السيد محمد مرتضى – الحسيني الزبيدي
(١) السيد محمد نموذج المواطن المسلم في عصره
رسم له تلميذُه عبد الرحمن الجبرتي في مُفتَتح ترجمته له صورةً جامعة مانعة، فقال: هو «شيخنا علَم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام، الذي جاب في اللغة والحديث كلَّ فج، وخاض من العلم كل لُج … الرحَّالة النسَّابة، الفقيه المحدِّث، اللُّغَوي النحْوي الأصولي، الناظم الناثر، الشيخ أبو الفيض، السيد محمد بن محمد بن محمد بن عبد الرزَّاق، الشهير بمُرتَضى، الحُسَيني الزَّبيدي.»
والحقيقة أن السيد مرتضى خيرُ نموذج يمثِّل ثقافة العالم الإسلامي في عصره، تلك الثقافةُ التي كان قِوامها الدِّراسات اللغوية والدينية بجميع فروعها؛ فهو — كما نصَّ الجبرتي — لُغوي ونَحْوي، وناظم وناثر، وهو فقيه ومحدِّث، وأصولي ونسَّابة، وهو بعدَ هذا كلِّه رحَّالة، يَذْرع البلادَ الإسلامية طولًا وعرضًا في طلب العلم، وتلك كانت كذلك شيمة معظم العلماء المسلمين في عصره، وفي الأعصر السابقة.
ولكنه امتاز عن علماء عصره بمَيْزات كثيرة؛ فكان مُتوقِّد الذهن شديدَ الذكاء غزيرَ العلم متعددَ الثقافة، دَءوبًا على العمل وافرَ الإنتاج، وقد حاول أن يَخرج بدروسه ومؤلَّفاته عن منطقة الجمود الفكري التي سادَت العصر، وأن يجدِّد فيما يقول وفيما يكتب، ولكنه كان في تجديده سَلفيًّا، وما كان يَستطيع أن يكون غيرَ ذلك، فكان يحاول أن يُحْييَ طريقة السلف الصالح في دراسة الحديث، كما بدأ يختار لدروسه كتبًا من الأصول الهامة التي كُتِبَت في العصور السابقة المزدهرة. وكان السيد مرتضى إلى هذا مدرسًا ناجحًا كأحسَنِ ما يكون المدرس الناجح، يُجيد التعبير ويُحسِن العَرض والشرح والمناقشة، فكان — كما وصَفه تلميذُه الجبرتي بحقٍّ — «علَم الأعلام، والساحر اللاعب بالأفهام.»
والسيد مرتَضى يُعتَبَر مرة أخرى خيرَ نموذج للمواطن المسلم؛ فقد كان العالَمُ الإسلامي إلى عصره — وقبل أن يُفتِّته الاستعمار الأوروبي إلى دول متفرقة — يُعتبَر وطنًا واحدًا، وكان أيُّ مواطن — وخاصة إذا كان عالِمًا — يستطيع أن ينتقل من بلد إلى بلد دون حرج؛ فقد يُولَد العالم في إقليم، ويتلقَّى العلم في إقليم ثان، ويعيش في إقليم ثالث، ثم يموت في إقليم رابع، فهو يَلقى التَّرحاب في كل هذه الأقاليم؛ لأنها جميعًا تُكوِّن الوطن الإسلاميَّ الأكبر.
هكذا كان السيد محمد؛ فهو — كما يصفه الكتاني في فِهْرس الفهارس: «واسطيٌّ عراقي أصلًا، هندي مولدًا، زَبيدي علمًا وشهرة، مِصريٌّ إقامةً ووفاة، حنفي مذهبًا، قادري إرادة، نَقْشبَندي سلوكًا، أشعريٌّ عقيدة.»
فأسرة الزَّبيدي عراقية الأصل من مدينة واسط، ثم ارتحلَت إلى الهند، والرحلة المتبادَلة بين الهند الإسلامية والبلاد العربية — وخاصة العراق والجزيرة العربية — لم تكن شيئًا غريبًا في تلك العصور، ولا نعرف متى رحَلَت هذه الأسرة، ولكننا نعرف أنها استقرَّت في «بلجرام» وهي قصبة على خمسة فراسِخَ من قِنَّوج وراء نهر الجانج، وبها وُلِدَ صاحبُنا محمد في سنة ١١٤٥ﻫ/١٧٣٢م.
وكانت أسرتُه أسرةَ علم؛ فإن مِن جدوده مَنْ كان قُطبًا، ومنهم مَنْ كان وليًّا صالحًا، ومنهم مَنْ كان مُحدِّثًا كبيرًا، فقد قال الكتاني في التعريف به:
«… محمد بن أبي الغلام محمد، ابن القُطب أبي عبد الله محمد، ابن الوليِّ الصالح الخطيب أبي الضياء محمد، ابن عبد الرزَّاق الحسيني، من قبيل أبي عبد الله محمد المحدِّث الكبير …»
(١-١) دراسته الأولى في الهند وتتَلمُذه لشاه ولي الله
وفي الهند تلقَّى السيد محمد دروسه الأولى، فتتلمذَ على المحدِّث محمد فاخر الألهابادي، وعلى العالِم المصلِح المجدِّد شاه ولي الله دهلوي، فسمع عليه الحديثَ وأجازه.
كان لتَلْمذَة الزَّبيدي إذن في شبابه الأوَّل على هذا المصلِح الكبير أثرٌ جِدُّ خطيرٍ في تكوينه الفكري؛ فقد تأثر به وبطريقته وبمنهجه، وعُنِي كما عُنِي أستاذه بالحديث، وتعمَّق في دراسته ودراسة كلِّ العلوم المتصلة به؛ من أنسابٍ ولغة، وفقهٍ وأصول.
(١-٢) أساتذته في زَبيد وبلاد العرب
كانت زَبيدُ المدرسةَ الثانية التي أكمَل فيها السيد محمدٌ دراساتِه؛ فقد أخذ عن الكثيرين من علمائها، وخاصة أستاذه العالم اللغوي رضيِّ الدين عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي الزَّبيدي، ومنذ هذه المرحلة بدأ ينضمُّ إلى سلسلة العلماء المنتسِبين إلى زَبيد، فلم يُنْسَب إلى موطن أسرته العراق، ولم يُنْسَب إلى موطنه الثاني الذي وُلِدَ فيه؛ الهند، وإنما نُسِبَ إلى موطنه العِلمي الذي أتم فيه دراسته، وأصبح يُعْرَف بعد ذلك بالسيد محمد مرتَضى الزبيدي.
وكان السيد محمد أثناء مُقامه في زَبيد دائمَ التردد على الحجاز؛ بُغْيةَ القيام بفريضة الحج، وللأخذِ عن علماء مكة والمدينة، وقد كان الحجاز يَعِجُّ في ذلك الوقت بالعلماء الوافدين إليه من مختلِف أنحاء العالم الإسلامي، وكان الكثيرون منهم يؤْثِرون المجاورة والاستقرار هناك، وعدمَ العودةِ إلى أوطانهم.
وقد تتلمذ الزَّبيدي على مشاهير هؤلاء العلماء، حتى إن الكتَّاني يذكر أن شيوخه في هذين القُطرَين — اليمَن والحجاز — يَزيدون على ثلاثِمائة، وقال هو عن نفسه في ألفيَّته:
وقد أشار الجبرتي إلى بعضهم وهم: الشيخ عبد الله السِّندي، والشيخ عمر بن أحمد بن عقيل المكي، والشيخ عبد الله السقَّاف، والمسنِد محمد بن علاء الدين المزجاجي … إلخ.
وإذا كان الزَّبيدي قد تلقَّى العلم عن هذا العدد الكبير من العلماء فإنه لم يتأثر في تكوينه العلمي إلا بعددٍ قليل منهم، وإلى هذه القلة يَرجع الفضل في توجيهه إلى الدراسات التي فرَغ لها وشُغِف بها، وصرَف بقية حياته وخُلاصةَ جهوده لإتقانها والتأليف فيها.
من هؤلاء العلماء العالم اللُّغوي أبو عبد الله محمد بن الطيب الفاسي، ذكره الزَّبيدي في مقدمته لتاج العروس عند تَعْداد مَنْ سبقه من العلماء الذين شرَحوا القاموس، وقرَّظ شرحه وقال: إنه كان عُمدتَه ومَرجِعَه في هذا الفن، قال:
«ومِن أجمَعِ ما كُتِب عليه (أي القاموس) مما سمعتُ ورأيت: شرحُ شيخنا الإمام اللغوي أبي عبد الله محمد بن الطيب بن محمد الفاسي، المتولَّد بفاس سنة ١١١٠ﻫ، والمتوفَّى بالمدينة المنورة سنة ١١٧٠ﻫ، وهو عُمْدتي في هذا الفن، والمقلد جيدي العاطلِ بحُليِّ تقريره المستحسَن، وشرحه هذا عندي في مجلَّدَين ضخمَين …»
ومنهم العالم اللُّغوي المحدِّث رضيُّ الدين عبد الخالق بن أبي بكر المزجاجي الزَّبيدي، ذكره السيد مرتضى في مقدمة التاج عند تَعْداد الأسانيد التي تصل بينه وبين مؤلِّف القاموس، قال: «حدثنا شيخنا الإمام الفقيه اللغوي رضي الدين عبد الخالق بن أبي بكر الزَّين بن النمري المزجاجي الزَّبيدي الحنفي، وذلك بمدينة زَبيد — حرَسها الله تعالى — بحضور جَمْع الفقهاء بقراءتي عليه قدر الثلث، وسماعي له فيما قُرِئَ عليه في بعضٍ منه … إلخ» ثم ينقل الإسناد بعد ذلك من شيخ إلى شيخ إلى أن يصل إلى مؤلف القاموس.
ومنهم العالم الصوفي الكبير السيد عبد الله الميرغني، وقد ترجم له الجبرتي، فذكر أنه وُلِدَ بمكة وبها نشَأ، وحضر دروس بعض علمائها، واجتمع بقُطْب زمانه السيد يوسف المهدلي، فانتسب إليه ولازمه، وتفرَّغ بعد ذلك للعبادة، وكانت له كرامات كثيرة، وقد اجتمع به السيد مرتضى عند زيارته الأولى لمكة سنة ١١٦٣ﻫ، فأُعجِب به ولازمَه وأخذ عنه، وطلب منه الإجازة وإسنادَ كتب الحديث.
وقد حدث خلاف بين السيد عبد الله ميرغني وبين أهل مكة في سنة ١١٦٦ﻫ فآثر أن يترك مكة، وانتقل إلى الطائف بأهله وعياله، وألَّف في هذا الحادث كتابه: «السهم الراحض في نحر الرافض».
وفي هذه السنة خرج الزَّبيدي من اليمن قاصدًا الحجاز، ولكنه في هذه المرة لم يُقِمْ بمكة، وإنما اتجه إلى الطائف لزيارة أستاذه السيد عبد الله، ولازمه هناك مدة أخرى، ويقول الجبرتي: إنه قرأ عليه في هذه المرة كتبًا في الفقه وكثيرًا من مؤلَّفاته، وأجازه.
وللسيد عبد الله مؤلَّفات كثيرة، ذكَرها الجبرتي في ترجمته له، ومن بينها كتابٌ شَرَحَه الزبيدي فيما بعد، قال الجبرتي: «ومن مؤلفاته: فرائضُ واجباتِ الإسلام لعامة المؤمنين، وشرحها شيخنا المذكور (أي الزبيدي) شرحًا نفيسًا.»
والعيدروس من أكبر علماء القرن الثامن عشر، ويجمع بينه وبين الزبيدي أوجُه شبه كثيرة؛ فإن أسرته بعضها كان يسكن الهند وبعضها يقيم في اليمن، ومن جدوده مَنْ كان خطيبًا أو وليًّا صالحًا، ولبعضهم مقامات ومزارات في الهند، وقد وُلِدَ عبد الرحمن في تَرِيمَ ببلاد اليمن، وبها نشأ ودرس، ثم سافر إلى الهند في صحبة والده في سنة ١١٥٣ﻫ، فزار كثيرًا من مدنها، وأقام هناك نحو عشر سنوات، ثم عاد إلى مكة وزار الطائف، ورحل إلى مصر، فأحسن أهلُها استقبالَه، وزار بعد ذلك دمشق، ونزل هناك ضيفًا على أسرة المرادي المشهورة.
وفي سنة ١١٩١ﻫ زار الأستانة، فلقيَ إقبالًا وترحيبًا، ورتَّبَت له الدولة راتبًا يصرفه في مصر، ومرَّ في طريق عودته بمدينة صيدا حيث تعرَّف على واليها أحمد باشا الجزار، ثم عاد إلى مصر التي اتخذها دار مقام، وتعدَّدت رحلاته إلى مدن الصعيد والوجه البحري، وحج سبع عشرة مرة، وتُوفِّي بالقاهرة.
وصفه المرادي بأنه «الأستاذ العارف الكامل العالم العامل، أحد الأولياء الراسخين والأصفياء العارفين، العلَّامة الحَبْر النِّحْرير، صاحب الكرامات والمكاشَفات مربِّي المريدين ومرشد السالكين، قُطب العارفين أبو الفضل وجيه الدين.»
وللعيدروس مؤلَّفاتٌ كثيرة، معظمها في الشعر أو التصوُّف، وأهمها: منظومة سماها: «العَرْف العاطر، في معرفة الخواطر، وغيرها من الجواهر» وله شرح عليها، و«فتح الرحمن، بشرح صلاة أبي الفتيان»، ورسالتان في الطريقة النقشبندية، وديوان شعر سماه «ترويح البال، وتهييج البلبال»، وديوان شعر آخر سماه «تنميق الأسفار»، وقد روى فيه ما جرى له مع إخوان الأدب في أسفاره المختلفة.
(١-٣) سفره إلى مصر
وقد لازم الزَّبيديُّ شيخه العيدروس أثناء زياراته لمكة ومُقامه بها، وقرأ عليه مختصر السَّعد وطرَفًا من الإحياء، وألبسه الخرقة، وأجازه بمرويَّاته.
قال الزبيدي: «وهو الذي شوَّقني إلى دخول مصر بما وصَفه لي من علمائها وأمرائها وأدبائها، وما فيها من المشاهد الكرام، فاشتاقت نفسي لرؤياها، وحضرت مع الركب، وكان الذي كان.»
وكان حضوره إلى مصر في التاسع من صَفَر سنة ١١٦٧ﻫ، وسكن بخان الصاغة.
يقول الجبرتي: وكان «أول مَنْ عاشره وأخذ عنه السيد علي المقدسي الحنفي من علماء مصر، وحضر دروس أشياخ الوقت؛ مثل الشيخ: أحمد الملوي، والجوهري، والحفني، والبليدي، والصعيدي، والمدابغي، وغيرهم، وتلقَّى عنهم، وأجازوه وشهدوا بعلمه وفضله وجودة حفظه.»
واتصل السيد محمد مرتضى بأعيان مصر وكبار رجالها وأمرائها، «واعتنى بشأنه إسماعيل كتخدا عزبان ووالاه بِرَّه، حتى راج أمره، وترَوْنَق حاله، واشتهر ذِكره عند الخاص والعام، ولبس الملابس الفاخرة، وركب الخيول المسوَّمة.»
وبدأ السيد محمد — مدفوعًا بحبِّه للرحلة، ونهَمِه للاستزادة من العلم — يتنقَّل في أنحاء مصر، فسافر إلى الصعيد ثلاث مرات، واجتمع بأكابر أعيانه وعلمائه، وأكرمَه شيخ العرب همامٌ، وأولاد نصير، وأولاد وافي، وهادَوْه وبَرُّوه. وارتحل كذلك إلى مدن الوجه البحري الكبرى، فزار دمياط، ورشيد، والمنصورة، وغيرها من المدن التي كانت عامرةً بالعلماء، حافلةً بحلقات العلم، واجتمع بشيوخ هذه المدن وعلمائها وأصحابِ الطرق فيها، وتلقَّى عنهم وأخَذوا عنه، وأجازوه وأجازهم، قال الجبرتي: «وصنَّف عدةَ رحلات في انتقالاته في البلاد القِبلية والبحرية، تحتوي على لطائفَ ومحاوراتٍ ومدائحَ نظمًا ونثرًا، لو جُمِعَت كانت مجلدًا ضخمًا.»
جاب الزبيدي في مصر جنوبًا وشمالًا، وتعرَّف على مَنْ بها من العلماء، وحضَر حلقات الدرس، وأخذ عن مشاهيرهم وأخَذوا عنه، وتعرَّف عليه الأمراء والأعيان وشيوخ العرب وبَرُّوه وأكرَموه، ووجد بهذا كلِّه ضالَّته في مصر، فردَّد قولَ الشاعر القديم:
(١-٤) زواجه
وقرَّ رأيه على البقاء في مصر، ورأى أنه لكي يحيا حياة هادئة مستقرة؛ لا بد أن يتأهَّل، فتزوج من سيدة مصرية فاضلة، اسمها زبيدة، واتخَذ له بعد الزواج سكنًا جديدًا في عَطْفة الغسال، مع احتفاظه بسكنه القديم بوكالة الصَّاغة، فهذا السكن القديم قريبٌ من الأزهر، حي المساجد والمدارس، والعلم والعلماء.
ولم يذكر هو ولم يذكر مَنْ ترجموا له شيئًا عن الأسرة التي تزوَّج منها أو عن تاريخ زواجه، ولكنني أرجِّح أن هذا الزواج تم حوالي سنة ١١٧٤ﻫ، أي بعد وصوله إلى مصر بنحوِ سبع سنوات؛ فإنه يذكر أنه أتم شرح القاموس في سنة ١١٨٨ﻫ، وأنه قضى في شرحه أربعة عشر عامًا، وما كان الزبيدي يستطيع أن يُتِمَّ عملًا علميًّا شاقًّا كهذا إلا إذا كان يحيا حياة منظَّمة هادئة مستقرة، أي بعد زواجه، وخاصة أنه كان موفقًا في زواجه؛ فقد رُزِقَ زوجة يحبها وتحبه، وتبذل قصارى جهدها للحَدْب عليه وتوفير وسائل الراحة له، كما نص على ذلك هو في الشعر الكثير الذي رثاها به.
(١-٥) شرح القاموس
بدأ الزبيدي إذن عمله العلمي الضخم — وهو شرح القاموس — حوالي سنة ١١٧٤ﻫ، وقد دفعه إلى هذا العمل ما شاهده من رغبة العلماء في فَهْمه، وما أحسَّه من حاجتهم — وخاصة علماء الحديث — إلى الاستعانة به في دروسهم ودراساتهم، يقول في مقدمته: «فلما آنَستُ مِن تَناهي فاقة الأفاضل إلى استكشاف غوامضه والغوص على مشكلاته، ولا سيما مَن انتُدِب منهم لتدريس علم غريبِ الحديث، وإقراء الكتب الكبار من قوانين العربية في القديم والحديث، فناط به الرغبةَ كلُّ طالب، وعشا ضوءَ ناره كلُّ مقتبِس، ووجَّه إليه النَّجْعةَ كلُّ رائد … قرَعتُ ظُنْبُوب اجتهادي، واستَسْعيت يَعْبوبَ اعتنائي في وضع شرح عليه ممزوج العبارة، جامعٍ لموادِّه بالتصريح في بعضٍ وفي بعضٍ بالإشارة …»
ولم يكن العمل في شرح القاموس يسيرًا؛ فقد كانت اللغة العربية قد غَدَتْ غريبة — أو كالغريبة — في مجتمع يَحكُمه الأتراك، وفي وقتٍ تدهورَت فيه اللغة العربية، وسادَتْها اللُّكْنة، وكثر فيها استعمالُ العاميِّ والحُوشيِّ والغريب.
ولذلك فهو يقول في مقدمته: «وقد جمَعتُه في زمنٍ أهلُه بغير لغته يفخَرون، وصنَعْتُه كما صنع نوحٌ — عليه السلام — الفُلكَ وقومُه منه يَسخرون.»
تسامع الناس في مصر إذن أن الزبيدي يضع شرحًا كبيرًا للقاموس، فسَخِروا منه؛ لأنه عمل ضخم يحتاج إلى جهد كبير ووقت طويل، ولكن الرجل كان ذا همَّة عالية، فرسم خُطة العمل، وبدأ يجمع مكتبة البحث وهي — كما قدَّر — مكتبة ضخمة كان لا بد أن تضمَّ معاجمَ اللغةِ السابقةَ كلَّها؛ كالصِّحاح للجوهري، واللسان للفيروزآبادي، والجمهرة لابن دُريد، والمخصَّص والمحكَم لابن سِيدَهْ، والتهذيب للأزهري، وفصيحِ ثعلب، والأساس والفائق للزمخشَري، وإصلاح المنطق لابن السِّكِّيت، والخصائص لابن جني، والمجمَل لابن فارس، والمعرَب للجَواليقي … إلخ.
وجمَع إلى جانب هذه المعاجم كتب التاريخ والحديث والإسناد، والأنساب والرجال والتراجم، وكتب الجغرافية والرحلات ونُظم الحكم، وكتب الطب والحيوان والنبات، ودواوين الشعر، وقد أثبت الزَّبيدي أسماءَ هذه المراجع في مقدمة شرح القاموس، ومن أهمها: معجم البلدان لأبي عبيد البكري، ومعجم الصحابة لتقيِّ الدين بن فهد، والذَّيل على إكمال الإكمال لأبي حامدٍ الصابوني، وتاريخ دمشق لابن عساكر، وتاريخ بغداد للخطيب البغدادي، وطبقات الشافعية للسُّبكي، والتكملة لوفَيَات النَّقَلة للمُنذِري، ولُباب الأنساب للسيوطي، وشرح مقامات الحريري للشريشي، والوافي بالوفَيات للصفدي، وتاريخ الإسلام للذهبي، والبداية والنهاية لابن كثير، والطالع السعيد للإدفوي، وقوانين الدواوين لابن مماتي، ومختصَرُه لابن الجيعان، والخطط للمَقْريزي، وجمهرة الأنساب لابن حزم، وكتاب النبات لأبي حنيفة الدِّينوَري … إلخ … إلخ، وهي قائمة طويلة، إن دلَّت على شيء فإنما تدلُّ على ثقافة الزَّبيدي الواسعة المتعددة الألوان، وعلى معرفته الوثيقة بالمكتبة العربية، وبالمراجع الأصيلة الهامة.
ولم يكن جمع هذه المكتبة بالأمر اليسير؛ فقد كانت هذه المراجع ضاعت وتبعثَرَت مذ قلَّت عناية القوم بها، يؤيدنا في رأينا هذا الجبرتي، معاصر الزبيدي وتلميذه؛ فقد أشار في مقدمة تاريخه إلى أمهات الكتب التاريخية التي أُلِّفَت قبل عصره، ثم قال: «وهذه صارت أسماء من غير مُسمَّيات؛ فإنَّا لم نرَ من ذلك كلِّه إلا بعضَ أجزاء مُدشَّتة، بقيَتْ في خزائن كتب الأوقاف بالمدارس مما تداولته أيدي الصحَّافين، وباعها القَوَمةُ والمباشِرون، ونُقِلَت إلى بلاد المغرب والسودان، ثم ذهبَت بقايا البقايا في الفتن والحروب، وأخذ الفرنسيس ما وجدوه إلى بلادهم … إلخ.»
وكانت طريقته في شرح القاموس أن يأتي بالمتن، ثم يشرحه ويضيف إليه، معتمدًا على المعاجم اللغوية الأخرى، فينتقي منها ما لم يذكره صاحب القاموس ويضيفه إليه، ثم يستعين مرة ثانية بدواوين الشعر، فيَستشهد بالأبيات التي تتضمن اللفظ الذي يشرحه، ثم يستعين مرة ثالثة بكتب التاريخ والتراجم، والجغرافيا والرحلات، فيضيف أسماء الرجال وأسماء المواقع والبلدان المتصلة بكل مادة يشرحها.
ثم هو يضيف بعد هذا كله جديدًا من عندِه، يضعه تحت عنوان «المستدرك»، وهذا الجديد هو في معظمه خلاصة تَجاريبه، والمعرفة التي حصَّلها خلال رحلاته في الهند وبلاد العرب ومصر، وقد يكون هذا المستدرك لفظًا علميًّا يستعمله أهل مصر أو أهل اليمن أو أهل الهند، وقد يكون مَوقعًا أو قرية في قُطر من هذه الأقطار، فلهذه المستدركات أهمية كبرى؛ لأنها تتضمَّن معلوماتٍ جديدةً انفرد بها الزبيدي، ولا تجدها في مرجع أو في معجم لغوي آخر.
فهو يقول — مثلًا — في المستدرك على مادة «كنت»: «ومما يُسْتَدْرَك عليه: كجرات اسم ناحية متسعة بأرض الهند، وتُعْرَف بنهروالته وبأحمد أباد»، وقال في المستدرك على «عرث»: «العرطنيثا أصل شجرة يقال لها: بَخور مريم، يُغسَل به الثياب، وهو رومي … وهو المعروف بالركفة في مصر»، وقال في المستدرك على حجب: «والمُحجَّب كمُعظَّم: لقب جماعة، منهم شيخنا الصالح الصوفي، صفي الدين أحمد بن عبد الرحمن المخاثي، اشتغل بالحديث وأجازنا»، وقال في المستدرك على «بانب»: ومما يستدرك عليه: بانوب قرية من قرى مصر من إقليم الغربية، ذكَرها ابن الجيعان في كتاب القوانين، والذي في المعجم لياقوت أن بانوب اسم لثلاثة قرى بمصر؛ في الشرقية، والغربية، والأشمونين» … إلخ.
وأتم الرجل هذا العمل العلمي الضخم الذي تنوء به العصبةُ أولو القوة من العلماء؛ فإن عملًا كهذا تقوم به في عصرنا لِجانٌ ولجان، تَقضي في إنجازه سنواتٍ وسنوات، ولكن الزبيدي قام به وحده، وأنجزَه في أربعةَ عشر عامًا، نصَّ على هذا في مقدمة التاج، قال: «وكان مدة إملائي في هذا الكتاب من الأعوام ١٤ سنة وأيام، مع شواغل الدهر وتفاقُم الكروب بلا انفصام، وكان آخِر ذلك في نهار الخميس بين الصلاتَيْن، ثانيَ شهر رجب سنة ١١٨٨ﻫ بمنزلي في عطفة الغسال بخط سويقة المظفر بمصر.»
وأُفْعِمَت نفس الزبيدي بالفرح أن وفَّقه الله لإتمام هذا الشرح، وسماه «تاج العروس من جواهر القاموس»، وأراد أن يُشاركه غيرُه من العلماء هذه الفرحة، فاستنَّ سُنَّة طيبة، وأولمَ وليمة حافلة في منزله، جمَع فيها طلاب العلم وأشياخ الوقت وأطلعَهم عليه؛ يقول الجبرتي — وكان حاضرًا هذا الحفل: «فاغتبَطوا به وشَهِدوا بفضله وسَعةِ اطلاعه ورُسوخه في علم اللغة، وكتبوا عليه تَقاريظهم نثرًا ونظمًا.»
ولما أتم محمد بك أبو الذهب بناء مسجده المعروف بالقرب من الأزهر ألحق به — كالعادة — خِزانةً للكتب، وزوَّدها بعدد كبير من أمهات الكتب، ولم يَضِنَّ في سبيل ذلك بالمال، وقد حدَّثه العلماء المقربون إليه عن «تاج العروس» وأطنَبوا في مدحه، وعرَّفوه — كما يقول الجبرتي — «أنه إذا وُضِعَ بالخِزانة كَمُل نظامها، وانفردَت بذلك دون غيرها، ورغَّبوه في ذلك فطلَبه، وعوَّضه عنه مائة ألف درهم فضة، ووضعه فيها.»
وكان شيخ السادات الوفائية في ذلك الوقت هو السيد أبو الأنوار ابن وفا، وكان من عادته أن يَكْنِيَ مَنْ يحضر مجلسه من العلماء الذين يمتازون بالجِدِّ في التحصيل أو النبوغ، وقد كنَى السيد المرتضى بأبي الفيض، وكان ذلك في يوم الثلاثاء سابع عشر شعبان سنة ١١٨٢ﻫ، وكانت كنية موفَّقة؛ فقد بدأ السيد مرتضي يُفيض على الناس فعلًا مِن علمه، واتجه إلى إحياء الكتب ومناهج الدراسة القديمة، وخاصة في علم الحديث؛ مَيْدانِ تخصصه الأول، وحرَص — على حد قول الجبرتي — «على جمع الفنون التي أغفلها المتأخِّرون؛ كعلم الأنساب والأسانيد وتخاريج الأحاديث واتصال طرائق المحدِّثين المتأخرين بالمتقدمين، وألَّف في ذلك كتبًا ورسائلَ ومنظوماتٍ وأراجيزَ جمة.»
(١-٦) سكنه الجديد في سويقة اللالا
وفي سنة ١١٨٩ﻫ كان الزبيدي قد بلغ الرابعة والأربعين من عمره وأصبح رجلًا بل كهلًا مكتمل الرجولة ناضج الفكر واسع المعرفة، وكان قد مضى عليه في مصر اثنتان وعشرون سنة، فعرَفه العلماءُ والكبراء، وذاع صيته في الأوساط العلمية، وخاصة بعد أن احتفل بالفراغ من شرح القاموس منذ شهور قليلة، فرأى أن ينتقل من عطفة الغسال إلى حي جديد يتناسب ومكانتَه الجديدة، فانتقل إلى منزل بسويقة اللالا بالقرب من مسجد شمس الدين الحنفي في أوائل سنة ١١٨٩ﻫ، وكان هذا الحي عامرًا بالأكابر والأعيان، فأحدَقوا به، ورحَّبوا بمُقامه بينهم، وأقبلوا على زيارته ومُهاداته، وهو يُظهِر لهم التعفُّف والغنى، ويَعِظهم ويُفيدهم بفوائدَ وتمائمَ ورُقًى، ويُجيزهم بقراءة أورادٍ وأحزاب، وبهذا الأسلوب وغيرِه عَرَفَ السيد محمد مرتضى أن يستحوذ على إعجاب جيرته من أهل الحي الجديد؛ فقد كان المجتمع القاهري — كما قلنا — تغمره موجة من التصوف، ويكاد كل فرد فيه ينتمي إلى طريقة من الطرق الصوفية، وكان الزبيدي يَلفِت النظر إليه كلَّما مر في الحي؛ فقد كان رَبْعَة، نحيفَ البدن، ذهبي اللون، متناسب الأعضاء، معتدِل اللحية، قد وَخَطَه الشيب في أكثَرِها، وكان مترفهًا في ملابسه، ويختلف في هيئته وبَزَّتِه عن العلماء المصريين، فيَعتمُّ — مثل أهل مكة — عِمامة منحرفة بِشاش أبيض، ولها عذَبة مَرْخيَّة على قفاه، ولها حبكة وشراريب حرير طولها قريب من فتر، وطرَفها الآخر داخل طيِّ العمامة، وبعض أطرافه ظاهر.
فانجذبَت قلوبُ أهل الحي إليه، وتناقَلوا خبره، وترددوا على داره يستمعون إلى دروسه وأحاديثه، فأَسَرَهم بكلامه، ومَلَكَ عليهم ألبابهم؛ فقد كان كما يقول الجبرتي: «وَقورًا محتشمًا، مستحضرًا للنوادر والمناسبات، ذكيًّا لَوْذَعيًّا، فطِنًا ألْمَعيًّا، رَوْضُ فضله نَضير، وما له في سَعة الحفظ نَظير»، وكان إلى هذا يعرف اللغتين: التركية والفارسية، وبعض لسان الكرج.
(١-٧) طريقته في تدريس الحديث
وكانت معظم دروس الزَّبيدي في هذه الفترة في علوم الحديث، وكان منهجُه في التدريس جديدًا كذلك، لفَت إليه الأنظار، وجذَب إليه الأعيان أولًا، ثم شيوخ الأزهر ثانيًا؛ لأنه أحيا طريقة السلف الصالح في تدريس الحديث، فكان لا يَكتفي بإملاء الأحاديث، بل يَذكر الأسانيد والرُّواة والمخرِّجين، وكان لا يُلقي بهذه المعلومات من كتاب في يده، بل يُلقيها ارتجالًا مِن حفظه، وعلى طُرق مختلفة وبأساليبَ متبايِنة، وكان يبدأ كلَّ مَنْ يَفِد عليه للأخذ عنه بأن يُملِيَ عليه الحديث المسلسَل بالأوَّلين — وهو حديث الرحمة — بروايته ومُخرِّجيه، ثم يَكتب له سَندًا بذلك وإجازة وسماعَ الحاضرين.
كان هذا أسلوبَ المحدِّثين القُدامى، وقد نَسِيَه العلماء في العصر العثماني، فنفَض عنه الزَّبيديُّ الغبار، وأحياه من جديد، فبهَر عقول أهل العلم في القاهرة، وسعى إليه شيوخُ الأزهر — وهم قادةُ العلم في وقتهم — يسألونه الإجازة، ولكن الزَّبيدي كان يرى أن الدراسة الجِدِّية يجب أن تَرتفع عن المظاهر والشكليات، فقال لهم: «لا بد مِن قراءة أوائل الكتب»، فقَبِلوا واتفق على أن يبدأ معهم درسًا يقرأُ لهم فيه صحيحَ البخاري، واختار أن يُلْقِيَ درسَه هذا يومَيِ: الإثنين والخميس من كلِّ أسبوع في جامع شيخون؛ «تباعُدًا عن الناس.»
يقول الجبرتي: «وتناقل في الناس سعيُ علماء الأزهر — مثل الشيخ أحمد السجاعي، والشيخ مصطفى الطائي، والشيخ سليمان الأكراشي، وغيرِهم — للأخذ عنه؛ فازداد شأنُه وعَظُم قدرُه، واجتمع عليه أهلُ تلك النواحي وغيرِها من العامة والأكابر والأعيان.»
لم يَعُد الدرس إذن خاصًّا بعلماء الأزهر، بل أصبح درسًا عامًّا، وأقبل الناس على سماعه من كل حَدَبٍ وصَوْب، ومن كل الطبقات، والْتَمس الحضورُ من الشيخ أن لا يكتفيَ برواية الأحاديث وأسانيدها، بل يَشرَحُها لهم، فأجابهم إلى طلبهم، وانتقل — كما يقول الجبرتي — «من الرِّواية إلى الدراية» وصار درسًا عظيمًا، فعند ذلك انقطع عن حضوره أكثرُ الأزهرية، وقد استغنى عنهم هو أيضًا، وصار يُمْلِي على الجماعة — بعد قراءةِ شيء من الصحيح — حديثًا من المسلسَلات أو فضائلِ الأعمال، ويَسرُد رجال سنَدِه ورُواتَه من حفظه، ويُتبِعُه بأبيات من الشعر كذلك، فيتعجَّبون من ذلك؛ لكونهم لم يَعهَدوها فيما سبَق في المدرِّسين المصريين.»
أصبح الزبيدي بعد هذه الدروس حديثَ القوم في حي الصليبة والقلعة، بل في الأوساط العلمية كلها في القاهرة، فطلب منه أهلُ حي الحنفي أن يخصَّهم بدرس آخر، فأجاب سُؤْلَهم وافتتح درسًا جديدًا في مسجد الحنفي، كان يقرأ فيه الشمائل بعد العصر في بقية أيام الأسبوع، فارتفعَت مكانتُه، وذاعت شهرته، وأقبَل الناس من كل فجٍّ لسماع هذه الدروس الجديدة.
وتسابَق الصَّفوة والأعيان على دعوته إلى منازلهم؛ ليأخذوا عنه الحديث هم وأولادهم وأفرادُ أسراتهم، وكانوا يحتفلون بزيارته احتفالًا كبيرًا، ويولِمون الولائم، وكان هو يُضْفِي على هذه الدروس ما تستحقه من وقار وقداسة، ويتبع أسلوب المحدِّثين القُدامى في ذلك، فيصحب معه خواصَّ الطلبة والمقرِئ والمستملِي وكاتب الأسماء، ويجلس صاحبُ المنزل ومعه أصحابه وأحبابه وأولاده، ومن خلف الستائر تجلس بناته ونساؤه، وقد تناثَرَت في المكان مَجامر البَخور والعود، والرائحة الزكية تَضوع فتملأ المجلسَ مدةَ القراءة، ثم يبدأ الشيخ فيقرأ للمجتمِعين شيئًا من الأجزاء الحديثية؛ كثلاثيات البخاري أو الدَّارِمي، أو بعضَ المسلسَلات، ثم يختمون جميعًا الدرسَ بالصلاة على النبي — ﷺ، ويكتب الكاتبُ أسماء الحاضرين والسامِعين بما فيهم النساء والصبيان والبنات، ويُثبِت اليوم والتاريخ، ويكتب الشيخُ في ختام هذا السجلِّ أو الإجازة: «صحيح ذلك»، ويوقِّع باسمه.
وقد ذكر الجبرتي — وكان تلميذًا للزَّبيدي — أنه حضَر كثيرًا من هذه الدروس، وذكر كذلك أن الشيخ زاد نشاطه، فكان يَعقِد دروسًا أخرى في منزله القديم بخان الصاغة — قريبًا من الأزهر، وفي منزِلَي الجبرتي في الصنادقية وبولاق، وأنه كان يَخرج في بعض الأحيان مع نفر من تلاميذه المقرَّبين إلى المتنزَّهات والأماكن الخلوية، مثل غيط المعدية أو الأزبكية، حيث يعقد لهم دروسًا في الهواء الطَّلْق يقرأ عليهم فيها بعضَ الأجزاء الحديثية.
(١-٨) السيد محمد عالم من أعلام الفكر في مصر والعالم الإسلامي
وأقبلَت الدنيا على الشيخ؛ فقد تجاوزَت شهرتُه الأوساط العلمية إلى أوساط الأمراء والحُكَّام، فانجذب إليه بعضُ الأمراء الكبار؛ مثل مصطفى بك الإسكندراني، وأيوب بك الدفتردار، وسعَوْا إليه في منزله؛ لحضور دروسه، وقدَّموا إليه الهدايا الجزيلة، وعندما حضَر الرئيس عبد الرزَّاق أفندي من الديار الرومية إلى مصر، وسمع بالزَّبيدي ذهب لزيارته والْتمَس منه الإجازة، وطلب أن يَقرأ عليه مقامات الحريري، فأجابه إلى طلبه، وكان يحضر عنده بعدَ درس شيخون، فيقرأ معه المقامات ويَشرح له معانيَها وألفاظها.
ولما حضر إلى مصر محمد باشا عزت الكبير في سنة ١١٩١ﻫ أكرمه ودعاه إلى القلعة، وخلع عليه فروة سمور، ورتَّب له تعيينًا من كلاره؛ من لحم وسمن وأرز وحطب وخبز، كما رتَّب له علوفة جزيلة بدفتر الحرَمَين، وغِلالًا من الأنبار، ثم أرسل إلى الأستانة تقريرًا يُعرِّف فيه الدولة ورجالها بالشيخ ومكانته، فأتاه مرسومٌ بمرتَّب جزيل بالضربخانة، وقدره مائة وخمسون نصفًا فضة في كل يوم.
أصبح السيد محمد مرتضى بعد سنة عَلَمًا من أعلام الفكر والعلم، لا في مصر وحدها، بل في جميع أنحاء العالم الإسلامي، ولا في أوساط العلماء وحَسْب، بل في أوساط الحكام والأمراء والملوك في مختلِف الدول الإسلامية، فطلبه السلطان عبد الحميد للذَّهاب إلى عاصمة الخلافة في سنة ١١٩٤ﻫ، فأجاب، ثم امتنع.
يقول الجبرتي: «وكاتَبَه ملوك النواحي من الترك والحجاز والهند واليمن والشام والبصرة والعراق، وملوكُ المغرب والسودان وفزان والجزائر والبلاد البعيدة، وكَثُرت عليه الوفودُ من كل ناحية.»
وأصبح الشيخ يعيش في بُحْبوحة من العيش، فاشترى الجواريَ وأولم الولائم للضيوف وأكرَم الوافدين عليه، وأصبح بيتُه محجَّةً يحج إليها كلُّ الواردين والوافدين على مصر من أنحاء العالم الإسلامي، ومصرُ بحكم مركزها المتوسِّط يكثر بها الواردُ والوافد من الشرق ومن الغرب؛ للزيارة أو للتجارة، أو في الطريق إلى الحج، وكان هؤلاء جميعًا يَحملون للسيد الهدايا والصِّلات من الطُّرَف الغريبة الموجودة في كل إقليم، وكان السيد بدَوْره يُرسِل الطُّرَف من هدايا كل إقليم إلى الإقليم الذي لا توجد فيه، فيأتيه في مقابلِها أضعافُها؛ فقد أُهْدِيَ إليه مرةً أغنامٌ من إقليم فزان، وهي — كما وصفَها الجبرتي — «عجيبةُ الخِلقة عظيمةُ الجثَّة، يُشبه رأسُها رأسَ العجل»، فأرسل منها إلى أولاد السلطان عبد الحميد، فأُعْجِبوا بها كثيرًا.
وكان أهل كل إقليم يُهادونه بأغرب وأجمل ما في إقليمهم، فكانت تأتيه من السودان الطيورُ والبَبْغاواتُ والجواري والعبيد، وكان يأتيه مِن الهند واليمن ماءُ الكاري والمربِّيات، والعود والعنبر والعِطر بالأرطال.
(١-٩) اعتقاد المغاربة والمشارقة في ولايته
وكان أهل المغرب أكثرَ الناس حبًّا له وتعلقًا به واعتقادًا فيه؛ يقول الجبرتي: «وربما اعتقدوا فيه القُطْبانية العُظمى، حتى إن أحدهم إذا ورَد إلى مصر حاجًّا ولم يَزُره ولم يَصِله بشيء، لا يكون حجه كاملًا!»
وقد بلَغ السيد محمدٌ هذه المكانة في قلوب المغاربة؛ لذكائه ورِقَّته في معاملتهم وحُسن ضيافته لهم، فكان إذا زاره واحد منهم سأله عن اسمه وأهله وبلده، ومكانِ سكنه … إلخ، وحَفِظ هذا كلَّه أو سجَّله عنده، فإذا ورَد عليه بعد ذلك زائرٌ آخر له صِلة بالزائر السابق، فيُبادره بالسؤال عنه فيقول له: «فلان طيب؟ فيقول: نعم سيدي. ثم يسأله عن أخيه فلان وولَدِه فلان، وزوجته وابنته، ويشير له باسم حارته وداره، وما جاورها، فيقوم ذلك المغربي ويقعد، ويُقبِّل الأرض تارةً ويسجد تارة، ويعتقد أن ذلك من باب الكشف الصُّراح»؛ ولذلك كان المغاربة يتزاحمون على بابه في موسم الحج ازدحامًا شديدًا من الصباح إلى الغروب، وكل مَنْ دخل منهم قدَّم بين يدي نجواه شيئًا: إما موزونات فضة أو تمرًا أو شمعًا، على قدر فقره وغِناه، وبعضهم يأتيه بمُراسلات وصِلات من أهل بلاده وعلمائها وأعيانها، ويَلتمِسون منه الأجوبة، فمَنْ ظفر منهم بقطعة ورق — ولو بمقدار الأنملة — فكأنما ظفر بحُسن الخاتمة، وحفظها معه كالتميمة، ويرى أنه قد قُبِلَ حجُّه، وإلا فقد باء بالخيبة والندامة، وتوجَّه عليه اللوم من أهل بلاده، ودامت حسرته إلى يوم ميعاده.»
ولم يكن اعتقاد المشارقة في السيد مرتضى أقلَّ من اعتقاد المغاربة، وخاصة الأمراء والحكام، وكان أقواهم عقيدةً في ولايته أحمد باشا الجزار حاكم سوريا، فكان يراسله ويهاديه، وإذا وفد عليه وافد من مصر سأله عن السيد محمد، فإنْ مدَحه وأثنى عليه، وأجاب أنه يعرفه ويجتمع به ويأخذ عنه، أحبَّه وأكرمه، وأجْزَل صِلته، وإن أجاب بأنه لا يعرفه ولا صلةَ له به، نفَر عنه وقابله بالوُجوم، ولم يُحقِّق له مطلبًا، وقد عُرِفَت هذه الخَلَّة عن الجزار، فكانت المفتاحَ الذي يستعمله الناسُ للوصول إلى قلبه، والحصول على عطفه.
ومع إقبال الحياة والناس على السيد مرتضى، ومع مكابة الملوك والعلماء له، وشهرته التي ذاعَت في جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ لم تَفتُر هِمته ولم يَقِلَّ نشاطه، بل ظل دَءوبًا على العمل والإنتاج، مُداومًا على إلقاء دروسه في مسجد الحنفي وفي مسجد شيخون، وفي منزله ومنازل أصدقائه، وكانت كتبُه التي ألَّفها ودروسُه التي ألقاها تدور في معظمها حولَ علم الحديث. وقد أحصى له الكتاني اثنين وثلاثين كتابًا كلها في علم الحديث، كما أحصى له عشرين كتابًا أخرى فيما سماه «الصنعة الحديثية»، أي العلوم المتصلة بالحديث.
ومن كتب المجموعة الأولى: كتاب عنوانه «الأمالي الشيخونية» ويقع في مجلَّدين، وقال في التعقيب عليه: «وقد بلغَت أربَعَمائة مجلس إلى تاريخ إجازته لأبي الأمداد محمد بن إسماعيل الربعي اليمني، وذلك تمام سنة ١١٩٥ﻫ.»
(١-١٠) وفاة زوجته وانعكافه
ويبدو أن السيد مرتضى انقطع عن إلقاء دروسه أو أماليه الشيخونية في علم الحديث في أواخرِ هذه السنة، وهي سنة ١١٩٥ﻫ؛ فقد أُصيبَ بعد ذلك بقليلٍ بالْمُلِمَّة الكبرى التي هدَّت كِيانَه وأدمت قلبه، وصرَفَته عن الحياة، ودفعَتْه إلى العُزلة والتفرغ للعبادة، وتأليفه كتابه الآخر الكبير «شرح إحياء علوم الدين للغزالي»، هذه الحادثة هي فَقْد زوجته؛ فقد تُوفِّيَت في سنة ١١٩٦ﻫ، وحَزن عليها الزبيدي حزنًا كثيرًا، ودفَنها عند مشهد السيدة رقية، وبنى على قبرها مقامًا ومقصورة، وزوَّده بالستائر والفُرش والقناديل، ولازم قبرها أيامًا طويلة، وتجتمع عنده الناس والقراء والمنشدون، ويعمل لهم الأطعمة والثريد والكسكو والقهوة والشربات»، ثم اشترى قطعة أرض مجاورة للقبر، وبنى عليها منزلًا صغيرًا، وأثَّثه وأسكَن به أمَّها، وكان يَبيت به أحيانًا وقد رَثاها كثيرٌ من الشعراء، فكان يُجيزهم بالمال الوفير، ورثاها هو بشعر كثير جميل لم يُطلِع الناس عليه، وإنما عَثَرَ على بعضِه تلميذُه وصديقه عبد الرحمن الجبرتي في أوراقه المدشتة، ونقَل بعض هذا الشعر في تاريخه، وهو شعر جميل في معظمه، يدل على وفاء نادر، وفيه يُعبِّر الزَّبيدي عن حزنه وألمه لِفَقد هذه الزوجة الحبيبة، ويصف جُودَها وحِلمَها وحياءها وطيب مَحْتِدِها، ويذرف الدمع سَخينًا لفقدها، ويبكي حبها وحَدْبها عليه، وطاعتها له، وعنايتَها بتوفير الراحة له.
وهذا لونٌ من الشعر قلَّ أن نجد له أشباهًا كثيرة من الشعر العربي، ومنه الديوانان اللَّذان يضمان ما قاله عزيز أباظة وعبد الرحمن صدقي — من الشعراء المحْدَثين — في زوجتَيهما بعد وفاتهما.
ومما قاله الزبيدي في رثاء زوجته:
ويقول لمن يطالبه بالسلوان:
ويقول أيضًا:
ثم يستعين بالصبر فيَخونه، ويتمنى أنْ لو كان سبَقها بالموت، ويعبر عن هذا كله بقوله:
ثم يصفها وهي تنتقل إلى العالم الآخر في غَلائلها الخضر، وقد طافت بها الملائكة، ودقَّت لها السماء طبولها مُرحِّبة بها، فيقول:
ثم هو يشير في مقطوعة أخرى إلى سجاياها الكريمة وحَدْبِها عليه، فيقول:
… إلخ.
(١-١١) شرح كتاب الإحيا
وكان السيد محمد مرتضي قد شرَع في شرح كتاب إحياء علوم الدين للغزالي في سنة ١١٩٠ﻫ، أي: بعد فراغه من شرح القاموس بنحو سنتين؛ فقد طلَب إليه تلاميذه ومريدوه أن يقرأ لهم هذا الكتاب، فآثر أن يُتبِع القراءةَ بالشرح؛ لضبط ألفاظه، وتفسير معانيه، وقد نص هو على هذا في مقدمة الشرح؛ قال:
«وبعدُ، فهذه تقريرات شريفة، وتحريرات مُنيفة، أملَيتُها على كتاب الإحيا للإمام حجة الإسلام أبي حامدٍ الغزالي — رحمه الله تعالى — حين سُئِلْتُ في إقرائه … على أني لم أرَ أحدًا من العلماء قديمًا وحديثًا — مع كثرة تداول هذا الكتاب بين أيديهم، وتَبرُّكهم بقراءته في سائر الأقطار، خصوصًا في قُطر اليمن المأنوس بالأخيار — اعتنى بضبط ألفاظِه المشْكِلة، ولا فَصَّلَ بُنود عُقوده المجمَلة، وقد شرَح الله صدري لشرحه بإلهام، وسعى يعبوب فكري لتحصيله باهتمام … إلخ.»
وشابهَ منهجُه في شرح الإحياء منهجَه في شرح القاموس إلى حد كبير؛ فقد كتب له مقدِّمة طويلة فيها دراسة قيِّمة للغزالي وكتابه، وقدَّم بين يدَيْ هذا كلِّه قائمة كاملة بالمراجع التي أفاد منها عند إعدادَ هذا الشرح، وهي كثيرة العدد متنِّوعة الفنون؛ فمنها المعاجم اللغوية الكثيرة، وفي مقدمتها شرحه للقاموس، ومنها عشرات الكتب الأخرى في علوم اللغة والحديث والتفسير، والتاريخ والرجال والتراجم، وأصول الدين والفقه وفروعه، والتصوف … إلخ.
وأتى بعد هذا بترجمة طويلة مفصَّلة لحياة الغزالي، تحدَّث فيها عن مولده ونشأته الأولى، وطلبه للعلم، وشيوخِه الذين أخذ عنهم، ثم أشار إلى رسائله ومُكاتباته وفتاواه، وأتى بنماذجَ من شعره، وعرض الآراء التي تقول بأنه كان مجدد المائة الخامسة، وأتى بثبَتٍ كامل لمؤلفاته، ورتَّبها ترتيبًا أبجديًّا.
وانتقل من هذا كله إلى ذكر الطاعنين عليه في الإحياء وخاصة الطرطوشي والمازري وابن قيِّم الجوزية، وأتى بموجَز لطُعونهم مع تحليلها ومناقشتها، والرد عليها.
ثم ختم هذه المقدمةَ القيِّمة بالكلام عن تلاميذ الغزالي، وإحصاء مَن اختصروا الإحياء، أو حاوَلوا شرحه قبله.
وقد انتهى الزبيدي من الجزء الأول في «يوم الجمعة بعد الصلاة، لخمسٍ بَقِينَ من محرَّم الحرام، افتتاحَ سنة ١١٩٣ﻫ.»
وفي سنة ١١٩٦ﻫ أُصيب بفَقْدِ زوجه، فلزم داره «واحتجَب عن أصحابه الذين كان يلم بهم قبل ذلك، إلا في النادر؛ لغرض من الأغراض، وترَك الدروس والإقراء، واعتكف بداخل الحريم، وأغلق الباب، وردَّ الهدايا التي تأتيه من أكابر المصريين»؛ أرسل إليه مرَّةً أيوب بك الدفتردار مع نجله هدية بمناسبة حلول شهر رمضان، وكانت تشتمل على خمسين أردبًّا من البُرِّ وأحمالٍ من الأرز، والسمن والعسل والزيت وخمسمائة ريال، وبقج كساوي من الأقمشة الهندية والجوخ، ولكنه ردَّها وأبى أن يأخذها.
وكان مولاي محمد سلطان المغرب يُهاديه كثيرًا، فيَقبل هداياه، ولكنه أرسل إليه في سنة ١٢٠١ﻫ — أي بعد عزلته — هدية لها قدر كبير، فردَّها وتورَّع عن قَبولها.
انطوى السيد محمد إذن على نفسه، وانقطع عن دروسه، وامتنع عن مُقابلة تلاميذه وأصحابه، وانعكف في منزله وقد استبدَّ به الألم وغمَره الحزن على فَقْدِ زوجته، فهو دائم البكاء عليها، دائم الحنين إلى أوقات الصفاء التي عاشها معها. حقيقة لقد تزوَّج بعدها غيرها، ولكن يبدو أنها لم تكن مِثلَها، فلم تستطع أن تُنسِيَه أحزانه، أو أن تُخرِجه من عُزلته، فلم يجد عَزاءً إلا في كتاب الإحياء، فانصرف إليه بكلِّه، وأعطاه كلَّ جهده ووقته، فلم يكن يوقف العمل فيه إلا عند سماعه الأذان يدعو للصلاة، وكان لا يجد مُتنفَّسًا للإعلان عما به من ألم وضيق إلا في الأشعار التي يَنْظِمها، أو في افتتاحيات وخواتيم الأجزاء المتتابِعة لشرح الإحياء؛ فهو يقول مثلًا في ختام الجزء الرابع:
«وقد فرغ من تحريره وتهذيبه — مع تشتيت البال واختلال الأحوال — صبيحةَ يوم الجمعة المبارك لأربعٍ بقين من شهر ربيعٍ الثاني من شهور سنة ١١٩٨ﻫ بمنزله بسويقة لالا، مؤلفُه العبد المضطر، أبو الفيض، محمد مرتضى الحسيني، أصلح الله خلَـله، وتقبَّل عمله، وبلَّغه أمله.»
كتاب الأذكار والدعوات … سلَكتُ شِعابه ورُضْت صعابه، فكم من مُشْكِل قد أعرَبت عنه، وبينتُ ما أُبْهِمَ منه … حتى وضح سبيلُه للوارِدين، وراق زُلاله للشاربين، هذا مع ما أنا فيه من اختلاف الأحوال، وتشتيت البال، وتواتُر الأنكاد والأهوال، وكدورات تُفرِّق الأوصال، وأشغال تحجب الخواطر عن الأعمال، متوسلًا بيُمْن جاه مؤلِّفه إلى المولى اللطيف، أن يمنَّ علينا بالعفو والعافية والنجدة من كل محيف، عسى الكرب الذي أمسيت فيه، يكون وراءه فرج قريب؛ إنه على فرَجِه قدير، وبما أمَّلتُه جدير.
فرَغ من تسويد هذا الكتاب المبارك العبدُ الفقير إلى الله تعالى، أبو الفيض، محمد مرتضى الحسيني، لطَف الله به، وأخذه بيده في الشدائد والكروب، وأنجاه من كل ضيقٍ وجَلا عنه الخطوب، عند أذان ظهر يوم السبت ١٥ جمادى الأولى من شهور سنة ١١٩٩ﻫ، أرانا الله خيرَها، وكفانا ضَيْرها.
… وكانت مدةُ إملائه مع شواغل الدهر وإبلائِه أحدَ عشر عامًا إلا أيامًا، آخرها الخامسة من نهار الأحد، خامسَ جُمادى الثانية من شهور سنة ١٢٠١ﻫ، وذلك بمنزلي في سويقة لالا بمدينة مصر، حرسها الله تعالى وسائرَ بلاد الإسلام، والحمد لله في البدء والختام.
وقد طُبِعَ هذا الشرح في المطبعة الميمنية بالقاهرة في سنة ١٣١١ﻫ، ويقع في عشر مجلدات كبيرة، وعنوانه: «إتحاف السادة المتقين، بشرح أسرار إحياء علوم الدين»، وطُبِعَ على هوامشه ثلاثة كتب أخرى: أولها كتاب الإحياء نفسُه، وثانيها كتاب الإملاء عن إشكالات الإحياء للغزالي أيضًا، أجاب فيه على بعض الإشكالات التي أثارها مَنْ تصدَّوْا لنقد كتابه، وثالثها كتاب «تعريف الأحياء بفضائل الإحياء» للشيخ عبد القادر بن عبد الله العيدروس.
(١-١٢) مؤلفاته الأخرى
وللزبيدي مؤلفات كثيرة أخرى غيرَ هذين الشرحين على القاموس والإحياء، معظمُها في الحديث، أو في العلوم المتصلة به، أو في التصوف، وله في الفقه الحنفي كتاب قيِّم أسماه «الجواهر المنيفة، في أصول أدلة مذهب الإمام أبي حنيفة» قرَّظه الجبرتي بقوله: «وهو كتاب نفيس حافل، رتَّبه ترتيب كتب الحديث — من تقديم ما رُوِيَ عنه في الاعتقاديات، ثم في العمَليات — على ترتيب كتب الفقه.»
-
كتاب «حكمة الإشراق، إلى كُتَّاب الآفاق»٧ في تاريخ الخط والخطاطين ألَّفه باسم نابغة الخط في عصره الأمير حسن أفندي بن عبد الله الملقَّب بالرشدي، وجعله هدية إلى خِزانته.
-
وكتاب «شرح الصدر، في شرح أسماء أهل بدر» في عشرين كراسة.
-
وكتاب «التفتيش، في معنى لفظ درويش» وألَّفهما باسم صديقه علي أفندي درويش.
-
وكتاب «عقيلة الأتراب، في سنَد الطريقة والأحزاب» صنَّفه باسم الشيخ عبد الوهاب الشربيني.٨
ومن النوع الثاني:
كتاب «هدية الإخوان، في شجرة الدخان».
(١-١٣) مؤلفاته التاريخية
-
المعجم الأكبر، وقد تَرجم فيه لنحوِ ستِّمائة من شيوخه والآخذين عنه.
-
المعجم الصغير.
-
معجم شيوخ العلامة عبد الرحمن الأجهوري شيخ القراء بمصر.
-
معجم شيوخ السجادة الوفائية.
-
رفع نقاب الخفا، عمَّن انتمى إلى وفا وأبي الوفا.
-
رشف سلاف الرحيق، في نسب حضرة الصديق.
-
رسالة في طبقات الحفاظ.
-
ترويح القلوب، بذكر ملوك بني أيوب.
-
جذوة الاقتباس، في نسب بني العباس.٩
ولهذا الكتاب قصة طريفة، تربط بينه وبين التاريخَين الهامَّين اللَّذَين أُلِّفَا في مصر والشام في القرن الثامن عشر، وهما: «عجائب الآثار، في التراجم والأخبار» للمؤرخ المصري الجبرتي، و«سلك الدُّرر، في أعيان القرن الثاني عشر» للمؤرخ الشامي المرادي.
وقد رَوى هذه القصةَ الجبرتيُّ في سياق ترجمته للمرادي، فقال: إنه «كان — رحمه الله — مُغْرَمًا بصَيد الشوارد وقَيد الأوابد، واستعلام الأخبار وجمع الآثار، وتراجم العصريِّين على طريق المؤرِّخين، وراسل فضلاء البلدان البعيدة، ووصَلهم بالهدايا والرغائب العديدة، والْتمَس من كل جمعٍ تراجم أهل بلاده، وأخبار وأعيان أهل القرن الثاني عشر بحسَب وُسْع همته واجتهادِه»، ثم عقَّب على هذا بقوله:
«وكان هو السبب الأعظم الداعيَ لجمع هذا التاريخ — يقصد كتابه عجائب الآثار — على هذا النسق»، ثم أوضح بعد هذا أن شيخه الزَّبيدي كان واحدًا ممن راسلهم المرادي يسألهم أن يُمِدُّوه بتراجم القُطر أو البلد الذي يعيشون فيه، وقد سأل الزَّبيدي أن يجمع له تراجم المصريِّين الذين عاشوا في القرن الثاني عشر، وكان الزبيدي مشغولًا بمؤلفاته الأخرى، وهو بعدُ ليس من أهل مصر؛ ولهذا رأى أن يلجأ إلى تلميذه عبد الرحمن الجبرتي؛ لِيُعينه في هذا الأمر، فطلب إليه أن يجمع هذه التراجم، دون أن يُعرِّفه بالقصد من جمعها، واستجاب الجبرتي لاقتراح أستاذه، وجمع ما تيسَّر جمعُه، وحمله إليه يومًا وعنده بعض الشاميين، وأطلعه عليه؛ يقول الجبرتي: «فسُرَّ بذلك كثيرًا، وطارحَني وطارحتُه في نحو ذلك بمَسمَع من المجالس.»
وأرسل الزبيدي بعضَ هذه التراجم إلى صديقه المرادي، وأفاد من البعض الآخر في وضع معجمِه، ثم تُوفِّي الزبيدي بعد قليل، وخُتِمَ على تَرِكته بما فيها من كتب وأوراق مدةً ما، ثم بِيعَت بالمزاد، واشترى الجبرتي منها ما يريد، ووجَد هذه التراجم وغيرها من مسوَّدات الشيخ ورسائله وأوراقه ضِمن ما اشترى، وأفاد منها كثيرًا عند تأليف كتابه عجائب الآثار.
وعَلم المرادي بوفاة السيد محمد مرتضى، فأرسل إلى الجبرتي يروي له القصة كلها، ويسأله أن يبحث عن بقية التراجم التي كان قد جمَعها السيد له ويرسلها إليه، يقول الجبرتي: «فعند ذلك أرسل إليَّ (أي المراديُّ) كتابًا، وقرنه بهدية على يد السيد محمد التاجر القباقيبي يستدعي تحصيل ما جمعه السيد من أوراقه، وضم ما جمعه الفقير (أي الجبرتي) وما تيسَّر ضمُّه أيضًا وإرساله … فلما رأيت ذلك وعلمت سببه، وتحقَّقَت رغبة الطالب لذلك جمعتُ ما كنت سوَّدته وزِدتُ فيه، وهي تراجم فقط دون الأخبار والوقائع، وفي أثناء ذلك ورَد علينا نعيُ المترجِم «المرادي»؛ ففتَرَت الهمة، وطُرِحَت تلك الأوراقُ في زوايا الإهمال مدة طويلة، حتى كادت تتناثر وتضيع، إلى أن حصل عندي باعثٌ من نفسي على جمعها، مع ضمِّ الوقائع والحوادث والمتجددات على هذا النسق …»
وقد عَثر الجبرتي في رسائل الزبيدي على الرسالة التي كان قد أرسلها إليه المرادي يَستحثُّه على مُوافاته بالتراجم التي جمَعها، وأثبتَ الجبرتي نص هذه الرسالة في كتابه «عجائب الآثار»، وتاريخها ربيع الثاني سنة ١٢٠٠ﻫ.
ووافى يوم الجمعة من شهر شعبان من هذه السنة، وتوضأ السيد محمد مرتضى، وخرج يؤدي صلاة الجمعة في مسجد الكردي المواجه لداره بسويقة لالا، ولكنه لم يكَد ينتهي من الصلاة حتى كانت العَدْوى قد انتقلَت إليه، فعاد إلى منزله ولزم الفراش، واعتُقِل لسانه في تلك الليلة، ولم يَطُل به المرض غير يوم واحد، وأحست زوجته وأقاربها بدنو أجل الشيخ، فتركوه يعاني آلام مرضه، وشُغلوا بجمع التُّحف والهدايا! ومات أبو الفيض محمد مرتضى يوم الأحد، ولكن الزوجة لم تعلن موته إلا يوم الإثنين بعد أن انتهت من نقل ما خفَّ حملُه وغلا ثمنه!
ولم يترك الرجل ابنًا ولا ابنة، ولم يَرْثِه أحد من الشعراء، ولم يُصَلَّ عليه في الأزهر، ولم يَمشِ وراء جنازته أحدٌ من أصدقائه العلماء؛ فقد كان كل إنسان مشغولًا بنفسه أو بغيره! وهكذا اختفى الرجل الذي كان ملء السمع والبصر في مصر وفي جميع أنحاء العالم الإسلامي؛ اختفى في صمت وهدوء، لم يشعر باختفائه إنسان، ولم يحتفل بموته إنسان، ولكنه خلَّف وراءه ثروة علمية ضخمة، وذكرى طيبة عطرة.
وقد دُفِنَ السيد محمد مرتضى بقبرٍ أعدَّه لنفسه بجانب زوجته الأولى، بمشهد السيدة رقية، رحمه الله، وأثابه بقدر ما قدَّم للعلم وللإسلام والعربية من خدمات، وإنها لكثيرة.
ومن جدوده الشيخ عبد القادر بن شيخ بن عبد الله بن العيدروس محيي الدين أبو بكر اليمني الحضرموتي الهندي، وُلِدَ بمدينة أحمد آباد، ونبغ في علوم الشرع وفي التصوف، ولبس منه الخِرقةَ جمٌّ غفير من الأعيان، وتُوفِّي بمدينة أحمد آباد وقبره بها مشهور، وله كتاب «تعريف الأحياء بفضل الإحياء» طُبِعَ بهامش إتحاف السادة المتقين للزَّبيدي، مصر ١٣١١ﻫ.