الفصل الرابع
في هذا الحديث وما أنزل الله في شأنه عظة وذكرى لقوم يعقلون.
وكان صفوان بن المعطل السُّلَمي قد عرَّس من وراء الجيش فأدلج فأصبح عند منزلها، فرأى سواد إنسان قائم فاقترب منها وعرف أم المؤمنين حين رآها حيث كان يراها قبل نزول آية الحجاب، فاستيقظت السيدة عائشة باسترجاعه حين عرفها، وخمَّرتْ وجهها بجلبابها، فأفهمتْه حقيقة الأمر فهوى حتى أناخ راحلته فوطئ على يديها فركبتْها وانطلق يقود بها الراحلة إلى أن أتَيَا الجيش.
كانت هذه المعاملة تُرِيب السيدة أم المؤمنين، ولا تشعر بالشر حتى نَقِهَتْ، فخرجتْ هي وأم مسطح قِبَل المناصع، وهو مُتَبَرَّزُهم وكانوا لا يخرجون إلا ليلًا، وذلك قبل اتخاذ الكُنُف قريبًا من البيوت، فأقبلتْ هي وأم مسطح حين فرغا من شأنهما يمشيان، فعثرت أم مسطح في مِرْطها فقالتْ: تَعِس مسطح. فقالتْ لها السيدة عائشة: بئسَ ما قلتِ! أتسُبِّينَ رجلًا شهد بدرًا؟
فقالت: يا هنتاه، ألم تسمعي ما قال؟
فسألتْها السيدة عائشة ما قال، فأخبرتْها بقول أهل الإفك فازدادتْ مرضًا على مرضها، ولما رجعتْ إلى البيت ودخل عليها الرسول ﷺ وقال لها كعادته: كيف تيكم؟
قالت له: أتأذن لي أن آتي أبويَّ؟
فأذن لها الرسول ﷺ، ولما أتتْ إلى بيت أبيها قالت وهي ترتعد: يا أمتاه ماذا يتحدث الناس به؟
فقالت: يا بنية، هوِّني على نفسك الشأن، فوالله، لَقَلَّ ما كانت امرأة قطُّ وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلا أكثرْنَ عليها.
فقالت: سبحان الله! ولقد تحدث الناس بهذا؟
ثم بكت السيدة عائشة تلك الليلة حتى أصبحتْ لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم، وكان أبو بكر — رضي الله عنه — إذ ذاك في الطابق الأعلى مشغولًا بتلاوة القرآن، فما كاد يسمع بكاء ابنته ونَوْحها حتى نزل إليها وطيَّب خاطرها قائلًا: صبرًا يا بنية! عسى أن ينزل الله في شأنك آية.
وقد زاد من حيرتها كتمان الأمر عنها، فازداد مرضها حتى أصبحت لا تستطيع القيام من فراشها.
ولما بلغ الأمرُ إلى رسول الله عقد مجلسًا من أهله وأصحابه المقربين يستشيرهم، وكان بينهم «علي بن أبي طالب» و«أسامة بن زيد» وسيدنا عمر وعثمان وغيرهما من كبار قريش وبعض السيدات، وكان من عادة الرسول أن يعقد مثل هذه المجالس العائلية كلما قضت الضرورة بذلك، فأما أسامة فأشار عليه بما يعلم من براءة أهله وبالذي يعلم في نفسه من الود لهم فقال: هم أهلك يا رسول الله ولا نعلم بهم والله إلا خيرًا.
وأما علي بن أبي طالب — كرم الله وجهه — فقال: يا رسول الله، لم يضيق الله عليك، والنساء سواها كثير، وسلِ الجاريةَ تصدقْك.
فدعا رسول الله ﷺ بَرِيرَة فقال: أيْ بريرةُ هل رأيتِ فيها شيئًا يَرِيبُك؟
من يعذرني مِن رجل بلغني أذاه في أهل بيتي، فوالله ما علمتُ في أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمتُ عليه شرًّا وما كان يدخل على أهلي إلا معي.
فقام سعد بن معاذ أحد بني عبد الأشهل فقال: يا رسول الله، أنا — والله — أعذرك منه، إن كان من الأوس ضربنا عنقه، وإن كان من إخواننا الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك.
فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكانتْ أم حسان بنت عمه من فخذه وكان رجلًا صالحًا ولكن احتملتْه الحَمِيَّةُ فقال لسعد بن معاذ: كذبتَ، لعمرُ الله، لا تقتله ولا تقدر على ذلك.
فقام أُسَيْد بن حُضَيْر وهو ابن عم سعد، فقال معاذ لسعد بن عبادة: كذبتَ، لعمرُ الله، لنقتلنَّه فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
وتبادر الحَيَّان، الأوس والخزرج، حتى همُّوا أن يقتتلوا ورسول الله ﷺ قائم على المنبر، فلم يَزَلْ يُخفِّضهم حتى سكتوا وسكت.
ولما وصل الخبر إلى السيدة عائشة بكتْ يومها ذلك، لا يرقأ لها دمع ولا تكتحل بنوم ثم بكت ليلتها المقبلة فأصبح عندها أبواها، وقد بكت ليلتين ويومًا حتى ظنتْ أن البكاء فالقٌ كبدها، وبينما أبواها عندها وهي تبكي إذ استأذنت امرأة من الأنصار فأذنتْ لها فجلستْ تبكي معها، وبينما هم على تلك الحال، إذ دخل رسول الله ﷺ، فسلم ثم جلس ولم يجلس عندها من يومَ قيلَ لها ما قيل، وقد مكث شهرًا لا يوحَى إليه في شأنها بشيء، فتشهَّد رسول الله حين جلس ثم قال: أما بعدُ، يا عائشة، فإنه بلغني عنك كذا وكذا، فإن كنتِ بريئة فسيبرئك الله وإن كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإن العبد إذا اعترف بذنبه ثم تاب تاب الله عليه.
فلما قضى رسول الله ﷺ مقالتَه استعصى دمعها لاستعظام ما بَغَتَها من الكلام، وقالتْ لأبيها: أَجِبْ عني رسول الله ﷺ فيما قال.
قال أبوها: والله ما أدري ما أقول لرسول الله ﷺ.
فالتفتتْ لأمها تقول مثل قولها لأبيها فأجابتْها كما قال سيدنا أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — فالتفتتْ إذ ذاك السيدة عائشة وأجابتْ بقولها: إني والله لقد علمتُ أنكم سمعتم ما تحدث الناس به حتى استقر في نفسكم وصدَّقْتم به، فلئن قلتُ إني بريئة، والله يعلم إني لبريئة لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفتُ لكم بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتصدقُنِّي، فوالله ما أجد لي ولكم مثلًا إلا أبا يوسف إذ قال: فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ.
فقالت لها أمها: قومي إلى رسول الله ﷺ، فأجابت: لا والله، لا أقوم ولا أحمد إلا الله هو الذي أنزل براءتي، وكان ما أنزله الله — عزَّ وجلَّ: إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ العشر الآيات من سورة النور في براءة السيدة عائشة، وقد أراد الرسول — صلوات الله عليه — أن يأخذ بِيَد عائشة، إلا أنها رفضتْ مُحتدَّة، حتى انتهرها أبو بكر والدها، أما الرسول فسار من وقته إلى المسجد وجمع أصحابه الكرام وقرأ عليهم خطبة جامعة وتلا عقبها سورة النور.
وكان أبو بكر الصديق — رضي الله عنه — ينفق على «مسطح بن أثاثة» لقرابته منه وفقره، فقال: والله، لا أنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعدما قال لعائشة ما قال. فأنزل الله تعالى: وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ إلى قوله: غَفُورٌ رَحِيمٌ، فقال أبو بكر: بلى، إني والله لأحب أن يغفر الله لي.
فأرجع إلى مسطح ما كان ينفقه عليه، وجمع الرسول عقب نزول آية البراءة أصحاب الإفك وأمر بحدِّهم للقذف.
•••
مَن أحبَّ إنسانًا أحبَّ حبيبَه؛ فكم جيدًا زيَّنتْ تلك العقود المصنوعة من جزع اليمن؟ ولكنها كانت أمتعة للزينة، ليس لها أثر من ذكرى التاريخ، فظلت مهملة الذكر في صحائف الحوادث.
قد تكون للحلي أيضًا درجات من الميزة بقدر ما يكون للتأثرات والمشاعر من الأهمية بالنسبة لموقع أصحابها في الحياة، إن حوادث أيامنا لها من الأهمية والمكانة بقدر الاهتمام الذي يبذله أصحاب هذه الحوادث نحوها، فعِقْد السيدة عائشة كان حلية ذات قيمة بقدر امتياز السيدة نفسها وخطرها في الحياة، وإلا لما كان شغل صفحة كبيرة من التاريخ الإسلامي.