الفصل الثالث
لما قُبض رسول الله ﷺ، وارتفعت الضجة عليه، دُهِش أصحابه دهشة عظيمة، وطاشتْ أحلامهم، وأُفحموا واختلطوا، وصاروا فرقًا، وتفرقتْ أحوالهم، واضطربت أمورهم، فكذَّب بعضهم بموته وصمت آخرون، فما تكلموا إلا بعد التغير، وخلط آخرون فلاكوا الكلام بغير بيان، وحق لهم ذلك للرزية العظمى، والمصيبة الكبرى التي هي بيضة العصر ويتيمة الدهر ومدى المصائب ومنتهى النوائب.
وقد أدَّى ذلك إلى سعي عمر بن الخطاب بقبس من النار إلى بيت علي — كرم الله وجهه — ليحرقه، وهناك خرج له الزبير والسيف مصلت بيمينه، يريد أن يصدع به رأس عمر، ثم تحايل عليه عمر ومعه خالد فأخذاه وأخذا مِن بعده عليًّا للمبايعة، ولما رأت السيدة فاطمة زوجها يساق قسرًا فولولت وقالت: يا أبا بكر ما أسرع ما أغرتم على أهل بيت رسول الله — صلى الله عليه وآله، والله لا أكلم عمر حتى ألقى الله.
إلا أن عمر كان قد ساق عليًّا إلى مجلس البيعة حيث أبو بكر، فقام له وقال واعتذر إليه بأن بيعته كانتْ فجأة وأنه لم يقبلها طمعًا فيها، بل حياطة للإسلام ووقاية من شر الفتنة فأجابه الإمام علي والزبير: ما نفسنا عليك ما ساقه الله إليك من فضل وخير، ولكنا نرى أن لنا في هذا الأمر شيئًا فاستبددتَ به دوننا وما ننكر فضلك.
تلك مسألة الخلافة، وقد كادت تزعزع بنيان الإسلام، وقد كادت تتخضب فيها بالدم رأس من أرفع رءوس المسلمين لولا عناية من الله أوقفتْها عند حدِّها، لقد كانت همة عمر سببًا في إنقاذ روح الإسلام للمرة الثانية، لقد التزم عمر أخف الضررين فهاجم دار السيدة فاطمة، ولكنها انتهتْ بالصلح وعادت بالصلاح، وفهمت سيدة نساء العالمين مَن هو العامل المجد فيها، ولم تمتنع عن مصالحته، فما أسمى تلك الفضيلة! إن القلم ليعثر عيًّا وعجزًا حين يعرض لتلك الفضائل الملكية المقدسة التي كمَّل الله بها سيدة نساء العالمين.
إنني لا أتمالك من الحيرة تستولي نفسي عند سرد هذه الحادثة، فقد حدث أن استشهد الحسن والحسين وفرَّ أولادهما إلى المغرب وحماهم المغاربة من أهل بربر، ثم تفرعت من أصولهم الدولة الفاطمية الزاهرة التي حكمتْ شمالي أفريقيا من أقصاها لأقصاها.
كان العالم الإسلامي مظهرًا للمدهشات من الوقائع، تظهر حينًا ثم تختفي آونة أخرى كالحادثات الجوية فلا يبقى من أشكالها وأحوالها في لوحة الخاطر سوى أشباح ضئيلة.