الرجل والجنس

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

خوف الرَّجل من المرأة وعقدة النقص

في إحدى زياراتي للهند زُرْتُ بعض المناطق الجبليَّة في الجنوب بالقرب من «كونور». وجدت أنَّ هذه المنطقة تسكنها مجموعةٌ من القبائل الهندية التي يعيش رجالها ونساؤها حياةً تختلف عن الحياة التي نعيشها؛ فالرِّجال لا يعملون شيئًا سوى الإشراف على المعابد والرقص في الحفلات الدِّينية والتزين بالمساحيق البيضاء والحمراء، وشعورهم طويلة وآذانهم يتدلَّى منها «الحَلَق» الذي يشبه الحَلَق الذي تُزيِّن به الفلاحةُ المصرية أُذُنها. أمَّا النِّساء فإنَّهن يعملن نهارًا في حقول الشَّاي والبطاطس، وفي آخر النَّهار يَعُدن إلى البيوت ليطبخن ويغسلن ويُطعِمن الأزواج والأطفال. وقد دُعِيتُ يومًا لأشهد حفلًا دينيًّا مع قبيلةٍ من هذه القبائل اسمها «كوتاس Kothas» في قرية Drichijadi، ورأيت الرِّجال بشعورهم الطويلة ومساحيقهم وحلقانهم يرقصون حول المعبد. أما النِّساء والبنات فقد جلسن بعيدًا عن المعبد في مكانٍ مخصَّص بحيث يشهدن الاحتفال من بعيد.

وسألت رئيسَ القبيلة عن سبب ذلك فقال لي إنَّ قطعة الأرض من حول المعبد مُقدَّسة، ولا يجوز للإناث أن يسرن فوقها بأقدامهن، وكذلك يَحرُم على النِّساء والبنات (والأطفال البنات) دخول المعبد.

وعرفت أنَّ هذه القبيلة لها معبدان؛ معبد الإله «شيفا» وبداخله تمثال صغير من الحجر للإله «شيفا»، ولا يدخل هذا المعبد إلا الرِّجال، والمعبد الثاني هو معبد الإلهة «برافاتي» زوجة شيفا، وهي إحدى الإلهات الإناث اللائي يعبدهن الهنود. والغريب أن رجال القبيلة حرَّموا على النِّساء دخولَ هذا المعبد أيضًا بالرغم من أن التمثال الذي يُعْبَد داخله هو تمثال الأنثى. وسألت رجالَ القبيلة عن السَّبب في ذلك، فقال لي رئيسهم ما معناه أن الدِّين للذكور والدنيا للإناث. وطلبت منه أن يشرح لي هذا المعنى، فقال إن النِّساء يملِكن كلَّ شيء في الدنيا، إنهن يعملن في الحقل وفي البيت ويُطعِمن الجميعَ ويملكن الأطفال لأنهن هن اللائي يلدن، أما الرِّجال فلا يمكن لهم بأي حال من الأحوال أن يعرفوا أطفالهم من أطفال الغير، وليس لهم في هذه الدنيا إلا الإله والمعبد. وقال لي إنَّ من حق الرِّجال أن يحتكروا لأنفسهم الآلهة والمعابد، وإلا فسوف تحكمهم النِّساء وتسيطر عليهم.

وبدراسة الحياة في بعض هذه القبائل وجدت أن الأطفال يُنْسَبون إلى الأم؛ لأن الأم تتزوج بأكثر من رجل، وأن الأب مجهولٌ في حالات كثيرة. وبالرغم من أن الأم هي عائل الأسرة وهي التي تعمل وتنفق على الأزواج والأطفال إلا أن زعماء القبيلة قد وضعوا تقاليدَ وقوانينَ معينةً قالوا عنها إنها جاءت من الإله شيفا، وتنصُّ على أن الرَّجل هو الحاكم وهو الذي يُصدِر القرارات ويوزِّع الرزق على النَّاس. وباسم هذه القوانين استولى الرِّجال على الأجور التي تكسبها النِّساء، ونصَّب الرَّجل نفسَه حاكمًا على الأسرة، وأصبحت النِّساء مجرَّد عاملات يعملن تحت سيطرة الرِّجال، وبدأ بعض الرِّجال بهذه السلطة ينسبون الأطفال إليهم ويفرضون على المرأة زوجًا واحدًا حتى تصبح الأبوة معروفة.

وتُعتبر هذه القبائل مرحلةً متوسطة «بين مجتمع الأمومة في «كيرالا» جنوب الهند وبين المجتمع الأبوي السائد في الولايات شمال الهند»، وتمثِّل مرحلةَ الانتقال من المجتمع القديم الذي سادت فيه المرأة إلى المجتمع الحديث الذي ساد فيه الرَّجل، وقد اتضح أن الرَّجل لم يستطِع أن ينزع من المرأة سيادتها التي أعطتها إياها الطبيعة إلا عن طريق ادعاء قوانين إلهية جاءت من عند الآلهة، وباحتكار الآلهة ومعابدهم للذكور، وتحريم دخولها على النِّساء. وظهر أن الرِّجال لم يحتكروا الآلهة والمعابد إلا حينما شعروا بقوة المرأة في الحياة الدنيا. فالمرأة تملك القدرةَ على خلق الحياة والولادة، وهم لا يملكون هذه القدرة. ويبدو أن المرأة البدائية كانت أقوى من الرَّجل في نواحٍ أخرى غير الخلق والولادة؛ فقد لاحظتُ أن النِّساء الهنديات في هذه القبائل أشدُّ وأكثرُ صلابةً من الرِّجال، وأن يدَ المرأة غليظة مشقَّقة قوية كيد الفلاح المصري، أما يد الرَّجل فقد رأيتها ناعمةً بضة. وكنت أرى الرِّجال جالسين طوال اليوم أمام البيوت في الشمس يدخنون ويشربون ويلعبون النرد، أما النِّساء فكنت أراهنَّ في الحقول يعملن طوال النهار من شروق الشمس حتى غروبها.

في أساطير اليونان القديمة انتشرت قصة النِّساء المحاربات اللاتي أُطْلِق عليهن اسم «الأمازونيات»، وهن نساءٌ قويات قادرات على الحرب والقتال والسيطرة، وقد حكمن المجتمع اليوناني فترةً من الوقت وتمتَّعن باحترامٍ كبير في الأدب اليوناني. لكن الصور التي رُسِمَتْ لهن فيما بعدُ كانت صور نساء بغير صدور، من أجل تجريد النِّساء من مظاهر أنوثتهن وتحويلهن إلى رجال، كأنما يقول هؤلاء الرسامون إن المرأة لا يمكن أن تكون قويةً بغير أن تتحوَّل إلى رجل.

لكن المصادر تقول إن هؤلاء النِّساء كن نساءً، وكن يمارسن الجنس مع الرِّجال ثم يتركن الطفل بعد الولادة للرجل ليرعاه ويطعمه؛ ذلك أن هؤلاء النِّساء كُنَّ مشغولات بشئون الدولة والحكم، ولم يكن لديهن الفراغ لرعاية الأطفال، هذه المهمة كانت وظيفة الرِّجال المقيمين بالبيوت.

ولم يكن اليونانيون في ذلك الوقت يستنكرون هذا الوضع. كان أمرًا طبيعيًّا للغاية يتفق مع الظروف السياسية والاقتصادية، كون النِّساء هن اللائي يمسكن مقاليدَ الحكم والجيش وشئون الدولة الأخرى.

ويقال أن هؤلاء النِّساء الأمازونيات كن شديدات القسوة مع الرِّجال، وأن المرأة منهن كانت أحيانًا تقتل الرَّجل بعد العملية الجنسيَّة كما يحدث لذكر النحل.

والغريب أيضًا أن بعض المصادر تقول بأن مثل هذا النوع من النِّساء كان يعيش حول نهر الأمازون في أمريكا، وأن بعض قبائل الهنود الحمر كانت فيها النِّساء قويات، وهن اللائي يحكمن، وقد عُرِف عنهن قسوة نساء الأمازونيات اليونانيات.

وهذه المعلومات تغذي هذا الفريق من العلماء الذي يتبنى نظريةَ أن المرأة البدائية كانت في عهود الأمومة أقوى من الرَّجل، وكانت هي التي تحكم، وكان الرَّجل خاضعًا لها، وأنه في هذه الفترة بالذات شعَر الرَّجل بالاضطهاد وأضمر للمرأة الخوفَ والكراهية والغَيرة، وظل يتحيَّن لها من أجل أن يعزلها عن عرشها ويجلس مكانها. وحين جلس الرَّجل مكانَ المرأة كان عليه أن يثأر منها بسبب قسوتها القديمة عليه. وكان في حاجةٍ دائمة إلى أن يقهرها ويقيدها خشيةَ أن تستوليَ على الحكم مرةً أخرى.

وتشير معظم المصادر الأنثروبولوجية إلى أن المرأة البدائية كانت تمتلك قوَّة أكثرَ من الرَّجل بصرف النظر عن حجم الجسم، وأنها هي التي سيطرت على الحياة والنسل لفترات طويلة جدًّا من الحياة البشرية. ولا تزال بقايا مجتمعات الأمومة هذه في بعض مناطق في أفريقيا (أويمبا – أوغندا – داهومي، وغيرها) وفي بعض مناطق في آسيا والهند وأمريكا والجزر من حولها. وقد اتضح من الدراسات الجديدة في علم النفس وعلم البيولوجي أن المرأة أقوى من الرَّجل نفسيًّا وبيولوجيًّا. وتتفق هذه النتائج الجديدة مع الاعتقاد البدائي القديم بقوة المرأة. وكانت الإلهة القديمة هي الأنثى الأم، ترمز إلى الخصوبة والقدرة على خلْق الحياة وولادتها وتغذيتها. وتشير معظم المصادر عن هذه الفترة من تاريخ البشرية إلى ذلك الخوف المبكِّر الذي شعر به الرَّجل نحو أمه؛ فهي المرأة الأولى التي يعرفها في حياته، وهي أكبر منه وأقوى، وهو يحتاج إليها لتطعمه، وهو يريد أن ينفصل عنها ليصبح فردًا مستقلًّا، ولا يريد أن ينفصل عنها؛ لأنها الأنثى الأولى في حياته، والجسد الأول الذي عرفه واشتهاه، وهو يشعر بالعجز أمامها والرغبة فيها، والخوف من قوَّتها وقدرتها على الحمل والولادة.

أمَّا البنات الصَّغيرات فلم تمثِّل الأم لهن مثل هذا الخوف؛ لأنَّهن كن يرين أنفسهن مثلَ الأم، والمستقبل أمامهن مفتوح ليصبحن كأمهاتهن ذوات الحرية والاختيار والقدرة على خلق الحياة والولادة. ولم يكن أمام الذُّكور في مثل هذه التربية النَّفْسية إلا أن يشعروا بالخوف من جنس النِّساء.

وقد تحيَّر كثيرٌ من العلماء في معرفة أسباب ذلك الخوف الدفين من المرأة الذي يُظهره أحيانًا بعضُ الرِّجال المرضى بالانحرافات الجنسيَّة، أو ذلك الحنين الدفين في نفس بعض الرِّجال لأن يكونوا نساءً يحملن ويلدن. وتلك الظاهرة المسمَّاة «كوفاد Phenomenon of couvade» حين يشعر الرَّجل برغبةٍ في أن يكون أنثى، أو يحاول ذلك عن طريق ارتداء ملابس النِّساء والذهاب إلى جرَّاح ليحوِّله إلى امرأة.

وتشير المصادر إلى أن خوف الرَّجل من المرأة تركَّز في الجنس والولادة ومظاهر الخصوبة، وأنَّ الخوف هنا كان سببه الجهل بهذه المظاهر، وبهذه القدرة التي تملكها المرأة ولا يملكها هو. ولهذا ارتبط خوف الرَّجل من المرأة بمظاهر خصوبتها من حمل وحيض وولادة. وهذا السَّبب في أنَّ خوف الرَّجل من المرأة تركَّز في النَّاحية الجنسيَّة بالذَّات، وأنه بالإضافة إلى فقدانه القدرةَ على الحمل والولادة فهو يسلِّم عضوه التناسلي للمرأة أثناء الممارسة الجنسيَّة، فإذا بها تسحب سائله المنوي وتسحب معه صلابته وقوَّته. ومن هنا الاعتقاد الشائع بأن المرأة تسحب قوة الرَّجل أثناء الجنس، وبعض القبائل الأفريقية حتى اليوم ما زالت تؤمن أن المرأة إذا خطَت فوق ساق رجل نائم فإنه يعجز جنسيًّا. وتعتقد قبيلة أرونتا أن المرأة يمكن بالسحر أن تجعل زوجها عاجزًا جنسيًّا وتُسْقِط عنه أعضاءه التناسلية. وفي الريف المصري حتى اليوم اعتقادٌ شائع بأن المرأة قد تعمل سحرًا لزوجها إذا هجرها فيعجز جنسيًّا. ويحرِّم سكانُ ميري في البنجال على نسائهم أكلَ لحم النَّمر كالرِّجال خوفًا من أن يصبحن قويات. وفي شرق أفريقيا (قبيلة واتاولا) يخفون سرَّ عمل النار على النِّساء خوفًا من أن تحكمهن النِّساء، ويؤمنون بأن الرَّجل الذي يلمس امرأةً في فترة الحيض يسقط ميتًا. ومن هنا عزْل النِّساء عن الرِّجال في فترة الحيض. ثم اعتبار الحيض نوعًا من الدناسة والنجاسة، وعزْل المرأة الحائض عن الحياة. هناك كثيرٌ من المجتمعات في الهند حتى اليوم تعزل البنت أيام الحيض في حجرةٍ منفصلة وتغلق عليها الباب حتى لا تخرج، ويُلْقَى إليها الطعام كلَّ يوم من شقٍّ في الباب. بعض الرِّجال في مجتمعنا حتى اليوم يعتقدون أن مصافحة المرأة الحائض تفسِد طهارتهم ونظافتهم. وكثير من المعابد تمنع المرأة الحائض من دخولها. وكانت الكنائس في فترةٍ ما تمنع النِّساء من الدخول. وفي الهند حتى اليوم معابدُ كثيرة يحرم دخولها على النِّساء جميعًا بصرف النظر عن الحيض.

وهناك عديد من الأمثلة على شدة خوف الرَّجل من المرأة ومن مظاهر خصوبتها، هذا الخوف الذي جعله يطردها من المعابد ويحتكر لنفسه الآلهة والدنيا والآخرة ما دامت هي قد ملكت الحياة الدنيا وملكت القدرةَ على خلق الحياة. هذا الخوف القديم قِدمَ الزمن، الذي يشعر به الرَّجل ويعيه، وقد لا يشعر به ولا يعيه وإنما يظل هناك كامنًا في عقله الباطن، لا يظهر إلا عندما يشعر الرَّجل بالخطر من المرأة في أية ناحية من نواحي الحياة، وبالذات الناحية الجنسيَّة.

ويقول علماء النفس إنَّ هذا الخوف الدفين القديم في نفس الرَّجل من المرأة هو الذي ولَّد لديه نوعًا من الإحساس بالنقص، وإن هذا الإحساس بالنقص هو الذي دفع الرَّجل إلى أن يشوِّه حقيقة المرأة، فيدَّعي أنها جسدٌ بغير رأس، أو يدَّعي أن جميع مظاهر خصوبتها كالحمل والحيض والولادة نجاسة ودناسة، أو أن أعضاءها الجنسيَّة تستحق الازدراء والتحقير، أما أعضاء الذكر الجنسيَّة فتستحق التمجيد والفخر، أو أنها سببُ الإثم والشر والموت وهو مصدر الخير والفضيلة، أو أنه امتداد روح الله وممثل الله فوق الأرض وهي تمثِّل الشيطان والخطيئة. وبذلك جعل الرَّجل نفسه «الروح» وجعل المرأة هي «الجسد». ومن هنا نشأت أفكار الفلاسفة الرِّجال الذين قالوا إن الرَّجل يمثِّل الله، أو يمثِّل الروح أو العالم الروحي، وإن المرأة تمثِّل الجسد أو العالم الأرضي. وهذا القول يشبه كلام رئيس قبيلة «كوتاس» الهندية حين قال لي إنَّ الدِّين للذكور والدنيا للإناث. ومعنى ذلك أن الله للذكور والأرض للإناث، لكننا نعرف كيف استولى الرَّجل بعد ذلك على الأرض أيضًا وأصبح دور المرأة الوحيد في الحياة هو خدمة زوجها والتفرُّغ للولادة والأطفال الذين أصبحوا مِلْك الأب. على أن الفصل بين الروح والجسد أدَّى إلى الفصل بين الحب والجنس، ونتج عن ذلك الفصلِ علاقاتٌ مشوَّهة بين الرِّجال والنِّساء؛ لأنها علاقاتٌ ناقصة على الدوام، فهي إما علاقات عاطفية بغير جنس، أو علاقات جنسية بغير حب، وكلا النوعين ناقص بل ضارٌّ أيضًا.

وقد اتضح أن الرَّجل لم يلجأ إلى هذا الفصل إلا بسبب خوفه من المرأة وخوفه من الجنس، وأن هذا الخوف رسَّب في نفسه إحساسًا دفينًا بالنقص، فادَّعى لنفسه الألوهية والكمال والسمو الروحي، وألصق بالمرأة الضَّعة والنقص والانحطاط الجنسي.

ويعتقد كثيرٌ من العلماء أن إحساس الرَّجل بالنقص يزيد أو ينقص تبعًا لعلاقته بأمه وبأبيه. ويرى بعضهم أن العلاقة بين الأم والأب داخل الأسرة الأبوية الحديثة تزيد من إحساس الطفل بالنقص، وذلك لسببين:
  • (١)

    سيطرة الأب بسبب قوانين الأسرة.

  • (٢)

    شدة التصاق الأم بطفلها بسبب تفرُّغ الأمهات للأمومة.

وأثبت بعض علماء النفس أن العلاقات غير المتكافئة داخل الأسرة رسَّبت في نفوس الأطفال الذُّكور والإناث عُقَد النقص. لكنهم وجدوا أن إحساس الذكر بالنقص يختلف عن إحساس الأنثى بسبب اختلاف التربية التي يتلقَّاها كلٌّ منهما. فالولد يتربَّى على أن الذُّكورة قوة وسيطرة وامتلاك، وتتربَّى البنت على أن الأنوثة ضَعف وخضوع وطاعة وإرضاء للرجل بأي شكل. وأصبح جمال الرَّجل في قوَّته الذُّكورية وسيطرته وثروته التي يمتلكها من مال أو أرض، وأصبح جمال المرأة في جسدها وشَعرها وبشرتها ورموشها.

ويرتبط الشعور بالنقص في كلٍّ من الرَّجل والمرأة حسب هذه المقاييس التي وُضِعَت للذكورة والأنوثة، فالمرأة قد تتصوَّر أنها غير مرغوبة جنسيًّا (لسببٍ من الأسباب، وأهمها عند المرأة ألا تكون جميلة الشكل)، وتفقد الثقة في نفسها كامرأة، وتشعر بعقدة نقص، أي تشعر أن أنوثتها أقلُّ من غيرها من النِّساء. وقد تكون هذه المرأة جميلة فعلًا بالمقاييس السائدة لجمال المرأة، لكنها تعتقد في أعماقها أنها ليست مرغوبة. والمهم هنا هو الإحساس الداخلي وليس المظهر الخارجي، فالجمال شأنه شأن المال لا يمكن أن يعطيَ إحساسًا بالثقة لإنسان يفتقد هذه الثقة أصلًا داخل نفسه.

إن المرأة الجميلة قد تطرب لسماع كلمات الإعجاب من الرَّجل، ولكنها تشعر في أعماقها أن هذا الإعجاب ليس موجهًا إليها ذاتها كشخص وإنما هو موجَّه إلى شكلها الخارجي، وهناك أيضًا الرَّجل الثري الذي يرضيه أن يكون محاطًا بالأصدقاء والمريدين، ولكنه يشعر أن هؤلاء النَّاس يصادقونه من أجل ماله وليس لأنهم يسعدون بصداقته وصحبته.

وهناك أيضًا الرَّجل القوي جنسيًّا الذي يرضيه إقبالَ النِّساء عليه لكنه يشعر أن هذا الإقبال يرجع إلى قوَّته الجنسيَّة وليس إلى كونه شخصًا يُحَب.

هذا الفصل بين الحب «للشخص ذاته» وبين الحب لأسباب مادية كالجمال الجسدي. والقوة الجنسيَّة ترجع إلى الفكرة القديمة في التَّاريخ البشري التي فصلت بين جسد الإنسان ونفسه، وأن حب الجسد ليس هو حب النفس. لم يكن هذا الانفصال موجودًا في حياة البشر البدائيين حين كانت الحياة طبيعية والرَّجل لم يسيطر بعدُ. كان الجسد هو النفس، وكان الحب إذا حدث فهو حب للجسد والنفس معًا بغير انفصال.

والحياة البشرية البدائية تشبه حياةَ الطفل الذي لا يفرِّق بين جسده ونفسه، والذي حين يشعر بحب أهله له يدرك أن هذا الحب بغير مقابل وغير مشروط، وأنه موجَّه إلى شخصه كله. لكن ما إن يكبر الطفل قليلًا حتى يدرك أن حب الأم أو الأب له ليس على هذا النحو الكامل، وأنه حب له شروط، وأنه حب يتقبل أشياء ويرفض أشياء، وأهم ما يرفضه هذا الحب هو ما يتعلق بالجنس أو الرغبات الجسدية، ويكتشف الطفل أيضًا أن ما يرفضه الأهل (وهي رغباته الجسدية) هي الرغبات التي تسبِّب له أكثرَ لذة وأكثر سعادة من أي شيء آخر. ولا يجد الطفل من حلٍّ إلا أن يقسم نفسه إلى جزأين: هذا الجزء الذي يحبه أهله والذي هو الأهم طالما أنه يحتاج إلى هؤلاء الأهل. والجزء الثاني هو ذلك الذي لا يحظى بحب الأهل لكنه يمنحه أكبر لذة وسعادة. وعلى هذا يكبر الطفل وهو يشعر أنه شيئان: شيء غير جنسي (أي مجرَّد نفسي) في محيط أهله وأسرته وما شابه، ثم مخلوق جنسي (أي جسد فقط) في محيط آخر، وذلك بدلًا من أن يشعر أنه شيء واحد أو مخلوق واحد، وأن جسده جزء لا ينفصل عن نفسه، وأنه يوجد بين النَّاس في جميع الظروف والأحوال بجسده ونفسه معًا.

ونفهم أنه كلما كان رفْضُ الأهل لرغبات الطفل الجسدية كبيرًا أصبح هذا الطفل في المستقبل أكثرَ ميلًا للفصل بين جسده ونفسه. على أن بعض الأطفال يستطيعون بعد أن يكبروا وينفصلوا عن أهلهم أن يسدُّوا تلك الثغرة بين الجسد والنفس، ويصبح الواحد منهم قادرًا على الحب كشخص واحد كامل (جسد ونفس) كما كان يشعر وهو طفل صغير. وهذه بالطبع إحدى سمات نضوج الشخصية، لكن هناك بعض الرِّجال (والنِّساء) الذين لا يصلون إلى النضوج بحال من الأحوال، كما أنه في حياة كل فرد منا فترة من حياته قبل النضوج وقبل التحام جسده بنفسه حين يشعر أن جسده شيء وأن نفسه شيء آخر، وأن هناك مَن يحب جسده ولا يحب نفسه، أو يحب نفسه ولا يحب جسده.

إنَّ إحساس الثِّقة بالنَّفس ينبع أساسًا من هذه القدرة داخل الإنسان على جعل جسده ونفسه شيئًا واحدًا، وبالرغم من أن الجمال الجسدي وحدَه أو كفاءة الرَّجل الجنسيَّة تقود إلى أن يخوض هذا الرَّجل عددًا من العلاقات مع النِّساء إلا أن هذا الرَّجل يظل عاجزًا عن إقامة علاقة حب حقيقية مستمرة ومشبعة مع أية امرأة طالما أنه يفتقد الإحساس الداخلي بالثقة في نفسه وقيمته كشخص متكامل. وكم من رجل جذاب جنسيًّا أو قوي جنسيًّا (فاقد الثِّقة في نفسه) يسرع في إنهاء علاقته بالمرأة في بدايتها خوفًا من أنها لو استمرت قليلًا فسوف تكتشف المرأة أنه غير جدير بحبها وتقطع هي العلاقة، ولهذا يبدأ هو بقطعها، وكأنما يقول لنفسه: «بيدي لا بيد عمرو.»

إن هذا الرَّجل المتعدد العلاقات مع النِّساء، الذي يتفاخر بعدد النِّساء اللائي اتصل بهن، والذي يقال عنه: «الدون جوان» ليس إلا رجلًا فاقدَ الثقة في نفسه، ويشعر بعقدة نقص، يحاول جاهدًا أن يسدَّ تلك الثغرة بين نفسه وجسده، وهو يعيش حياةً جنسية وعاطفية غير مشبعة وغير ناضجة تستحق منا الإشفاقَ ومحاولة البحث عن وسائل العلاج، ولا تستحق بحال من الأحوال أيَّ إعجاب.

لو عرف الرِّجال هذه الحقيقة العلمية فسوف يكفُّ الكثيرون منهم — لا شك — عن التفاخر بعدد غزواتهم النسائية والجنسيَّة، ويحولون جهودهم بدلًا من ذلك إلى ما يساعدهم على التئام الجُرح وسد الثغرة بين أجسادهم ونفوسهم، حيث يصبح الواحد منهم قادرًا على أن يكون شخصًا متكاملًا يستطيع التعامل مع المرأة كشخص متكامل، خاصة لو عرفوا أن المرأة (في معظم الأحيان) تحب الرَّجل الناضج الواثق من نفسه، وإن ضعفت عضلاته الجنسيَّة، أكثرَ مما تحب الرَّجل غير المتكامل الشخصية مهما بلغت عضلاته الجنسيَّة من قوة وجبروت.

ولعلَّ هذا يُفسِّر لنا تلك الدَّهشة التي يظهرها الرِّجال من ذوي العضلات حينما يرون امرأة تحب رجلًا بغير عضلات. إنَّهم يتهكَّمون دائمًا على مثل هذه الحالات، وهذا التهكم ليس إلا مداراة لشعورهم الحقيقي، ألا وهو الألم العميق بسبب عجزهم عن إقامة علاقة حب حقيقية، وإدراكهم الدائم لهذا النقص داخلهم، وينطبق هذا الكلام أيضًا على النِّساء اللائي يشعرن بالنقص وإن حظين بدرجةٍ عالية من الجمال الجسدي أو الجاذبية الجنسيَّة، وقد تكون الواحدة منهن ملكةَ جمال أو شيئًا من هذا القبيل والرِّجال يتزاحمون عليها، ومع ذلك يظل إحساسها بالنقص باقيًا، وبأنها ليست المرأة الكاملة القادرة على خوض علاقة حب حقيقية واحدة.

لقد لوحظ أن أكثر النِّساء تزينًا وبهرجةً وإظهارًا لجمالهن الجسدي الأنثوي هُنَّ أكثر النِّساء إحساسًا بالنقص، وأن محاولتهن الدائبة للمبالغة في التجميل والتزين ليست إلا مداراة أو تعويضًا عن ذلك الإحساس الدفين بالنقص وبأنهن نساء غير كاملات.

وكذلك الرِّجال، لوحظ أن أكثر الرِّجال استعراضًا وإبرازًا لعضلاتهم الجنسيَّة والذُّكورية والصفات التي أشيعت عن الذُّكورة والرجولة من حيث القوة والقسوة وعدم الاكتراث بالنِّساء، لوحظ أن هؤلاء الرِّجال هم أكثرُ الرِّجال إحساسًا بالنقص، وأن محاولتهم الدائبة للمبالغة في إبراز العضلات واستعراض صفات الرجولة ليست إلا مداراةً أو تعويضًا عن ذلك الإحساس الدفين بالشك في رجولتهم.

وهناك من الأسباب الكثيرة في مجتمعنا ما يشكك الرِّجال في رجولتهم، والنِّساء في أنوثتهن وما يرسِّب عُقَد النقص في نفوس الكثيرين من الشباب والشابات.

إن أجهزة الإعلام — وبالذات التليفزيون — وكذلك الصحف والمجلات — وبالذات المجلات المصورة — تعرض على النَّاس كلَّ يوم بغير انقطاع ذلك السيلَ من الإعلانات التجارية لترويج البضائع، هذه الإعلانات التي ترتكز أساسًا على أجساد النِّساء العاريات الجميلات الرشيقات الأنيقات أو أجساد الرِّجال ذوي القوة والعضلات والأسنان الناصعة البياض، ينظر النَّاس العاديون إلى هؤلاء بحسرة، يقارنون أنفسَهم بهم، ويشعرون بعد كل مقارنة بتلك المسافة الكبيرة التي تفصل بينهم وبين الجمال، ويتحسَّرون في أعماقهم ويخجلون من أجسادهم وتترسَّب في نفوسهم عُقَد النقص، وأنهم أقل ذكورة (أو أنوثة) من هؤلاء الرِّجال أو النِّساء.

من أجل ترويج البضائع بهذه الإعلانات، من أجل أن تثرى ثراءً فاحشًا هذه القلةُ من أصحاب السلع والصناعات المختلفة يتعذَّب ملايين الرِّجال والنِّساء في أعماقهم بسبب ذلك الإحساس بالنقص وعدم الاكتمال.

وقد اتضح أن عدد الرِّجال الذين يشعرون بنقصٍ في رجولتهم أو ذكورتهم أكثرُ من النِّساء اللائي يشعرن بمثل هذا النقص في أنوثتهن. إن الرَّجل في حاجة دائمة إلى أن يثبت رجولته وذكورته، وإنه في حاجة دائمة إلى ما يؤكد له أنه رجل، وأن رجولته قوية لا تضعُف. وهو في حاجة إلى مَن يجدِّد له هذا التأكُّد من حينٍ إلى حين حتى يظل واثقًا من نفسه ورجولته.

قال لي بعض الأزواج، إن أكثر شيء يؤرِّقهم ليس هو الخوف من أن يُطْرَدوا من عملهم أو يجوعوا أو يتعرَّوا، ولكن ما يؤرقهم دائمًا هو أن يفقدوا قوَّتهم الجنسيَّة يومًا ويصبح عضوهم الذكري عاجزًا عن الانتصاب. وسألت أحدهم: وما الذي يخيفك من هذا؟ قال: زوجتي.

قلت: وماذا ستفعل زوجتك؟

قال: سوف تذيع على النَّاس أنني لم أعُد رجلًا.

قلت: لا أظن ذلك، إنها امرأة طيبة، ومثلها لا يفعل ذلك.

قال: إذا لم تتكلم فهي على الأقل سوف تشعر بأنني لا أرضيها وقد تبحث عن رجل آخر.

سألته: هل تخاف أكثرَ من هذا الاحتمال أم من الاحتمال الأول، أعني هل تخاف على سمعتك بين النَّاس كرجل أم تخاف من ذهاب زوجتك إلى رجلٍ آخر؟

قال: أخاف من الاثنين، لكن ذهاب زوجتي إلى رجل آخر يخيفني أكثر.

سألته: لماذا؟

قال: لأنها زوجتي. هل هناك رجل في العالم يقبل أن تذهب زوجته إلى رجل آخر؟!

وقد وجدتُ من خلال الحديث مع عدد من الأزواج أن أغلبهم يتفقون مع رأي الزوج السابق في أن فقدان الانتصاب أو القوة الجنسيَّة هو أكثرُ ما يؤرق الرَّجل ويبعث في نفسه الخوف والقلق بالذات حين يتعدى الأربعين أو الخمسين، وأنه في حاجة دائمة إلى ما يؤكِّد له أنه مكتمل الرجولة، وأن رجولته — أي قوَّته الجنسيَّة — لا تقل ولا تضعُف.

والسؤال الذي يجب أن يُسألَ الآن هو: لماذا يحدث هذا للرجل أكثر مما يحدث للمرأة؟ وقد أجاب بعض العلماء على هذا السؤال إجاباتٍ علمية قاصرة، منها أن الرَّجل هو الطرف الإيجابي في الجنس، وهو الذي يبدأ، وهو الذي ينتصب، وهو الذي يفعل، وعليه يقع عبء الفعل ومسئوليته، أما المرأة فهي الطرف السلبي الذي يستقبل عضو الرَّجل فقط، وهي لا تفعل شيئًا، ولا تنتصب، ولا يقع عليها عبء الفعل. لكن هذه الإجابة قاصرة؛ لأنه ثبَت أن المرأة ليست طرفًا سلبيًّا في الجنس، وأنها إيجابية كالرَّجل، ولا بد أن يحدُث لها انتصاب في البظر وإثارة كالرَّجل، وأن تصبح عضلاتها الجنسيَّة قادرةً على الممارسة الجنسيَّة الكاملة حتى تصل إلى قمَّة اللذة (الأورجازم) كما يصل الرَّجل، وأن أي نقصان في كفاءتها الجنسيَّة يسبِّب لها درجاتٍ متفاوتة من البرود الجنسي، الذي يقابله الضَّعف الجنسي عند الرَّجل. إذن يمكن القول إنه من الناحية البيولوجية والفسيولوجية١ فإن المرأة كالرَّجل في حاجة دائمة إلى كفاءة جنسية معينة وإلا تعرَّضت للإحساس بالنقص أو البرود الجنسي.

وحينما لم يجد العلماء في علم البيولوجي وعلم الفسيولوجي ما يردُّ على السؤال السابق اتجهوا إلى علم النفس، وقالوا إن السَّبب الذي يجعل الرَّجل أكثرَ من المرأة تشككًا وقلقًا على رجولته هو أن الطفل الذكر يبذل جهدًا أكبر من الطفلة الأنثى للانفصال عن أمه لإدراكه المبكِّر أنه مختلِف عنها. أما الطفلة الأنثى فيمكنها أن تظل متَّحدة بأمها لكونهما من جنس واحد. لكن تعلُّق الطفل الذَّكر بأمه يُقابله تعلُّق الطفلة الأنثى بأبيها. إذا كان الطفل يبذل جهدًا للانفصال عن أمه فإن البنت تبذل جهدًا كبيرًا للانفصال عن أبيها. لكنهم يقولون هنا إن علاقة الأم بالابن ليست كعلاقة الأب بالبنت. لماذا؟ لأن الأم موجودة في البيت طوال النهار، أما الأب فهو غائب معظم النهار في العمل، ومن هنا قوة الرابطة بين الأم والابن أكثر من الأب والبنت.

لكنَّ بقاء الأم بالبيت وغياب الأب عن البيت، ظاهرةٌ اجتماعية اقتصادية بسبب تقسيم العمل بين الجنسين بنشوء الأسرة الأبوية، بدليل أنه في مجتمعات الأمومة وفي بعض القبائل حتى اليوم في أفريقيا٢ وآسيا وأمريكا يوجد رجالٌ يعملون داخل البيت ونساءٌ يعملن خارج البيت، والتصاق الآباء بأطفالهم أكثرُ من التصاق الأم بأولادها.

ويرجع الفرويديون هذه الظَّاهرة إلى عقدة أوديب وعقدة الإخصاء التي يشعر بها الطفل الذكر ولا تشعر بها البنت، وملخَّصها أن الطفل الذكر يكتشف وجودَ عضوه ويكتشف اللذة حين يمسكه، وهذه هي العادة السرية التي تبعث في نفس الطفل اللذةَ والخوف معًا؛ الخوف من عقاب الأهل الذين يحذِّرونه ضد الجنس. وحينما يكتشف الطفل أن أخته لا تملك العضو الذي يملكه يظن أنها قد عوقبت وأُخْصِيَت، ويزداد خوفه من أن يُخْصَى مثلها. هذا الخوف يجعله في قلقٍ دائم على عضوه، وعلى وجود هذا العضو وعدم فقدانه، أو عجزه عن الانتصاب.

لكنَّ علماء النفس الجدد فنَّدوا هذه النظرية، وقالوا إن البنت أيضًا تكتشف وجود البظر، وإنها تكتشف اللذة حين تمسك أو تداعب هذا العضو، وإن الأطفال البنات يمارسن العادة السرية كالأطفال الذُّكور، وإن هذه العادة السرية تبعث في نفس البنت اللذةَ والخوف معًا؛ بل إن خوفها من العقاب أشدُّ من خوف الولد، ولأن الكبت والمحظورات حولها أشدُّ منها حوله.

وهناك مَن يقول إنَّ اهتمام الرَّجل بالجنس أشدُّ من اهتمام المرأة، وبالتالي قلقه على الجنس أشدُّ من قلق المرأة؛ لأن طبيعة الرَّجل الجنسيَّة أعنفُ من طبيعة المرأة، وإن الرَّجل لا يستطيع أن يمتنع عن الجنس لفترة طويلة كما تستطيع المرأة، وإن الرَّجل في حاجة إلى إشباعٍ أكثرَ من المرأة؛ ولهذا السَّبب فإن طبيعة الرَّجل الجنسيَّة تميل إلى التعدُّد والتنوُّع أكثر من المرأة التي هي أحادية بطبيعتها، أي إنها تكتفي بزوج واحد طَوال حياتها، ومن هنا إباحة تعدُّد الزوجات للرجال اجتماعيًّا وأخلاقيًّا ودينيًّا وتحريم تعدُّد الأزواج للنساء.

على أن هذا التفسير أيضًا ليس له دلائلُ بيولوجية، فقد أثبت علم البيولوجي في السنوات الأخيرة أن طبيعة المرأة الجنسيَّة ليست أقلَّ منها في الرَّجل، وربما تزيد عليه؛ وذلك لأسباب ترجع إلى مراحل التطور الجنسي في الحيوانات الثديية إلى أن نتجت أنثى الإنسان (المرأة) وذكر الإنسان (الرَّجل).٣

يتَّضح من كل ذلك أنه علينا أن نبحث عن الإجابة المطلوبة خارج جسم الإنسان، بمعنًى آخر علينا أن نبحث عن الإجابة في المجتمع وفي الأسباب الاجتماعية والتَّاريخية التي جعلت الرَّجل أكثرَ قلقًا على قدرته الجنسيَّة من المرأة.

إن دراسة المجتمع وتاريخ الإنسان تدلنا على أن الرَّجل البدائي حين انتزع من المرأة النَّسب لينشئ أسرته الأبوية التي يعرف فيها أطفاله وينسبهم إليه من أجل أن يورثهم أرضه، لم يكن في إمكان الرَّجل أن يفعل هذا إلا بفرض الزواج الأحادي على المرأة، أي فرض زوج واحد للمرأة (لو تزوَّجت المرأة رجلين لاستحال على الرَّجل أن يعرف أطفاله من أطفال الآخر).

لكنَّ فرضَ زوج واحد على المرأة البدائية كان شديد الصعوبة؛ لأن طبيعة المرأة الجنسيَّة كانت عنيفة وكانت متعددة (كانت المرأة تتزوج عددًا من الرِّجال وتَنسب أطفالها إليها ولم يكن يُعرف الأب)، ومن أجل أن ينشئ الرَّجل أسرته الأبوية ومن أجل استمرار بقاء هذه الأسرة الأبوية كان لزامًا على الرَّجل أن يقمع طبيعةَ المرأة بشتى وسائل القمع الجنسي (حزام العفة الحديدي وغيره من الوسائل). ومن أجل أن ينجح القمع الجنسي كان لا بدَّ أن يصاحبه قمعٌ اقتصادي، بحيث يحرم على المرأة العمل والإنتاج وقصر وظيفتها في الحياة على الزواج والأمومة بغير أجرٍ سوى إعالة زوجها لها. ومن أجل أن ينجح القمع الجنسي والاقتصادي كان لا بدَّ أن يصاحبها قمعٌ فكري وفلسفي وديني وأخلاقي، بحيث يُحْكَم بالإعدام (جسديًّا أو نفسيًّا أو أخلاقيًّا) على المرأة التي تخرج عن قوانين الأسرة الأبوية الصارمة، وأهمها قانون الزوج الواحد.

وضع الرَّجل كلَّ هذه القوانين الصارمة ضد المرأة التي أحسَّ منذ البداية أنها أقوى منه، وأنه لا يستطيع أن يحكمها إلا بفرض هذه القوانين. إن إحساس الرَّجل القديم بقوة المرأة وخوفه الشديد من هذه القوة هو الذي جعله يفرض عليها كلَّ هذه القيود العنيفة، وهذا أمرٌ طبيعي فإن قوة الشيء هي التي تحدِّد القوة المطلوبة لإخضاعه وحكمه.

وقد أدرك الرَّجل وهو يضع قانون الزوج الواحد للمرأة، أن مثل هذا القانون يتعارض مع طبيعة المرأة الجنسيَّة القوية، لكنه تصوَّر أنه يستطيع أن يحارب هذه الطبيعة (أو يُضْعفها على الأقل) من أجل إنشاء مؤسَّسته الاقتصادية الصغيرة القائمة على الملكية والتوريث. كما أنه تصوَّر أيضًا أنه بإضعافه لطبيعة المرأة (بكل وسائل القمع السابقة) فسوف يستطيع الزوج الواحد أن يرضيَ زوجته ويكفيها بحيث لا تفكِّر في الذهاب إلى رجلٍ آخر.

ومن هنا فرض الرَّجل على نفسه عبئًا أدرك منذ البداية أنه عبء كبير، لكنه كان مضطرًّا إلى تحمُّل هذا العبء (أو التظاهر بأنه قادر على حمله) من أجل نشوء الأسرة الأبوية وملكية أطفاله.

ويمكن القول إن الرَّجل أدرك منذ البداية ضخامةَ العبء الذي فرضه على نفسه، وأدرك أيضًا عجزه عن القيام بهذا العبء. وبهذا مزَّق الرَّجل نفسَه بين شيئين متناقضين:
  • (١)

    أنه قادر على القيام بهذا العبء بالضرورة الاقتصادية والاجتماعية.

  • (٢)

    أنه عاجز عن القيام بهذا العبء بالضرورة البيولوجية والنَّفْسية.

هذا هو الوضع الصعب الذي وضع الرَّجل نفسَه فيه، والذي يفسِّر إلى حدٍّ كبير ذلك القلقَ الشديد الذي يشعر به الرِّجال خوفًا من فقدان قوَّتهم الجنسيَّة، أو خوفًا من عجزهم عن إرضاء زوجاتهم جنسيًّا. إن هذا القلق مبعثه الخوف من أن يعجز الرَّجل منهم عن إرضاء زوجته فتذهب إلى رجل آخر. وبرغم أن الأسرة الأبوية في العصر الحديث قد فَقَدَت (في كثير من المجتمعات الاشتراكية والطبقات الفقيرة) السَّببَ الأساسي الذي قامت من أجله، وهو الملكية والتوريث، برغم أن كثيرًا من الآباء في عصرنا هذا لم يعودوا يملكون شيئًا يورثوه لأطفالهم، وأن النظام الأبوي بالتالي قد فقد أهمَّ ركن فيه، إلا أن الرَّجل ما زال متمسكًا بأسرته الأبوية، مستعذبًا سلطتَه كأبٍ وزوج بعد أن تعوَّد على هذه السلطة التي منحته صفات الذُّكورة التي يتفاخر بها، ومنحته ملكية الأطفال والزوجة، ومنحته أيضًا الشرفَ والاسم الذي يعطيه للطفل، وإلا أصبح غير شرعي.

وقد ظل النظام الأبوي سائدًا في حياة البشر آلاف السنين، واستطاع أن يغيِّر الكثير من طبيعة كلٍّ من الرَّجل والمرأة، وأن يفرض على الإنسان نوعًا واحدًا من الرِّجال هم الرِّجال ذوو السلطة والقوة الجنسيَّة والإيجابية، ونوعًا واحدًا من النِّساء هن النِّساء من ذوات صفات معينة هي الطاعة والخضوع والعفة الجنسيَّة (أو البرود الجنسي) والسلبية والتضحية من أجل الزوج والأطفال.

ليس من السهل الآن بعد كل هذه السنوات وبعد أن فَقَدَ النظام الأبوي — في كثير من الحالات — أسبابَ وجوده أن يتحوَّل الرِّجال والنِّساء إلى طبيعة الإنسان الأولى، وليس من السهل على الحضارة الذُّكورية أن تعود وتصبح الأبوة فيها مجهولةً (وهذا أمرٌ لا مفر منه إذا ما عاد النَّسب إلى الأم).

إن إصرار الرَّجل الحديث (الذي لا يملك شيئًا يورِّثه لأطفاله) على معرفة أبوَّته ليس له ضرورة اقتصادية، وإنما له ضرورة نفسية واجتماعية وأخلاقية.

لكن علماء التَّاريخ يقولون إن الضرورة الاقتصادية هي التي تتحكَّم في مسار تاريخ البشرية، وإن أيَّ ظاهرة أو نظام في حياة البشر يبدأ أولًا لأسباب اقتصادية، ثم يدعم نفسَه بالأسباب الأخلاقية والدينية والنَّفْسية والاجتماعية.٤ على أنه بزوال السَّبب الاقتصادي ينهدم الركن الأساسي، وسوف يتبعه بفتراتٍ متفاوتة زوال الأسباب الأخرى واحدًا بعد الآخر.

إن قلق الرَّجل على قوَّته الجنسيَّة قلق نفسي واجتماعي، وسوف يتخلص منه الرَّجل حينما يدرك أنه غير مطالَب من قِبَل زوجته أو من قِبَل مجتمعه أن يُثْبِت دائمًا كفاءته أو فحولته الجنسيَّة. وحينما يشعر الرَّجل أنه غير مطالَب دائمًا أن يرضيَ زوجته جنسيًّا وإلا انتهزت فرصة ذهابه إلى العمل وذهبت إلى رجلٍ آخر، حينما يغيِّر المجتمع مفهومه عن الرجولة، ويغيِّر معنى كلمة «رجل» فلا تعني الذُّكورة أو الفحولة الجنسيَّة أو القدرة على إشباع الزوجة جنسيًّا، حينما يدرك الرَّجل أنه بغير حاجة إلى أن يثبت أبوَّته البيولوجية وأنه يستطيع إنسانيًّا أن يحب أطفال رجال آخرين كما يحب أطفاله، حينما يدرك المجتمع أنه حين فرض على البشرية نوعًا واحدًا من الرِّجال (وهو النوع الذي يُظْهِر صفات الذُّكورة فقط من حيث القوة الجنسيَّة والعدوان والسيطرة) أنه قد سبَّب القلق والعذاب للأغلبية الساحقة من الرِّجال الذين يشتملون بالطبيعة على جزأين: الذكري والأنثوي معًا، وأنهم من أجل التكيف مع المجتمع يدَّعون من الصفات ما ليس فيهم، ويتظاهرون بقوة ليست عندهم، ويحاربون على الدوام الأجزاء الإنسانيَّة والرقيقة فيهم.

وكم يتخلَّص كثير من الرِّجال من قلقهم ويستريحون حينما يدركون أنهم غيرُ مطالَبين على الإطلاق بأن يكونوا «رجالًا» بمعنى الكلمة، أو أن يتقمَّصوا هذا النمط الواحد من الرِّجال الذي فرضوه على أنفسهم؟!

والمشكلة الآن ليست فقط تحريرَ النِّساء من سلطة الرِّجال واضطهادهم، ولكن المشكلة أيضًا هي تحرير الرِّجال من أنفسهم ومن نظامهم الذي فَرض عليهم القلق والعذاب بمثل ما فَرض على المرأة التعاسة والحرمان والقهر.

إن هذا الإدراك القديم الدفين في نفس الرَّجل أنه غير قادر على إرضاء المرأة هو أحدُ الأسباب الذي يصيب كثيرًا من الرِّجال بالإحساس بالنقص، وما يتبعه هذا الإحساس من محاولة لتغطية النقص بقشرة خارجية من التكبُّر والاستعلاء وادعاء العظمة والقوة. إن عقدة الإحساس بالعظمة هي الوجه الآخر لعقدة الإحساس بالنقص، وهما وجهان لعملة واحدة؛ ولهذا يقول علماء النفس إن الرَّجل الذي يعاني من عقدة العظمة يعاني في الوقت نفسه من عقدة النقص (مثل الماسوشية والسادية وهما أيضًا وجهان لعملة واحدة)، وكلما زادت عقدة النقص زادت عقدة العظمة.

ومن هنا نستطيع أن نفهمَ حقيقة هؤلاء الرِّجال الذين ينفشون أوداجهم (كالديوك) الذين ينظرون إلى النَّاس (وبالذات النِّساء) شزرًا، والذين يبرمون شواربهم ويبرزون عضلاتهم ويدقون الأرض غطرسةً وكبرياء، الذين يقول الواحد منهم عن نفسه إنه «حمش»، هؤلاء هم أكثر الرِّجال معاناةً من عقدة النقص.

إنَّ نضج الرَّجل (أو المرأة) مرتبطٌ بقدرة هذا الرَّجل على التخلص من الإحساس بالنقص، هذا الإحساس الذي يترسب في نفسه كطفل تربَّى وعاش وسط أسرة أبوية احتلت فيها العلاقات الإنسانيَّة بين الأم والأب من ناحية، وبين الأطفال والأهل من ناحية أخرى.

وإنَّ نضج الرَّجل (أو المرأة) مرتبطٌ أيضًا بقدرة هذا الرَّجل على التخلص من الإحساس بالذنب، هذا الإحساس الذي يترسَّب في نفسه كشخص عاش في أسرة ومجتمع بشري مزَّق الإنسان إلى جزأين متنافرين متناقضين هما الجسد والنفس، وألصق تهمةَ الإثم بالجسد.

إن الرَّجل الناضج هو الذي لا يفصل بين جسده ونفسه، ويحس في أعماقه أنه شيء واحد، وهو ذلك الرَّجل الذي لا يشعر أنه أقل من ذلك الرَّجل الوسيم ذي العضلات الذُّكورية الذي يُطِلُّ عليه كلَّ يوم من شاشة التليفزيون معلنًا عن بضاعة جديدة، أو مؤديًا لدور البطل في فيلم من الأفلام. إنه الرَّجل الذي تصالح هو ونفسه وجسده، وتآلف هو وجميع أجزائه الذكرية والأنثوية فلم يَعُد يُخجِله أن يبكي تأثُّرًا، ولم يُخِفْهُ أن يفشل عضوه الجنسي في الانتصاب أحيانًا، ولم يَعُد يخفي رقَّته وحنانه وإنسانيته خوفًا من أن يُتَّهَم بأنه ليس رجلًا أو بأنه امرأة، إنه الرَّجل الذي وثق في نفسه وتغلَّب على عقدة النقص والخوف القديم من المرأة، وأصبح يشعر أنه ليس أقلَّ منها، وأنها ليست أقوى منه، وأن الرَّجل كالمرأة والمرأة كالرَّجل، ولا يمكن الفصل بينهما، ولا يمكن اعتبار أحدهما أسمى من الآخر.

إن مجرد تشبيه الرَّجل بالمرأة (لفظيًّا) يُعَد نوعًا من أشد الشتائم والإهانات للرجل، ومن هنا ندرك كم يصبح النضج الحقيقي شيئًا متعذرًا لكثير من الرِّجال، وكم يفضِّل الأغلبية الساحقة من الرِّجال أن يكونوا كما فَرض عليهم المجتمع أن يكونوا، بدلًا من أن يكافحوا من أجل أن يكونوا على حقيقتهم.

أن يصبح الرَّجل نفسَه الحقيقيةَ أمرٌ بالغ الصعوبة في مجتمعنا وفي معظم مجتمعات العالم، لكن ذلك لا يمنع من أن هناك رجالًا استطاعوا أن يتحدَّوا المجتمع وأن يفرضوا أنفسهم الحقيقية غير عابئين بتقييم المجتمع لذكورتهم أو رجولتهم. إنهم — لا شك — قلةٌ من الرِّجال، ولكنها القلة العظيمة ذات العبقرية العلمية والفنية التي استطاعت أن تسهم في تغيير كثير من الظواهر والحقائق الثابتة من حولنا، إنها هذه القلة من الرِّجال الذين لم يَعُد في أعماقهم الدفينة أيُّ خوف من المرأة، أو أي إحساس بالنقص أمامها.

على أنه هناك من الرِّجال الذين برزوا في الحضارة، ومع ذلك كانوا يعانون من مشاكل في علاقتهم بالمرأة بسبب الخوف منها وعقدة النقص، وليس ذلك لأن طاقتهم الجنسيَّة تحوَّلت إلى فكر وفن وثقافة، وإنما لأنهم كانوا أذكياءَ العقل وذوي مواهب استطاعت ألا تنهزم أمام المشاكل النَّفْسية والجسدية، ولأنهم قاوموا نقصَهم بإرادة حديدية، ومَن يدري لو كانت أتيحت لهم فرصٌ أفضل للنضج الجنسي والنفسي ربما كانوا أخرجوا إلى العالم أفكارًا وفنونًا أعظمَ من التي أخرجوها، ومن هؤلاء يذكر التَّاريخ: دافنش ورفائيل ومايكل أنجلو وبتهوفن وموزار وجوجول وتشيكوف ودوستوفسكي وبودلير وبروست وأفلاطون والمعري وابن الفارض والحلاج والسهروردي والعقاد وديكارت وسبينوزا وكانْت وشوبنهور وهيجل وكيركجارد ونيتشه ورسو وبلزاك، وغيرهم.

إنَّ بعض هؤلاء من شدَّة خوفهم من المرأة كان يُفضِّل عليها الإشباعَ الذاتي (العادة السِّريَّة) أو يفضِّل الرِّجال أو الأطفال أو المومسات. بعض الرِّجال لا يستطيعون ممارسة الجنس إلا مع مومس. إنَّ وضع المومس الأدنى اجتماعيًّا واقتصاديًّا يُقلِّل من خوفه من المرأة فيعالج من عجزه الجنسي. وكثير من الأزواج يتسللون من فراش زوجاتهم الجميلات ليذهبن إلى فراش المومس حيث الراحة النَّفْسية وعدم الخوف.

إن الرَّجل لا يشعر بخوف من المومس؛ لأن علاقته بها مؤقتة وسريعة، وهو يدفع نظير الممارسة الجنسيَّة ثم يخرج دون أن يتعامل مع هذه المرأة في مختلِف الحياة الأخرى كما يحدُث مع زوجته. وهناك أبياتٌ من الشِّعر اليوناني القديم بتوقيع شاعر اسمه «أنتيباتر» كتب يقول مخاطبًا المومس التي كان يذهب إليها:

بستة قروش أشتريك يا «يوريا» يا فتنةَ أثينا …
لا أشعر بحرجٍ بين ذراعيك ولا ضيق ولا خوف …
١  انظر الجزء الثاني من هذا الكتاب: «الأنثى هي الأصل».
٢  سبق شرحُ هذه النقطة في الجزء الثاني من هذا الكتاب «الأنثى هي الأصل».
٣  انظر أعمال شيرفي وكينزي وماسترز وجونسون. وقد سبق شرحُ هذه النقطة في الجزء الثاني من هذا الكتاب «الأنثى هي الأصل».
٤  سبق شرحُ هذه النقطة في بحث «المرأة والجنس» من هذا الكتاب.