الفصل الرابع
جلس ذات يوم في حانوته يحادث أصدقاءه ومعارفه كالمعتاد، فإذا به وقد غاص في لُجَج من الأفكار وطار محلقًا في سماء الآمال ثم انتبه فجأة لنفسه بعد حين وخاطبهم قائلًا: «سأكون يومًا ما حاكم هذه الدولة فليسرد لي كل منكم آماله وأمانيَه والوظائف التي يصبو إليها منذ الآن فإنني محقق مطالبكم عند نوال بغيتي إن شاء الله.» فتضاحك رفقاؤه وأخذوا يذكرون له — على سبيل الممازحة — الوظائف التي تطمح إليها أبصارهم.
بعد هذه الحادثة بزمن قصير طُلب ابن أبي عامر إلى قصر الخليفة كأنما الأقدار أرادتْ مداعبته، وكان الحكم راغبًا في انتخاب كاتب بارع لزوجته صبيحة، فطلبوا بضعة أشخاص ممن توسموا فيهم القدْرة على هذا العمل ليكونوا على أهبة الاستعداد لمقابلة الخليفة لهذا الغرض وبينهم ابن أبي عامر، الصديق المعروف من خَدَم القصر وحاشيته.
ألا تعترف معي أيها القارئ بأن كاتب الأميرة هذا سعيد الحظ موفق الطالع، فها قد نال أول أمنية من أمانيه العذبة التي طالما قضى الساعات الطوال مفكرًا بها تحت ظلال حدائق قرطبة بسهولة ما كان يحلم بها.
قد خدمه حظه ورقي أولى الدرجات المؤدية إلى ذلك القصر البديع، قصر الآمال والتصورات فكان يرى بعين الخيال أنه سيدخل ذات يوم ذلك القصر ويمتع أنظاره بزينته وبديع رياشه وجميل أثاثه، بل إن الأمل كان يذهب به إلى أبعد من ذلك؛ فقد كان يرى أنه سيفتخر بأبهته وسلطانه ويكون صاحب الكلمة بين سكانه.
كان يحلم بمثل هذه الآمال، وكلما لجَّ به الفكر ازداد سروره واشتدت بهجته.
كان الحَكَم خليفة البلاد اسميًّا، أما السلطان الفعلي فكان بيد صبيحة؛ فزينة الأندلس ورفاهيتها والنظر في شئون الشعب واحتياجاته وتعليم أولياء العهد وتثقيف أذهانهم وتربية مداركهم كل هذه أمور كانت تقوم بها الأميرة.
وهي التي كان من رأيها جعل قرطبة محطًّا لرحال أهل العلم ورجال الفضل والأدب، وهي التي كانت تقوم بترتيب الحفلات المتعددة داخل القصر، وتدبير الخطط اللازمة للدفاع عن البلاد خارجًا، وهي هي التي كانت تعقد الجلسة تلو الجلسة بالاشتراك مع المصحفي وابن أبي عامر للمذاكرة والمداولة والمشاورة في أحوال البلاد وتدبير الخطط اللازمة لمكافحة شر الأعداء والتنكيل بهم.
كانت الأميرة صبيحة معجبة بمقدرة ابن أبي عامر لا تدري كيف تكافئ كاتبًا نشطًا مثله! أما هو فكان يلازمها بخفة روحه وطلاقة لسانه ويُظهر لها الرغبة في استخدامه ليس في الأمور الكتابية فحسب، بل في كل شأن من شئونها.
اكتسب ابن أبي عامر ثقة الجميع واستأنس به الكل حتى أصبح شخصًا لا يمكن الاستغناء عنه، وفي الحقيقة كانت أهميته تزداد من يوم لآخر حتى بدأ الناس يتوددون إليه، وقد كان يتزلف إلى أصغرهم شأنًا من قبل، وما كاد حاجب الخليفة جعفر المصحفي يستشيره ويعتمد عليه في بعض أموره حتى ازدادت منزلته رفعة بين أهل القصر الذين بدءوا يعقدون عليه الآمال، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل إن الخليفة نفسه لم يتمالك من الإعجاب به وقد رأى إخلاصه في العمل وأدرك مواهبه ومزاياه.
فكان لزامًا على الخليفة أن يقبله بلا تردد؛ ولذا انتهى الأمر بنزوله عند رأي الأميرة وإصدار الأمر بتعيينه مديرًا عامًّا على تلك الأملاك والضياع، ففي عام ٣٥٦ من الهجرة اجتمعت لابن أبي عامر ثلاث وظائف بمعونة الأميرة وحمايتها جعلته يطأ الدرجة الثانية من عرش آماله وأمانيه وهو في السادسة والعشرين من عمره.
كان ابن أبي عامر سعيد الحظ فخورًا بوظائفه الثلاثة، يصرف في سبيل القيام بأعبائها كل ما لديه من وقت وجهد، كان أفق المستقبل يبدو لناظره منيرًا مشرقًا وأحلامه زاهية زاهرة، فاطمأن ولم يقلق من المستقبل، أما كان يشعر بأن الحظ سيواليه بنعم أكثر ما دام ينسج على هذا المنوال؟ وإلا فمن ينكر رقيه السريع في زمن قصير؟ ألم يتقلد سلطة واسعة لا تخطر على البال وهو في مثل هذ السن، في عامه السادس والعشرين؟ وهل لم يكتسب ثقة المصحفي وصداقته؟ ألم يكن أهل القصر بما فيهم الأميرات يعجبون بظرفه ورقة شمائله؟ وفوق هذا ألم تكن الأميرة نفسها تظهر له ضعفًا وميلًا شديدين وتبذل ما في وسعها لرعايته وحمايته؟ أجل، كانت تفعل كل ذلك لدرجة اضطرته إلى طرق أبواب الحيل ولبس ثياب المداهنة؛ لأنه كان مضطرًّا في حالته تلك إلى ملاطفة أهل القصر ومراضاتهم جميعًا، فكان يبسم لهذا ويلاطف ذاك ويعطف على تلك مراعاة للجميع حرصًا على إبقاء الظواهر على حالتها، وهذه حالة أكسبتْه رضا الجميع وجعلتْه محبوبًا منهم يتقبلون هداياه بسرور وابتهاج، وكان الخليفة يقول لأحد مقربيه: «إن كاتب صبيحة هذا رجل غريب الأطوار، قد استمال إليه جميع مَن في القصر، وإنني لأرى بعيني رأسي كيف يُجِلُّون هداياه التافهة ويفضلونها على أثمن هدية تقدَّم مني إليهم، فلست أدري هل أعده من المخلصين إلينا أم أعتبره ساحرًا محتالًا؟» ومع ذلك فإن ابن أبي عامر استمر يتقدم حتى أصبح بمساعي الأميرة ناظرًا لخزينة الدولة ثم عُيِّن بعدها المدير المطلق لإدارة «صك النقود»، وبذلك أصبح في مصاف كبار الموظفين في الأندلس، وكانت الأميرة تباركه في سرها وتهتم برقيه السريع، وكم كانت شاكرة لمحاسن الصدف التي وضعت في طريقها مثل هذا الكاتب الحائز لمزايا عديدة، فلشد ما انتفعت بمواهبه، وكثر ما اهتم هو بكل شأن من شئونها! فهو إليها الشخص الوحيد الذي لا يمكن الاستغناء عنه أو الركون إلى غيره، إنه ليعلم آداب المعاشرة أكثر من المتربين بين جدران القصور، ظريف لبق، تطربه النغمة الحلوة، ذو إلمام بالموسيقى قادر على مزاولة أي عمل يكلَّف به، أضف إلى ذلك علمه بحالة الأميرة الروحية وإدراكه للأشياء التي تبهجها وتقع من نفسها موقع الرضا والقبول، فلله دره من شخص رقيق الحس عالي الفكر!
نعم، إن ابن أبي عامر كان يطيعها لدرجة العبادة لا لجمالها أو لمحاسن نفسها، بل لوجاهتها ونفوذها، وكانت هي لا تميز فيه هذه الحالة؛ لأنها أحبتْه من أعماق نفسها حبًّا ناريًّا تغلَّب على كل ما لديها من إرادة وعقلية.
كانت تحبه محبة غير محدودة، كحب شجرة الدر لعز الدين بن أيبك، كلتاهما، صبيحة وشجرة الدر وقعتا بين براثن محبة قاسية، قوضت أركان شخصيتهما الممتازة وتركتْهما تعانيان مرائر السلوى وآلام الهجران، كلتاهما بذلتا ما في وسعيهما لإرضاء حبيبيهما إلى حد أن أسقط ما لهما من كرامة وهوى بهما من سماء الرفعة والعز إلى حضيض الذل ليمتزجا بالشخصين العزيزين لديهما، فكل رغبة لهما أو كل أمل كان مقيدًا بهواهما، كلتاهما كانتا شمسًا تتألق في سماء دولتها تحيط بها نجوم وسيارات، ثم انعكست الآية بعد أن تجرعتا كأس الحب فتبدَّل الحال بغير الحال، وانحطتا إلى دركة السيارات بعد أن كانتا في دائرة الشموس والأقمار، وارتفع تبعًا لذلك شأن حبيبيهما؛ محمد بن أبي عامر وعز الدين بن أيبك حتى أصبح كل منهما الشمس الساطعة في دولته، أجل، استفاد كل منهما من حالة حبيبته الروحية وجعلها ساعدًا لأغراضه ومراميه، وتم لهما ما أرادا بخاتمة مؤلمة تكتنفها الدموع وتحيط بها الآلام.
أرسل الخليفة بطلب أبي عامر إلى بيت الزهراء لتقديم الحساب عن أموال الحكومة المودعة تحت تصرفه.
هذه صدمة لم تكن في الحسبان ارتعدت لها فرائص أبي عامر؛ لأن الخزائن كان بها عجز ظاهر لا يعوِّضه إلا مال وفير، ففكر في الأمر وقدح زناد الفكر فلم يجد أمامه سوى الالتجاء إلى صديقه العزيز ابن خضير، وقد التجأ إليه وطلب منه يد المعونة فكان عند حسن ظنه به؛ لأن ابن خضير أعانه على أمره وأقرضه المال الناقص، وبذا أتم ابن أبي عامر شئونه وأكمل حسابه ويمم نحو بيت الزهراء آمنًا مطمئنًا، وهناك أمام مولاه قدم حسابًا دقيقًا برهن به على أمانته وأظهر إخلاصه وقطع ألسنة المخرصين والعداة؛ كانت دفاتره مرتبة منسقة وخزائن الدولة ملأى بالأموال ودار الضرب تتوهج بسبائك الذهب والفضة، فخجل الخليفة من نفسه ولم يسعه إلا تقديم عبارات الشكر والإعجاب بناظر ماليته القدير، ودفعًا للشبهة وسوء الظن عهد إليه بوظيفة جديدة هي وظيفة التفتيش العام.
وفي اليوم الثاني لهذه الحادثة أعاد ابن أبي عامر ما اقترضه إلى صديقه الحميم، وكان عمله هذا معجزة ألجمتْ ألسنة أعدائه وأوقعتْهم في مهاوي الدهشة والحيرة، إن حسن الطالع ما زال يناصره ويشد أزره وينجده أكثر من ذي قبل، فها هو قد أظهر إخلاصه لخليفته وخرج من تهمته نقي اليد عالي الرأس، وازدادت مكانته في نفس الأميرة، وعلت كلمته في طول البلاد وعرضها حتى أصبح أوسع رجال الدولة نفوذًا وأعلاهم كلمة.
فرح أعداؤه بهذا الإبعاد واختلقوا عليه أكاذيب شتى كادت أن تمحو ما له من شهرة وبُعْد صيت، إلا أن صبيحة كانت ترمقه بعين رعايتها وتظلله بجناح حمايتها وهو بعيد عنها، فقد كانت تذيع سرًّا أن الخليفة أرسله لمراكش لمراقبة دفاتر بيت المال وكشف أحوال القائد الأكبر غالب، كان المصحفي يحقد على غالب؛ ولذا اغتبط بمهمة أبي عامر لعلمه بأن هذا الأمر يضايقه ويحرج مركزه إلَّا أن غالبًا كان قائدًا جسورًا مقتدرًا، وما كاد يجتمع بأبي عامر حتى تفاهما وتآلفا وقد ذكره ابن أبي عامر بخير وأثنى عليه في حضرة الخليفة وبيَّن ما له من المآثر في قمع الثورات وتسكين الاضطرابات في ربوع مراكش؛ مما سبَّب رجوعه مكرمًا محترمًا إلى قرطبة رغم اعتراض المصحفي وإصراره في ذلك.
وحدث إذ ذاك أنَّ وليَّ عهدِ السلطنة توفي وخلفه هشام في ولاية العهد واحتاج الأمر إلى مَن يدير حركة ضياعه وتدبير شئون أمواله، فأشارت الأميرة باستدعاء أبي عامر لإلقاء إدارتها إلى عهدته، وفي سنة ثلاثمائة وتسع وخمسين هجرية عاد ابن أبي عامر إلى قرطبة بعد أن لهجت الألسنة بأفول شمسه وسقوط شأنه، ودخلها ظافرًا شامخ الرأس، حيث عُهد إليه بإدارة ضياع ولي العهد وبتولي إدارة الشرطة والدرك.