الباب الثالث: قونغ صُن تشو «٢»
١
ولكن الوضع قد تغيَّر الآن؛ ففي ذروة قوة ممالك شيا وين وتشو ما كانت مساحة أي منها تزيد عن الألف لي مربع، أمَّا الآن فإن مملكة تشي لديها مساحة واسعة، كما أن أصوات خوار البقر ونباح الكلاب التي تُسمع في جميع أرجائها تنبئ عن كثرة سكانها. وحتى بدون أن تسعى إلى زيادة مساحتها أو عدد سكانها، فإن مَلِكها مهيَّأٌ لتوحيد البلاد إذا مارس الحكم الرشيد، ولن تَقدِر قوة على منعه من ذلك.
إذا قامت دولةٌ ذات عشرة آلاف مركبةٍ حربيةٍ اليوم بتبَنِّي الحكم الرشيد، فإن الناس في كل مكانٍ سيبتهجون كما لو أنهم كانوا مُعلَّقين من كواحلهم ثم أُنزلوا؛ لذا فإننا إذا بذلنا الآن نصف ما بذله الأولون من جهد، فسوف نحقِّق ضعف ما حقَّقوه من نتائج.»
٢
فسأله قونغ صُن تشو: «طالما أن الطاقة الحيوية تصل إلى المدى الذي تتطلَّع إليه الإرادة، فكيف تقول لي أن أحافظ على قوة إرادتي ولا أسيء استخدام طاقتي الحيوية؟» أجابه منشيوس: «ركِّز إرادتك على أمرٍ ما فتتوجَّه إليه طاقتك الحيوية. وجِّه قوتك الحيوية إلى أمرٍ ما فتنتقل إليه إرادتك أيضًا. الركض والتعثُّر يؤثِّران على الطاقة الحيوية، ولكنهما يُحدثان أيضًا خفقانًا في القلب.»
قال قونغ صُن تشو: «هل لي أن أسألك يا معلم في أي الأمور براعتك؟» أجابه منشيوس: «عندي تبصُّرٌ بالكلمات، وأعرف كيف أنمِّي فيَّ قوةً حيوية دافقة.» فسأله ثانية: «ماذا تعني بالقوة الحيوية الدافقة؟» أجابه منشيوس: «من الصعب شرح ذلك، ولكني أقول إنها في ذروتها واسعةٌ ولا يمكن قهرها. إذا تمَّت رعايتها ولم توضع في طريقها العقبات، فسوف تملأ الفضاء بين السماء والأرض. ولكن إذا لم يتم دعمها بالاستقامة ومبادئ الحق فسوف تفقد زخمها. وهي تتولَّد عن تراكم الأعمال الفاضلة ولا يمكن لأحدٍ أن يدَّعيها لمجرَّد قيامه بأعمالٍ صالحة متفرِّقة. وعندما يقوم المرء بأعمالٍ لا ترقى إلى مستوى المعايير التي وضعها قلبه فسوف تتلاشى؛ ولهذا أقول إن قاو تسي لا يعرف ما هي الاستقامة؛ لأنه يراها كشيءٍ خارجي. عليك أن تعزِّزها دومًا، ولا تدعها تغب عن ذهنك، وفي الوقت نفسه لا تعجل في نموها بالقسر، فتكون مثل ذلك المواطن من دولة صونغ، وهذه قصته: شعر مواطن صونغ بالحسرة لبطء نمو شتلاته في الحقل، فشدَّها إلى الأعلى ثم مضى إلى بيته متعكِّر المزاج، وقال لأسرته: كم أنا متعبٌ اليوم! لقد أعنت شتلاتي على النمو. فهُرع ابنه إلى الحقل ليرى الشتلات ذابلة.
هنالك قلةٌ من الناس لا تحاول تسريع نمو شتلاتها. البعض يتركونها بلا عناية لاعتقادهم بأن أي تدخُّل من قِبلهم لن يكون بذي فائدة، فلا يقومون حتى بالتعشيب. والبعض الآخر يحاول تسريع نمو الشتلات وذلك بشدها نحو الأعلى، وهذا لا يساعد على نموها بل يسبِّب لها الأذى.»
سأله قونغ صُن تشو مرةً أخرى: «ماذا تعني بقولك إن لديك تبصُّرًا بالكلمات؟» أجابه منشيوس: «عندما تكون الكلمات متحيِّزة، أرى كيف يكون المتكلِّم كفيف البصر. وإذا كانت الكلمات تفتقر إلى التواضع، أرى كيف يكون المتكلِّم محبًّا للظهور. وإذا كانت فاسقة، أرى كيف يكون منحرفًا عن الطريق القويم. وإذا كانت مراوغة، أرى في أي ورطةٍ أَوقع نفسه فيها. إن الكلمات التي تصدر عن العقل سوف تُعبِّر عن نفسها في السياسة وتؤثِّر على العمل الحكومي.
لو قُيِّض لحكيمٍ أن يظهر في هذه الأيام فسوف يُصادق على ما قلته الآن.»
أجابه منشيوس: «إنك تبالغ في الأمر. ذات مرة سأل تسي قونغ كونفوشيوس: هل أنت إنسانٌ كامل أيها المعلِّم؟ أجابه كونفوشيوس: لا أقدر على أن أكون إنسانًا كاملًا. أنا شخصٌ لا يشبع من التعلُّم ولا يتعب من التعليم. فقال تسي قونغ: إذا كنت لا تشبع من التعلُّم، فهذا يعني أنك واسع المعرفة. وإذا كنت لا تتعب من التعليم، فهذا يدل على أنك رجلٌ فاضل. وهكذا فبجمعك لسعة المعرفة والفضيلة تغدو إنسانًا كاملًا أيها المعلِّم.
فإذا لم يسمح كونفوشيوس لنفسه أن يُعتبر إنسانًا كاملًا، فمن العجب أن تدعوني أنت إنسانًا كاملًا.»
سأله قونغ صُن تشو: «إذا قارَنَّا بين هؤلاء الثلاثة، هل نضعهم في نفس المرتبة؟» أجابه منشيوس: «كلا؛ فمنذ بداية التاريخ لم يظهر شخصٌ آخر مثل كونفوشيوس.» فسأله ثانية: «هل كان بينهم أشياء مشتركة؟» أجابه منشيوس: نعم. لو أن أحدهم صار حاكمًا لمنطقةٍ لا تزيد عن المائة لي، فسيغدو قادرًا على توحيد البلاد، والحصول على طاعة أمراء الإقطاعات الذين سيتوافدون إلى بلاطه للإصغاء إليه. ولكن لو كان عليه القيام بأعمالٍ جائرة، أو قتل إنسان بريء مقابل ذلك لَما فعل، هذا هو الشيء المشترك بينهم.»
٣
قال منشيوس: «من يلجأ إلى القوة تحت ستار الإحسان قد يغدو سيدًا على ممالك أخرى، ولكنه لكي ينجح في ذلك عليه أن يكون حاكمًا على دولةٍ كبيرة. أمَّا من يضع الإحسان في التطبيق من خلال الحكم الفاضل فسيغدو ملكًا حقًّا. ولن يتوقَّف نجاحه على كونه حاكمًا لدولةٍ كبيرة؛ فلقد كان تانغ (الذي أسقط أسرة شيا) حاكمًا على مقاطعةٍ مساحتها سبعين لي مربع، وكان وين حاكمًا على دولةٍ مساحتها مائة لي مربع، عندما هزم الطاغية زو وأسقط أسرة شانغ. إن النصر باستخدام القوة العسكرية لن يؤدِّي إلى اكتساب قلوب الناس، وهم لن يخضعوا طواعيةً وإنما لعجزهم عن المقاومة. أمَّا تحقيق النصر من خلال الإحسان وتطبيق الحكم الفاضل، فسوف يؤدِّي إلى اكتساب قلوب الناس وخضوعهم طواعية، كما فعل التلاميذ السبعون بخضوعهم لمعلِّمهم كونفوشيوس. وقد ورد في كتاب القصائد: من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، لم يوجد من استنكف عن الخضوع.»
٤
قال منشيوس: «الرحمة تجلب الشرف، والقسوة تجلب العار. اليوم بعض الحكام يلجئون إلى القسوة ويكرهون أن يلحق بهم العار، وهم في ذلك مثل من يكرهون الرطوبة ولكنهم يبقَون في الأماكن الواطئة. إذا كره الحاكم أن يلحق به العار، فإن أفضل طريقةٍ لتجنُّبه هي أن يُكرِّم المثقَّفين، ويُعلي من شأن الفضيلة، ويعهد بالمناصب الحكومية للصالحين، وبالمهام الرسمية لمن هو أهلٌ لها، ويستغل أوقات السلم في دعم وإصلاح مؤسَّسات الدولة، وشرح القوانين للشعب؛ عند ذلك سوف ترهبه حتى الدول الكبر. وقد ورد في كتاب القصائد: قبل أن تكفهر السماء وتمطر، أُقَشر لحاء شجرة التوت، وأدعِّم به نوافذي وأبوابي، عندها لن يجرؤ أحدٌ من الناس على معاملتي باستعلاء.»
وقد علَّق كونفوشيوس على هذا المقطع بقوله: لقد أدرك كاتب هذا الشعر لُبَّ المسألة. فإذا كان الحاكم قادرًا على إحلال النظام في دولته فلن يستعلي عليه أحد.
والآن، إذا أنفق حاكمٌ في فترات السلم أوقاته في المتع والدعة، فإنه بهذا يستعجل الكارثة؛ لأن الكارثة أو البركة رهنٌ باختيار المرء. وقد ورد في كتاب القصائد: كُن دومًا رهن مشيئة السماء، ولكن اطلب البركة بنفسك.
٥
٦
قال منشيوس: «كل البشر يتمتَّعون بقلبٍ رحيم يأسى لعذابات الآخرين. الملوك القدماء كان لديهم قلوبٌ رحيمة، وقد انعكس ذلك في ممارستهم للحكم الرءوف. بقلبٍ حنون وحكمٍ رءوف تنقاد البلاد إلى الحاكم وتغدو طَوع بنانه.
وما أعنيه بقولي إن كل البشر يتمتَّعون بقلبٍ رحيمٍ ومتعاطفٍ يأسى لعذابات الآخرين هو التالي: لو أن أي إنسان رأى فجأةً طفلًا على وشك السقوط في بئر، سيتحرَّك في داخله شعورٌ بالجزع والتعاطف، لا طلبًا للشكر والعرفان من أبوَي الطفل، ولا طمعًا في مديح جيرانه وأقربائه، ولا لنفوره من سماع صراخ الطفل.
من هنا يمكن القول بأن الذي لا يمتلك قلبًا رحيمًا متعاطفًا ليس بإنسان، وكذلك من لا يمتلك الشعور بالخجل، ومن لا يمتلك التواضع والكياسة، ومن لا يميِّز الصواب من الخطأ. إن التعاطف هو بداية (أو بذرة) الإحسان، والخجل هو بداية الصلاح، والتواضع هو بداية قواعد الأدب، والتمييز بين الصواب والخطأ هو بداية الحكمة.
هذه البدايات الأربع هي بمثابة الأطراف الأربعة للإنسان. فإذا كان مزوَّدًا بها ولكنه قلَّل من شأن قدراته فإنه يُهين نفسه. وإذا كان حاكمه مزوَّدًا بها ولكنه قلَّل من شأن قدرات حاكمه، فإنه يُهين حاكمه. إذا استطاع الإنسان رعاية وتنمية كل هذه البدايات التي يحوزها، فإنها تغدو مثل بداية اشتعال نارٍ أو انبثاق ينبوع، وإذا أكمل رعايتها فسيغدو قادرًا على النهوض بأعباء كل البلاد، وإذا فشل في ذلك، فلن يكون قادرًا على القيام بأعباء والدَيه.»
٧
الرحمة نعمة السماء الكبرى والمرتع الآمن للبشر، وليس من الحكمة ألَّا تكون رحيمًا عندما لا يعوقك عن ذلك عائق. من يفتقر إلى الرحمة والحكمة والكياسة والاستقامة هو عبد، والعبد الذي يرى في الخدمة عارًا يشبه صانع قِسِي أو صانع سهام يرى في صناعتها عارًا، والشعور بالعار لا علاج له سوى ممارسة الرحمة. الرحمة مثل فن الرماية؛ فالرامي عليه أن يتخذ الوضعية المناسبة للوقوف قبل أن يُطلق سهمه، وإذا أخطأ هدفه عليه ألَّا يضع اللوم على من لم يخطئ هدفه، بل أن يبحث عن السبب في نفسه.»
٨
٩
لقد كان بو يي ضَيق الصدر، أمَّا ليو شيا هوي فكان قليل الكرامة، والرجل النبيل لا يتخذ أحد هذَين الطريقَين.»