مقدمة
أن تحب دستويفسكي
يبدو لنا الأدب في النصف الثاني من القرن العشرين أرضًا طُرقت عشرات المرات، من الصعب أن يتمكن أحد من العثور على إحدى الروائع المجهولة فيها، فضلًا عن أن تكون هذه الرائعة مكتوبة بلغة من تلك اللغات الموضوعة تحت المتابعة الدائمة. ومع ذلك، إذا بي أكتشف منذ عشر سنوات مضت — وأنا أقلِّب البصر في أغلفة الكتب المهترئة في خرائب الكتب في تشيرنج كروس رود في لندن — هذا الكتاب؛ «صيف في بادن»، لا يخامرني أدنى شكٍّ أن هذه الرواية هي واحدة من أثمن منجزات القرن، وأكثرها أصالة. عمل أدبي كامل بالمعنى الواسع لهذا التعريف.
ليس من العسير أن نقرر لماذا ظل هذا الكتاب مجهولًا في الواقع؛ أولًا، وقبل كل شيء: لأن مؤلف هذا الكتاب ليس أديبًا؛ فليونيد تسيبكين هو طبيب وباحث شهير، نشر ما يقرب من مائة بحث علمي في الاتحاد السوفيتي وخارجه. لندع — الآن — جانبًا أي مقارنة بالأطباء الأدباء؛ تشيخوف وبولجاكوف، فتسيبكين لم يرَ صفحة واحدة مطبوعة من هذه الرواية.
وُلد ليونيد تسيبكين في مينسك عام ١٩٢٦م، لأسرة يهودية، لوالدَين يعملان بالطب، فالأم — فيرا بولياك — تخصَّصت في أمراض السُّل الرئوي، بينما عمل الأب — بوريس تسيبكين — جرَّاحًا ومُجبِّرًا. وفي عام ١٩٣٤م، في بداية زمن الرعب الأكبر، أُلقي القبض على الأب، لأسباب مُلفَّقة بالطبع، ولكن سرعان ما أُطلق سراحه نتيجة لتدخُّل أحد المعارف من ذوي النفوذ، بعد أن حاول الأب الانتحار، بأن ألقى بنفسه في بئر سُلم السجن، ليعود إلى بيته على نقَّالة وقد كُسرت فقرة من عموده الفقري، لكنها لم تتسبب في إعاقته، ثم عاد بعد ذلك لممارسة عمله جرَّاحًا حتى وفاته في عام ١٩٦١م عن عمر يُناهز ٦٤ عامًا. في تلك الفترة اعتُقِل أخوه وأختاه أيضًا ليختفوا في معتقلات ستالين.
سقطت مدينة مينسك بعد أسبوع واحد من الهجوم الألماني عام ١٩٤١م، وقد لقيت أم بوريس وأخته واثنان من أبناء عمه الصغار حتفهم في الجيتو. وقد ساعده على الهرب — هو وزوجته وابنهما ليونيد، البالغ آنذاك خمسة عشر عامًا — رئيسُ أحد الكولخوزات (المزارع الجماعية) المجاورة. كان الرجل مريضًا سابقًا يتلقى لدى أبيه العلاج، ولما كان حافظًا للجميل فقد أمر بإنزال عدد من شكائر الخيار المملَّح من فوق ظهر إحدى الشاحنات، ليضع مكانها الجرَّاح المحترم وعائلته.
بعد عام يلتحق ليونيد تسيبكين بالمعهد الطبي، ليُنهِي دراسته فيه في عام ١٩٤٧م، ثم يعود هو ووالده إلى مينسك، بعد أن وضعت الحرب أوزارها. وفي عام ١٩٤٨م يتزوج ليونيد تسيبكين من ناتاليا ميتشينيكوفا، المتخصصة في علم الاقتصاد، ويُنجبان ابنهما الوحيد ميخائيل في عام ١٩٥٠م.
عام كامل، سَبَق هذه الأحداث، انطلقت فيه حملة ستالين التي روَّجت لمعاداة السامية، عندها اضطُر إلى الاختفاء في إحدى القرى، وسط العاملين في أحد مستشفيات الأمراض النفسية. وفي عام ١٩٥٧م ينجح في الانتقال هو وأسرته للعيش في موسكو، وهناك عُرض عليه العمل أخصائيًّا في علم الأمراض في معهد لشلل الأطفال وفيروس التهابات المخ، يتمتع بسمعة طيبة. انضم تسيبكين إلى المجموعة التي تعمل في مجال شلل الأطفال، والتي كانت معنيَّة بتجهيز لقاح سابين، المضاد لفيروس شلل الأطفال على مستوى الاتحاد السوفيتي كله. وقد عكست سنوات عمله في المعهد تنوع اهتماماته العلمية، نذكر من بينها «استجابة الأنسجة السرطانية للعدوى الفيروسية الطائرة وأمراض القِرَدة».
كان تسيبكين شديد الولع بالأدب، وكان يكتب فيه — سواء شعرًا أو نثرًا — لنفسه فقط. وكثيرًا ما راودته وهو في العشرين من عمره وما بعدها فكرة ترك الطب، والتفرغ لدراسة الأدب واحتراف الكتابة.
وعلى مدى الثلاثين عامًا التي تبقَّت من عمره لم يكتب سوى عدد قليل من الأعمال الإبداعية، لكن حجم تراثه الأدبي لا يعطي أي تصور، ولو قليل، عن مدى اتساع وعمق وتركيب هذا الأدب، فبَعد الدراسات القصيرة التي كتبها ظهرت له أعمال أكثر طولًا، تميَّز السرد فيها بتعقيد أكثر، أَتبعَها بقصتين من نوع السيرة الذاتية؛ «جسر على نهر نيروتش»، و«نورارتاكير»، وأخيرًا عمله الأخير والأكبر «صيف في بادن»، وهو نوع من الرواية-الحلم، النائم فيه هو تسيبكين، الذي يربط حياته بحياة دستويفسكي في ضفيرة واحدة من خلال قوة التخيل، ليسيرا معًا في تيار من الحَكْي المحموم الذي لا يتوقف.
لقد استولى الأدب على تسيبكين ليُبعِده كليةً عن الآخرين؛ يقول ابنه ميخائيل: «من الإثنين إلى الجمعة في الثامنة إلا رُبعًا تمامًا، دَأَب والدي على الذهاب إلى عمله البعيد (بالقرب من ضاحية فنوكوفو) في معهد شلل الأطفال، وكان يعود إلى المنزل في السادسة مساءً، وبعد أن يتناول طعام العشاء ويغفو قليلًا، يجلس إلى طاولة الكتابة، فإذا لم يكن ما يكتبه نثرًا فإنه يكتب مقالات علمية، وفي العاشرة مساءً يذهب للنوم. وأحيانًا ما يخرج للتنزُّه قبل ذلك. وعادةً ما كان يكتب في أيام الإجازات. عمومًا كان والدي يَتحيَّن أي فرصة للكتابة، لكن ذلك كان أمرًا بالغ الصعوبة، كان يتعذب في كتابة كل مفردة، ثم يعود فيصحح مخطوطاته بلا توقف. وبعد أن ينتهي من التصحيح يعود من جديد لكتابة النص على آلة كاتبة ألمانية من غنائم الحرب، من طراز «إريكا» تتلألأ من فرط نظافتها، أهداها له عمي في عام ١٩٤٩م، وعلى النحو ذاته من النظافة بقيت مخطوطاته التي لم يرسلها إلى هيئات التحرير، والتي لم يرغب أن يدفع بها إلى الساميزدات خوفًا من الدخول في «أحاديث» مع الكي جي بي (لجنة الأمن القومي) فيفقد بسببها عمله.»
إلى أي حدٍّ يبلغ إيمان المرء بالأدب حتى يظل يكتب دون بارقة أمل في النشر؟! كان الذين يقرءون أعمال تسيبكين إبَّان حياته يُعَدون على الأصابع؛ زوجته وابنه، وزوج من أصدقاء ابنه في الجامعة، ولم تكن للرجل أدنى صلة بالدوائر الأدبية في موسكو.
كانت ليديا بولياك — الأخت الصغرى لوالدة تسيبكين — باحثة في الأدب، وهي الشخص الأقرب في العائلة لهذا العلم.
وسوف يلتقي قُراء «صيف في بادن» بها منذ الصفحة الأولى من الرواية، في القطار المسافر إلى ليننجراد، وسوف يكشف لنا الروائي — استنادًا إلى اهتمامه البالغ بوصف تفاصيل أحد الكتب العزيزة على نفسه، من خلال وصفه لغلاف هذا الكتاب والشريط المُوشَّى بالرسم الذي يحفظ الصفحة للقارئ — أن هذا الكتاب القديم، المهترئ تقريبًا، هو طبعة من «مذكرات» أنَّا جريجوريفنا دستويفسكايا؛ زوجة دستويفسكي الثانية، استعاره «تسيبكين» من خالته التي تقتني مكتبة كبيرة، الذي «كان يضمر في داخله رغبة دفينة ألا يعيده إليها».
يقول ميخائيل تسيبكين إن والده جاء على ذكر ليديا بولياك مرارًا في عدد من قصصه القصيرة، بإحساس بالضيم، دون أن يلقبها ﺑ «الخالة»، وهو يصفها بأنها ممثلة مثقفي موسكو، وصاحبة العلاقات الأدبية الواسعة. وقد عملت الخالة في معهد الأدب العالمي منذ عام ١٩٣٠م، وظلت به حتى بعد إعفائها من العمل في جامعة موسكو في مطلع الخمسينيات، في فترة الصراع ضد «الكوزموبوليتانية». آنذاك كان أندريه سينيافسكي زميلها الأصغر في معهد الأدب العالمي، وقد تحدثت بولياك معه تحديدًا عن لقائها بتسيبكين، ولكنها لم تُبدِ إعجابها على ما يبدو بإبداع ابن أختها، ولم تأخذه على مأخذ الجِد، وهو ما لم يغفره تسيبكين لها.
في عام ١٩٧٧م قرر الابن ميخائيل تسيبكين الهجرة ومعه زوجته يلينا. عندئذٍ كان على ناتاليا ميتشنيكوفا أن تتقدم بالاستقالة من عملها؛ خشية أن يؤثِّر عملها السري في هيئة الإمداد الحكومي على سفر ابنها إلى الخارج؛ حيث كانت تعمل في القسم المختص بمعدات الطرق والبناء، ناهيك عن أن هذا القسم كان يورد معداته للصناعة الحربية. سمحت السلطات بالسفر لميخائيل ويلينا إلى الولايات المتحدة الأمريكية. وما إن أُبلِغ الكي جي بي دروزدوف، مدير معهد شلل الأطفال، بذلك حتى تم نقل تسيبكين على الفور إلى درجة باحث علمي مبتدئ، على الرغم من درجته العلمية الرفيعة، وخبرة بلغت عشرين عامًا. لم يَعُد للأسرة — الآن — من مصدر للدخل سوى راتبه، الذي تم تخفيضه إلى الثلث. واظب تسيبكين على الذهاب يوميًّا إلى المعهد، على الرغم من أنه حُرم من إمكانية العمل بالبحوث المعملية الجماعية تحديدًا. الواقع أن زملاءه جميعًا امتنعوا عن العمل معه في مجموعة واحدة؛ خوفًا من اعتبارهم شركاء لعنصر «غير مرغوب فيه». لم يكن هناك معنًى للبحث عن مكان آخر، طالما أنه كان عليه أن يشير في طلبه للعمل إلى أن لديه ابنًا سافر للخارج.
في يونيو من عام ١٩٧٩م تقدم تسيبكين وزوجته وأمه بأوراقهم طلبًا للرحيل، ولكن انتظارهم طال إلى عامين تقريبًا، تم بعدها إبلاغهم في أبريل من عام ١٩٨١م بالرفض، وتم تفسير ذلك بأن سفرهم «لا طائل من ورائه». أود أن أُذكِّر هنا أنه بحلول عام ١٩٨٠م توقف السفر من الاتحاد السوفيتي فعليًّا، آنذاك ساءت العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية بسبب التدخل السوفيتي في أفغانستان، وتوقفت واشنطن عن إعطاء أية تسهيلات لسفر اليهود السوفيت إليها، وفي هذا الوقت تحديدًا كتب تسيبكين الجزء الأكبر من روايته «صيف في بادن».
بدأ تسيبكين كتابة روايته عام ١٩٧٧م ليُنهِيها عام ١٩٨٠م. وقد سبق كتابةَ الرواية سنواتٌ من الإعداد لها؛ العمل في المكتبات، والتردد على الأماكن الوثيقة الصلة بدستويفسكي وأبطاله. الْتَقط الكاتب صورًا فوتوغرافيةً للأماكن التي وصفها دستويفسكي في فصول العام نفسها، بل وحتى في الأيام نفسها، إذا ما كانت قد وردت في رواياته. كان تسيبكين هاويًا للتصوير منذ شبابه، وقد اقتنى آلة للتصوير بدءًا من الخمسينيات. وبعد أن أنهى كتابة الرواية قدَّم ألبوم هذه الصور إلى متحف دستويفسكي في ليننجراد.
كان من المستحيل تصور نشر الرواية في الاتحاد السوفيتي، ولكن الأمل ظل مرهونًا بنشرها في الخارج — هكذا كان يفعل أفضل كُتاب هذا الزمن. وقد قرر تسيبكين الشروع في اتخاذ هذه الخطوة بعد أن طلب من صديقه الصحفي آزاري ميسيرير — الذي حصل في مطلع عام ١٩٨١م على تصريح بالهجرة — أن يُهرِّب له مخطوطة الرواية وعددًا من الصور.
في نهاية سبتمبر من العام نفسه يعود آل تسيبكين من جديد ليتقدما بأوراقهما للسفر. على أن والدته، فيرا بولياك، تُوفيت في التاسع عشر من أكتوبر، عن عمر يُناهز ستة وثمانين عامًا. وإذا بالقرار الخاص بالسفر يصدر خلال أقل من شهر.
في مطلع مارس من عام ١٩٨٢م يتوجَّه تسيبكين إلى إدارة جوازات موسكو، حيث قالوا له: «يا دكتور، غير مسموح لك بالسفر مطلقًا.» وفي يوم الإثنين الخامس عشر من مارس أحاط دروزدوف تسيبكين علمًا بأنه قد تم الاستغناء عنه، وفي اليوم نفسه الذي تم فيه إعفاؤه من العمل أَبلَغ ميخائيل تسيبكين — الطالبُ بالدراسات العليا بجامعة هارفارد — والدَه في موسكو هاتفيًّا أن روايته قد طُبعت أخيرًا يوم السبت الماضي. لقد نجح آزاري ميسيرير في نشر «صيف في بادن» في «نوفايا جازيتا» (الصحيفة الجديدة)، وهي صحيفة روسية أسبوعية تصدر في نيويورك. وقد ظهر أول جزء من الرواية، مصحوبًا ببعض الصور، في العدد الصادر في ١٣ مارس ١٩٨٢م.
وفي السبت التالي، العشرين من مارس، جلس تسيبكين إلى مكتبه يوم ذكرى ميلاده السادس والخمسين ليترجم عن الإنجليزية نصًّا طبيًّا — ظلت الترجمة التقنية دائمًا واحدة من مصادر الدخل القليلة للمغضوب عليهم — لكنه شعر بإعياء في قلبه لجأ على إثره إلى فراشه، ونادى على زوجته، وما لبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يكن قد مرَّ على صدور كتابه سوى سبعة أيام بالتمام والكمال.
ماذا عن رواية «صيف في بادن»؟
تَخلُق «صيف في بادن» على الفور أكثرَ من «واقع»، وهي تصفها جميعًا وتُصوِّرها بشكل أقرب ما يكون إلى هلاوس تيار الوعي.
ترجع أصالة هذه الرواية إلى قدرتها، في المقام الأول، على أن تُقدِّم سردًا بيوجرافيًّا، على لسان قاصٍّ مجهول يسافر وسط الواقع السوفيتي الجهم، ويغامر — في الوقت نفسه — بالدخول إلى تاريخ الزوجين دستويفسكي، المسافرَين أيضًا، وإذا بالماضي يتدفق واضحًا على نحوٍ محموم، عبر أطلال الثقافة المعاصرة. يقوم تسيبكين بتحويل رحلته إلى ليننجراد إلى رحلة داخل أرواح شخصيتَيه «فيديا» و«آنيا»، كاشفًا عن قوة التعاطف المدهش بداخله نحوهما. يتوقف تسيبكين في ليننجراد بضعة أيام. لم يكن ذلك حَجَّه الأول إلى هذه المدينة، كما هو واضح. ومما لا شكَّ فيه أن زيارته انتهت بقيامه وحده بزيارة البيت الذي قضى فيه دستويفسكي نَحْبه. أما الزوجان دستويفسكي فيبدآن رحلتهما خاليَي الوِفاض من المال، ليُقيما في أوروبا أربعة أعوام (من المناسب أن نذكر هنا أن مؤلف «صيف في بادن» لم يُسمَح له بمغادرة الاتحاد السوفيتي).
درزدن، بادن، بازل، فرانكفورت، باريس. لقد كُتب على الزوجين أن يعيشا في توتر مقيم بسبب وضعهما المالي الخانق المهين، والذي لم يجدا سبيلًا للخروج منه. كانا مضطرين للدخول في مساومات لا تنتهي مع هؤلاء الغرباء الأفظاظ الوقحين؛ البوابين، والحوذية، وأصحاب البيوت، والنُّدُل، وأصحاب الحوانيت، والمُرابين، ثم مع المشرفين على موائد القمار، فضلًا عن الأهواء الجامحة المفاجئة، والانفعالات العاصفة. الولع بالقمار وما يتبعه من تأنيب للضمير، لَظى الحُمى ولهيب الحب، نار الغيرة وسعير الندم ورجفة الخوف.
لم يكن القمار وحده، ولا الإبداع والتدين، هو الذي حدد الاتجاه الرئيس في تصوير حياة دستويفسكي في هذه الرواية؛ وإنما الهوى النبيل المُتَّقد، الذي اضطرم بين الزوجين بلا قيد أو شرط. لم يكن هذا الهوى يمتلك ضمانات لتحقيق السعادة. مَن الذي بإمكانه أن ينسى «إبحار» المحبين في العشق — المجاز الفريد لفعل الحب.
يتناغم حب آنيا، المرأة التي تغفر كل شيء لفيديا، مع احتفاظها بكرامتها بشكل تامٍّ دائمًا، مع إخلاص تسيبكين لأدب دستويفسكي الكاتب.
في الصفحة الأولى يغادر تسيبكين موسكو، وبعد ثُلثي الكتاب يصل إلى محطة قطارات موسكو في ليننجراد. وهو يعلم أنه غيرَ بعيد عن هذه المحطة يقع «بيت رمادي عادي من بيوت بطرسبورج»، هو البيت الذي قضى فيه دستويفسكي السنوات الأخيرة من حياته. يتَّجه حاملًا حقيبته، مُغذًّا السيرَ في عتمة ليلة ثلجية ليعبر شارع نيفسكي، مارًّا بأماكن تمثل معالم بارزة لأحداث وقعت في السنوات الأخيرة من حياة دستويفسكي، ثم ليصل أخيرًا إلى حيث اعتاد التوقف دائمًا في ليننجراد، في إحدى الشقق المشتركة في بيت متهدم، لينزل عند صديقة أمه التي كتب إليها رسالة لا يمكن التعبير عما جاء بها من رقة وعذوبة.
استقبلَتْه، وأطعمَتْه، وجهزَتْ له فراشًا قديمًا متهالكًا، ثم ألقت عليه السؤال نفسه، الذي ظل يسمعه منها في كل مرة: «أما زلت مغرمًا بدستويفسكي؟» وعندما ذهبت للنوم الْتَقط من الرف، كيفما اتفق، مجلدًا من الأعمال الكاملة لدستويفسكي، طبعة ما قبل الثورة، تبيَّن له أنه «مذكرة الكاتب»، وعندما راح يفكر في لغز مُعاداة دستويفسكي للسامية، إذا به يستغرق في النوم.
وفي الصباح الباكر راح يتحدث مع مضيفته الحنونة، ويستمع إلى حكايتها عن أهوال حصار ليننجراد، وعندما راح النهار الشتوي القصير يغرق في العتمة، ذهب ليتجول في المدينة، ويلتقط الصور ﻟ «بيت راسكولنيكوف»، أو «بيت العجوز المُرابية»، أو «بيت سونيا»، أو لتلك البيوت التي عاش فيها الكاتب، هنا تحديدًا، في أكثر فترات حياته غموضًا واختفاءً، في السنوات الأولى بعد عودته من المنفى، فيما بعدُ «مَقودًا بشعور داخلي ما» يصل تسيبكين إلى «المكان المطلوب بدقة متناهية»، وهنا يشعر كيف «خفق قلبه من الفرح أيضًا من جرَّاء شعور آخر غامض»، لقد اتضح أنه أمام بيت من أربعة طوابق يقع على الناصية، هذا هو البيت الذي تُوفي فيه دستويفسكي، وهو — الآن — متحف «يَسُود قاعاتِه هدوءٌ مُطبِق، كهدوء الكنائس»، يدفع بالقص عن الأيام الأخيرة لدستويفسكي، التي لا تُقارَن في قوتها إلا بوصف الموت في المشاهد المماثلة عند تولستوي، وذلك في ضوء الحزن الخاص لأنَّا جريجوريفنا، التي استمرت ساعات لا نهاية لها، جالسة بجوار فراش زوجها وهو يُحتضَر. في هذا الكتاب لا يخلط تسيبكين بين أشكال الحب بشكل عام؛ بين الحب العائلي وحب الأدب، كما أنه لا يقارن هذه المشاعر بعضها ببعض، وإنما يعطي كلًّا منها ما يستحقه؛ إذ إن كلًّا منها يُدخِل إلى روايته لهيبه اللافح.
ما الذي بإمكانك أن تفعله إذا كنت تحب دستويفسكي؟ وما الذي يمكن أن يفعله اليهودي وهو يعلم أن دستويفسكي لا يحب اليهود؟ كيف يمكن تفسير هذه المُعاداة الحَقودة للسامية التي يُعبِّر عنها «شخص شديد الحساسية» في رواياته تجاه مُعاناة الناس، هذا المدافع الغيور عن المُذَلين والمُهانين؟ وكيف نفهم أن ذلك بعينه هو السبب «في هذا الانجذاب الخاص لليهود تجاه دستويفسكي»؟
من الواضح أن تسيبكين كان على علم بهذه البحوث العامة التي كتبها جروسمان، مثل «بلزاك ودستويفسكي» (١٩١٤م)، و«مكتبة دستويفسكي والمواد غير المنشورة» (١٩١٩م). من المُستبعَد — بطبيعة الحال — أن يكون قد مرَّ مرور الكرام على رواية «روليتنبورج» (١٩٣٢م)، وهي فانتازيا على هامش روايته عن الولع بالقمار (كما هو معروف فإن رواية «المقامر» كان اسمها في البداية «روليتنبورج»). الأرجح أن تسيبكين لم يقرأ كتاب جروسمان «اعترافات يهودي» (١٩٢٤م)، حيث تم منع هذا الكتاب بالفعل من التداول، وهو يتحدث عن حياة أحد أكثر اليهود تفردًا وبؤسًا في الوقت نفسه، من بين اليهود المعجبين بدستويفسكي، ويُدعَى أركادي كوفنر (١٨٤٢–١٩٠٩م)، وهو من مواليد جيتو مدينة فيلنوس، وكان يتبادل الرسائل مع دستويفسكي.
كان كوفنر شابًّا أرعنَ، علَّم نفسه بنفسه، فتنَتْه موهبة الكتابة عند دستويفسكي، بعد أن قرأ «الجريمة والعقاب»، فراح يمارس السرقة من أجل أن يساعد فتاة فقيرة مريضة وقع في هواها. وفي عام ١٨٧٧م حُكم عليه بالسجن لمدة أربعة أعوام. عشية نقله إلى سيبيريا، كتب كوفنر خطابًا إلى دستويفسكي من زنزانته في سجن بوتيرسكايا، اتهمه فيه بكراهية اليهود (وقد تبعه بخطاب آخر تحدث فيه عن موت الروح).
سوف تتناثر أمامنا هنا وهناك على صفحات رواية «صيف في بادن» شظايا من موضوع مُعاداة السامية، بدءًا من لحظة وصول تسيبكين إلى ليننجراد، لكن حلَّ هذا السؤال المُضني لا ينكشف لنا حتى مع وصول الرواية إلى نهايتها: «… يُخيَّل إليَّ أنه أمر غريب وعجيب أن دستويفسكي لم يجد كلمة واحدة يبرر بها أو يدافع من خلالها عن سلوك هؤلاء البشر الذين جرى اضطهادهم على مدى عدة آلاف من السنين … إنه حتى لم يُسمِّ اليهود شعبًا، وإنما وصفهم بالقبيلة … وأنا أنتمي إلى هذه القبيلة، أنا والعديد من معارفي وأصدقائي، الذين ناقشت معهم أدقَّ مشكلات الأدب الروسي، لكن كل ذلك لم يمنع اليهود أن يحبوا دستويفسكي، لماذا؟»
التفسير الوحيد الذي يطرحه تسيبكين هو إجماع اليهود على حب الأدب الروسي. هذا الاستنتاج يُذكِّرنا بظاهرة أخرى شبيهة؛ عبادة الألمان لجوته وشيلر، وكان اليهود جزءًا كبيرًا من هذه القضية، إلى أن قررت ألمانيا القضاء عليهم. أن تحب دستويفسكي يعنى أن تحب الأدب.
«صيف في بادن» رواية تجمع — بفضل أسلوبها الفريد — الموضوعات الرئيسة للأدب الروسي. سوف يُقلِّب القراء صفحات هذه الرواية بحماسة بالغة، كما يفعل المرء عادةً عندما يستذكر درسًا ما على عجل. إن لغة الرواية تسمح بالانتقال بشكل مفاجئ، على نحوٍ شجاع وجذَّاب، من ضمير المتحدث إلى ضمير الغائب، من المواقف الشخصية للكاتب؛ ذكرياته وتأملاته («أنا»)، إلى المشاهد الخاصة بدستويفسكي («هو»، «هما»، «هي»)، وبهذه البساطة تنساب الرواية من الماضي إلى الحاضر. والحاضر في الرواية لا يتوقف قط على رحلة حج تسيبكين إلى بطرسبورج، كما أن الماضي ليس مجرد رحلة دستويفسكي إلى بادن، أو حياته في الفترة من ١٨٦٧م إلى ١٨٨١م. إن حدود الزمن تظل نسبية؛ دستويفسكي يخضع للذكريات التي تدفَّقت عليه في السنوات الأكثر بُعدًا، أما القاصُّ فيستدعي ذكريات الماضي وصولًا إلى الحاضر.
عند تسيبكين تبدأ كل فقرة بجملة طويلة للغاية، ترتبط أجزاؤها، بعضها ببعض، بالعديد من الأشراط أو حروف العطف (وهي الأكثر)، وأدوات أخرى مثل «لكن» (أحيانًا)، و«على الرغم من»، و«زد على ذلك»، و«في الوقت الذي»، و«كأن»، و«لأن»، و«كما لو أن»، ولا تأتي النقطة إلا في ختام الفقرة. وما دامت الجملة تمتدُّ طويلًا مفعمةً بالحماس، فإن تيار الشعور يظل طاغيًا على السرد فيما يتعلق بحياة دستويفسكي، ويبتعد به أكثر فأكثر عندما يحكي عن حياة تسيبكين. إن الجملة التي تبدأ بالحَكْي عن فيديا وآنيا في درزدن، يمكن أن تُذكِّرنا بفترة وجود دستويفسكي في المعتقَل، بينما يمكن للحديث عن نوبة حُمى المقامرة أن تستدعي من الذاكرة قصته الغرامية مع أبوليناريا سوسلوفا، ثم تنتقل بنا لتشتبك مع ذكرياتها عن دراستها في معهد الطب، وتأملاتها في أبيات بوشكين الشعرية.
تُذكِّرنا جُمل تسيبكين بأسلوب جوزيه ساراماجو؛ حيث تتصارع الجمل مع بعضها البعض، فتُفجِّر وصف الحوار، ويُغلِّف الحوار الوصف العميق للأفعال، التي ترفض بإصرار أن تكون موجودة في الماضي فقط أو في الحاضر فقط. لانهائيةُ الجُمل عنده، وقوتها الجامحة لا تُقارَن في تأثيرها إلا بأسلوب توماس برنهارد. لم يقرأ تسيبكين بطبيعة الحال لا ساراماجو ولا برنهارد. وإنما ساعده «أدب النشوة الروحية لكُتاب القرن العشرين» في خلق أسلوبه.
على العموم فقد اطَّلع تسيبكين قليلًا على كُتاب الغرب، ناهيك عن أنه قرأهم مُترجَمين فقط، وقد تسنَّى لتسيبكين أن يقرأ من بينهم كافكا، وكانت أعماله قد صدرت في الاتحاد السوفيتي في منتصف الستينيات، وهو أكثر الكُتاب الذين تركوا لديه انطباعًا قويًّا. إن الجمل المدهشة التي كتب بها روايته «صيف في بادن» هي إبداع خاص وكامل لتسيبكين.
يحكي ميخائيل تسيبكين أن والده كان شديد الاهتمام بالتفاصيل، وكان شديد الدقة في عمله لا يسمح بوقوع أي خطأ. وفي مَعرِض تفسيرها لاختيار تسيبكين أن يصبح أخصائيًّا في علم الأمراض، رافضًا رفضًا قاطعًا أن يصبح طبيبًا معالجًا؛ تقول يلينا تسيبكينا (زوجة ابنه) إنه «كان مهتمًّا دومًا بالموت.» أغلب الظن أن هذا الرجل الذي عانى من الوسواس القهري، والذي تملَّكته أفكار الموت استطاع أن يبتكر جملة تتمتع بالحرية بطريقة فريدة للغاية. إن جُمل تسيبكين تُعَد تجسيدًا مثاليًّا للتوتر العاطفي، وتُقدِّم طيفًا شاملًا لموضوعاته. وإذا كانت هذه الرواية القصيرة نسبيًّا قد كُتبت بجُمل طويلة، فإن هذا يعني أن كل شيء فيها تم حسابه بدقة، وأن كل عبارة فيها ترتبط بغيرها برِباط وثيق، كما أن كل شيء هنا يتحرك بخفة في خِضَم الحماس الواضح للكاتب وإصراره.
وإلى جانب القص عن دستويفسكي العظيم، فإن رواية تسيبكين هي رحلة رائعة عبر الواقع الروسي؛ يتمثل أمامنا الماضي السوفيتي — منذ زمن الرعب الأكبر في الثلاثينيات، وحتى رحلة الحج التي قام بها الكاتب في نهاية السبعينيات، بحذافيره في نظام الأشياء — في هذا البناء العجيب.
بعد أن تنتهي من قراءة «صيف في بادن» يمكنك أن تتنفس الصُّعَداء، لتشعر بعدها بالذهول، لكنك ستشعر أيضًا بالقوة، والأهم، بالامتنان للأدب؛ لأنه ينطوي أيضًا على تلك المشاعر التي بإمكانها أن تبعثها فيك هذه الرواية. لم يكتب تسيبكين رواية طويلة، لكن رحلته في الحياة هي التي بَدَت لنا طويلة.
يوليو ٢٠٠١م