الفصل السابع
كانت عائشة — رضي الله عنها — قد خرجتْ من المدينة إلى مكة، لياليَ حُوصِر عثمان بن عفان، ثم رجعتْ من مكة إلى المدينة، فلقِيَها في الطريق — عند موقع يقال له: «السرف» بعض أولاد خالها، وهو عبيد بن أبي سلمة، فقالت له: ما وراءك؟
فقال: قُتل عثمان.
قالت: فما صنع الناس بعده؟
أجاب: بايعوا عليًّا.
قالت: ليتَ هذه انطبقتْ على هذه، إن تمَّ الأمر لصاحبك، ثم رجعت إلى مكة وهي تقول: قُتل عثمان والله مظلومًا، والله، لأطلبَنَّ بدمه.
ولما رجعتْ إلى مكة ذهبتْ توًّا إلى الحجر الأسود وجمعتِ الناس وخطبتْهم تقول: «أيها الناس، إن الغوغاء من أهل الأمصار وعبيد أهل المدينة اجتمعوا على هذا الرجل المسكين — تعني عثمان — فقتلوه ظلمًا وعدوانًا، فسفكوا الدم الحرام، في البلد الحرام، في الشهر الحرام.» إلخ، وعقب ذلك قام «عبد الله بن عامر الحضرمي» الوالي المعين من قبل عثمان على مكة فحلف بأن يطيعها وركبتْ جملها المشهور باسم «عسكر»، وقد التفَّ حولها بضعة آلاف، تريد البصرة وكان معها من الصحابة الكرام؛ الزبير وطلحة، وقد كانت عائشة — رضي الله عنها — في تَوَجُّهها إلى البصرة، اجتازتْ بماء يقال له: «الحَوْأب» فنبحتْها كلابُه، فقالتْ للدليل: ما اسم هذا الموضع؟
قال: الحوأب، فصرختْ بأعلى صوتها وقالت: ردوني، إنا لله وإنا إليه راجعون، سمعتُ رسول الله ﷺ يقول عند نسائه: أيَّتُكن تنبحُها كلابُ الحوأب.
ثم عزمتْ على الرجوع فقالوا لها: إن الدليل كذب ولم يعرف الموضع، وبعد يوم وليلة وصلوا إلى البصرة بعد أن بذلوا جهدًا كبيرًا في إقناع السيدة عائشة وسَوْقها إلى البصرة، وعندما وصلوا إلى مقربة منها في موقع يقال له: المربط خرج إلى مقابلتها الناس فخطبتْهم خطبة بليغة أفهمتْهم فيها بقتل عثمان ظلمًا وحثتْهم على طلب دمائه وختمت الخطبة بقوله تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللهِ، فأثَّرتْ هذه الخطبة البليغة في نفوس الكثيرين وتبعها عدد كبير من أهل البصرة حتى بلغ عدة جيشها ثلاثين ألفًا، فلما انتهى ذلك إلى أمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب — كرم الله وجهه — قام فخطب الناس وأعلمهم الحال وقال: إنها فتنة وسأمسك الأمر ما استمسك بيدي، ثم بلغه ما هم فيه من الجموع والتصميم على الحرب فنهد إليهم في جيش من المهاجرين والأنصار، وكان معه من أهل المدينة أربعة آلاف: ثمانمائة منهم من الأنصار وأربعمائة من الذين بايعوه تحت الشجرة المشهورة، وكان أكثر أهل البصرة مع جيش عائشة، فالتقى الجمعان بظاهر البصرة في مكان يسمى «الخريبة» وجرت خطوب وحروب، ففي بعضها التقى علي — كرم الله وجهه — والزبير فقال له: يا زبير ما أخرجك؟
قال: أنت، ولا أراك أهلًا لهذا الأمر.
فقال سيدنا علي: أتذكر لما قال رسول الله ﷺ لتقاتلنَّه وأنت ظالم.
قال: اللهم نعم، ولو ذكرتُ لما سرتُ مسيري هذا، ووالله، لا أقاتلك أبدًا.
ثم انصرف عازمًا على ترك الحرب ولكن قابله للأسف في الطريق رجل يدعى «عمير بن جرموز» فقتله وأتى عليًّا برأسه فغضب لذلك وقال: بشِّر قاتل الزبير بالنار.
وتقابل سيدنا علي مع طلحة أيضًا فقال له: يا طلحة تطلب بدم عثمان؟ فلعن الله قَتَلةَ عثمان! أما بايعتني؟
قال: بايعتُك والسيف على عنقي.
ثم سارتْ وشيَّعها الإمام أميالًا، وتوجَّهتْ هي إلى مكة المكرمة وأقامتْ بها إلى أيام الحج وانصرفتْ إلى المدينة.