الفصل الرابع
لقد كانت على ما وصفنا؛ لأنها كوكب السحر في سماء العظائم؛ ولأنها حفيدة خليفة وزوج خليفة، فكيف لا تباهي ولا تعتز؟ ومن تكون من نساء عصرها أجدر بالفخر والسؤدد؟
أما وفور فضلها ونبل خليقتها وصفاء قريحتها فمما سار مسار الأمثال، ومن أجْلِ هذه المزايا التي قلَّ أن تتوفر في امرأة أخرى تربعت على عرش عصرها المشعشع وقبضت بيدها على صولجان زمنها الزاهر.
أجل، لقد كانت تنفر من التقليد والمحاكاة نفورًا شديدًا، وهذا النفور حدا بها إلى إدخال تعديل كبير في عصابة الرأس التي ابتدعتها العباسة أخت زوجها الرشيد، فما كانت تضع شيئًا من اللآلئ والجواهر في عصابتها كما كانت تضع نساء زمنها، وإنما تضع قطعة من النسيج الأسود الرقيق، بلا ترصيع ولا تطريز، تزيد من هيبتها وتكسبها كثيرًا من الروعة والجلال.
تركت بعد زوجها قصر الخلد وانتقلت إلى قصرها الخاص المسمى بدار القرار على شاطئ الدجلة البديع، وكان مقطوع النظير في زمانه تحيط به حديقة غناء، تجلب الأنظار بزهورها وخمائلها وأشجارها المثمرة الزاهرة، أما داخل القصر فكان لا يقل بهاء عن خارجه؛ إذ كان مفروشًا بذوق خاص وبأثاث منتخب، وغرفه وردهاته مزدانة كل منها بزينة تغاير لما في الأخرى.
وكان سكان دار القرار لا يقلون شهرة عن شهرة القصر نفسه، أفقد كانت جواري زبيدة من نخبة الجواري في عصرها من ذوات الجمال والمعرفة بالقراءة والكتابة وإنشاد الشعر، وبينهن مائة جارية اشتهرن بحفظ القرآن وتلاوته ليل نهار، وكانت زبيدة المتمسكة بأهداب الدين، يعجبها كثيرًا سماع آيات القرآن المبين من جواريها الحافظات، وقد اشتهر أمر هؤلاء وطار صيتهن في الأصقاع، ففي كتب التاريخ أن المار بجانب دار القرار يسمع أصوات ترتيلهن كطنين النحل عندما تكون على مقربة من خلاياها.
وكان لها من قلب الرشيد حمًى لا يُرام؛ إذ لبثت ربة القول في قلبه وقصره رغم المنافسات من جواريه العديدات؛ لوفور عقلها ونبل صفاتها ومزاياها التي انفردت بها دون سواها من نسائه، فكان لا يسعى لأمر دون مشورتها، ولا يمضي في عمل دون رأيها، وبالإجمال كان مفتونًا بنفاذ لبها ونبل خليقتها وعظمة قلبها.
كانت زبيدة من ذوات البر والإحسان، وخيراتها كثيرة جمة تجعلها من أمهات المحسنين في الإسلام، وكما كانت أياديها عظيمة ومبراتها جمة كذلك كانت أموالها وأملاكها وفيرة لا تقع تحت حصر أو قياس، حتى تحدثوا عن مزارعها وضياعها في بلاد العجم فضلًا عن البلدان العربية، فكما كانت ظاهرة ممتازة في أكثر شئونها وأطوارها كذلك كانت في غناها وثرائها.
أنشأت كثيرًا من المدارس والمستشفيات وأمرت بتأسيس الملاجئ وحفر الآبار والعيون، فكنت ترى أثرها في كل مرافق البر التي رفعت من صيتها في الآفاق.
•••
كانت تكنى «أم جعفر»، ولكن التاريخ يكاد لا يذكر اسم أبيها كثيرًا، وإنما محور سيرتها يدور مع حوادث الأمين ووقائعه، وفي ذلك ما يملأ الصحائف وتفيض من دونه المجلدات، وابنها المحبوب هذا كان نقطة الضعف في تلك الحياة العظيمة المملوءة بالحسنات.
كان ذلك الأمير الخليع المائق الذي لا يستحق شرف الولاية قد ملأ قلبها وغمر كل عاطفة من عواطفها، فكان تماديها في محبته وإيثاره على كل أمر آخر مهما عظم أو صغر هنة لا يغفرها التاريخ.
إن التاريخ ليصب جام غضبه وسخطه على ذلك الحب الوفير الذي خصت به ابنها الأمين، لقد طفا ذلك الحب وجاش فتغلَّب على كل عاطفة أخرى وتعسف إلى حد الإضرار بالمصلحة العامة.
كانت تعادي كل من ينظر إلى مساوئ ابنها المحبوب نظرة اللوم، وتغضب من كل إنسان لا يغض الطرف عن هفوات ذلك الطائش، إن حب الأمومة ألقى حجابًا كثيفًا بينها وبين عاطفة الإنصاف إلى حد الكلل عن كل عيب للأمين والعداوة إلى كل إنسان ينقل إليها لومًا في حقه.
كان الذين يفضلون المأمون على الأمين — في نظرها — مجرمين لا يمكن الصفح عنهم، وكان جعفر البرمكي من هؤلاء المجرمين الذين لا يمكن التسامح في حقهم، لماذا؟ لأنه كان من أجرأ الناس على نشر مساوئ الأمين وإذاعة نقائصه، فأصبح من جراء ذلك هدفًا لسهام غضبها، تُكِنُّ له الحقد في سويداء قلبها.
إنما كان كرهها لجعفر وسعيها في إسقاط منزلته حبًّا في ابنها الأمين، وكان جعفر يرى أن الأمين لا يصلح للولاية فلم يخش من مجابهة أمه بهذه الحقيقة، أغضبها ذلك التصريح فأشهرت عليه منذ ذلك اليوم حربًا عوانًا، وقصرت كل همها على إسقاط منزلته من نفس الرشيد، فكانت لا تعترف بمزية لجعفر، وترى فيه عدوًّا يجب سحقه ومحاربته، وقد نمت هذه العاطفة في نفسها إلى أن تمكنت منها وبدأت تتشوق إلى الانتقام منه وإرواء غليلها بنكبته.
لقد نكب البرامكة لأجل الأمين، وكانت زبيدة من أهم الأيدي العاملة على حياكة وتدبير تلك النكبة المفجعة، ومن جراء ذلك يُحمِّلها التاريخ أكبر تبعة في هذه الحادثة الأسيفة.
لو أن زبيدة امرأة ذات عقل متوسط وذكاء عادي، لو أنها امرأة مجردة عن صبغة العلم ومزية الإدراك، لالتمسنا لها المعاذير والمبررات في عاطفة الأمومة التي تغلبت عليها، ولكن امرأة كزبيدة ذات عقل وافر، ولب نافذ، وشخصية بارزة، لا يمكن الصفح عن تماديها في تلك العاطفة إلى حد الإجرام وإنتاج تلك المذبحة التي سوَّدت صحائف بني العباس؛ لأن حادثة العباسة إنما جاءت ضغثًا على إبالة، وكانت بمثابة القطرة الأخيرة للكأس الطافح، ومن أجل ذلك كانت تلك المذابح وصمة سودت تلك الصحائف البيضاء من حياة زبيدة.
لو أن الأمين من الأبناء الجديرين بتلك المحبة والشفقة، لكان هناك مجال للصفح عنها إلى حد ما، أما وهو خليع مائق معربد جليس الكأس والطاس، فليس ثمت سبيل إلى تبرير تماديها في عاطفة الأمومة.
كيف ضحت زبيدة الكاملة المهذبة رجلًا كجعفر في سبيل رجل كابنها الأمين؟
هذا اللغز الغريب من المظاهر الموجعة للأقدار، ومن المحال أن يصل المرء إلى حله، ووجه التسلية في هذه الحادثة هو الاعتقاد بأن يد الأقدار هي التي حكمت على حياة جعفر الطيبة بتلك الخاتمة المفجعة.
الظلم والجور يحركان مشاعر التمرد في النفس، ولكن ماذا عسانا أن نعمل وللإنسانية المعلولة حدٌّ من الكمال لا تستطيع أن تتعداه؟ لنسعَ في سبيل التكامل ولنبذل قصارى الجهد، ولكننا لا نصل إلى ما نريد مهما أجهدنا أنفسنا؛ لأنه ليس للبشرية أن تصل إلى ذلك.