النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

التمهيد الثاني

ثمة أمران في حياتي أظن أن لهما تأثيرًا على موضوع هذا الكتاب؛ ولذلك قد تكون هذه فرصة مناسبة للتحدث عنهما.

الأمر الأول أنني عندما كنت في أوائل الثلاثينيات من عمري تعرضت لدراسة قدر هائل من الرياضيات — جبر وهندسة وحساب مثلثات وقليل من حساب التفاضل والتكامل — سواء أفي مدرسة بروكلين تيك الثانوية حيث ظننت مخطئًا لفترة وجيزة في شبابي أني قد أصبح مهندسًا كيميائيًّا، أم في كلية الأرصاد الجوية التابعة للقوات الجوية الأمريكية في قاعدة شانوت بولاية إلينوي — أثناء الحرب العالمية الثانية — حيث حاول المدرسون تعليمي شيئًا عن الأسس الرياضية لعلم الأرصاد الجوية.

لم يترك أي فرع من فروع الرياضيات هذه أثرًا كبيرًا في نفسي. وكان الشيء الذي غيَّر هذا الوضع — تغييرًا جذريًّا ودائمًا — هو مقال في مجلة ساينتيفيك أمريكان في مطلع الخمسينيات تناول فرعًا من الرياضيات لم أسمع به من قبل. وهو ما كان يُسمى «نظرية الأعداد». تهتم هذه النظرية بوصف وتعيين خصائص الوحدة الأساسية في علم الرياضيات — ألا وهو العدد — وقد أثارت النظرية اهتمامي.

أرسلتُ سكرتيري إلى أقرب مكتبة ليشتري لي نسخًا من جميع الكتب المذكورة في المقال، وقرأتها حتى صرت مولعًا بالنظرية. وعلى مدار فترة امتدت أكثر من عام قضيت كل ما أستطيع اقتطاعه من وقت في حياتي المزدحمة في كتابة عمليات حسابية غير منتهية على أكوام من الورق. (تذكروا أنني أتحدث عن الخمسينيات. فلم تكن توجد أجهزة كمبيوتر. أو حتى آلات حاسبة. وعندما كنت أريد تحليل عدد أظنه عددًا أوليًّا، كنت أستخدم نفس الأسلوب الذي استخدمه فيرما أو كيبلر أو ربما أريستاركوس، وهو إجراء عمليات حسابية مكتوبة بخط اليد تحفل بتكرار ومشقة غير متناهيين.)

لم أعثر على مبرهنة فيرما المفقودة قط، ولم أجد حلًّا لأيٍّ من الألغاز الرياضية الكبرى. بل إنني لم أحقق تقدمًا ملموسًا في المحاولة الوحيدة التي ظننت لفترة من الوقت أني سأحرز فيها تقدمًا، وهي إيجاد صيغة رياضية يمكن من خلالها الحصول على الأعداد الأولية. وكان الإنجاز الذي حققته — وهو إنجاز ضئيل للغاية مقارنة بكل هذا الجهد — هو ابتكار اثنتين مما يمكن أن تسميه حيلًا رياضية. إحداهما كانت طريقة للعد على الأصابع. (من المؤكد أنك تقول الآن إن أي شخص يمكنه العد على أصابعه. حسنًا، لكن هل يمكن لهذا الشخص الوصول إلى العدد ١٠٢٣؟)، بينما تبدو الأخرى مهمة مستحيلة.

وفيما يلي توضيح لهذه الحيلة:

إذا رسمتَ صفًّا من العملات المعدنية — بصرف النظر عن طول هذا الصف — فسيكون بوسعي في غضون عشر ثوانٍ أو أقل أن أكتب العدد الفعلي للتباديل (صورة-كتابة-صورة، صورة-كتابة-كتابة، إلخ) التي يعطيها هذا العدد من العملات المعدنية عند قذفها في الهواء. ولمزيد من التعقيد سأقوم بذلك حتى مع إخفاء أي عدد تريده من العملات في الصف — عند أيٍّ من الطرفين — بحيث لا أكون على علم بعدد العملات المعدنية الموجودة في الصف.

مستحيل، أليس كذلك؟ أترغب في محاولة فهم الأمر؟ سأعود إلى هذه النقطة ولكن ليس الآن.

•••

الأمر الثاني الذي أظن أن له علاقة بموضوع الكتاب حدث بعد ذلك بنحو عشرين عامًا عندما وجدت نفسي للمرة الأولى في حياتي أقضى بضعة أسابيع في جزر الإمبراطورية اليابانية. ذهبت إلى هناك ضيفًا على هواة الخيال العلمي اليابانيين، وكان معي براين ألديس ممثلًا عن بريطانيا، ويولي كاجارليتسكي ممثلًا عما كان يُعرف حينها باسم الاتحاد السوفييتي، وجوديث ميريل ممثلة عن كندا، وآرثر سي كلارك ممثلًا عن سريلانكا، وآخرون من معظم دول العالم. كنا نتجول في المدن اليابانية — برفقة مجموعة من الكتاب والمحررين اليابانيين — لإلقاء المحاضرات وإجراء المقابلات الصحفية والقيام ببعض الأفعال الطائشة عندما كان يُطلب منا ذلك. (أدى آرثر رقصة الهولا المعروفة في هاواي على الطريقة السريلانكية، بينما حاول براين أن ينطق بقائمة طويلة من الكلمات اليابانية، التي اتضح أن معظمها كلمات بالغة البذاءة؛ لأن مُضيفِينا كانوا يحبون المزاح. ولن أخبركم بما فعلتُ أنا.) وكنوع من المكافأة دُعينا جميعًا إلى عطلة ترويحية في بحيرة بيوا حيث تجولنا في المكان ونحن نرتدي أزياء الكيمونو اليابانية، وأسرفنا في تناول الشراب في حانة الفندق.

قضينا معظم الوقت يخبر بعضنا بعضًا بما فعلنا منذ آخر مرة التقينا فيها. أظن أن حديث جودي ميريل كان الأكثر تشويقًا. وصلت جودي إلى اليابان في وقت مبكر، وقضت يومين في هيروشيما قبل وصول بقيتنا. كانت جودي تجيد وصف الأشياء، وحازت اهتمامنا أثناء روايتها ما شاهدته. الجميع يعرف ذلك الهيكل الحديدي المنبعج الذي حافظ عليه اليابانيون بوصفه نصبًا تذكاريًّا عندما تطايرت جميع الأجزاء الأخرى من ذلك المبنى إثر تفجير أول قنبلة نووية، ويعرفون أيضًا الوجه المنصهر لتمثال بوذا الحجري. وظِل الرجل الذي حُفِر على السلم الحجري الذي كان يجلس عليه — تلك الصورة التي لا يمكن محوها من الذاكرة ما إن يراها أي شخص — من جرَّاء الانفجار النووي الذي أحدث وهجًا رهيبًا في السماء.

قال أحدنا (أظن أنه براين): «لا شك أن هذا الضوء كان متوهجًا.»

قال آرثر: «متوهج بما يكفي لأن يكون عدد كبير من سكان النجوم المجاورة قد شاهدوه الآن.»

قال آخر (أظن أنه أنا): «لو أن هناك مخلوقات تشاهد ما يحدث هنا.»

واتفقنا على أنه ربما يكون هناك من يشاهد ما يحدث على الأرض بالفعل … أو على الأقل راقتنا هذه الفكرة.

•••

فيما يتعلق بتلك الحيل الرياضية التي أشرت إليها:

لا أظن أنه ينبغي عليَّ شرحها لك الآن، لكني أعدك أنه قبل انتهاء هذا الكتاب سوف يشرحها لك شخص ما.

على الأرجح سيكون هذا الشخص شابًّا ذكيًّا يُدعى رانجيت سوبرامانيان، وستلقي به بعد بضع صفحات.

ففي النهاية يدور هذا الكتاب بالكامل حول قصة رانجيت.

فريدريك بول