر بعض كلامه في الرد على ابن حزم قال: «وكان أول بدعة لقيت في رحلتي القول بالباطن، فلما عدت وجدت القول بالظاهر قد ملأ به المغرب سخيف كان من بادية إشبيلية، يعرف بابن حزم نشأ وتعلق بمذهب الشافعي، ثم انتسب إلى داود، ثم خلع الكل، واستقل بنفسه، وزعم أنه إمام الأمة، يضع ويرفع، ويحكم ويشرع، ينسب إلى دين الله ما ليس فيه، ويقول عن العلماء ما لم يقولوا، تنفيرًا للقلوب، وعضدته الرياسة … فحين عودي من الرحلة ألفيت حضرتي منهم طافحة، ونار ضلالتهم لافحة» فنازلهم. ورمي ابن حزم بالسخف قول فيه إجحاف، وقد أنصفه ابن حيان، والذهبي، وشكا ابن حزم نفسه من علماء وقته، فقال: «إن المثل السائر: أزهد الناس في عالم أهله»، وقرأت في الإنجيل أن عيسى — عليه السلام — قال: «لا يفقد النبي حرمته إلا في بلده»، وكان يعتقد أن من سوء حظه أنه أندلسي، ولو كان مشرقيًّا لعرفوا فضله، وشادوا بذكره، وكان له شأن آخر غير شأنه.
وقال ينعي أهل الأندلس: «إن الأندلس خصت بحسد أهلها للعالم الظاهر فيها، الماهر منهم، واستقلالهم كثير ما يأتي به، واستهجانهم حسناته، وتتبعهم سقطاته، إن أجاد، قالوا: سارق مغير، ومنتحل مدعٍ، وإن توسط قالوا: غث بارد، وضعيف ساقط، وإن باكر الحيازة لقصب السبق، قالوا: متى كان هذا؟ ومتى تعلم؟ وفي أي زمن قرأ؟ ولأمه الهبل، فإن تعرض لتأليف غُمز ولُمز، واستُشنع هين سقطه، وعظم يسير خطئه، وذهبت محاسنه، وسترت فضائله، فتنكسر لذلك همته، وتقل نفسه، وتبرد حميته».
وهكذا عودي كثيرًا، وخوصم كثيرًا، وتألم كثيرًا، وإن كان ذلك كله قد أورثه تجارب دوَّنها في كتابة «الأخلاق».
على كل حال كان حربًا على الظاهرية، وخصوصًا ابن حزم، ومع ذلك لم يستطع محو هذا المذهب، فظل بعده أيضًا، وعُد ابن العربي بحق خاتمة المحققين، وكل من أتى بعده مقلد صغير، وانحط شأن العلوم الدينية، وضعف أمرها.
شأن الأندلسيين في ذلك شأن المشارقة، فالعالم الإسلامي كله وحدة، وهو يخضع لقوانين واحدة، فما حدث في قطر من أقطاره يحدث مثله في الأقطار الأخرى غالبًا، فلما ضعف الفقه في المشرق ضعف في المغرب إلا أفرادًا قلائل، وقد ضعف الفقه في المشرق لعدم الاجتهاد ولغلبة الأتراك، وغير ذلك من الأسباب التي ذكرناها في الجزء الثاني من ظهر الإسلام، وكتابنا يوم الإسلام، إذ أغلقوا باب الاجتهاد، أما في الأندلس فقد داهمهم الإسبان، كما داهم الترك الشرق، فكانت العلل واحدة، إلا أفرادًا شواذ كانوا هنا وهناك، أعادوا مجد الفقه الإسلامي في الأندلس، فلما أتى الموحدون بالأندلس أعادوا القول بالاجتهاد، ورأوا أن المختصرات الفقهية جنت على الفقه، فأرادوا إحياءه بالرجوع إلى الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام منهما، وعدم العمل بأي مذهب من المذاهب المعروفة، وذلك في حدود سنة ٥٥٠ﻫ، وأمر عبد المؤمن بن علي الموحدي بإحراق كتب الفروع كلها؛ فخافه الفقهاء، وأمر جماعة ممن كانوا عنده من العلماء بجمع الأحاديث من المصنفات العشرة المشهورة، ونشر هذا المجموع في الأندلس والمغرب.
قال بعضهم: «لما دخلت على أمير المؤمنين يعقوب وجدت بين يديه كتاب ابن يونس، فقال لي: يا أبا بكر، أنا أنظر في هذه الآراء المتشبعة التي أحدثت في دين الله، فالمسألة فيها أربعة أقوال أو خمسة أو أكثر، فأي هذه الأقوال هي الحق؟ وأيها يجب أن يأخذ بها المقلد يا أبا بكر؟! ليس إلا هذا، وأشار إلى المصحف، أو هذا وأشار إلى سنن أبي داود، أو هذا وأشار إلى السيف»، وأمر الفقهاء ألا يُفتوا إلا من الكتاب أو السنة، وألا يقلدوا أحدًا، بل تكون أحكامهم بالاجتهاد، وسار الناس على هذه الطريقة، والتزموا ظاهر الكتاب والسنة، وتحرروا في الاجتهاد، وكان من هؤلاء فقهاء على هذه الطريق مثل: أبي الخطاب، ومحيي الدين بن عربي، وغيرهما، وبذلك نصر الموحدون مذهب الظاهرية ومنهم ابن حزم. ومن الأسف أن بني مَرِين لما جاءت دولتهم نقضت ذلك كله، وجددت كل الفروع، وأحيت كتب الفقه على مذهب مالك من جديد.
وتاريخ الأندلس في ذلك التاريخ كتاريخ المشرق، إذ المدنية كلها واحدة.
وقد رُويت حوادث كثيرة لفقهاء أندلسيين تدل على صدقهم وإخلاصهم وظرفهم، وقد روينا من قبل حكاية يحيى بن يحيى الليثي الذي وقف أمام عبد الرحمن الداخل، وألزمه بالصيام شهرين متتابعين، ومثل ممانعة القاضي الذي تقدم ذكره في استيلاء عبد الرحمن الناصر على بيت أيتام حتى يدفع لهم أكثر من ثمنه، ومثل إضراب أبي عمر بن المكي الإشبيلي شهرين عن الفتوى لقتل ابن أبي عامر عبد الملك بن منذر البلُّوطي ظلمًا، ومثل ما يروى أن قاضي قرطبة محمد بن عبد الله بن يحيى كان مارًّا بمدينة إلبيرة أيام قضائه فيها فرأى فتى يتمايل سكرًا، فلما رأى القاضي أراد الفرار فخانته رجلاه، فاستند إلى الحائط، فلما دنا منه القاضي رفع الشاب رأسه، وأنشأ يقول:
فلما سمع القاضي شعره، أعرض عنه ومضى لشأنه.
ومثل أن أبا إبراهيم التميمي القرطبي تخلَّف عن الحضور في وليمة دعاه إليها عبد الرحمن الناصر، وكان صديقًا لابنه الحاكم، فلما سُئِل في ذلك رد فقال: إن من قبلك من الأمراء والخلفاء كانوا يستبقون من هذه الطبقة بقية لا يمتهنونها بما يشينها ويرد منها، يستعدون بها لدينهم، ويتزينون بها عند رعايهم؛ ولهذا تخلَّفت. وأراد الناصر أن يدعوه هو وابنه الحكم فاعتذر أيضًا، وخاف أن الناس يقولون: إنه يستجلب الدراهم بدعوة الخليفة وابنه. وفي ترجمته ما يعطينا شيئًا عن نظام الشورى عندهم، فقد قالوا: إن مجلس الشورى كمل عدده به ستة عشر.
ومثل أن أحد القضاة لمح ما عليه ملوك الطوائف من تخاذل وافتراق رأي، فندب نفسه لجمع كلمتهم، والتوفيق بينهم، وجعلهم جبهة واحدة ضد العدو.
وأخيرًا لم يفلح في ذلك، فاستثقله الأمراء، وأيقن بالفشل، وكف عن سعيه … إلخ إلخ، فهذا يعطينا بعض الفكرة عن مجلس الشورى وقوة رجاله وعددهم وأحيانًا ظرفهم.
ولما كثرت المذاهب من ظاهرية ومالكية ومن شيعة إلخ، كثر حبهم للجدل بعد أن كانوا منصرفين عنه، حتى حكى بعضهم أنهم كانوا كثيرًا ما يتجادلون في مجلس العزاء، وسبب آخر لهذا الجدل وهو كثرته في المشرق، حتى ألَّف المشارقة علمًا سموه علم المناظرة أو أدب البحث، وألَّفوا علمًا سموه علم «الخلافيات»، وقد نقل ذلك إلى الأندلس فازداد نشاطهم في البحث والمناظرة.
وقد رأينا أن تاريخ العلم كتاريخ الأفراد، له صبا وشباب وشيخوخة وهرم، فلما انتهى هؤلاء الأعلام كابن حزم، والباجي، وابن العربي، وصل العلم إلى دور الهرم، فأصبح كالرجل الهرم، لا يقوى على المسير، حتى انتهى الفقه.
وهناك ناحية أخرى جديدة بالبحث في الحركة الدينية وهي ناحية التصوف، وكما نشأ التصوف في المشرق في القرن الثاني كذلك نشأ التصوف في الأندلس في القرن الثاني بعد الفتح العربي؛ غير أن تصوف الشرق كان مزيجًا من تعاليم الإسلام وتعاليم الفرس والهند واليونان، وتصوف الأندلس كان مزيجًا من تعاليم الإسلام وتعاليم الأفلاطونية الحديثة، والتعاليم اليونانية والرومانية، لا الفارسية ولا الهندية إلا ما جاء من قِبَل المشرق؛ إذ كانت هذه التعاليم كلها هي التي تجاوز الأندلس. يضاف إلى ذلك أن الأندلسيين كان كثير منهم برابرة، وكثير منهم أولاد مسيحيين متصوفين، وقد اشتهر البربر من قديم بأنهم أهل خيال واعتقاد بالمغيبات، وسرعة تصديق لمن يأتي لهم بدعاوى غيبية، ولسنا ننسى ما لقيه العرب عند فتح المغرب من عناء وشدة قتال، وانتفاض على يد من تُدعى «الكاهنة» إذا التفوا حولها فآمنوا بها، وأذاقوا العرب في الفتح الأمرَّين، وهذا يدل على الطبيعية البربرية. وإلى الآن في كثير من البلاد يأخذ البرابرة سمعة قوية في فتح الكتاب، وفتح الكنوز، وقراءة الكف، والادعاء بمعرفة المغيبات، وهي أشياء من قبيل التصوف بعد أن يتدلى؛ ولذلك كله كبرت عند الأندلسيين حركة التصوف.
ولنسلسلها كما سلسلنا الفقه. فأول من علمنا تصوفه ابن مسرَّة، وهو محمد بن عبد الله بن مسرة، ولد سنة ٢٩٦ﻫ، وكان أبوه من قرطبة، وعرف أبوه بالاعتزال، وكان الاعتزال في الأندلس قليلًا وغير مرغوب فيه، فاضطر أن يخفي ذلك على الناس، ومعروف أن الاعتزال يثير بحث كثير من الإلهيات، ويتسلح أصحابه بالفلسفة اليونانية للدفاع عن الإسلام ضد النصرانية واليهودية كما رأينا في المشرق، فأورث ذلك كله لابنه، ورأى أباه يُسِرُّ الاعتزال وما إليه، فأسرَّ هو أيضًا مذهبه؛ ولهذا اعتزل ابن مسرَّة الناس أيضًا قبل أن يبلغ الثلاثين، والتجأ إلى جبل في قرطبة، يتحنث فيه، وجبال الأندلس عادة خضراء، تبهج النفس، وانضم إليه بعض أتباعه، وساعدته عزلته والمناظر الطبيعية التي أمام بصره على سعة الخيال، وعمق التفكير، وظل أتباعه في الأندلس قرونًا طويلة، ومع ذلك لم يستطع هو وأتباعه الكثيرون أن يحافظوا على السرية محافظة تامة، واتهم بالإلحاد، ففر من البلاد مدعيًا أنه يريد الحج، وظل خارج الأندلس، حتى تولى عبد الرحمن الثالث الذي اشتهر بالتسامح وتأييد العلماء، وزادت تلاميذه بعدُ، ويظهر أنه كان يعتنق التقيَّة، فكان مظهره ورعًا تقيًّا، وهو يبث التعاليم العميقة لأخص تلاميذه ومريديه. ولم نعرف له آثارًا نستدل منها على آرائه ومذهبه، ولكن مستشرقًا إسبانيًّا عثر على بعض آرائه، وقال: إن كثيرًا من تعاليمه تشبه تعاليم أمبيدوقليس وهو فيلسوف يوناني مشهور، عدَّه المسلمون أول الحكماء السبعة اليونانيين، ونسبت إليه كرامات كما تنسب إلى الصوفية، ولم يقتصر أثره على مسلمي الأندلس، بل أثر أيضًا في يهودها ونصاراها.
وهنا نتساءل: هل بلغ تصوف الشرق ابن مسرة فتصوف، فيكون تصوف الغرب من تصوف الشرق، أو أن ميله الطبيعي ومزاجه، وتعاليم النصارى الإسبانيين والفلاسفة اليونانيين أنتجت ابن مسرة هذا، فيكون التصوف الأندلسي مستقلًّا عن التصوف الشرقي؟ هذا سؤال صعب الجواب، ليس بين أيدينا ما يكشف غموضه، خصوصًا وقد كان في الأندلس قبل الإسلام زهَّاد انقطعوا للعبادة.
على كل حال كان ابن مسرة أوَّلَ من نعرف في الأندلس من المتصوفة، وكان من تلاميذه فيما يروون الهاشمي، وهو أبو بكر محمد، أخذ عن ابن مسرة، وأخذ عنه محيي الدين بن عربي، وكان متقشِّفًا زاهدًا، وإن لم نعرف له كتبًا، وقد عاصره صوفي كبير آخر، وهو أبو عبد الله القرشي الهاشمي أيضًا، نسبوا إليه أقوالًا صوفية كثيرة مثل: «من لم يدخل في الأمور بلطف الأدب، لم يدرك مطلوبه منها. من لم يراع حقوق الإخوان بترك حقوقه حرم بركة الصحبة … إلخ».
وقد مات سنة ٥٥٩ﻫ بعد أن رحل إلى بيت القدس ودفن به — وكان الناس يتبركون به وبضريحه — والهاشمي هذا هو أحد أساتذة محيي الدين بن عربي. وإذا وصلنا إلى محيي الدين، وصلنا إلى إمام كبير من أئمة التصوف، نثر نصوصه في الشرق والغرب، وهو محيي الدين أبو بكر محمد بن على بن عربي الحاتمي الطائي، وهو عربي من نسل حاتم الطائي، ولد بمُرْسية بلد أبي العباس المرسي سنة ٥٦٠ﻫ، وقرأ القرآن وتعلم في إشبيلية، تعلم القرآن والحديث، وأقام بإشبيلية نحو ثلاثين عامًا، ثم رحل إلى المشرق، وأخذ الحديث عن ابن عساكر والجوزي، وساح في بغداد والموصل وبلاد الروم، واتسعت معارفه المتعددة. ومن الأسف أنه بعد أن رحل لم يعد إلى الأندلس ثانيًا، فقد توفي في دمشق، وقد أعطي بلاغة في القول، وعمقًا في التفكير، وسعة في الخيال، وكلما نزل بلدًا اتصل بمتصوفيها، له النثر الكبير، والشعر الكثير، لا يعبأ بمال، ولا جاه، وكان كثير الشَّطْح، كثير التأويل، وربما كانت له قصص كثيرة تبين منحاه في القول، فقد قال:
فاعترض عليه، كيف لا يراه الله؟ فقال:
وله كلام كثير من هذا القبيل، ظاهره الإلحاد، وباطنه الإسلام مع التأويل، واشتهر شهرة واسعة، وكانت شهرته تسبقه إلى كل مكان يحل فيه، وهو متوكل على الله، ينتقل من بلد إلى بلد، فقيرًا زاهدًا، فيعطف عليه بعض الأغنياء، فيوزع ما يأخذه هنا وهناك، حتى لقد أعطي مرة بيتًا يسكنه، وجاءه سائل يسأله: ويقول: شيء لله، فأعطاه البيت.
وهو من أكبر الناشزين بين الصوفية لفكرة وحدة الوجود، أي: إن الله والعالم شيء واحد، يختلفان في الصورة فقط، ولا يختلفان في الحقيقة، وأن رؤية الأشياء مختلفة، كمنزل ورجل وشجرة ليس إلا أمرًا قضت به الضرورة، وليس إلا خداعًا من الحواس، ومطاوعة للعقل الإنساني القاصر، فهو يشبه ما يقول من الفلاسفة المحدثون من أن كل شيء أساسه الذرَّة، وإنما تختلف الأشياء باختلاف النواة الذرية وكمية شحناتها الكهربائية، وإلا فالحقيقة في الكل واحدة، وربما عبر عن هذا بقوله: «سبحان من خلق الأشياء وهو عينها»، فهو يعيِّن خالقًا ومخلوقًا في الظاهر، ولكنها في الحقيقة شيء واحد. وهو شيء كما يقول لا يدرك بالعقل، بل بالقلب، وليس هناك خالق ومخلوق إلا في الظاهر، وفي ذلك يقول:
ومن ناحية الظاهر والحديث المألوف، هناك خالق ومخلوق، وحق وخلق، وظاهر وباطن، وأول وآخر. وعنده أن إقامة البرهان المنطقي لا يفيد في هذا الباب، إنما يدل عليه الشعور، والرياضة، والذوق، ويرى أن كل المخلوقات من جماد ونبات، وحيوان وإنسان، خاضعة لهذا المعنى، بمعنى أنها كلها تسير على مقتضى طبيعتها وحقيقتها، فالجماد يسكن أو يؤدي طبيعته الطبيعية، بحكم طبيعته، أو بعبارة أخرى: بحكم القانون الإلهي، وكذلك الإنسان والحيوان؛ ولذلك لا يعوّل كثيرًا على تفرقة بين يهودية ونصرانية، ووثنية وإسلام، ويقول في ذلك:
ولأن كل إنسان ميسر لما خلق له، وليس في باطن الأمر إلا الله، وهذا لا يمنع من أن الخلق يعشق الحق، فهي كلها اعتبارات، والشيء عادة يحن إلى جنسه، ولولا ذلك ما كانت هذه الجاذبية المبعوثة في عالم الأرض والسماء، وقد تأثر بتعاليم الأفلاطونية الحديثة في قوله: «بلحظات التجلي» فقد عرف عن أفلوطين زعيم هذا المذهب أن الحق تجلى له مرة، فكاد يُصْعق. والحقيقة عنده أن الأسماء المختلفة هي في الواقع أسماء لمسمًّى واحد وهي الحقيقة الوجودية وضعت اصطلاحًا للفهم والتفاهم: وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا، والله خلق آدم على صورته. والذي يقرأ كتابه «الفتوحات المكية» يعجب من سعة خياله، وقدرته على التعبير والتأويل، وربما دل على مذهبه هذه القصيدة:
وقد عرف في تاريخ ابن عربي أنه وهو في مكة أحب فتاة تسمى «نظام»، ألف فيها كتابه «ترجمان الأشواق» ظاهره عشق هذه الفتاة، وباطنه الله والفناء فيه. ومثل ذلك ما رووه عن ابن الفارض في مصر.
وقد أكثر محيي الدين بن عربي في التأليف، حتى ألف في الأدب والتاريخ، فله ديوان أشعار، وتفسير قرآن، وكتاب في أسرار العلوم.
وتشهد مصر في عهد الأيوبيين مشهدًا كبيرًا بين الفقهاء الذين ينكرون على الصوفيين نزعتهم، وعلى رأسهم ابن تيمية الحنبلي، وبين المتصوفة؛ ويؤلفون في الخلاف بين الطائفتين الكتب، وأخيرًا ألف كتاب «جلاء العينين في محاكمة الأحمدين».
قال ابن النجار: «اجتمعت بابن عربي في دمشق في رحلتي إليها، وكتبت عنه شيئًا من شعره، ونِعْمَ الشيخ هو، ذكر لي أنه دخل بغداد سنة ٦٠١، فأقام بها اثني عشر يومًا، ثم دخلها ثانيًا مع الحُجاج سنة ٦٠٨ﻫ وأنشدني بنفسه:
وسألته عن مولده فقال: ليلة الاثنين ١٧ رمضان سنة ٥٦٠ بمرسية». وقال ابن مُسْدي: «إنه كان جميل الجملة والتفصيل، محصلًا لفنون العلم أخص تحصيل، وله في الأدب الشأو الذي لا يلحق. سمع ببلاده من ابن زرقون، والحافظ ابن الجد، وأبي الوليد الحضرمي، وبسبتة من أبي محمد بن عبد الله». وقال في حقه الذهبي: «إن له توسطًا في الكلام، وذكاءً وقوة خاطر، وحافظة، وتدقيقًا في التصوف، وتآليف جمة في العرفان، لولا شطحه في كلامه وشعره، ولعل ذلك وقع منه حال سكره وغيبته، فيرجى له الخبر».
ومن نظم ابن عربي:
وقوله:
ولعله يخاطب بذلك الإنسان.
وجاء في نفح الطيب أن المقريزي حكى في ترجمة عمر بن الفارض أن الشيخ محيي الدين بن عربي بعث إلى الفارض يستأذنه في شرح التائية، فأجابه: «كتابك المسمى بالفتوحات المكية شرح لها». قالوا: «ولما صنف الفتوحات المكية كان يكتب كل يوم حيث كان، وحصلت له بدمشق دنيا كثيرة، فما ادَّخر منها شيئًا»، وقال صفي الدين حسين في رسالته: «رأيت بدمشق الشيخ الإمام العارف محيي الدين بن عربي، وكان من أكبر علماء الطريق، جمع بين سائر العلوم الكسبية، وما وقر له من العلوم الوهبية، ومنزلته شهيرة، وتصانيفه كثيرة، وقد غلب عليه التوحيد علمًا وخلقًا وحالًا، لا يكترث بالوجود، مقبلًا كان أو معرضًا. وله علماء وأتباع، أرباب مواجيد وتصانيف، وكله بينه وبين سيدي الأستاذ الخرَّاز إخاء ورفقة في السياحات». ومن نظمه:
وقوله:
وقوله:
ويقول:
إلى كثير من شعره الذي ملئ به ديوانه وكتابه «الفتوحات المكية». وقد ألف السيوطي فيه كتابًا سماه «تنبيه الغبي على تنزيه ابن عربي»، وقد روي أن بعضهم كفر ابن عربي في مجلس شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام، وقال فيه: إنه زنديق. ولم يرد عليه الشيخ، فعُدَّ سكوته إقرارًا، ولكن فسر عز الدين موقفه هذا فيما بعد بأن مجلسه كان مجلس فقهاء، والفقهاء أشد الناس على المتصوفة.
وروى الشعراني أن ابن عربي وصف السلطان الذي يفتح القسطنطينية. وقال: إنها تفتح سنة كذا، فكان الأمر كما قال، وبينه وبين السلطان محمد الفاتح نحو مائتي سنة؛ ولذلك بنى عليه قبة عظيمة، وتكية بالشام. وكانت وفاة ابن عربي سنة ٦٣٨ﻫ بالصالحية بدمشق. وقال بعضهم: «إن من يتسامح في كلام ابن عربي ويتأول، يسهل عليه المراء، وإن كان ممن يلتزم الظاهر، صعب عليه».
وقد نقده أهل الديار المصرية، وسعوا في إراقة دمه، فخلصه الله على يد الشيخ البُجَائي، فإنه تأول كلامه. ولما سأل البجائي ابن عربي عن بعض ما ورد على لسانه قال له: «يا سيدي تلك شطحات في محل سُكْر، ولا عتب على سكران». ومما يدل على مذهبه قوله:
وكان يقول ابن عربي: إن كل العالم مظاهر للألوهية، وكان يعتقد أنه رأى محمدًا ﷺ، وأنه يعرف اسم الله الأعظم، ويعرف الكيمياء بالتنزيل لا بالتعليل. ومما طبع من كتبه «الفتوحات المكية»، وديوان يسمى «ترجمان الأشواق»، وكتاب «محاضرات الأبرار»، وكتاب «فصوص الحكم»، و«مجموع الرسائل الإلهية».
وأيًّا ما كان، فقد خلف محيي الدين بن عربي تراثًا يلعب بالأفكار والعقول إلى اليوم في الشرق وفي الغرب.
ومن أشهر متصوفة الأندلس ابن سبعين وكان أديبًا صوفيًّا متفلسفًا متزهدًا متقشفًا، وهو من خريجي مرسية كمحيي الدين بن عربي وأبي العباس المرسي، وقد كان تلاميذه يعتقدون أنه ليس له نظير في العلم اللدني، وكان مشهورًا بحبه الإيثار، وعطفه على الإنسانية كلها ومحبته لأعدائه، وبيته كان بيت عز ومجد في بلاد المغرب وهو بيت علوي، وقد زهد في رياسة أهل بيته وتركها لإخوته، وقد قالوا: إنه ألف كتابًا اسمه «بدء العارف» وسنه خمس عشرة سنة. ولثقافته الأدبية كان يؤدي ما عنده من المعاني أداءً حسنًا، ويروون أن ابن هود الأمير المشهور تعاقد مع طاغية النصارى، فلم يفِ الطاغية بعهده فاضطر ابن هود إلى مخاطبة البابا، وأرسل ابن سبعين سفيرًا عنه إلى روما.
وذكر ابن خلدون في تاريخه أن السلطان المستنصر ملك إفريقيا بايعه أهل مكة، وخطبوا له بعرفة، وأرسلوا له رسالة بتنصيبه، قال: وهي من إنشاء ابن سبعين، وقد ذكرها ابن خلدون بجملتها وهي طويلة بليغة، وهو يشير في هذه الرسالة إلى أن المستنصر هو المهدي المنتظر. وكان لابن سبعين أتباع كثيرون يتحمسون له، وله تأليفات كثيرة ورسائل كثيرة، ونشأ تَرِفًا موقرًا، وكان وسيمًا جميلًا، ملوكي البزَّة، عزيز النفس، قليل التصنع، آية من الآيات في الإيثار والجود بما في يده.
- (١)
ما هو المقصود من العلم بالله؟ وما مقدماته؟
- (٢)
ما معنى المقولات؟ وكيف تستخدم في العلوم؟ وما عددها؟
- (٣)
ما الدليل على خلود النفس؟
وإجابة ابن سبعين في رسالة لا تزال محفوظة إلى اليوم، وهي تدل على اطلاع ابن سبعين على ما ترجم من الفلسفة اليونانية. وله شطحات ورموز على نحو طريقة ابن عربي في نظرية وحدة الوجود. ونقل عبد الرءوف المُناوي: أن ابن سبعين كان له سلوك عجيب على طريق أهل الوحدة، وله في علم الحروف والأسماء اليد الطولى. ومن أقواله التي تروى عنه في تلاميذه: «عليكم بالاستقامة على الطريق، وقدموا فرض الشريعة على الحقيقة ولا تفرقوا بينهما من الأسماء المترادفة، واكفروا بالحقيقة التي في زمانكم هذا وقولوا عليها وعلى أهلها اللعنة».
وخلفه قوم كثيرون من الصوفيين في الأندلس، حتى لا يكاد يخلو عصر من عصور الأندلس من الصوفية؛ من أشهرهم أبو العباس المرسي، وهو صاحب المقام المشهور في الإسكندرية، والمرسي نسبة إلى مرسية، وهي أيضًا بلد محيي الدين بن عربي، قالوا: إنه كان يكرم الناس على نحو رتبهم عند الله؛ حتى إنه ربما دخل عليه مطيع فلا يحفل به، وربما دخل عليه عاصٍ فأكرمه؛ لأن ذلك الطائع أتى وهو متكثر بعمله ناظر لفعله، وذلك العاصي دخل متواضعًا لمعصيته، ذليلًا لمخالفته، وكان شديد الكراهية للوسواس في الصلاة. قالوا: إن له كلامًا بديعًا في تفسير القرآن كقوله في الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (الفاتحة: ٢): «علم الله عجز خلقه عن حمده، فحمد نفسه بنفسه في أزله، فلما خلق الخلق اقتضى منهم أن يحمدوه بحمده … إلخ»، ويقول: «التقوى في كتاب الله على أقسام: تقوى النار، قال تعالى: وَاتَّقُوا النَّارَ، وتقوى اليوم الآخر، قال: وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ، وتقوى الربوبية، قال: اتَّقُوا رَبَّكُمُ، وتقوى الألوهية، وتقوى الله، وتقوى الإنِّيَّة قال: وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ، وقال عند سماعه قول رسول الله ﷺ: «أنا سيد ولد آدم ولا فخر». «أي: أنا أفتخر بالسيادة، وإنما الفخر لي بالعبودية لله. ولما سمع قول سمنون المحب:
قال: كان الأولى أن يقول: «فكيفما شئت فاعف عني»، إذ طلب العفو أولى من طلب الاختبار. وقال: «الزاهد جاء من الدنيا إلى الآخرة، والعراف جاء من الآخرة إلى الدنيا»، وهكذا له كثير من الأقوال. وألف فيه تلميذه ابن عطاء الله كتابًا يذكر فيه فضائله وكراماته.
وممن نعرفهم من المتأخرين أحمد بن فاس، كان شيخًا من المتصوفة، ادَّعى أنه المهدي المنتظر، واستولى على بعض البلاد، وكان في أيام الموحدين، وقتله أحد أتباعه، وألف كتابًا سماه «خلع النعلين في التصوف».
والذى نلاحظه أن الحركات علمية كانت أو أدبية، تتلون حسب ميول الأمراء، فإذا كان البيت الحاكم متصوفًا، ساد التصوف، أو متفلسفًا انتشر التفلسف. وقد شاهدنا أن أسرة جاءت تميل إلى الغزالي، فحيِيَتْ كتبه، ومجد شخصه، وجاءت أسرة أخرى تخالفه، فأحرقت كتبه، وأعلنت كراهيته.
على كل حال لم ينقطع التصوف في أي زمان كان، ولكن لم يبلغ شأنه كما بلغ على يد محيي الدين بن عربي، وانتقل أكثره إلى تخريف وتدجيل كما كان الحال في الشرق.
ويطول القول لو عددنا أسماء المتصوفة كلها في الأندلس وترجمنا لهم، وأبنَّا عيوبهم ومزاياهم. فلنكتفِ بهذا القدر.