أفريقيا وآسيا
إن أربعين سنة مضت منذ الحرب العالمية الأولى قد صنعت الأعاجيب في قضايا القارتين الأفريقية والآسيوية، فماذا تصنع السنون الأربعون التي تمضي من الآن إلى نهاية القرن العشرين؟
لقد كانت القارتان سلعة تباع وتشرى، فأصبحتا بعد الحرب العالمية الثانية على الخصوص شريكتين في سياسة العالم، وإن لم تكونا موفورتي الأسهم في مشاركتها.
ولم يحدث هذا التحول في هوادة ومطاوعة، ولا كان حدوثه مفاجأة بغير مقدماته الطوال، وإنما فصل العالم في هذه القضية بعد أن فصل في قضاياه المتشعبة التي تتوقف عليها، وهي قضية تقرير المصير، وقضية اللون والعنصر، وقضية الاحتكار، وقضية العزلة السياسية، فكانت قضية القارتين هي مجموعة هذه القضايا في دور التفاهم والاتفاق.
ونظرة سريعة — بل نظرة مملوءة بالتدبير والروية — إلى حالة القارتين في مطلع القرن العشرين وحالتهما في منتصفه ترينا أن العالم غير واقف في هذه القضايا، وأن حلوله لها ليست كلها من قبيل الخداع والتمويه كما يحلو لبعض المتحذلقين أن يرددوا ويعيدوا ويبدئوا في الحكم على كل مرحلة كبيرة من مراحل الانتقال، وليست الغفلة في الظن والاتهام بأقل من الغفلة في الثقة والتصديق، بل ربما كان الاتهام الأعمى أضل وأضيع للفكر وللمصلحة من الثقة العمياء.
إن نظرة مملوءة بالتدبر والروية فيما حدث في القارتين منذ الحرب العالمية الأولى ترينا أن الخضوع للحكم الأجنبي كان هو القاعدة المطردة في القارتين قبيل منتصف القرن العشرين، وكان الشذوذ فيهما هو الحكم المستقل أو الحكومة الذاتية، ومن مسائل الحساب — لا من مسائل السياسة — أن نحصى الآن عدد الأمم الخاضعة للحكم الأجنبي، وعدد الأمم المستقلة بحكمها والمشتركة في حكومتها، فنعلم أن الأمر قد تحول من نقيض إلى نقيض، فأصبح الخضوع للأجنبي شذوذًا، وأصبح الاستقلال على درجاته قاعدة يعترف بها المتنازعون عليه وغير المتنازعين.
ومن الحذلقة أن يقال: إنه استقلال لم يحققه العمل ولم يثبته الواقع، فإن الفرق فيه كالفرق بين الحدث الناشئ الذي لا يملك التصرف لقصوره وإنكار حق التصرف عليه، وبين الرجل الرشيد الذي يشق عليه أن يفعل ما يشاء وهو يملك أن يفعل ما يشاء عند مؤاتاة الفرص، وملاءمة الظروف، كلاهما قد يشبه صاحبه أمام الواقع الذي لا يقدر عليه، ولكن الفرق بين القاصر والرشيد فرق صحيح في الواقع لا يستهان به، ولا يزهد فيه.
إن الاستعمار القائم على السلام والاحتكار صفحة مطوية لا يقوى أحد في العصر الحاضر على نشرها، وإن العلاقة بين الأمم اليوم علاقة مشاركة يقع فيها الغبن كما يقع فيها الإنصاف ولكنها — كيفما كان الحال — علاقة غير علاقة السلعة التي تباع وتشرى وتحتكر أو تبذل في الأسواق.
وفيما عدا شعوبًا قليلة سيأتي موعدها من تقرير المصير لا محالة، يستطيع من يحقق النظر أن يعلم أن حدود الاستقلال قائمة على أساس واحد في جميع القارات، وإنما حدوده القدرة التي تتفاوت كلما تفاوتت حظوظ الشعوب من الحضارة والصناعة والثروة والتربية السياسية، فليس في العالم أمة محكوم عليها بالخضوع الدائم؛ لأنها غير أهل للاستقلال، وليس في العالم كذلك أمة مستقلة تمام الاستقلال إذا كان معنى ذلك أنها تفعل ما تريد وتستبد بالرأي في كل ما تبتغيه، ولكنها تملك من الاستقلال بمقدار ما تملك من العلم والثروة والكفاية السياسية، وكذلك يستقل الآحاد الراشدون في حقوق التصرف والمعاملة فلا حجر عليه بحكم الشريعة، وإنما يصيبه الحجر أو يرتفع عنه إذا أصابه النقص في قدرته، أو عوفي من نقص القدرة بعمله وعمل سواه.
إن الأقوياء في عصرنا هذا يحتاجون إلى من هو أقوى منهم، ومن هو أقوى منهم لا يسمح لهم، ولا يقبل منهم أن يحتكروا الأسواق والميادين، ولا يرى ضرورة لاحتكار الأسواق والميادين لنفسه؛ لأنه قادر على المنافسة والمناظرة بغير احتكار، وهذا هو دستور العلاقات الدولية الجديد بعد دستور الاستعمار القائم على الاحتكار بقوة السلاح. فلا مناص مع هذا الدستور الجديد من علاقة المشاركة كيفما كان اختلاف الأنصباء فيها، وكيفما كانت قسمة الشريك من الغبن والخسارة أو من الربح والغنيمة.
طويت صفحة السلعة التي تباع وتشرى، ونشرت بعدها صفحة المشاركة بين الأكفاء وغير الأكفاء، وهي أشرف وأربح في جميع الأحوال من الصفحة المطوية، وهي — بعد حين — مرهونة بمصير التضامن العالمي إلى التعاون على اضطرار أو التعاون على اختيار.
وسيجري التعاون في مجراه الذي توحيه ضرورات الحوادث ودراية الخبراء، وقد يهدينا تاريخ القرية الصغيرة في ماضيها المعلوم إلى تاريخ العالم الواسع في مستقبله المجهول، فإن القرية قد تمثل لنا أطوار العالم في مستقبله، كما يمثل الجنين أطوار نوعه في ماضيه على قول النشوئيين.
والقرية قد فرغت من تنظيم المبادلات بين أصحاب المال وأصحاب الحاجة، فعالجتها في سوقها الصغير بعلاجاتها المختلفة وهي: العملة، أو المقايضة، أو الرهن، أو الضمان، أو الخدمة سدادًا للدين، أو حساب الضائع والمفقود والإحسان، ثم لجأت أخيرًا إلى علاج يجمع بين مصالح الباعة والمشترين، وهو جماعات التعاون التي يعتبر المشتركون فيها من البائعين ومن المشترين، ولا يحتاج العالم الواسع إلى ابتداع علاج جديد غير هذه العلاجات التي طال عليها القدم، ولكنه يحتاج إلى الأساليب التي تمكنه من تطبيقها في نطاقه الواسع، ويحاول الآن شتى المحاولات فيهتدي حينًا، ويضل حينًا، ولن يزال ردحًا طويلًا بين الهدى والضلال.
ومهما يكن من صواب الآراء التي توحي بتلك المحاولات، فالتجارب العملية حيلة ضرورية لا تغني عنها محاولة يختارها أصحاب هذه الآراء.
فهذه التجارب العملية هي التي تهدي كل أمة إلى اجتناب الجهود الضائعة في تقدير لوازمها والموازنة بين ما تحتاجه من العالم، وما يحتاجه العالم منها، واستمرار الإحساس بالنقص والتعويض من هنا تارة ومن هناك تارة أخرى، خليق أن يوقظ الغافل، ويرشد الضال، ويصحح المخطئ عن جهالة منه وعن لجاجة في الباطل.
وإذا كانت المحاولات من أهل الرأي لا تغني عن التجارب العملية، فالأمر الذي لا شك فيه كذلك أن التجارب العملية لا تغني وحدها عن محاولات أهل الرأي، وعن اختيار الحلول التي تتمشى مع حلول الضرورة فتعجل خطاها وتقوم اعوجاجها، وقد كان التساند بين ضرورات الواقع ومحاولات المدبرين والمتدبرين ديدنًا طبيعيًّا يتكرر في كل حركة من حركات التاريخ الكبرى، ويصدق على أعمال الأفراد، كما يصدق على أعمال الجماعات.
فالهيئات الدولية — ولو لم تكن لها سلطة عامة — تستطيع أن تجمع الإحصاءات الدقيقة والبيانات الوافية، وأن تضع أمام المسئولين في كل أمة تقديرًا نافعًا يلاحظونه في استخراج محصولاتهم ومصنوعاتهم، فلا تضيع الجهود عبثًا في زيادة صنف لا يطلب، أو نزارة صنف مطلوب.
والحواجز المصطنعة التي تقام بين المعسكرين المتقابلين لا تثبت طويلًا أمام الضرورات الحقيقية التي يحسها الناس في أرجاء الكرة الأرضية، والأخطار الملفقة التي يخلقها الحاكمون لحماية أنفسهم تتطلب من الأمم فوق طاقتها، وتدفعها جميعًا إلى أخطار حقيقية يعجز الحاكمون عن إخفائها.
وليست العقبات في طريق التعاون بين الأمم وليدة اليوم، ولا هي مما يزول غدًا كل الزوال، ولكنها صحبت الإنسان في عمله لذات نفسه وعمله لأهله وقومه، ولا تزال تصحبه حيث كان، لا يصلحها ولا يخفف ضررها إلا ما يخفف كل ضرر اجتماعي من تطور الأخلاق، وتطور الضمانات التي تكف عدوان المعتدي، وتكفل للمصاب بالضرر أن يدفعه عنه بقوة العرف والقانون أو قوة الاتحاد بين المشتركين في المصاب الواحد، وعلى هذه الوتيرة زالت عقبات كثيرة بالأمس وتزول غدًا عقبات كثيرة لا مناص من زوالها مع تبدل الأحوال.
كانت القارة الأفريقية تسمى بالقارة المظلمة؛ لأنها بقيت مجهولة على خريطة الكرة الأرضية يسكنها السود فيما عرف في أطرافها، ويحيط بها سواد من الظلام والخفاء.
وكانت تسمى أحيانًا بالقارة المتنحية كأنها تركت ركب الإنسانية يسير في تاريخه الطويل، ولبثت في مكانها كما كانت في مجاهل ذلك التاريخ.
وليست هي اليوم بالقارة المظلمة؛ لأنها تكشفت عن دخائلها، وتسلطت عليها أنوار الاستطلاع في جوفها ومن حولها، فلم تبق منها زاوية مجهولة أو بقعة غير مطروقة.
وليست هي بالقارة المتنحية؛ لأنها أدركت ركب العالم في نهاية شوطه ويرجى أن تماشيه وتمده فيما يستقبله من مراحل حضارته.
وقد صدق من سماها في السنوات الأخيرة بقارة الغد؛ لأنها في الغد تبدأ مصيرها الذي تختاره بعد أن تفاهم العالم الإنساني على حق الشعوب جميعًا في تقرير المصير.
وكل مصير لأفريقيا لا يكون مصيرًا مرضيًّا للأفريقيين يخل بتضامن العالم، ويعوق سيره إلى التعاون والمؤاخاة، فلا تعاون بين الأمم في عالم يتخذ من أفريقيا مطية يسوقها إلى مصير غير مصيرها الذي ترضاه أو يتخذها ضيعة للمتغلبين المستغلين يبتزون ثمراتها، ولا يتركون لأبنائها من تلك الثمرات غير فضلة الأجير المغبون.
إن سكان أفريقيا ثلاث طوائف: أولها بطبيعة الحال أبناء أفريقيا الأصلاء الذين ولدوا فيها وولد فيها من قبلهم أسلافهم إلى أزمنة مجهولة، والطائفة الثانية هم المهاجرون من القارة الآسيوية وأكثرهم من العرب والهنود وأبناء الجزر الملاوية، والطائفة الثالثة أوروبيون مستعمرون، وليس للطائفة الثانية مشكلة عسيرة الحل؛ لأنها تبقى وتندمج في القارة أو تعود إلى أوطانها باختيارها. أما المشكلة التي لا تحل بالحسنى فهي مشكلة المستعمر الذي يبسط سيادته على أهلها بغير أمل في انتهاء هذه السيادة، إلا أن يظل الأفريقيون تابعين له مسخرين في خدمته أو يثوروا عليه فيطردوه، ومهما يبلغ من سلطانهم على القارة فهو أضعف من الغاية التي يطمحون إليها والنية التي يبيتونها، وهي نية الإصرار على استعباد مئات الملايين بغير أمل لهم في خلاص قريب أو بعيد، وتلك نية تعارضها الطبيعة كما يعارضها أولئك الملايين المصابون بها، وقد يتخاذل دونها سلطان المستعمرين يومًا من الأيام، فلا تجتمع كلمتهم عليه في موقف الحسم حيث يحتاجون إليه، ولن تصبح أفريقيا وطنًا للمستعمرين إلا بوسيلة واحدة، وهي أن يصبحوا أفريقيين كسائر الأفريقيين، وأن يجيء اليوم الذي يقفون فيه مناضلين عن أفريقيا كما فعل الأمريكي في نضاله مع البريطان والأسبان.
وسيخرج الأفريقي الأصيل من القرن العشرين بفائدة أكبر من فائدة تقرير المصير، إذا تعود في السنين الباقية منه أن يلتمس الدراية التي تجعله يدًا عاملة في تعميم النفع بخيرات بلاده وينابيعها الغنية، إذ لا معنى لتقرير المصير بغير هذه الدراية التي يقعده عنها اليوم جهله وسقمه، وما ينوء به من بقايا الخرافات، وتقاليد السذاجة في النظم الاجتماعية. ومما يبعث الأمل في نهضة لالتماس هذه الدراية أن طلاب المصالح العالمية من أمم الحضارة محتاجون إلى تعليمه، والانتفاع بمعونته، وهم يجدون أن التعاون معه على فهم ورضى أيسر من تسخيره على الرغم منه، أو الاستغناء عنه في تدبير مرافق بلاده.
يقول الخبير الاقتصادي كلارانس راندال: «إن المارد النائم يستيقظ، وإن قلب أفريقيا في الشرق والغرب وفي الشمال والجنوب يخفق بآمال جديدة ومطامح جديدة، وإن الأفريقيين مستعدون أن يحكموا أنفسهم بأنفسهم وأن يقرروا مصيرهم بأيديهم. إن الروح الاستقلالية التي كانت سائدة بيننا في عام ١٧٧٦ أصبحت الآن منتشرة في هذه البلاد الشاسعة حيث تكونت من البراري أمم جديدة لها نفس التصميم والجرأة اللذين امتاز بهما الرواد الأوائل من أسلافنا، وأفريقيا التي كانت قارة عريقة في القدم يوم ولد متوشالح قررت اليوم أن تندفع قدمًا إلى حضارة القرن العشرين، وهي في ميزان القوى موفورة الثراء في الموارد الطبيعية التي سيحتاج إليها العالم الصناعي ذات يوم، ولاتحاد أفريقية الجنوبية مستوى عال من الرخاء القائم على أساس من مناجم الذهب والماس والأورانيوم، ولاتحاد روديسيا ونياسالاند أعظم مستودعات النحاس والكروم في العالم، واكتشفت أنجولا النفط في أراضيها، وفي الكونغو البلجيكية معدن الكوبالت والأورانيوم وصناعة الماس، وتستعد أفريقيا الاستوائية الفرنسية لإقامة مشروع ضخم لخامة المنجنيز، وفي نياجرا الصفيح والكوبلت، في ليبيريا وأفريقية الغربية الفرنسية خام الحديد، وفي غانة تكثر أشجار الموجنة حتى لتصنع منها سلال المشروبات الخفيفة، وتستعمل أخشابها في الشئون العادية، وإن أعظم موارد القوى الكامنة على كل حال لهي القوة الرائعة التي لا حدود لها؛ قوة توليد الكهرباء من مساقط الماء.
ففي العصور الجيولوجية عندما تكونت القارة الأفريقية ألفي منحدر هائل من المحيط الأطلسي إلى داخل القارة مواز لسواحلها الغربية، وعلى هذا المنحدر الذي يشمل معظم الجانب الأدنى من أفريقيا تنساق الأنهار الكبرى إلى الجريان فوق شلالات قبل أن تنصب في المحيط الأطلسي، ولقد كانت هذه الشلالات حواجز منيعة في وجه السفن البحرية، فتأخر اكتشاف ما وراءها، ولكن هذه الشلالات والمساقط تعتبر الآن بالنظر إلى أفريقيا التي أفضت بأسرارها للطائرات عشرات من أمثال شلال نياجرا، وهي تنتظر الترويض والاستغلال، وهناك مستودعان كبيران لتوليد الكهرباء من مساقط المياه في طريقهما إلى الظهور الآن، فنهر زامبيزي يقوم عليه خزان كاريبي الذي شارك البنك الدولي في تمويله وسيمد المناجم والمصانع في روديسيا بالقوى المحركة الوافرة، ولسوف يكون للكاميرون الفرنسي قريبًا خزان في إقليم إيديا على نهر ساجانا، وهناك مشروع خزان انجا على نهر الكونغو في الكونغو البلجيكية، وهو مشروع يبلغ من الضخامة أن تساوي القوى المولدة منه بعد تمامه خمس القوى التي تتولد في الولايات المتحدة، وعدا هذا وضعت الطبيعة إلى جانب كل منطقة لتوليد الكهرباء على وجه التقريب مستودعات منجمية لا مثيل لها من البوكسيت الذي يكفي لتزويد العالم كله بمعدن الألمنيوم عدة أجيال، وقد حدث تطور لا بأس به في وسائل المواصلات، فإن خطوط الطيران التي تستخدم الطائرات الحديثة وتقدم أحسن الخدمات تعبر سماء القارة ذهابًا وجيئة في كثير من الاتجاهات، ويقتحم شريط السكة الحديدية طريقها إلى داخل القارة، وأصبح في مقدور سيارة نقل أن تبدأ رحلتها في الشاطئ الشرقي عند موزنبيق وتمضي إلى الساحل الغربي فوق طرق ممهدة يتصل بعضها ببعض خلال روديسيا وأنجولا، وأنشئت في كل مكان على كلا الشاطئين موانئ جديدة، وتزداد الأجور زيادة مطردة لا سيما على طول الشاطئ وفي مناطق المناجم كما تزداد الواردات من البضائع والسلع المستنفدة.»
وهذه الموارد التي ذكرها الخبير المطلع لا تستوعب جميع الموارد المعروفة، ولا جميع الموارد التي يمكن أن تعرف من قبيلها، وهي كلها موارد موجودة مهيأة للتثمير والاستغلال بأدوات المصانع العصرية، ولكنها غير الموارد المدخرة للتثمير والاستغلال من ينابيع غير معهودة، ولا مطروقة في الصناعة العصرية، ونريد بها موارد الثروة التي يمكن أن تستخرج من إصلاح الصحارى الكبرى واستخدام أجوائها وشواطئها لخلق المناخ الملائم والتربة الغنية بثمراتها الزراعية والصناعية، فهذه إذن قارة مستوفية لعتادها على أهبة لمجاراة أغنى القارات وأرقاها في تزويد العالم بمطالبه وضروراته، لا تعوزها كيما تتم أهبتها إلا أن يملك أهلها عدتهم من الحرية والدراية، فهل يمر الزمن دون أن يقترب ذلك اليوم الذي يستوفى لها عتادها من حرية أهلها ودرايتهم، كما استوفت عتادها من موارد الصناعة والزراعة؟ وهل ترجع إلى أمسها المظلم أو تتقدم إلى مستقبلها ومستقبل العالم معها؟ قبل أن ينتهي القرن العشرون ستعلم الدنيا المتطلعة مدى الخطوات التي تتقدم بها قارة الغد إلى مصيرها، وسترى أن تذليل مصاعب التقدم أهون جدًّا من الصعوبة التي تواجه العقل حين يتخيلها ناكصة على عقبيها مدبرة إلى ما كانت عليه يوم كانت كهفًا مغلقًا أو فرقة متنحية عن مكانها من صفوف الأمم في ركب الحضارة، ونحسب — على هذا — أن وصف القارة الأفريقية «بالتنحي» عن الركب ظلم لا تقره دعوى النشوئيين إذ يتتبعون أول خطوة خطاها البشر من حظيرة الحيوان الأعجم فيرجعون بها إلى مجاهل أفريقيا في أقدم عهودها، فإذا صدق ظنهم لقد كانت هذه القارة أول من سبق الصفوف، وكانت حركتها أعظم من أن يقاس بها مسير الحضارة من مبدئها إلى منتهاها اليوم في عصر الذرة والطائرة الفلكية، ولقد تكون لها في الغد خطوة جديدة تضارع في نسبة الزمن خطواتها الأولى.
إن أربعين قرنًا مضت لا تنتهي إلى غير شيء في هذه السنين الأربعين التي بقيت من القرن العشرين.