مقدمة الطبعة الإنجليزية
بقلم روبرت ميجهال١
تُعتبر «القضية الغربية للدكتور جيكل ومستر هايد» التي كتبها روبرت لويس ستيفنسون (١٨٨٦م) من أشهر قصص الرعب على مَر الزمن، وهي تشترك مع رواية «فرانكنشتاين» التي كتبتها ماري شيلي (١٨١٨م)، و«دراكولا» التي كتبها برام ستوكر (١٨٩٧م) في أنها — أو على الأقل في أن إحدى صور فكرتها الرئيسية — تكمن في الوعي الجمعي للإنسان. وقد جُعلت موضوعًا لأفلامٍ كثيرة، وظهرت في ما لا يُحصى من الرسوم، والصور الكاريكاتورية، والقصص التي تحاكيها محاكاةً ساخرة، كما دخل تعبير «شخصية من جيكل وهايد» إلى لغتنا، بحيث يصف الفرد الذي يعيش حياة مزدوَجة، ظاهرها الخير وباطنها الشر. فإذا اكتشفت الصحف الشعبية أن مَن عُرفَ أمرُه أخيرًا من السفَّاحين ذوي الضحايا المتوالية، أو من القتلة ذوي العقل المختل، أو حتى من صغار المحتالين؛ لا يقضي ساعات نهاره كلها في ممارسة هذه الفِعال، بل تمرُّ به أوقاتٌ لا يختلف فيها سلوكه عن سلوك جيرانه، فالأرجح أن تقول تلك الصحف: إن فلانًا يبدي ميول «جيكل وهايد»؛ باعتبار ذلك وصفًا موجزًا يفيدها في صوغ الأخبار المثيرة، بل ربما كان يمثِّل دعوةً لنا لتفحُّص جيراننا بدقَّةٍ أكبر. ومما يشهد لستيفنسون بقوة طاقته الابتكارية في الكتابة؛ أن إبداعه لا يزال يتمتع بهذا الوجود المستقل بعد نشر حكايته للمرة الأولى بما يزيد على مائة عام. ومع ذلك، وعلى رغم من إلمام الناس في شتَّى أرجاء العالم كله تقريبًا بالفكرة التي تقوم عليها هذه القصة؛ فالواقع يقول أيضًا: إنَّ مَن يعرف بها من الناس أكثر ممن يعرفها في ذاتها، وإن الكثير ممن يعتقدون أنهم يعرفون موضوعها لم يقرءوا فعلًا الصفحات المائة التي تضمُّ الحكاية. ولسوف يجدُون فيها ما يختلف عمَّا كانوا يتخيلون، أي سيجدون قصةً أشدَّ تعقيدًا، وأكثر إمتاعًا وإقلاقًا من الصورة المتناقَلة والموروثة بشكلها الثقافي الشائع. ومن الأفضل لقُرَّاء قصة «القضية الغريبة» أن يعودوا لهذه المقدمة بعد قراءتها؛ إذ لا بدَّ من الكشف عن بعض تفاصيل الحبكة هنا بغرض مناقشتها. وسوف يجدُ القرَّاء الجُدُد أن القراءة ستكون أشدَّ ثراءً إذا استطاعوا أن ينسوا جميع تصوراتهم السابقة، وأن يضعوا أنفسهم في موقع أوائل قرَّاء ستيفنسون الذين لم يكونوا يعرفون أيَّ شيء عن جيكل وهايد.
روايات الرعب في عيد الميلاد المجيد
وضمانًا للنجاح استغلَّ ستيفنسون خياله الخصب في إبداع «حكاية مخيفة جميلة»، قادرة على الرَّواج في السوق الكبيرة لمثل هذه الكتابات، وكان محرِّر أعمال ستيفنسون في دار لونجمان للنشر؛ قد طلب إليه أن يكتب قصة «مرعبة تُبَاع بشلن واحد»؛ لنشرها في عيد الميلاد عام ١٨٨٥م، وهو الموسم المرتبط بصورة تقليدية بقصص الخرافات والرعب. وكانت حكاية «أغنية الكريسماس» التي كتبها تشارلز ديكنز، وصوَّر فيها أشباح الموتى واكتسبت شهرةً فائقة؛ إحدى قِصصه الكثيرة التي كتبها في إطار التقاليد المذكورة، وكَتب ستيفنسون نفسه قصة «اختطاف الأجساد» و«أولالَّا» للنشر في الكريسماس عام ١٨٨٤م، و١٨٨٥م. وحينما اتضح للناشر أن سوق الكتب في الكريسماس عام ١٨٨٥م كانت حافلة بالمطبوعات الجديدة، قرر تأجيل نَشْر «القضية الغريبة» إلى شهر يناير التالي، وكانت هذه الحكاية قد حُدِّد لها من البداية أن تكون «حكاية الرعب» — أي حكاية مثيرة تعالج حادثةً خرافية، وتهدف إلى إحداث قشعريرةٍ ممتعة في قرَّائها — ومن المفيد لنا أن ننظر في تقاليد هذا الفن الأدبي، إذ سيساعدنا ذلك في أن نفهم كيف تتفق هذه الحكاية وتختلف أيضًا، بل وتُدخل بعض التجديد على ذلك الشكل الأدبي الذي كُتب لها أن تؤثِّر فيه تأثيرًا هائلًا.
بدأت قصص الرعب في الواقع بالرواية القوطية التي كتبها هوارس والبول بعنوان «قلعة أوترانتو» ونشَرَها عشيَّة الكريسماس عام ١٧٦٤م. وكان قد كتب هذه الحكاية التي تعجُّ بالأشباح، والنُّذُر، واللعنات القائمة على بعض الأُسَر، والأحداث الخرافية الغريبة، باعتبارها — إلى حد ما — فكاهة؛ إذ كان قد قدَّمها باعتبارها مخطوطًا من العصور الوسطى «اكتشفه» أحد علماء الآثار في القرن الثامن عشر، وأراد أن يُتحِف به — باعتباره يتضمن الغرائب والعجائب — القرَّاء «المتنورين» في العصر الحديث. وقد صدَّق الكثيرون خدعة والبول، واستمتع الكثيرون بهذه التجربة الجديدة ألا وهي قراءة مادةٍ متصلةٍ بالأساطير الفولكلورية وقصص الحب والمغامرات والفروسية على صفحات إحدى الروايات. وكانت الرواية شكلًا مَعنيًّا حتى ذلك الوقت بشئون الحياة المعاصرة واليومية، وبكل ما هو محتمَل الوقوع أو واقعي. وتَلَتْ هذه الرواية رواياتٌ أخرى، وببزوغ القرن التاسع عشر كان النقاد يشْكُون من أن الساحة الروائية قد أغرقها طوفان قصصِ الثأر الشيطانية واللعنات المصبوبة على بعض الأُسَر، ومن أن أحداثها تجري في حصونٍ قديمة أو في أدْيِرَة عريقة، في أعماق غابات مدلهِمَّة، وأن أبطالها من النبلاء الإيطاليين أو الإسبان المستكبرين أو من رجال الكنيسة الفاسدين. وكانت معظم القصص القوطية الأولى — حتى أفضل ما خطَّته أقلام آن رادكليف، أو ماثيو لويس، أو تشارلز ماتورين — تدور أحداثها في العصور السحيقة، أو في بُلدان بعيدة (تدين عادةً بالكاثوليكية) أو فيهما معًا. وكان المفهوم الذي يشترك فيه الكاتب والقارئ أن مثل هذه الفظائع بعيدةٌ كل البعد عمَّن كانوا يستمتعون بمثل هذه القصص (أي أفراد الطبقة المتوسطة من البروتستانت في لندن أو في إدنبرة أو في باث)، وأنها من المُحال أن تقع إلا في عصور أو أماكن (أقل تحضُّرًا).
الشهادة
تتَّسم تقاليد السرد في قصص الرعب بالتعقيد، ونادرًا ما كانت حكاية الرعب تقدَّم بصورة مباشرة «بسيطة»، من قصة «ميلموث الجوال» التي كتبها تشارلز روبرت (١٨٢٠م) وقصة «مذكرات خاطئ تائب واعترافاته» التي كتبها جيميز هوج (١٨٢٤م) إلى «دراكولا» (١٨٩٧م). وكثيرًا ما تزعم هذه الحكايات أنها قد جُمعت من عدد من المخطوطات المنفصلة والرسائل والشهادات المتفرِّقة التي تقدِّم في مجموعها وصفًا متماسكًا (إلى حد ما) للأحداث. وأصبحت هذه التقنية العلامة المميِّزة لمدرسة القصص التي تُسمَّى مدرسة «الإثارة» — وهي ضرب من القصِّ القوطي في الضواحي — والتي ظهرت في الستينيات من القرن التاسع عشر عندما قام بعض الكُتَّاب، مثل ويلكي كولينز، ببناء قصصٍ مثيرةٍ من الخطابات واليوميات وشهادات الأفراد واعترافاتهم. وتتَّفق حكاية ستيفنسون، إلى حد ما، مع هذا النسق؛ حيث نجدُ أنَّ فصلَين من أشد فصول القصة كشفًا عن الحقيقة (التاسع، والعاشر)؛ يمثِّلان وثيقتين منفصلتين كتَبَهما أبطال القصة، وأنَّ فصلًا ثالثًا (هو الفصل الرابع) يمثِّل في جانبٍ منه وصفًا صحفيًّا لجريمةٍ شنيعة. ومثل هذه التقنية تساعد على الإيحاء بتقديم الحقيقة ما دام يُفترض أن الوثائق المتباينة «أصدق» من الملاحظات المصطنَعة بصورةٍ سافرة، والتي يقدِّمها القاصُّ (الراوي) العليم بكل شيء، وإن لم يكن له وجود في دنيا القصة. وتساعد هذه التقنية على إثارة التشويق، ما دام المشاركون فيها من الأفراد لا يعرفون النتيجة الكاملة للأحداث؛ وبذلك يتأخر ورود التفسير الكامل حتى الصفحات الأخيرة، كما أنَّ مِنْ شأن هذه التقنية أيضًا رفع مستوى التأثير الشعوري للسرد، إذ إن الوصف الذي يقدِّمه الدكتور لانيون بنفسه للمشهد الذي صدمه، أي تحوُّل هايد إلى جيكل، وحديث جيكل عن خوفه الشديد من اغتصاب هايد لشخصيته؛ أشدُّ «حضورًا» وإثارةً ممَّا كان يمكن أن يكون لو رَوَى هذين الحدثين راوٍ غيرهما.
وممَّا يزيد من دعم الصدق المفترض للشهادات أنَّها تصدر عن شهودٍ موثوقٍ بهم أو تتعلق بما يهمُّهم؛ فهُمْ طبيبان ومحامٍ، وهُمْ يستخدمون خبرتهم المهنية في التحقيق في اللغز الذي يواجههم، وهذا يزيد من شدَّة الصدمة عندما تفشل تحقيقاتهم، لكنه أيضًا يحدِّد طبيعة مشاغلهم وتوقعاتهم. وستيفنسون يقدِّم حكايته باعتبارها «قضية» أو «حالة»، وهو ما يعني تطبيق الإجراءات الخاصة بالمعرفة والشهادة القانونية والطبية، لكنها قضيةٌ أو حالةٌ غريبة، وترجع غرابتها إلى هدْمِ التوقعات المرتبِطة بهذه الإجراءات وأشكال الكتابة عنها.
ويتبدَّى أكبر تأثيرٍ لانقلاب التوقعات فيما يرويه الدكتور لانيون، حيث يكشف لنا للمرة الأولى أنَّ الرجلين في الحقيقة رجلٌ واحد. فإذا كانت تحقيقات المحامي أترسون تقوم على توقعات وإجراءات التحرِّي القانوني؛ فإن قصة لانيون مبنية — بدرجةٍ أكبر من الوعي — على أساليب مهنة ذلك الطبيب. لقد استجاب لانيون لالتماس جيكل بمساعدته في أمرٍ عاجل، أي أن يأتي بمواده الكيميائية ويسمح لأحد الغرباء (هايد) بدخول منزله ليلًا. وعندما يصل هايد يستقبله لانيون في العيادة كأنما هو أحد مرضاه، بل يحاول أن يحوِّل هايد إلى «حالة مَرَضية»:
فالواقع أنه لمَّا كان جوهر هذا المخلوق نفسه يتَّسم بشذوذٍ وسوءِ تكوينٍ فطريٍّ يواجهني — ولنقُل إنه كان خصيصةً تُدهشك، وتأسرك، وتثير تقزُّزك … — فقد أُضيف إلى اهتمامي بطبيعة الرجل وشخصيته فضولٌ لمعرفة أصله وحياته وثروته ومكانته في دنيانا. [ومِنْ ثَمَّ فقد] جلستُ في مقعدي المعتاد محاوِلًا قدْرَ الطاقة محاكاة أسلوبي المعهود مع المرضى؛ أقصد بقدْرِ ما استطعتُ أنْ أقوم به في هذه الساعة المتأخرة، ونظرًا إلى طبيعة مشاغلي آنذاك، والرعب الذي يُلقيه زائري في قلبي.
الرعب من ذاتي الأخرى
عندما غطَّى آدم وحواء جسديهما بعد إحساسهما بالعار، لم يرتديا من فورهما حلَّة المراسم والإزار المنفوش، وبتعبير آخر نقول: إن حكاية ستيفنسون، على الرغم من إطارها «الأخلاقي» اللازمني، كانت بنت عصرها إلى حدٍّ كبير. وإذا كانت قصةً رمزيةً فإنها مبنيَّةٌ من الظروف التاريخية، والعلاقات الطَّبَقية. وإدوارد هايد تجسيدٌ لما يشير إليه جيكل بتعبير «العناصر السفلية» في كيانه؛ لكنه يوضِّح أيضًا أنَّ هذه العلاقة «التراتبية» قد تشكَّلت بسبب تطرُّف جيكل في الالتزام بقواعد الاحترام والرأي العام. وهو يشرح ذلك قائلًا: «إن أسوأ عيوبي كان طبْعَ المَرَح اللحوح، وهو الذي كان يجِدُ الكثيرُ فيه السعادة، لكنني وجدتُ أنه يتناقض مع رغبتي العارمة في أن أسير مرفوعَ الرأس، وأن أَظهر أمام الناس بوجهٍ يتميز بقدرٍ أكبر من الوقار المعتاد.» وينهار عند هذه النقطة التعارُض البسيط بين الخير والشر؛ إذ يواصل جيكل حديثه قائلًا: «وكم من إنسانٍ تباهى بأمثالِ ما كنتُ أرتكبه من المنكر؛ لكنني كنتُ ألتزم بالمثل العليا التي وضعتُها لنفسي، فكنتُ أَنظر فيما أرتكبه وأخفيه بإحساسٍ بالعار، يكاد يبلغ حدَّ المرض.» وهذا الإحساس المتضخِّم بالخطيئة هو الذي بنى شخصية هايد. إذ كلما كان «جيكل» يسعى لفعل الخير والظهور بمظهر رجل الخير؛ كان هايد يزيد شرًّا. أي أن هايد كان من خلق خياله موجودًا بالقوة لا بالفعل، حتى اكتشف جيكل عقَّارًا يستطيع تجسيد هذه الانقسامات. وهذه هي النقطة التي تبدأ فيها القصة الرمزية في ارتداء رداء الطبقة الاجتماعية والتاريخ:
قلت لنفسي: لو كان من الممكن أن يشغل كل عنصر منهما هويةً مستقِلة لتخلصَت الحياة من جميع أعبائها الرازِحة؛ إذ يتمكن المسيء أن يمضي في طريقه دون تنغيص الطموحات وآيات الندم الصادرة من تَوْءَمه المستقيم، ويتمكن المحسن أن يسير بثباتٍ واطمئنانٍ في طريقه القويم؛ فيفعل الخير الذي يجِدُ فيه سروره، دون أن يتعرض للعار وللتوبة بسبب ما ترتكبه أيدي ذلك الشرير الدخيل!
ويبدو أن جيكل كان يراقب سلوك فردين متميزين تصادَفَ أن تعايشا في وعيه. وكان العقَّار قادرًا على تحويل هذه الفكرة إلى واقعٍ ملموس. وعندما أطلق جيكل ذلك الشخص الآخر — هايد — من داخل ذاته؛ بدأ يحدِّد صفاته، ويكسوه ملابس معيَّنة، ويصنفه بين الأحياء، ويتحدث عن الشِّرعة الخلقية التي أوحى بها شاعرًا بالضيق من سلوكه، وإن كان يجِدُ فيه ما يجعله مزهوًّا جذلًا. إنَّ هايد هو التعبير الجسدي عن علاقته بالمبادئ العليا لجيكل؛ فهو أقصر قامةً وأقبح منظرًا من «توءمه الأشدِّ استقامةً»، أي جيكل، وهو الذي قيل لنا إنه متين البنيان، ذو وجهٍ وسيمٍ. وما إنْ خرجتْ من ذاته هذه التقسيمات وتجسَّدتْ؛ حتى استطاع جيكل أن يُطلق عِنان استقامته:
كانت الملاذ التي أسرعتُ بنِشْدانها بَعد تنكُّري «غير محترمة» كما قلت، ولا أحبُّ أن أستعمل تعبيرًا أقسى من هذا. وأمَّا على يدَي إدوارد هايد؛ فسرعان ما تحوَّلتْ إلى وقائع بَشِعة. وعندما كنتُ أعود من هذه الشطحات؛ كثيرًا ما كان يغمرني العجب من انحلالي الذي يقوم به قريني نيابةً عني! .. وكان هنري جيكل أحيانًا ما يُذهله ما يفعله إدوارد هايد، ولكن موقفه لم تكن له علاقة بالقوانين العاديَّة، وكان يُرخي قبضة ضميره بصورةٍ خبيثة.
قرود وملائكة
يتصور جيكل أن هايد يمثِّل «العنصر السفلي» في ذاته. وإذا كان التوصيف — بالدرجة الأولى — توصيفًا أخلاقيًّا أو حتى ميتافيزيقيًّا؛ فالتعبير يوحى إيحاءً قويًّا أيضًا بأنَّ هايد أدنى موقِعًا على سُلَّم التطور (كما كان يعتقد آنذاك) من توءمه الأشدِّ استقامةً وعلوَ هامَةٍ، أي هنري جيكل. وإشارة جيكل إلى ارتقائه في «الدرب الصاعد»؛ إشارةٌ أيضًا إلى موقعه المتصوَّر على ما كان يُعتبر «سُلَّم» التطور الثقافي والبيولوجي. والفرد الذي يتَّسم بانخفاض الهامَة أو عدم «استقامة» عُودِه؛ يوحي بطبيعة القرد، وهو ما يوحي هايد به دون شكٍّ. وكان أترسون يراه أقرب إلى الأقزام وسكان الكهوف، وتحدَّث شخصٌ آخر عن هجومه على «كيرو» بضراوة «قرد متوحش»، وجيكل نفسه يشير إلى حقد هايد الذي «يشبه حقد القرود»، وإلى طبيعته الحيوانية، ويذكُر كم يكسو الشعر جسد نقيضه. ويصل هذا الإيحاء إلى ذروته آخر الأمر، فيأتي برؤيةٍ مفزِعة لانحطاط الأخلاق البدائي الأزلي. و«كان أفظع ما في الأمر أنَّ طين الحفرة؛ كان يبدو قادرًا على الصياح وإصدار الأصوات. والتراب الذي لا شكل له؛ يستطيع الإشارة بيديه وارتكاب الخطايا. وما كان ميتًا لا صورة له؛ استطاع القيام بوظائف الحياة غصبًا!» ويتَّفق هذا التأكيد على أن الإجرام أو ارتكاب الخطايا حالةٌ بُدائيةٌ أو نازعٌ بدائيٌّ مع ما نجِدُه في عدد من الكتابات في تلك الفترة، وهي التي كانت تطبِّق نماذج التطوُّر؛ لتفهم الإجرام والخلل النفسي. وأما فكرة «الانتكاس» نفسها التي ساعدت على تفسير السلوك غير الأخلاقي بأساليب علمية؛ فقد أتاحت أيضًا بعض الإمكانات للتصوير القوطي الذي أصبح قادرًا على تصوير التَّرِكات البشعة التي خلَّفها الأسلاف على نطاقٍ بالغ الاتساع والعمق، بحيث تمتدُّ جذورها إلى أصول الحياة البشرية نفسها. وسوف يتسنَّى لنا إدراك ذلك إذا قارنَّا ما كتبه الطبيب النفسي هنري مودسلي عام ١٨٨٨م بعنوان «ملاحظات على الجريمة والمجرمين» بتصوير ستيفنسون لجيكل وهايد:
عالَم من العاديين الذين يرتكبون الخطايا سرًّا
ويزعم جيكل أنه «مُرَكَّب» مثل «جميع الناس الذين نقابلهم .. مُركَّبٌ من خير وشر»، لكنَّما «إدوارد هايد وحده، بين بني البشر، كان شرًّا خالصًا». ومع ذلك، فإنَّ هايد، على ما يبدو، يضمُّ بعض عناصر من جيكل في ذاته. كانت خطة جيكل الأولى أن يستخدم هايد ذريعة مُنجية، أي أنه كان عليه أن يقوم، مثل القاتل المحترف أو البلطجي، بالأفعال التي يخجل جيكل من القيام بها. فإذا حدثتْ محاولاتٌ للثأر أو القِصاص؛ فلن يمسَّ جيكل أدنى ضرٍّ:
فَلْأَهرب وحَسْب داخلًا من باب المختبر، وامنحني ثانيةً أو ثانيتين لخلطِ الشراب وتجرُّعه … ومهما يكن ما فعله إدوارد هايد فسوف يختفي كالبقعة التي تتركها الأنفاس على سطح المرآة، وسوف تجِدُ في مكانه رجلًا يجلس في هدوء في منزله، ويسهر الليل منكبًّا على دراساته، ويملك أن يسخر من أي ريبة فيه، أي هنري جيكل!
إذا كان جيكل قد «استأجر» هايد طلبًا لراحة باله وأمنه؛ فإنه قد أساء التقدير، لأنه إذا كان هايد شرًّا خالصًا، وكان جيكل يعتقد أنه يستطيع أن يسخر من الريبة؛ فإن هايد نفسه لم يكن يشاركه هذا الرأي. بل إنَّ أولى الكلمات التي نسمعها من فمه، حسبما رواها إنفيلد في قصته عن وَطْء هايد بأقدامه على الطفلة، تدلُّ على أنَّ هايد يتصرف بأسلوبٍ شديدِ الشبه بأسلوب جيكل. ويقول إنفليد:
وفي وسط تلك الحلقة، كان ذلك الرجل الذي يتَّسم ببرودٍ أسودَ ساخر، وإن كنتُ أدرك أنه كان خائفًا هو الآخر، ولكنه كان يخفي خوفه، ويبدو في الواقع — يا سيدي — مثل إبليس. وعندها قال: «إذا اخترتم استغلال ما حدث؛ فلن أستطيع بطبيعة الحال منعكم. وإن كان كل سيِّدٍ محترمٍ يفضِّل أن يتجنب الفضيحة.» ثم قال: «حدِّدوا قيمة الغرامة.»
ولا تكاد سخرية هايد «الشيطانية» تخفي اهتمامه الشديد بسمعته. تُرى هل كان إبليس يحاول حقًّا إقناع الشهود بأنَّ الحادثة التي داس فيها على الطفلة كانت «عارضة»؟ ولماذا يكترث بما يظنُّونه عنه إذا كان فعلًا شرًّا خالصًا؟ لا يبدو أنَّ هايد يؤدِّي وظيفةً مفيدةً هنا، ما دام قد كلَّف جيكل مائة جنيه، (وكان مبلغًا بالِغ الضخامة في ذلك الوقت) إلى جانب ضرورة صَرْف الشيك من البنك، وهو ما يورِّط اسم جيكل في هذه المسألة، وذلك عينه ما كان يرجو تحاشيه. وقال إنفليد لهايد: «إن كنتَ تتمتَّع بأي أصدقاء أو مصداقية .. فسوف تخسر هذا وذاك إن لم تدفع.» ولكن الواجب كان يقضي بالحفاظ على سمعة جيكل بعدم إنفاق أمواله. والواقع أن البلطجي الذي يستخدمه جيكل لم يساعد الطبيب على السخرية من الاشتباه فيه، بل جرَّه إلى التعرُّض للتحرِّيات التي أدَّت آخر الأمر إلى هلاكه، إذ إنَّ أترسون الذي استمع إلى هذه القصة، وكان منزعجًا من قبل بسبب الوصية، يقرِّر أن يكشف أسباب سيطرة هايد على جيكل.
أسرار في كل مكان
بعد مقتل كيرو، يقرِّر جيكل أن ينبذ هايد، ويحاول العودة مطمئنًا إلى حياة الاحترام من جديد. وبعد فترة تعود المُغرِيات ويصبح «خاطئًا عاديًّا يرتكب خطاياه سرًّا» مرةً أخرى من دون مساعدة هايد. ونجِدُ في هذه العبارة حقيقةً يتكرر الإلماح إليها في القصة، ألا وهي أن الوضع «الحالي» لمجتمعه وضعٌ يرتكب فيه الأفراد خطاياهم سرًّا، وإن كانوا أيضًا يحافظون على الأسرار أو يخفونها أو يحاولون اكتشافها وفضحها. فالقصة تزخر بأسرارٍ كثيرة لا يُكشف عنها أبدًا. خذْ إنفيلد مثلًا (وهو نجمٌ شهيرٌ من نجوم المدينة): إنه يعود إلى منزله «من مكان ما في آخر الدنيا في نحو الساعة الثالثة من صباح يومِ شتاءٍ حالِكٍ»، لكنه لا يذكُر، على وجه الدقة، أين كان وماذا كان يفعل. وهو يتَّبع مع أترسون سياسة مفادها أنه «كلما بدَتْ في الأمر ورطةٌ ماليةٌ؛ أقللتَ من طرح الأسئلة.» ويتنبأ إنفليد بما يحدث إذا خرق تلك القاعدة: «إنَّ إلقاء سؤالٍ يشبه دحرجةَ حجرٍ من الأحجار برِجلك وأنت جالس في هدوء على قمةِ تلٍّ، فإذا به قد جرف أحجارًا أخرى، وسرعان ما يسقط أحدها على رأس رجلٍ عجوزٍ لطيفٍ (وهو آخر ما جال بخاطرك) وهو يجلس مطمئِنًا في حديقة منزله الخلفية؛ الأمر الذي يرغم الأسرة على تغيير اسمها.» وقد يكون السير دانفرس كيرو، عضو البرلمان المسنَّ، هذا «الرجل العجوز اللطيف» الذي لاقى حتفه في الهزيع الثاني من الليل على شاطئ النهر بصورة تثير الشبهات. قالت الخادمة إنها:
بينما هي جالسة شاهدت رجلًا هرمًا وسيمًا أبيض الشعر يسير في حارةٍ مقترِبًا من المنزل، ورأت رجلًا آخر بالغ القِصَر يتقدم لملاقاته، وإن لم تلتفت إليه كثيرًا أول الأمر. وعندما تقاربا إلى الحدِّ الذي يسمح بالتحادث .. انحنى الرجل الهرم وخاطب الرجل الآخر بأسلوبٍ ينمُّ عن التأدُّب الشديد، ولم يبدُ لها أن موضوع الحديث كان بالغ الأهمية، بل كان يبدو لها أحيانًا من إشارات يديه؛ كأنما كان يستفسر عن الطريق وحَسْب، ولكن ضوء البدر كان يسطع على وجهه في أثناء حديثه .. إذ كان فيما يبدو يوحي بطيبة القلب الغامرة والبراءة، في العالم القديم، وإن كان يوحي أيضًا بالسمو النابع من الرضا عن النفس القائم على أساسٍ متين. [التأكيد من عندي].
البحث والإخفاء
ما أقرب ما كِدنا نحرَم من معرفة الحقائق الكاملة، من لانيون أو من جيكل، وكما يقول الأخير في الفقرة الختامية: «إذا كانت قصتي قد نجَتْ حتى الآن من التَّلف؛ فمَرَدُّ ذلك إلى مزيج من الحصافة الفائقة وحسن الطالع الكبير.» ولكن تُرى هل لدينا الحقائق الكاملة؟ ويقول لانيون: «وأمَّا ما ذكره لي [جيكل] في الساعة التالية فلا أستطيع إرغام نفسي على كتابته.» ولا نستطيع أن نعرف إن كان ذلك يتَّفق فعلًا مع اعتراف جيكل الأخير. بل إنَّ هذا نفسُه يشجِّع على الريبة. فما دام أترسون يحاول طول الوقت إخفاء المعلومات أو كتمانها — «هل نجازف ونعلن أن هذه حالة انتحار؟ كلا! لا بُدَّ من الحرص؛ إذ أخشى أننا قد نورِّط سيِّدك ونوقعه في كارثةٍ باقِعة!» — فلماذا ينشُر هاتين الوثيقتين؟ وهل نضمن أنهما مقدَّمتان إلينا دون تغيير أو تنقيح؟ يبدو أن ثمة تضاربًا في المصالح ما بين الشكل والمضمون؛ فالقصة تحاول الكشف الكامل، والمسئولان عن نشرهما يحاولان الإخفاء. ونجِدُ في صُلب النص حالات تكتم، ومراوغة، وكبت. وأما سبب فاعلية حكاية ستيفنسون باعتبارها من قصص الرعب؛ فهو أنها تطرح من الأسئلة أكثر ممَّا تورِده من الإجابات؛ ونتيجة لذلك نراها تحيا وتنمو في مُخيِّلات الذين يقرءونها ويعيدون قراءتها بعد مرور ما يزيد على مائة عامٍ على المرة الأولى التي ابتدع فيها جيكل مزْج عقَّاره الخاص.
مدينة موهومة
كانت الساعة آنذاك قد قاربت التاسعة صباحًا، فانتشر أول ضباب يهبط في هذا الفصل من العام. وانسدل ستارٌ عظيمٌ بنيُّ اللون على صفحة السماء، ولكن الريح كانت تواصل هبوبها فتَشتَّت تلك الأبخرة المحاصِرة، وهكذا كان مستر أترسون يشهد في أثناء زحْف العربة من شارعٍ إلى شارعٍ عددًا مدهِشًا من درجات الشَّفَق وألوانه .. وتطلَّعتْ عينا المحامي إلى حيِّ سوهو الكئيب من كل فُرْجة لاحت له في هذا الجوِّ، فبدا له بطُرُقاته الموحِلة، وقذارة سابِلتِه، ومصابيحه التي لم تُطفأ قَط، أو أعيدت إضاءتها لصدِّ تلك الغزوة الجديدة للظلام، وما تُشِيعه من الأشجان، كأنما كان من أحياء مدينةٍ يراها الحالم في كابوس، كما كانت الأفكار في ذهنه بالغة القتامة …
وعندما توقفت العربة أمام العنوان المطلوب؛ انقشع الضباب قليلًا، وكَشَف له عن شارعٍ قذِرٍ، وخمَّارةٍ، ومطعمٍ فرنسيٍّ حقيرٍ، وحانوتٍ يبيع المجلات والأطعمة الرخيصة، وكثيرٍ من الأطفال في أسمالٍ باليةٍ مكدَّسين في مداخل المساكن، وعددٍ كبيرٍ من النساء من جنسياتٍ مختلفة خارجاتٍ يحملْنَ مفاتيحهن لشُرب قدحٍ في الصباح، ولم يلبث أن عاد الضباب ليُغشي المنطقة بلونٍ بنيٍّ مثل أديم الأرض، فعَزَله عن ذلك المكان المنحطِّ. كان ذلك مسكن الرجل المقرَّب من قلب هنري جيكل؛ رجل كُتب له أن يرث ربع مليون جنيه إسترليني.
وتغرينا هذه الفقرة (وصورة مرور العربة) بمقارنتها بالافتتاحية الشهيرة للرواية التي كتَبَها تشارلز ديكنز، وتمثِّل قمة البراعة في معالجة الرعب القوطي في المدينة، ألا وهي المنزل الكئيب (١٨٥٣م)؛ حيث نرى لندن وقد غشيها الضباب تمامًا، وانتشر فيها الطين والوحل. لكنه إذا كان ديكنز يستخدم الضباب للتعليق على التضليل في الإجراءات السياسية والقانونية (باعتبار انعكاسًا لاضطراب الأحوال في بريطانيا آنذاك)؛ فإن ستيفنسون يستخدم جوًّا مماثلًا، ولنا أن نعتبره سيكولوجيًّا بصورةٍ تكاد تكون مباشِرة. وإذا كان ديكنز ينجح في أوصافه في رسْم صورةٍ للندن يمكننا أن نتعرَّف عليها ونحدِّد هُويتها وهي تسبح في هذا البحر من الضباب الذي خلَقَه؛ فإن منظر المدينة عند ستيفنسون يتَّضح فيه طابعها الوهمي. فهو حقًّا حيٌّ مستمَدٌّ من «كابوس»، لا يزيد انتماؤه إلى الواقع على الحلم الذي رآه أترسون من قبل، ورأى فيه متاهةً تضيئها المصابيح ويغشاها سفَّاحون مثل هايد. واستخدام لفظ «ستار» في وصف الضباب ينجح في الإيحاء بمعناه المسرحي، أي إغلاق الستارة على خشبة المسرح، وفي الإيحاء (بسبب معنى الكلمة الآخر؛ أي غطاء النعش) بدلالةٍ ميتافيزيقية، أي أنَّ السماء ورحماتها تنطمس عندما تهبط في مكانٍ جهنميٍّ. والهبوط في الهُوَّة يعني للمحامي أترسون؛ مواجهة مع قلب الظلام الذي نعرف فيما بعد أنه يكمن داخل جيكل نفسِه. والمكان يدعم في نظره الانفصال بين هايد الخبيث المنحطِّ وبين جيكل الناجح المحترم، ولكنه في الحقيقة يقدِّم لنا انعكاسًا رمزيًّا لعلاقة جيكل بهايد. كان حيُّ سوهو منطقةً معزولةً تتَّسم بالفقر والإجرام (وهو ما كان قد ارتبط في تلك الآونة ببقاع شرقي لندن) وسط البقاع الغريبة في لندن حيث الصحة والرخاء. وهكذا فهو يمثِّل موقعًا مناسبًا لمسكن هايد، لكنه أيضًا تعبيرٌ جغرافيٌّ عن وجود هايد داخل جيكل نفسه.
وهذا المدخل «الرمزي» لجغرافية لندن؛ هو الذي يميِّز هذا النَّص الذي لا يحدِّد إلا عددًا بالِغ القلة من الأماكن التي نستطيع التعرف عليها، ويدعم ذلك وصفُ منزل جيكل نفسه:
إذا انعطفتَ بعد المرور برُكن الشارع الجانبي؛ مررتَ بميدانٍ تحيط به منازلُ جميلةٌ قديمةٌ، أخْنَى عليها الدهر بعد العزِّ في معظمها. وأصبح يقيم فيه المستأجِرون شُقَقًا وغُرَفًا، وهم من شتَّى الألوان والأصناف من الناس: من رسَّامي الخرائط إلى المهندسين المعماريين، إلى المحامين المثيرين للرِّيبة، إلى سماسرة الصفقات المغمورة. ولكن أحد هذه المنازل، الثاني بعد طرف الشارع، لا يزال يسكنه أصحابه بأكمله … [وكان] يَشِي بالثراء العظيم، والعيش الرخيِّ.
وبعبارةٍ أخرى: هذا هو المعادِل المعماري لشخصية جيكل، وعلاقته بغيره من البَشَر. فالمنازل الأخرى «ممزَّقة» مشتَّتة، تعلن بصراحةٍ أنها تتكوَّن من أجزاءٍ كثيرة، ولها أحوالٌ متباينة. وأمَّا منزل جيكل فلا بدَّ أن «يكتسي» (مع التأكيد على فكرة «الظاهر» والتنكُّر) مظهرًا رائعًا من الكمال والاحترام معًا. ولكن منزل جيكل، كما نعرف، له بابه الخلفي الذي يخفيه صاحبه ويتكتَّم وجوده، كما يبدو أن هذا الباب غير متصل بمحل إقامته «الفاخر» الرسمي. والباب الخاص لهايد هو المعادِل المعماري لحالة جيكل؛ أي أنه لا يستطيع الحفاظ على «اكتمال» منزله في الميدان إلا لأنَّ لديه هايد — رجل الباب الخلفي عنده — القادر على أداء أعماله القذرة له. وهكذا يتحول المكان بحيث يخدم أغراضًا رمزية وسيكولوجية أكثر ممَّا يحقق من أغراضٍ جغرافيةٍ محضةٍ، وبحيث يخلق الديكور المسرحي القوطي داخل المدينة، اللازم لتصوير الرعب في أواخر العصر الفكتوري.
عودة مستر هايد
كما كانت حكاية ستيفنسون ذات تأثيرٍ بالغٍ في كُتَّاب القَصص الخيالي والخرافي. والرواية التي كتَبَها وايلد نفسه بعنوان: صورة دوريان جراي (١٨٩٠–١٨٩١م) شبيهةٌ بحكاية ستيفنسون من عدَّة وجوه؛ فأحداثها تقع أيضًا في لندن التي يكسوها الضباب، وتتضمن رحلات في الأحياء الفقيرة، وتعالج أيضًا أشكال المظاهر والسمعة، وتتناول فردًا يحيا حياةً مزدوَجة تجمع بين النقاء الظاهر والفساد الباطن. ومثلما يستخدم جيكل هايد القبيحَ المشوَّه قرينًا لجسده؛ يملك دوريان جراي صورةً سحريةً تحمل جميع عواقب حياة الخطيئة. ومثلما رفض ستيفنسون تحديد الجرائم الفظيعة التي ارتكبها جيكل أو هايد؛ حافظ وايلد على غموض خطايا دوريان أيضًا، وإن سَمَح له بأن يحاط بشائعاتٍ «شنيعة» لا يكشف عنها الكشف الكامل أبدًا. ويَصِف وايلد عالمًا مشابهًا من الأسرار، والشائعات والتخمينات:
وكما ذَكَر أحد الأشخاص لدوريان: «كل سيد محترم يهتم بسمعته.» (ص١٤٣)، وهي حال تطلَّبت التوسُّل بالأحابيل الخرافية التي تستخدمها شخصياتُ كلٍّ من: وايلد، وستيفنسون.