مقدمة
صديقي عبد الحميد
بعد التحية، ثم بعد الذي بسطت من اعتبار مادي يأبه له الناشر ويقدره، لا أزال — على رغم ذلك كله — عند رأيي الذي أبديت لك، بشأن مقدمة إلى الأدب المصري؛ لا يكتبها إلا شاب، مؤمن بهذه الدعوة، مُرجًى لتحقيقها.
لقد صارت المقدمات — يا صديقي — صورةً من التقريظ القديم، أو الإعلان الحديث يُلتمس منه الرواج، في صورة من صوره؛ مالًا يكتسب، أو شهرةً تذيع، وما أهون. أمَّا المال فليس العلم سبيلًا ميسرًا إليه، وأمَّا الأخرى فقد استروحت إلى النجاة من هواها.
أي صديقي،
إذا ما كانت المقدمة تحليلًا لكتاب، وعرضًا لفكرة؛ فمن أحق بكتابتها ممن كُتب من أجله الكتاب، وأُلقيت إليه الفكرة؟!
وإذا كانت المدرسة في عبارة المحدَثين، والمذهب في تعبير الأقدمين، إنما هو أستاذ نهض به طلبته، فما لنا لا نكون محدَثين صادقين، ولا قدماء محافظين، إذ نطلب الحكم على فكرة الغد، من أهل الأمس؟!
القول الفصل في هذه المقدمة، بل في كل مقدمة لشيءٍ لي، يرى ناشره ألا يكتبها إلا صاحب غد، مؤمن بما قيل، جَدَّ في سبيل تحقيقه؛ لتكون حديث صدق عن الفكرة في نفس الجيل، هي رسالة إليه، وتدبير لحياته.
فاكتب — إن شئت — هذه المقدمة، أو يكتبها من يشاء من إخوانك الذين استمعوا إلى الحديث عن هذا الأدب المصري.
ولكم مع ابتهاجي بكل ما تقولون تحية وسلام.
وليس من شك في أن أي مظهر من مظاهر التعاون هو ما يقوم بين أجيال المشتغلين بصناعة الفكر، وقد جرت عادة المحدَثين أنه إذا تهيَّأت أسباب الظهور لأحد أبناء الجيل الجديد، طلب إلى شيخ من شيوخ الصناعة أن يقدِّمه إلى الناس؛ بالإعلان عن كتبه، والكشف عن مواهبه.
ولكن شيخنا آثر — وهو يؤمن بأن نهضتنا تجديد لا تبديد — أن نعود إلى سنة السلف الصالح؛ فيُقدِّم أبناء الجيل ما تلقَّوه عن شيوخهم من الرسائل والأمالي والدروس.
وها أنا ذا أُقدِّم إلى قُراء العربية بعض أمالي شيخنا الجليل أمين الخولي «في الأدب المصري».
ولست في حاجة إلى التعريف بشيخنا؛ فقد كان مِقوَلًا من مَقاوِل النهضة، ورائدًا من الرواد في الأدب، ورسولًا أمينًا من رسل مصر. وهو إلى جانب هذا كله أصولي ثبت، ومُناظر قوي الشكيمة، ومعلم يضبط المناهج ويقوِّم الأذواق.
- الأول: في إقليمية الأدب وتطبيقها على الأدب العربي الإسلامي، مع الدعوة إلى تحرير الدراسة الأدبية من رِق التقسيم الزماني الذي نقله بعض رواد النهضة عن الغربيين.
- والثاني: في منهج دراسة الأدب المصري، من جمع النصوص وضبطها وتصنيفها ونقدها، إلى دراسة البيئة المصرية المادية والمعنوية.
وإذا كانت مصر قد بدأت تفيق وتحس نفسها الجامعة والمتكثِّرة، فإن عليها أن تشرع في جمع تراثها الأدبي وغربلته والمحافظة عليه، ثم العمل على إحلال الممتاز منه محل هذه القوالب الواردة عبر البحر أو عبر الصحراء. وحرام أن يتخصَّص في هذا الأدب قوم من غير مصر فتمنحهم هيئاتهم العلمية أرقى إجازاتها، ونعكف نحن على دراسة الأدب اليوناني واللاتيني والفارسي والتركي والإنجليزي والفرنسي و…، و…، مع أن هذا الأدب المصري حقيق بوقفة الباحث المصري، ونظرة المؤرخ المصري، وحكم الناقد المصري.
عضو لجنة ترجمة دائرة المعارف الإسلامية