الفصل الأول
عبد الرحمن الثالث الناصر لدين الله، ثامن ملوك بني أمية في الأندلس، ناصية معروفة في التاريخ الإسلامي، وعَلَم من أعلام الأندلس، ما كاد يجلس على عرش الخلافة حتى بذل ما في وسعه لترقية المملكة وإعلاء شأنها، إلى أن وصلتْ أعلى درجات الرقي وفاقت ممالك أوروبا مدنية وحضارة في المدة التي تقلد أثناءها الحكم وتُقدر بنصف قرن.
أكبر المسلمون من كافة أنحاء العالم ما كانوا يرونه فيه من أمارات الذكاء ودلائل العدل مع ما كان عليه من حسن التدبير ووفرة الجاه وقوة السلطان وعزة الملك، فعظمت منزلة قرطبة في أعينهم وأصبحت بمثابة القلب النابض لأجزاء الممالك الإسلامية الأخرى المنتشرة من أقصى المعمورة لأقصاها.
قال عبد الرحمن الناصر يخاطب ابنه الحَكَم: «كلما طال عهدي قصر زمانك يا بني.» وقد طال حقيقة عهد عبد الرحمن، وكان ذلك لمجد الإسلام وعظمته؛ لأنه من أحسن الأزمنة التي عادتْ على الأمة الإسلامية بالخير العميم، بل أقول: بأنه كان بلا مراء العصر الذهبي للإسلام المتوج تاريخه بإكليل المجد والفخار.
لقد عجز المؤرخون عن وصف هذا القصر، وأوقع قلوب زائريه من أهل الفن في الدهشة والإعجاب؛ لأنه كان أجلَّ من أن يوصف وأبدع من أن يُصوَّر؛ كان مملوءًا بضروب الصناعة وصنوف البهرجة وأنواع الزينة من الداخل والخارج بحيث لا تقع العين إلا على آية من آيات الفن أو منظر من المناظر الرائعة الجديرة بالإجلال والتقدير.
كان ما يراه الإنسان خارج القصر لا يُقاس بما تقع العين داخله؛ فقد كان لكل زخرفة من زخارفها حالة جذابة خاصة بها، وبالإجمال فهو من تلك القصور التي لا نسمع عن نظائره إلا في أقاصيص الجان وأساطير الأولين.
كانت الحديقة المحيطة بالقصر من أجمل البساتين البالغة غاية الكمال في التنسيق والترتيب، تزينها أبسطة زمردية خضراء وأشجار باسقة شامخة بأنفها في الفضاء، وأحواض رخامية تحيط بها صنوف شتى من الورد والأزاهير.
وقد كان في القصر مائتان وألف عمود من أفخر الرخام، وقاعة استقباله مزينة بالذهب مطرزة باللؤلؤ، والأبواب من خشب الأرز منقوشة نقشًا يحير الألباب، والعمد غاية في الإتقان والإحكام كأنها أفرغت في قوالب، وكان بها بِرَك عظيمة يجري منها الماء الصافي إلى أبدان تماثيل غريبة الشكل والصنعة تكاد المخيلة تعجز عن تصورها.
كل زينات هذا القصر كانت بديعة مونقة، وكل النقوش التي تزينه دقيقة ومحكمة، أما الحوائط فقد كانت لوحات فنية نفيسة والأعمدة شفافة رقيقة ذات قوام جاذب، وجماع هذه النفائس كان ينبعث منها نور وجلال يتضاءل أمامها أبهة قصر الخلد الذي بناه الرشيد في بغداد.
قصر الزهراء تاج أعمال عبد الرحمن الناصر، شيَّده لتخليد اسم زوجته المحبوبة، فزاد بذلك من شأن قرطبة وأهميتها وكان سببًا في لفت أنظار العلماء والأدباء إليه واكتسابه محبة الشعب ونواله حمد أهل المشرق واستحسان أهل الغرب، هذا إلى تخليد اسمه في طيات التاريخ بطريقة لا يمكن محوها إلى أبد الآبدين.
ولقد توفي سنة ثلاثمائة وخمسين هجرية وهو في الثانية والسبعين من عمره بعد أن سلخ خمسين حجة في حكم بلاده.
مَلِك عظيم دانتْ له الرقاب وتوفرت له أسباب العز والجاه عاش مبجلًا، معززًا، ترمقه العيون بالمهابة وتحفه الأنظار بالإجلال ولم يتمتع من أيام حياته الطويلة إلا بجزء صغير — أربعة عشر يومًا فقط — فما أبلغ هذه الحكمة السامية التي تتضاءل أمامها جلائل المعاني!