المعرفة والحياة
إذا كانت فلسفة نيتشه تعترف بنوع من المطلق، فهذا المطلق هو الحياة. وفكرة الحياة عند نيتشه، هي فكرة بلغت حدًّا بعيدًا من العمومية والاتساع، يكاد يعجز معه المرء عن فهم المقصود منها في كثيرٍ من الأحيان. ويبدو أن نيتشه ذاته لم يحرص على شرح معناها، أو لم تكن لها في ذهنه صورة محددة واضحة المعالم. وإذا كان أقرب المعاني إلى فهمها هو المعنى البيولوجي، فإن تفكير نيتشه كثيرًا ما يبتعد عن هذا المعنى، ويتخذ اتجاهًا صوفيًّا لا صلةَ له بالمعنى العلمي للحياة على الإطلاق. وعلى أية حال، فالفكرة لم يكن يقصد منها إلا أن تكون نواة تتبلور حولها كل خيوط الثورة العاتية التي واجه بها نيتشه عصره. فهو يلخِّص نقائص العصر — في مختلف المجالات — بكلمة واحدة، هي إنكار الحياة، ويلخص هدف حملته النقدية الهائلة بكلمة واحدة، هي الإقبال على الحياة. أمَّا المقصود بالحياة ذاتها فيُفهَم ضمنًا من خلال هذا النقد خيرًا مما يُفهَم من أي تعريف أو توضيح.
فالحياة عند نيتشه تتحكم في خلق كل القيم؛ فهي أصل القيم العقلية والأخلاقية؛ أعني أنها هي المبدأ الكامن وراء كل معرفة وكل سلوك. ولن نعرض في هذا القسم إلا لتعبير نيتشه عن الحياة من حيث هي أصل القيم العقلية. أمَّا القيم الأخلاقية فموضع بحثها هو القسم التالي.
فكرة الحقيقة
من الأفكار التي لم يحاول فيلسوفٌ قبل نيتشه أن يناقشها، أو يتساءل عن قيمتها، وعن فائدة تمسُّك الناس بها، فكرة الحقيقة؛ ذلك لأن الحقيقة كانت تُعَدُّ دائمًا بمنأًى عن كل شك، وعن كل سؤال؛ إنها الهدف الأعلى الذي تتجه إلى تحقيقه المعرفة الإنسانية، وقد نُخطئ نحن في اتخاذ الوسائل التي تقربنا إلى ذلك الهدف، ولكن الهدف ذاته يظل منزَّهًا رفيعًا. وهكذا ارتفعت الحقيقة فوق عالم التغير والصيرورة الذي نعيش فيه، واستقلت عن شروط الحياة المتحكمة فينا، واصطبغت بصبغة أزلية، فكونت عالمًا قائمًا بذاته، هو عالم المطلق. وفي هذا العالم تستقر كل الأزليات الأخرى التي عرفها العقل البشري، من مُثُل أفلاطونية وأشياء في ذاتها، ومبادئ مطلقة، وعلل أولى.
ولكن نيتشه لا يقبل أن يترك فكرةً توصف بالأزلية دون أن يتساءل عن علة هذا الوصف، ومدى صحته. وهو لا يكتفي بهذا التساؤل بالنسبة إلى الأزليات الأخرى التي تستقر في عالم الحقيقة، بل يمتد في بحثه إلى المقر الأوَّل لها جميعًا؛ ذلك المقر الذي لم يحاول أحدٌ من قبلُ أن يقترب منه، ولهذا لم يفلح أحد في نقد ما هو مستمد منه نقدًا حاسمًا. أمَّا نيتشه، الذي لا يقف تساؤله عند حد، فإنه يبدأ بأن يهاجم الأصل، مهما كانت قداسته، فتكون مهاجمة الفروع بعد ذلك أمرًا هيِّنًا.
أمَّا عن المعنى الأوَّل، الذي يرى فيه نيتشه أن تُعدَّ نواتج الحياة أخطاء باطلة، فهو في رأينا معنًى غير موفق؛ إذ إن نواتج الحياة ليست بالفعل حقائق، ولكنها في نفس الوقت ليست أخطاء باطلة؛ فالحياة — في رأي نيتشه ذاته — قوة تسير في طريقها تلقائيًّا، دون أن يُفرض عليها أي هدف أو غاية خارجية عنها. على أن القول إنها مضادة للعقل وللحقيقة هو قول لا يقل غائية عن القول بأنها قوة عاقلة تستهدف الحقيقة. وعلى ذلك، فالفهم الصحيح للحياة ونواتجها — أعني الفهم الصحيح من وجهة نظر نيتشه ذاتها — هو أن تعد الحياة «بمعزل» عن الحقيقة والبطلان معًا. وليس هناك أي مبرر لوصف نواتج الحياة بالبطلان، ما دامت الحياة تسير في طريقها التلقائي غير عامدة أن تتفق مع العقل أو تختلف عنه، وما دامت القوى الحيوية بطبيعتها تنتمي إلى مجال آخر غير المجال الذي ينتمي إليه العقل. وعلى ذلك، فالقول إن البطلان أصل الحقيقة هو — بهذا المعنى — تعبير غير موفق، والأصح أن يُقال إن للحقيقة أصلًا مستقلًّا عن مجال الحقيقة تمامًا؛ أي بمعزل عن الحقيقة والبطلان.
وأمَّا عن المعنى الثاني، القائل إن الخطأ يفيد الحياة، وإن الحقيقة يمكن أن ترتد إلى البطلان، ما دامت تهدف بدورها إلى نفع الحياة، فيتعرض بدوره لانتقادات عديدة. فأول ما نلاحظه عليه أنه لا يمكن أن يعبِّر عن نظرية شاملة في معنى الحقيقة، وإنما عن نقد لنوع معيَّن من الحقائق؛ ذلك لأننا إذا حاولنا أن نرد الحقيقة إلى البطلان الذي ينفع الحياة، لكان علينا أوَّلًا أن نتساءل: كيف عرفنا أن هذا بطلان، وبأي مقياس أمكننا أن نقيسه؟ لا بُدَّ أن لدينا مقياسًا مُطلَقًا يفرق بين الحقيقة القاطعة والبطلان القاطع، وهو الذي مكننا من أن نعرِّف الحقيقة النافعة للحياة بأنها بطلان، وفي هذه الحالة لن تكون نظرية نيتشه — كما قلنا — نظرية شاملة عن الحقيقة؛ إذ إنها تتعلق بنوع واحد من الحقائق، هو الحقائق النافعة للحياة، وتعترض ضمنًا بوجود نوع آخر من الحقائق الخالصة التي لا تخضع للحياة ولا تزيف بواسطتها؛ أعني ذلك النوع الذي اتخذناه معيارًا للحقائق النافعة للحياة، فوجدنا هذه الأخيرة باطلة بالقياس إليه. ومن هنا، نستطيع أن نقول إنه على الرغم من تلك الحملة القوية التي شنها نيتشه على المثاليين، فقد كانت في فلسفته هو الآخر عناصر مثالية، بل إن تفكيره في مشكلة المعرفة والحقيقة يمثل التفكير المثالي أصدق تمثيل؛ ففيه اعتراف ضمني بحقيقة مطلقة تعد الحقائق المرتبطة بالحياة بطلانًا بالنسبة إليها، بل فيه وضع لمبدأ مطلق شامل يتحكم في التجربة الإنسانية دون أن تستطيع هذه أن تستوعبه أو تعرف كنهه؛ هو الحياة، التي تغدو عندئذٍ فكرة قريبة الشبه من سائر مظاهر المطلق عند المثاليين.
وفي هذا الربط بين الحقيقة والحياة عند نيتشه لمحات تقرب من مذهب «البرجماتية» وتستحق منا أن نشير إليها إشارة خاصة. ففلسفة البرجماتية تقضي بدورها على فكرة الحقيقة الخالصة، وتحاول أن تربط الحقيقة بأصول عينية لا تجريدية، وأن تجعل للاعتبارات العملية — لا النظرية الخالصة — أثرها في إقرار الحقائق. فمجرد الربط بين الحقيقة والحياة عند نيتشه، يقربه كثيرًا من هذا المذهب؛ إذ تغدو الحقيقة عنده نتيجة تستخلص بعد مجهود حيوي متواصل. وليست مجرد نقطة بداية ثابتة لا يتطرق إليها الشك. وذلك في الحق موضع القوة في نظرية نيتشه والبرجماتيين معًا، فمحاولة القضاء على ذلك الطابع التجريدي الذي اصطبغت به الحقيقة في الفلسفات التقليدية، ومحاولة ربطها بالتجربة الإنسانية العينية في سيرها الدائم، يمثل تقدُّمًا لا يُنكَر في فهم هذه المشكلة، وربما كانت فلسفة البرجماتية أكثر اتساقًا مع نفسها من نيتشه في هذا الصدد؛ إذ إنها لم تحاول أن تطلق على الحقائق النافعة للحياة اسم البطلان، وإنما أكدت أن المصدر الوحيد للحقيقة هو صلاحيتها للعمل، وأن كل محاولة لوضع تقويم مطلق لهذه الحقائق، من وراء معيار الصلاحية للعمل هذا، هي حتمًا محاولة مصيرها الإخفاق؛ غير أن مذهب البرجماتية يتعرض مع نظرية نيتشه لنقد أساسي، هو اتخاذها موقفًا مثاليًّا؛ ذلك لأن المبالغة في تقدير فاعلية الإنسان في خلقه للحقيقة تستتبع المثالية حتمًا. ونحن لا ننكر أن ربط الحقيقة بالتجربة الإنسانية الفعلية في هذا العالم، وتأكيد مساهمة الإرادة الإنسانية فيما يصل إليه الإنسان هو — كما قلنا في السطور القليلة السابقة — تقدُّم لا شك فيه. ولكن نيتشه — مثله في ذلك مثل فلاسفة البرجماتية من بعده — يبالغ في تقدير أهمية الفاعلية الإنسانية، حتى تغدو تلك الفاعلية «خالقة» للحقيقة. وهنا يتبدى العنصر المثالي في تفكيره بوضوح؛ ذلك لأن الحقيقة تعتمد على الإنسان في «كشفها» أكثر مما تعتمد عليه في خلقها من جديد. وفي الوصول إلى أية حقيقة يتضافر العنصر الإنساني مع العنصر الواقعي، وما كانت المثالية في أساسها إلا محاولة للقضاء على هذا العنصر الأخير، وعلى ذلك، فمن أخطر النتائج التي تتعرض لها الفلسفات التي تبالغ في تقدير أهمية الفاعلية الإنسانية، أنها تنتهي إلى نوع من الذاتية في فهمها للحقيقة، وقد لا تكون هذه ذاتية فردية، بل ذاتية متعلقة بالنوع الإنساني عامة، ولكنها على أية حال تُنكر تضافر عنصر الواقع مع عنصر الذهن في كشف الحقيقة. والحقُّ أن للواقع صلابة لا ينبغي أن تغفلها أية نظرية سليمة في طبيعة الحقيقة. وليس معنى هذه الصلابة أن الواقع لا يخضع للفاعلية الإنسانية أصلًا، فهو في بعض الأحيان يتشكل تبعًا لخطة الذهن الإنساني، ولكن حتى في الأحوال التي يشكل الذهن فيها الواقع، فإن معنى التشكيل ذاته لا يكون هو الخلق من جديد، بل بقاء العنصر الخارجي مع تغيير في شكله. أمَّا في الأحوال الأخرى، فإن الفاعلية الإنسانية تستطيع أن تُثبت وجودها حين تتعمق في هذا الواقع وتصل إلى طبيعته الخفية، وتصوغ إيقاعه في قوانين تُمكِّن الذهن الإنساني من التحكم فيه.
ففي كل هذه الأحوال إذن لا نستطيع أن نُغفل دور العنصر الواقعي في تكوين الحقيقة، وهو الدور الذي لا يتعارض على الإطلاق مع تأكيد أهمية الفاعلية الإنسانية. أمَّا فلسفة نيتشه والبرجماتية، فتكاد تصل في بعض الأحيان — مبالغةً منها في تأكيد فاعلية الإنسان — إلى جعل الحقيقة عملية تتم من جانب واحد، ولا يتضافر فيها عنصرَا الذهن والواقع، وإنما تخلقها الإرادة الإنسانية دون أن تواجه مقاومة من أي عنصر خارجي، فتكون النتيجة الضرورية لهذا الرأي هي ظهور النزعة الذاتية، وبالتالي المثالية. وهكذا ترتد الحقيقة مرة أخرى — إذا بولغ في تقدير العنصر الإنساني فيها — إلى أصلٍ يقرب من ذلك الذي أرادت تلك النظرية محاربته في أول الأمر؛ إذ تصبح ذاتية، ذهنية، مثالية.
اللامعقول في المعرفة
فإذا كانت الحقيقة خاضعة للنفع الحيوي، فلا بُدَّ أن كل ما نستهدف به بلوغ الحقيقة؛ أعني كل وسائلنا في المعرفة، سوف تخضع للحياة بدورها. وهكذا نصل إلى نظرية لا عقلية في المعرفة، وفي طبيعة مبادئ الفكر الإنساني، وهي النظرية التي لازمت فلسفة نيتشه في كل مراحل تفكيره، حتى في أشدها إعجابًا بالمنهج العلمي.
وكما يسري هذا الأصل اللاعقلي على المعرفة والعقل بوجه عام، فهو يسري على كل مبادئهما. فهذه المبادئ قد اصطبغت في الفلسفات التقليدية بصبغة أزلية ثابتة، ولم يجرؤ أحد على الاقتراب منها أو الشك فيها، ولا غرو فهي كلها مظاهر لتلك «الحقيقة» المطلقة التي كانت تقدمها تلك الفلسفات وتنأى بها عما في عالمنا الأرضي من تغير. ولكن نيتشه يتبع هذه المبادئ واحدًا بعد الآخر، ليرفع عنها قناع الأزلية الموهوم، ويردها هي الأخرى إلى أصلها الأوَّل؛ أعني إلى الصيرورة الحيوية.
والمبدأ العقلي الأساسي هو مبدأ الهوية، الذي يؤكد بقاء الشيء على حاله، ومطابقته لذاته دوامًا. والحقُّ أن هذا التفسير لمبدأ الهوية هو تفسير نيتشه. وليس تفسيرنا الخاص؛ وهو في رأينا تفسير غير دقيق؛ إذ يُضاف إليه عنصرٌ زماني لا صلة له بالمبدأ في صيغته المنطقية الخالصة، فيُقال إن الشيء «يظل» على ما هو عليه؛ أي يطابق ذاته «دائمًا»، بينما الأصل في الهوية أنها مجرد ترديد للشيء الواحد دون إقحام أي عنصر زماني … فمما لا شك فيه أن إضافة العنصر الزماني يقضي على الهوية، ويمهد السبيل للتغير، ولكن ربما كان لنيتشه العذر في فهم المبدأ على هذا النحو؛ إذ إن الفهم المنطقي الخالص للهوية لم يصبح هو السائد إلا في عصر متأخر عن عصر نيتشه، حين أدى البحث الرمزي للمنطق إلى استبعاد كل ما له ارتباطات عينية من مجال الكيانات المنطقية؛ ومن ضمن هذه الارتباطات العينية عنصر الزمان.
ويقول نيتشه باستحالة الهوية مفهومة بهذا المعنى؛ إذ إن الهوية ليست إلا إضفاء لصفة التشابه على ما هو غير متشابه. ومن المحال أن نستطيع إيقاف تيار التحول والصيرورة لحظة واحدة، نهتدي فيها إلى حالة من حالات الهوية. فمبدأ الهوية إذن لا يرتكز على أي أساس في طبيعة الأشياء، وإنما هو وسيلة يصطنعها العقل حتى يستطيع أن يهتدي إلى نقط واضحة خلال تيار الصيرورة الذي لا ينقطع. فإذا كان أول مبادئ العقل وأبسطها تزييفًا، فبديهي أن كل المبادئ المبنية عليها تزييف بدورها.
على أن نقد العقل ومبادئه الأساسية يؤدي مباشرةً إلى نقد الميتافيزيقا وكل ما يرتبط بها من أفكار وتصورات؛ ذلك لأن العالم الميتافيزيقي — في الفلسفة التقليدية — قد بُنيَ على الإيمان بوجود حقائق عقلية خالصة، تتخذ دعائم للوصول إلى ذلك العالم. فإذا نُقدت هذه الدعائم، انهار ذلك العالم من أساسه.
وحين ينتقل نيتشه إلى النقد التفصيلي للأفكار الميتافيزيقية الرئيسية، نلمس بينه وبين الموقف الوضعي والتجريبي بوجه عام مزيدًا من التشابه، وهو تشابه بلغ من الوضوح، وخاصةً في الجانب النقدي من تفكير نيتشه، حدًّا يؤدي بنا إلى أن نَعجب لعدم اهتمام الباحثين بإجراء مثل هذه المقارنة، على الرغم مما تؤدي إليه من نتائج إيجابية مثمرة.
أولى هذه الأفكار فكرة الجوهر؛ فحولها تركزت الميتافيزيقا التقليدية، وعن طريقها أضفت على الكون صفة الثبات وأنكرت عليه التحول والصيرورة. والحقُّ أن الصراع القديم بين الصورتين اللتين رسمهما هرقليطس وبارمنيدس للكون، قد انتهى بانتصار الصورة الثانية، فأصبح الكون كله يُعَد موجودًا ثابتًا، وإذا اعترف فيه بالكثرة، فتلك هي كثرة من الجواهر الثابتة أيضًا. أمَّا صورة هرقليطس فقد اندثرت، ولم يحاول أحد من الفلاسفة أن يبعثها ويدعو إلى قبولها بنفس الحماسة التي دعا بها إليها مبدعها.
والحقُّ أن هذا التجاهل لفلسفة هرقليطس ينم عن شعور بالخوف من التحول والصيرورة؛ ذلك لأن تصور الكون منقسمًا إلى «جواهر» و«أشياء» يُضفي عليه ثباتًا يريح العقل والحواس، ويجعل إدراكه والتعامل معه أمرًا هيِّنًا. أمَّا لو تصورنا أن التغير الدائم هو الذي يسود، فعندئذٍ يفر كل شيء من أمامنا، وينجرف في تيار الصيرورة، فلا تستطيع أن تثبِّت منه جزءًا لتتعامل معه أو تسيطر عليه. وعلى ذلك، ففكرة الشيء، التي فيها ينظر إلى مكونات العالم من خلال مقولة الجوهر، هي بدورها فكرة ترجع إلى نفس الأصل الذي يتحكم في طريقتنا في المعرفة؛ أعني إلى النفع الحيوي؛ فبدونها لم يكن في وسع الحياة أن تستمر وتواصل طريقها.
ولا يقتصر التشابه الذي نشير إليه هاهنا على فكرة الذات المفكرة فحسب، بل إنه يمتد إلى نقد فكرة العِلِّيَّة؛ فالقول بالعلة والمعلول ليس إلا محاولة منا لتنظيم العالم على نحو يجعله معقولًا ومقبولًا، وما هو إلا بعث لإيقاع منظم وسط عالمٍ خلا من كل نظام وغائية. والقول بالعِلِّيَّة هو تنسيق لتلك الحوادث المتعاقبة التي تجري في نهر التحول الدائم، وهو بعث للمعقولية فيها، والهدف الغائي في هذه الحالة هو بدوره نفع الحياة، ومحاولة السيطرة على الأشياء، أو على الأقل وضع العالم في صورة قريبة من أفهامنا، ملائمة لنا، وفي نقد يشبه كثيرًا ذلك النقد الذي بدأ به هيوم، والذي ورثته عن الوضعية المنطقية، يؤكد نيتشه أن مجرى الحوادث المتعاقبة لا يسمح لنا على الإطلاق بأن نقف عند البعض لنسميه عللًا، وعند البعض الآخر لنسميه معلولات، ومجرد توالي الحادثتين ليس دليلًا على أن في إحداهما القوة التي تولِّد الأخرى، وهي القوة التي تنطوي عليها فكرة العِلِّيَّة.
نقد
هكذا يتبين لنا أن الروح التي أملت على نيتشه نقده للميتافيزيقا هي روح واقعية، بل نستطيع أن نسميها روحًا علمية، ما دامت كل الفلسفات العلمية الحديثة — على اختلاف اتجاهاتها — تتفق معه فيها. على أن هذه الروح الواقعية أو العلمية قد اتخذت للوصول إلى هدفها وسائل تُناقض الغاية التي استهدفتها في أول الأمر.
ذلك لأن نقد المعرفة الإنسانية على النحو الذي قام به نيتشه، ينطوي على عناصر عديدة يمكن أن يُقال عنها إنها غير واقعية على الإطلاق؛ فهو حين يؤكد أن العقل يزيف الواقع عن طريق إضفائه صفة الثبات عليه، وأن الحواس بدورها تساهم في هذا التزييف؛ إذ تحيل تيار التغير الدائم إلى «أشياء» جامدة منفصلة، حين يؤكد ذلك، فهو يفترض بلا شك تجربة غير إنسانية تمكِّنه من أن يُصدر على الأمور مثل هذا الحكم، وافتراض تجربة غير إنسانية هو — بلا شك — أمر مناقض للروح الواقعية.
ولنتأمل جَيِّدًا مغزى هذا النقد، لا لأن نيتشه هو الذي يوجهه فحسب، بل لأنه يمثل نغمةً تتردد لدى فلاسفة كثيرين ومذاهب عديدة، وحسبنا أن نُشير إلى الضجة الكبرى التي أثارها برجسون حين ردد هذه النغمة ذاتها. هؤلاء الفلاسفة ينعون على العقل البشري تجميده وتثبيته للواقع، وعلى الحواس البشرية خشونتها، ويجد هذا الاتجاه قبولًا لدى الكثيرين؛ إذ يصور الواقع في صورة دائمة التحول، فيرضى بذلك أصحاب الأمزجة الشعرية في التفكير، ويلائم أنصار النزعة اللاعقلية بوجه عام. ولكن لنقف قليلًا عند هذا النقد لوسائل المعرفة البشرية، ولنناقش القائلين به، وعلى رأسهم نيتشه وبرجسون، مناقشة هادئة، لنتبين دلالته الحقيقية، التي تكمن من وراء مظهره الخادع.
إن القول بأن أدوات المعرفة البشرية لا تنقل إلينا الواقع على ما هو عليه، هو بلا شك قول باطل، وكل محاولة فلسفية لرسم صورة للواقع بخلاف تلك الصورة التي تمثله به وسائلنا في المعرفة، هي محاولة لا ينبغي أن يعوَّل عليها؛ ذلك لأننا لا نملك وسائل للمعرفة غير هذه، ولا نعرف طبيعة الواقع إلا عن طريقها؛ فمن أين عرف هؤلاء الناقدون طبيعة الواقع «على ما هو عليه»؟ وما هي الوسائل التي توصَّلوا بها إليه؟ إن نقدهم ليتخذ صورًا مختلفة؛ فهو ينصب أحيانًا على العقل الذي يبعث من عنده ثباتًا وجمودًا لا تعرفه طبيعة الواقع، كما هو الحال عند برجسون، أو على اللغة والمبادئ العقلية التي تصوِّر طبيعة الواقع المتغير تصويرًا زائفًا، كما هو الحال عند نيتشه، أو على الذهن ومقولاته التي تضفي على معرفتنا صبغة «ظاهرية»، وتُخفي عَنَّا حقيقة «الشيء في ذاته»، كما هو الحال عند كنت؛ أقول إن نقدهم يتخذ مثل هذه الصور المختلفة، ولكن الروح الكامنة من وراء الصور كلها واحدة، بل إن القائلين بها يجمعهم كلهم ميل واحد، لا أكون مغاليًا إذا أسميته ميلًا مثاليًّا.
وقد يبدو من الغريب حقًّا أن تجمع بين نيتشه وكنت، وتجعلهما منتمين إلى طائفة واحدة من الفلاسفة، وقد يبدو من الأغرب أن نقول بوجود ميل إلى المثالية لدى نيتشه، وهو الذي وجَّه إلى المثالية كل هذا النقد العنيف. ولكن علينا أن نلاحظ أن نيتشه على الرغم من حرصه على توجيه نقده إلى تفرقة كَنْت بين العالم الظاهري وعالم الشيء في ذاته، قد اعترف بهذه التفرقة ضمنًا، حين أكد أن للواقع صورة تخالف الصورة التي ترسمها له وسائل المعرفة الإنسانية. فعند نيتشه — بلا جدال — عالم ظواهر، هو ذلك العالم الذي يتكشف لنا من خلال الحواس، والذي يُخضعه العقل لمبادئه وتعبِّر عنه اللغة بطريقتها الخاصة، وعالم حقيقي، أي عالم الشيء في ذاته، وهو ذلك العالم المتغير المتحول الذي هو في صيرورة دائمة، تخالف كل ما تصوره لنا وسائلنا في المعرفة. وهكذا يتأثر تفكير نيتشه بالثنائية الكنتية تأثرًا هو حقًّا ضمني غير صريح، ولكنه مع ذلك واضح لا يُنكَر. وإذن، فلا شك في أن عناصر مثالية قد تغلغلت في تفكيره، لأن الفلسفة المثالية كلها لم تتضح معالمها إلا منذ أن فرَّق كَنْت بين هذين العالمين، ومنذ أن أكد أن الصورة التي نضفيها على العالم إنما هي صورة خلقتها وسائلنا الخاصة في المعرفة، فهي من تكوين الذهن الإنساني فحسب، وتلك كلها نتائج يوافق عليها نيتشه، بل يعبِّر عنها صراحةً في كتاباته.
ولكَم كان الأمر يبدو هيِّنًا، لو أن هؤلاء الناقدين — ومن بينهم نيتشه — قد أوضحوا لنا الوسيلة التي عرفوا بها أن العالم في حقيقته عالم تغيُّر دائم وصيرورة لا تنقطع. قد يردُّ مدافع عنهم بقوله إن تلك هي الصورة التي يرسمها لنا العلم، وعندئذٍ نجيب نحن قائلين إن العلم يُضفي على العالم من القوانين ومن الصيغ الرياضية أو الذهنية ما يفوق كثيرًا تلك المقولات التي يُقال إن الذهن هو الذي يضفيها عليه، وأنه يبعث في العالم، عن طريق تلك القوانين والصيغ، نظامًا أدق من ذلك الذي تبعثه فيه اللغة وألفاظها؛ فالصورة التي يرسمها العلم إذن هي بدورها — لو تمشينا مع منطقهم — صورة يخلقها الذهن الإنساني. وليست هي صورته الحقيقية. وفضلًا عن ذلك، فلو اختلفت صورة العالم كما يرسمها العلم عن صورته التي ترسمها الأدوات المعتادة للمعرفة الإنسانية في حالتها اليومية. فليس معنى ذلك أن تُنقد الأخيرة على حساب الأولى؛ لأن هذين مجالان مختلفان لا يتعدى أحدهما على الآخر، ولا سبيل إلى المقارنة بينهما. فقطرة الماء التي تبدو لي بحواسي المعتادة قطرة صافية، تبدو لي تحت المجهر مليئة بالكائنات الحية الدقيقة، ولكن هل يعني هذا أن الصورة الثانية هي الصحيحة والأولى باطلة؟ الواقع أننا هنا في مجالات مختلفة فحسب، وكل صورة تصح في سياقها الخاص، الذي هو في الحالة الأولى عالمنا بأحجامه المعتادة، وفي الحالة الثانية العالم الأصغر بأحجامه الدقيقة.
وإذن، فليس للعلم هو المصدر الذي أتوا منه بنقدهم هذا للمعرفة الإنسانية، فلم يبقَ إذن سوى التفكير العقلي في طبيعة هذا العالم ومدى كشف معرفتنا له. وهنا نرد عليهم قائلين إن مثل هذا النقد ينطوي — من الناحية العقلية الخالصة — على بطلان واضح؛ إذ هو يفترض أن الذهن الإنساني قد تجاوز مجاله الخاص؛ أعني أنه أصبح ذهنًا غير إنساني، يحكم على طريقة الإنسان في المعرفة «من الخارج»، ويوضح عيوبها ونقائصها كما لو كان يفكر على نحو مخالف لها، وفي هذا تناقض صارخ. فمثل هذا النقد المثالي — وأقول إنه مثالي لأنه يحاول أن يثبت أن صورة العالم لدينا هي من عمل الذهن الإنساني ووسائله في المعرفة. وليست هي صورته الحقيقية — مثل هذا النقد يفترض تجربة تعلو على الحدود الإنسانية، يمكن بها مقارنة الصورتين، الحقيقية، والظاهرية أو الإنسانية، وإدراك مدى الاختلاف بينهما. وتلك هي الوسيلة الوحيدة التي يمكن أن يتم هذا النقد عن طريقها. ولما كانت تلك الوسيلة خارجة عن قدرة الإنسان ومتجاوزة لنطاق تجربته، فالنتيجة الضرورية لذلك هي أن الموقف المثالي بأسره، ويدخل ضمن هذا الموقف نقد نيتشه وبرجسون للعقل، باطل من أساسه.
ولهذا النقد وجهٌ آخر لا ينبغي أن نتركه دون الإشارة إليه؛ ذلك لأن نيتشه يتحدث عن أصل المعرفة، وأصل الحقيقة، فيراهما في النفع الحيوي، ويردهما إلى عوامل خارجة تمامًا عن نطاق السعي الخالص إلى المعرفة والحقيقة. وفي وسعنا أن نوجه إلى هذا الرأي نفس النقد الذي وجهناه إلى الرأي السابق؛ فمن أين، وعن طريق أية تجربة، عُرف أن «أصل» المعرفة هو النفع الحيوي؟ إن هذا الأصل، باعترافه هو ذاته، تاريخي؛ أعني أن المعرفة البشرية كانت في الأزمان السحيقة، بل في عهود التطور الأولى، على النحو الذي يقول به، ثم صارت إلى ما هي عليه الآن. ومثل هذا الرأي لن يجد ما يدعمه إلا إذا استند إلى أساس علمي متين، وهو ما لم يحاول نيتشه أن يقوم به، ولم يكن الاتجاه الذي سار فيه تفكيره يمكِّنه من القيام به، فعلى أي أساس إذن يقدم نيتشه مثل هذا الفرض؟ إن فكرته تنطوي بلا شك على نفس الخطأ المنهجي؛ فهي تفترض القدرة على تجاوز التجربة الإنسانية في صورتها الحالية، لتعود إلى أصولها الأولى. فإذا كانت الصورة الحالية للمعرفة قد تغلغلت فينا منذ عهود بعيدة، كما يعترف هو ذاته، فلا سبيل لأية تجربة آدمية إلى الخروج عنها، أو الاهتداء إلى أصلها؛ ذلك لأن نيتشه، بوصفه كائنًا تسري عليه نفس الحدود التي يتحدد بها سائر البشر، لا بُدَّ أن يكون هو الآخر غارقًا في تلك الصورة الحالية للمعرفة البشرية، عاجزًا عن تجاوزها وعن كشف أصلها، ما دامت تفرض نفسها على الجميع، بحيث تبدو لهم صورة أصلية راسخة في نفوسهم.