في الغزل
لا أكاد أعرف شاعرًا من شعراء مصر الفاطمية لم ينشد في الغزل، فجميع الشعراء الذين بلغنا شيء من شعرهم كانوا يتغزلون؛ سواء أكان هذا الغزل في المؤنث أم في المذكر، شأنهم في ذلك شأن شعراء العربية في الأقطار الأخرى، فكان شعراء المدح — الذين ألَمُّوا بالعقائد المذهبية في شعرهم — يتبعون سنة الشعراء الأقدمين في الابتداء بالغزل، ولما أراد العماد الأصبهاني أن يروي شيئًا من شعرهم، اكتفي بالمقدمات الغزلية التي افتتحوا بها قصائدهم، وأبى أن يروي شيئًا من مدح الأئمة.
وإذا نظرنا فيما بقي لنا من شعر الغزل في هذا العصر رأينا المصريين كانوا يردِّدون في أشعارهم هذه الصفات العديدة التي ردَّدَها الشعراء من قبلُ في صفات المرأة، وما تمتاز به المعشوقة من فتنة ودلال وسحر، ولكن الشيء الذي يلفت نظرنا في هذه الأشعار الغزلية، أن الصور التي صاغ فيها المصريون هذه الصفات اختلفت باختلاف الحياة المصرية والبيئة المصرية، انظر مثلًا إلى قول أبي الحسن التنيسي الملقَّب برضي الدولة:
فالمعاني التي جاء بها الشاعر في هذه المقطوعة، والتي قدَّم بها للمدح، ليست بجديدة في الشعر العربي، إنما الجديد في هذه الأبيات هي هذه الصور المختلفة التي صاغ فيها هذه المعاني القديمة.
وانظر إلى قول الشاعر ابن قتادة المعدل، وقد أتى بمعانٍ لم يطرقها القدماء في غزلهم:
فهذه المعاني التي ألَمَّ بها الشاعر في هذه الأبيات لم يطرقها — فيما أعرف — شاعر عربي من قبلُ، وإن كان القدماء قد أكثروا من ذكر الدمع والسهر، ولكن الشاعر المصري جعل لهوى المحبوب في نفسه كتبًا عنوانها الدمع والسهر.
ويتغزَّل الشاعر أبو الحسن علي بن الحسن بن معبد القرشي الإسكندري، فيقول في مقدمة إحدى قصائده:
ويقول مرة أخرى في مقدمة قصيدة أخرى:
فهذه الصور المختلفة التي رسمها الشاعر في هذه الأبيات ليس بها هذه الصور التي رأيناها في شعر القدماء، ولكنها صور متحضرة، لا يذكر الشاعر جزءًا من أجزاء الجسم إلا ليصور أثره في نفسه، ويقرن بين هذه الصورة التي أتى بها وبين صورة أخرى أخذها الشاعر من الطبيعة التي حوله، والحياة التي يحياها؛ فالشاعر المصري في غزله لا يأتي بأجزاء الجسم ليصفها وصفًا واقعيًّا — إن صح هذا التعبير — إنما كان يتحدَّث دائمًا عن الناحية النفسية أكثر مما يتحدَّث عن الصفات الحسية، وهنا نرى فرقًا كبيرًا بين شعراء العرب القدماء وبين شعراء مصر الفاطمية، فالشاعر العربي كان ماديًّا في وصفه، والشاعر المصري كان عاطفيًّا؛ وإنما جاء هذا الخلاف من تحضُّر مصر الفاطمية، ورقيِّ عاطفة المصريين برقيِّ حياتهم.
ناحية أخرى نراها فيما بقي لنا من شعر الغزل في مصر الفاطمية، تلك أن المصريين بدءوا يتركون الأوزان الطويلة، وينشدون غزلهم في أشعار إما مجزوءة وإما منهوكة، ويميلون إلى استخدام اللغة التي يصطنعها الشعب التي لا يزال أثرها باقيًا في مصر إلى اليوم. انظر إلى قول الشاعر طلائع الآمري:
فهذا الشاعر الدقيق الحس، الرقيق الشعور، وصف حالة المحب المضني، وقد تملكه الشوق فلم يجد راحةً إلا إذا أنَّ واشتكى، بالرغم من أن المحب نهاه عن البكاء، فاتخذ هذا الوزن الخفيف، واصطنع هذه الألفاظ التي تكاد تكون من ألفاظ الشعب، فهذه المقطوعة وغيرها هي التي سنرى مثلًا لها بعد ذلك واضحة في شعر البهاء زهير، ثم انظر إلى قول الشاعر طلائع الآمري أيضًا:
أليست هذه المقطوعة أقرب إلى لغة الشعب المصري منها إلى لغة الشعراء الذين عوَّدونا الجزالة في اللفظ مع حسن الديباجة، ولكن الشاعر هنا كان شاعرًا مصريًّا قبل كل شيء، كان يتغزَّل، فاصطنع هذه الألفاظ السهلة والأوزان الخفيفة.
وليس معنى ذلك أن كل شعر الغزل على هذا النحو الذي رأيناه عند طلائع الآمري، فقد كان للمصريين لونان من شعر الغزل: اللون الأول الذي يختار فيه الشاعر ألفاظًا جزلة ووزنًا قويًّا طويلًا، أما اللون الآخَر فهو الذي يترك الشاعر فيه نفسه على سجيتها بلا تصنُّع، فلا ينتقي الألفاظ الجزلة بل ينشد ما يجري به لسانه وما تمليه عاطفته. وقد رأينا طلائع الآمري في المقطوعة الأولى السابقة يميل إلى اللون الثاني من ألوان الغزل، ونراه مرة أخرى ينشد المعنى نفسه، ولكن في صياغة أخرى تختلف تمام الاختلاف عمَّا رأيناه له، فهو يقول:
فالشاعر في هذه المقطوعة يختلف في غزله عمَّا جاء به في مقطوعته الأولى، فالشاعر حاوَلَ اللونين من شعر الغزل؛ على أن أكثر شعر الغزل الذي انتهى إلينا هو من اللون الخفيف الذي يقرب من أسلوب العامة، فالشاعر مروان بن عثمان اللكي تلمح في غزله أثر السهولة التي تتفق مع رقة الغزل وعاطفة الحب، حين يقول مثلًا:
ثم اقرأ هذه المقطوعة الأخرى من غزل ابن عثمان اللكي التي تظهر فيها عاطفة الشاعر في أسلوب أهل مصر الآن، ولا سيما في البيت الثالث:
وها هو ذا الشاعر أحمد بن محمد المادرائي يتغزل:
ويقول الشاعر إبراهيم بن إسماعيل الدمياطي:
وبالرغم من أن الشاعر أبا محمد هبة الله بن عرام كان من إقليم أسوان، فإن غزله كان متأثرًا بالحياة اللينة التي عُرِفت بها مصر، ولا سيما أنه وفد على القاهرة، ومدح بها الوزير رضوان وغيره من رجال الدولة، فأسهم مع غيره من شعراء مصر في التغزل في الأوزان السهلة الخفيفة والألفاظ والصور الشعبية، فهو الذي يقول:
وقوله أيضًا:
وقوله:
أضف إلى ذلك أن القدماء لاحظوا أن للمصريين بعض المعاني المبتكرة، من ذلك قول الأخفش في العذار:
ولكن العماد أخذ على الشاعر أنه ذكر «الخد» مرتين في البيت الأول، مع اعترافه بأن المعنى مبتكر لم يسبق الشاعر إليه.
وكذلك قال القدماء: إن قول أبي الغمر الأسناوي في العذار من المعاني المبتكرة:
وقول أبي الغمر الأسناوي أيضًا:
وقول ابن حيدرة العقيلي أيضًا، وفيه لحن من غنائه:
فهذه بعض صور من مقطوعات الغناء من شعر مصر الفاطمية كما حدَّثنا عنها القدماء من رواة شعر مصر، وهي مقطوعات غزلية يظهر فيها لون من ألوان ذوق المصريين في المقطوعات الغنائية، والعاطفة التي كانت تثار عند سماع هذه المقطوعات.
ولم يشأ شعراء مصر أن يقفوا في غزلهم على تصوير مختلف مشاعرهم عند رؤية الحبيب، أو أن يتحدثوا عن جماله وصفاته، وما يفعله ذلك كله في نفوسهم، إنما صوَّروا من ناحية أخرى الشوق لرؤية المحبوب إذا بعد عن أنظارهم أو فارَقَهم إلى مكان آخَر، فالحديث عن الفراق أخذ حيزًا كبيرًا من غزل شعراء مصر الفاطمية، وفي حديثهم عن الفراق نرى لوعة المحب الذي أضناه البعاد وخشينا عليه من الهلاك.
وها هو الشاعر علي بن المؤمل بن غسان ينشد:
وأنشد ابن معبد الإسكندري:
وقال محمد بن وهب:
وأنشد طلائع الآمري:
وقال طلائع أيضًا:
وإذن فالغزل في شعر مصر الفاطمية صورة أخرى من صور الحياة المصرية والعاطفة المصرية التي سمت فبعدت عن المادية التي عرفناها عند الشعراء الأقدمين؛ وذلك لاختلاف بيئة مصر عن غيرها من الأقطار العربية.