النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي

الخاتمة الثالثة

سير آرثر وأنا فريدريك بول

التقيت بآرثر سي كلارك أول مرة في الخمسينيات من القرن العشرين أثناء زيارته الأولى إلى مدينة نيويورك عبر المحيط الأطلنطي. حينها كان آرثر قد هيأ لنفسه مكانًا ككاتب خيال علمي من الطراز الأول، وفعل مثلما يفعل كتاب الخيال العلمي في بلد غريب، فبدأ يبحث عن كتاب خيال علمي آخرين ليتحدث إليهم، وعثر عليهم في جماعة تفتقر إلى التنظيم أطلقت على نفسها اسم «نادي هيدرا» حيث كنتُ واحدًا من الرؤساء التسعة المؤسسين. نشأت بيننا علاقة صداقة استمرت طوال نصف قرن هو ما تبقى في حياة آرثر. كنا نلتقي مصادفة إما في مهرجان للأفلام في ريو دو جانيرو أو في لقاء علمي عارض أو اجتماعات خاصة بالخيال العلمي، وهو ما تكرر عدة مرات في عدة أماكن. في البداية قضى آرثر وقتًا طويلًا في زيارة نيويورك، وكثيرًا ما كان ينزل في فندق تشيلسي غرب شارع ٢٣، وعندما تحين الفرصة كنت أشاركه تناول عشاء أو مشروب. كل هذا كان يحمَّل على حساب النفقات الذي تسدده عن طيب خاطر دار النشر التي أعمل لحسابها؛ إذ كنت أعمل محررًا في تلك الفترة وكنت أتوق لنشر أكبر قدر أتمكن من الوصول إليه من كتابات آرثر. ولكن مع بدء الألفية الجديدة تضاءلت قوة صداقتنا، وتحولت إلى خطابات متقطعة ومكالمات هاتفية عابرة. كنت قد توقفت عن التحرير حتى أتفرغ لكتاباتي، في حين توقف آرثر عن مغادرة موطنه في سريلانكا التي لم يحدث أن ذهبتُ إليها قط. (رغم زيارتي لعدد من الدول الأخرى لم تكن سريلانكا واحدة منها.)

وفي أحد خطاباته التي وصلتني أوائل عام ٢٠٠٦ ذكر آرثر في إشارة عابرة أنه قبل سنوات ووسط نوبة نشاط وقَّع عقود نشر لعدد من الروايات، وهو على يقين الآن أنه لن يتمكن من إنهائها وحده، ما جعله يتفق مع روائيين آخرين على مشاركته في معظم هذه الروايات، غير أن هناك رواية واحدة — اسمها «النظرية الأخيرة» — تحتاج شريكًا في كتابتها.

بدا هذا كأنه تلميح، وقد فهمته. فرددت عليه قائلًا: «إن كنت حقًّا بحاجة إلى شريك في هذه الرواية غير المكتملة فأنا على أهبة الاستعداد. إنني أهوى الأعمال المشتركة، ويبدو لسوء الحظ أنه لم يعد أمامي من يشاركني في الكتابة.»

أشعر بالأسى عندما أقول إن هذه هي الحقيقة. فنحو ثلث الروايات العديدة التي نشرتها كُتِب بمشاركة آخرين كانوا غالبًا أصدقاء منذ زمن بعيد — من بينهم إسحاق أسيموف وليستر ديل راي وسيريل كورنبلاث وجاك ويليامسون — وهؤلاء قضوا نحبهم منذ وقت طويل. خطر لي أن حث آرثر على الانضمام لمجموعة بها هذا الكم من الوفيات قد لا يكون أفضل محفز أعرضه على شريك محتمَل، والواقع أنه عندما مرت أسابيع لم أتلقَّ خلالها ردًّا منه بدأت أتساءل هل جعلته يشعر بالخوف من الفكرة. لكن بعدها وصلني خطاب — ليس من آرثر نفسه وإنما من وكيل أعماله في نيويورك — يقول إن آرثر قد أحال عرضي إليه، وأضاف:

منذ تلقيت هذا الخبر من آرثر وأنا أناقش الأمر مع محرِّرِه كريس شلوب الذي كان يناقشه بدوره مع زملائه ورؤسائه في دار نشر بالانتاين/ديل ري. ومن دواعي سروري أن أخبرك أنهم تحدثوا إليَّ اليوم لإبداء رغبتهم في المضي قدمًا … بعنا المادة إلى دار بالانتاين بناءً على بعض الأوراق التي أمدَّنا بها آرثر بالإضافة إلى ملخص موجز. أظن أنك قد ترغب في الاطلاع على هذه الأوراق قبل الالتزام بهذا المشروع.

لم يراودني أدنى شك في أني أود المشاركة في كتابة هذه الرواية، لكني كنت أنتظر بلهفة المسودة التي كتبها آرثر. وعندما وصلتني وجدت أنها تقرب من نحو مائة صفحة من الكتابات الأولية والمسودات بعضها مجمل والبعض الآخر مكتمل التفاصيل تمامًا.

اختير للرواية اسم «النظرية الأخيرة» إشارة إلى التعليق الشهير الذي كتبه عالم الرياضيات الفرنسي بيير دو فيرما في القرن الثامن عشر. كان فيرما يفكر في مسألة رياضية شهيرة. تنص نظرية فيثاغورس على أنه في حالة تربيع ضلعي مثلث قائم الزاوية وجمعهما معًا فإن مجموعهما يساوي مربع وتر المثلث. (أو أن مربع (أ) زائد مربع (ب) يساوي مربع (ﺟ).) باستخدام الأعداد الصحيحة فإن أصغر مثلث تنطبق عليه هذه القاعدة هو المثلث الذي يساوي ضلعاه ثلاث وحدات وأربع وحدات ويساوي وتره خمس وحدات؛ لأن مربع الثلاثة (تسعة) زائد مربع الأربعة (ستة عشر) يساوي خمسًا وعشرين وهو مربع الوحدات الخمس التي يساويها وتر المثلث.

لا شك أن هذا لا يمثل مشكلة إلى الآن. فأي شخص يولي اهتمامًا بالرياضيات على علم بذلك، وهذا معلوم لدى الجميع على الأقل منذ عهد الإغريق القدماء. السؤال الذي شغل بال فيرما كان يتعلق بتطبيق هذه القاعدة على المعادلات ذات الأسس الأعلى من الأس التربيعي. هل يوجد مثلث يكون فيه مكعب (أ) زائد مكعب (ب) يساوي مكعب (ﺟ)؟

أعلن فيرما أن هذا غير ممكن. وأضاف أنه اكتشف مؤخرًا برهان قوي على ذلك، وكتب: «هذا الهامش صغير جدًّا بحيث لا يتسع لعرض البرهان.» ومنذ ذلك الحين وعلماء الرياضيات يحاولون اكتشاف هذا البرهان الذي ادعى فيرما الوصول إليه. لم يحالف النجاح أحدًا منهم. ويراهن الخبراء الآن على أن فيرما كان مخطئًا، وأنه لم يتوصل إلى هذا البرهان قط.

أثناء قراءتي كل هذه التفاصيل في المسودة الإجمالية التي كتبها آرثر خطر لي هاجس. لقد قضيت فترة من الولع بهذا الفن المحير لنظرية الأعداد، ومن ثم كانت كل هذه المعلومات مألوفة وفي الوقت نفسه مشوقة لي، لكن ماذا عن مشتري الرواية العادي؟ من البديهيات المعروفة في عالم النشر أن مشتري الكتب الأمريكيين يكرهون الرياضيات، ويخافونها، وينفرون منها بشتى صورها. هل سيُقدمون إذن على شراء كتاب عنوانه ليس سوى تعبير رياضي مبهم؟

قلت لنفسي إنهم سيفعلون بالتأكيد؛ فالكتاب لا يدور حول النظرية. وإنما يدور حول فتًى عقد العزم على أن يعيد اكتشاف هذا البرهان المفقود، وحول ما حدث له وللعالم الذي يسكنه، بل وللمجرة بأسرها بعد اكتشافه هذا البرهان. فضلًا عن ذلك وجدْتُ الكثير من الأحداث الرائعة، ومن بينها سلاح حربي رائع حقق النصر في حروب دون أن يودي بحياة أي شخص، ومشهد مؤثر بين رانجيت سوبرامانيان — بطل الرواية — ووالده كبير الكهنة في معبد بوذي في سريلانكا، وعدد من الأجناس المثيرة في الفضاء، وموت إحدى الشخصيات الرئيسية، ووصف مقتضب للشخصيات الرئيسية في الرواية. كنت على يقين من أن هناك مصادر أخرى كثيرة أستقي منها، خصوصًا ذلك المصدر الرائع الذي سيسد الفراغات غير المكتملة وهو آرثر نفسه.

وهكذا أرسلت رسالة إلى آرثر أخبره أنني وافقت على بنود عرضه الكريم، وبدأت في إجراء عملية بحث وأنا على يقين تام أن كتابة هذه الرواية ستكون أمرًا سهلًا نسبيًّا. ومن قبيل الصدفة أني كنت أكتب رواية انتهيت من نصفها في هذا الوقت لكن لم تكن هناك مشكلة في تأجيلها حتى الانتهاء من رواية آرثر. وكنت قد أخبرت محرِّرِي جيم فرينكيل منذ وقت طويل أنه سيحصل على الرواية حتمًا، لكنني لن أوقع عقدًا معه حتى أكاد أنتهي منها؛ لأني كنت أود أن أنأى بنفسي بعيدًا عن الشعور بالقلق الدائم الذي يصاحب الالتزامات التعاقدية. وهكذا بدأت في كتابة «النظرية الأخيرة».

•••

لكل كاتب أسلوبه المميز في تحويل أفكاره إلى كلمات على الورق، ويتسم أسلوبي ببعض الغرابة في أمرين: أولًا أني أكتب قليلًا كل يوم، و«كل يوم» هنا تعني جميع الأيام بلا استثناء ومن بينها يوم عيد الميلاد ويوم عيد ميلادي وحتى الأيام التي أخضع فيها لعلاج عصب الأسنان. ثانيًا أني أفعل ذلك أيًّا كان المكان الذي أكون فيه. وقد كتبت عددًا من أفضل رواياتي في الفنادق والمطارات وعلى متن الطائرات على ارتفاع ٣٠ ألف قدم في الطريق إلى نيروبي أو بكين على سبيل المثال وفي عدد من الأماكن الأشد غرابة ومن بينها — أيام الحرب العالمية الثانية — مكان في قاعدة شانوت حيث كنت أتدرب كي أصبح قارئ نشرة جوية لدى القوات الجوية؛ إذ كان هذا هو المكان الوحيد في القاعدة الذي يظل مضاءً بعد الموعد المحدد لإطفاء الأنوار. لكن من بين جميع الأماكن التي يمكنني أن أمارس عملي فيها فإن مكاني المفضل هو سفينة رحلات مناسبة الحجم تبحر بي إلى مكان في العالم لم أذهب إليه من قبل.

في ذلك الوقت كنت قد اتفقت مع زوجتي على القيام برحلة لا تكون عبر أيٍّ من البحار الكبرى. كنا نقوم برحلة نهرية في نهر الدانوب تبدأ من بوخارست في رومانيا لنقطع الطريق برًّا إلى النهر في اتجاه المجرى إلى البحر الأسود وعودة في الاتجاه المعاكس لمجرى النهر عبر بلغاريا وصربيا وكرواتيا إلى بودابست في المجر. وحدث أني زرت معظم هذه الأماكن في الستينيات عندما كنت ألقي محاضرات ممثلًا عن وزارة الخارجية الأمريكية، لكنني لم أهتم لذلك. غادرَت زوجتي المركب لتزور أماكن محددة كانت تثير اهتمامها، بينما بقيت أنا على متن المركب بصحبة دفتر أوراقي الصفراء المسطرة وأقلام الحبر الجاف أكتب الرواية بمعدل رائع.

لم أحاول الاتصال بآرثر ما بين مغادرة شيكاغو وصعودنا على متن القارب النهري. لكن القارب كان مزودًا بخدمة البريد الإلكتروني، وكانت أولى الرسائل الإلكترونية التي بعثتها إليه تتعلق بالسؤال عن بعض الكائنات الفضائية المثيرة للاهتمام في مسودة الرواية. أطلق آرثر على هذه الكائنات اسم عظماء المجرة، وكانوا مسئولين عن تسيير الأمور بوجه عام، ورأيت كيف أنه قد يكون لهم دور مهم في نهاية القصة. لذلك طلبت من آرثر أن يخبرني بكل ما راوده من أفكار بشأن هذه الكائنات المدهشة. غير أن رده كان أقل فائدة بكثير مما توقعت. أخبرني آرثر أن كل ما يعرفه عن «عظماء المجرة» موجود في أوراق المسودة التي أرسلها وكيل أعماله إليَّ. وأضاف أنه بلا شك كانت لديه أفكار أخرى في وقت ما بخصوص هذه الكائنات، لكنه لم يعد يذكر منها شيئًا. لقد تلاشت هذه الأفكار دون أن تخلف أثر.

سألت آرثر مندهشًا وقلقًا عن أي تفاصيل؛ ولم يستطع أن يعطيني سوى أقل القليل. من الواضح أن شيئًا غريبًا حدث لآرثر في أحد أيام عام ٢٠٠٣. فبعد أن وقَّع عددًا كبيرًا من عقود نشر روايات جديدة استيقظ ذات صباح ليكتشف أنه لا يذكر كيف يكتب أيًّا من هذه الروايات.

لا تسألني عن تفسير هذا الأمر؛ لأن آرثر نفسه لم ينجح كثيرًا في تفسيره لي، لكن هذا ما حدث. لقد تبخرت جميع الكلمات التي كانت تمثل مفتاحًا لتلك الروايات. ذكر آرثر أنه منذ ذلك الحين حالفه قدر وفير من الحظ في كتابة خطابات تحية قوامها ثلاثمائة كلمة إلى مجموعات مختلفة حول العالم أرادت تكريمه، لكنه لم يزد على هذا.

لذلك صعدت إلى السطح العلوي للمركب، وشاهدت ضفاف النهر تمر بجانبي بعض الوقت وأنا أمعن في التفكير في هذا التطور الجديد. كان هذا يعني مزيدًا من العمل أو بالأحرى مزيدًا من المسئولية على كاهلي.

مع ذلك لم يكن الوضع سيئًا كلية، فقد وعد آرثر أن يراجع كل صفحة أثناء كتابتي للرواية وأن يدلي بتعليقاته عليها. صحيح أن هذا الوضع كان جديدًا عليَّ، لكنه لم يكن سيئًا بالضرورة. وهكذا نزلت لتناول الغداء، وبينما كنت أنهي فنجان قهوتي الثاني سلمني الضابط الثاني في المركب رسالة إلكترونية جديدة. كانت هذه الرسالة من وكيلي في نيويورك وجاء فيها «إذا كنت شرعت في كتابة «النظرية الأخيرة» فتَوَقَّف. ألغى وكيل كلارك الاتفاق.»

•••

عندما اكتملت الرواية أخيرًا، وروجعت لتلائم آرثر، ثم روجعت مرة ثانية لتلائمني، ومرة ثالثة لتلائم كريس شلوب محررنا في دار نشر ديل ري أرسلتُ بريدًا إلكترونيًّا إلى آرثر أبلغه بالأخبار السارة وقلت فيه: «من بين جميع الروايات التي كتبتُها لم أواجه قدر المشكلات التي واجهتُها في هذه الرواية. أشعر بالسعادة أنها انتهت بسلام، لكني لن أكررها ثانية مع أي رواية تكون أقل من «الحرب والسلم».» كان إلغاء وكيل آرثر في نيويورك للتعاقد مجرد حدث أول ضمن سلسلة من المشكلات الفريدة من نوعها.

لم آخذ هذه المشكلة الأولى على محمل الجد. لم تكن الواقعة تتعدى مجرد خلاف ثانوي بين وكيل أعمالي ووكيل أعمال آرثر، وأدركت أنهما سيتوصلان لتسوية في النهاية. ومع ذلك استغرق الأمر عدة أسابيع من التفاوض جيئة وذهابًا لإنهاء الخلاف. لكن قبل تسوية هذه المشكلة زادت الأوضاع سوءًا.

فمثلًا بعد فترة قصيرة أوْقَفَ مُزَوِّد الخدمة في سريلانكا نشاطه دون أن يخبر أحدًا على ما يبدو، ومن ثم لم تعد هناك جدوى للرسائل الإلكترونية، وانقطعت اتصالاتي مع آرثر أكثر من أسبوع. (إنه أمر مزعج للغاية أن تحاول إرسال بريد إلكتروني إلى عنوان كنت ترسل إليه من قبل بصورة مستمرة لتفاجأ بأن خدمة بريد «ياهوو» تخبرك أن هذا العنوان ليس موجودًا الآن ولم يكن له وجود من قبل.) بعد فترة تكرر هذا الانقطاع أسبوعًا آخر لكنه لم يكن بسبب تدخُّل بشري وإنما بسبب عاصفة استوائية عنيفة. وبين جميع المشكلات الأخرى كنا نواجه المشكلة الرئيسية والمتكررة المرتبطة باعتلال صحة آرثر.

في المراحل الأولى من كتابة الرواية كان آرثر يقرأ ما أكتب حالما أرسله إليه، وكما وعد من قبل كان يعلِّق ويدلي باقتراحاته بشيء من التفصيل. لم تكن هذه التعليقات تلقى قبولي دائمًا؛ ففي بداية الرواية ولأسباب تتعلق بالحبكة الروائية أردت أن يقضي رانجيت سوبرامانيان فترة من الوقت داخل حبس انفرادي. وكان أيسر طريق لتحقيق ذلك هو توريطه في الصراع الوحشي الدامي الذي تشنه الحكومة السريلانكية بين الحين والآخر على مجموعة من السكان التاميليين، لكن آرثر أخبرني على الفور أن هذه فكرة مؤسفة تمامًا. فمع أن الحكومات السريلانكية المتعاقبة كانت تتعامل بود شديد مع ضيفها الشهير (في الوقت الذي كان فيه آرثر بسيط اليد في سريلانكا) فإنه لم يغب عن باله قط أنه ضيف، وأن إقامته في سريلانكا قد تنتهي إذا أساء لحكام الدولة، فخشي أن يفضي وصفي للحرب المستمرة إلى هذه النتيجة.

كان الخطأ خطئي؛ لأني كنت على علم بمخاوف آرثر فيما يتعلق بهذا الموضوع، وكنت أعرف أيضًا كم كان يقلق من الغارات التي يشنها «نمور التاميل». في بداية السبعينيات عندما كنت أنا وآرثر في رحلة ذات جدول أعمال مزدحم لإلقاء محاضرات في اليابان كان آرثر متقد الذهن ومؤثرًا كعادته أثناء جلوسه أمام الجمهور، لكن ما إن أصبح بعيدًا عن الأنظار حتى أخذ يبحث عن بعض النشرات الإخبارية الناطقة باللغة الإنجليزية ليتابع مدى اقتراب «النمور» من مدرسة الغوص التي كان يديرها بالقرب من الشاطئ. (اتضح أنهم ليسوا قريبين بما يكفي لإلحاق الضرر بالمدرسة. ولم تتعرض المدرسة لضرر جرَّاء أيٍّ من جولات الحرب، لكن لحق بها الضرر بعد عقود عندما ضربت موجة تسونامي البلاد عام ٢٠٠٦، وأودت بحياة مئات الآلاف من الأشخاص في هذه المنطقة.) لذلك تحاملت على نفسي، وتخلصت من عدد كبير من الأوراق لأكتب مسارًا مختلفًا تمامًا يفضي إلى حبس رانجيت المسكين (والآن أظن أن هذا الطريق أفضل بكثير من المادة القديمة، وهو ما يثبت أن أيسر الطرق أمام الكاتب لا ينبغي بالضرورة أن يكون أفضلها.)

والواقع أن هذه النقطة هي العنصر الوحيد في الرواية الذي اعترض عليه آرثر كلية. في الغالب كانت تعليقاته مفيدة وفي الوقت نفسه مشجعة. لكن مع مرور الوقت زاد تأخر وصول هذه التعليقات، وبدأت تفتقر إلى التفاصيل مرة بعد أخرى. والسبب الرئيسي في ذلك صحته التي كانت تتدهور يومًا بعد يوم.

قبل نصف قرن لاحظت في إحدى الأمسيات أن آرثر يواجه بعض الصعوبة في النهوض من الأريكة الوثيرة التي استلقى فوقها دون أن يكترث لما كان يفعله الحشد تلك الليلة. وعندما سألته عن ذلك لم يبدِ اهتمامًا وقال: «تعرضت لحادث صغير أثناء الغوص. سيمر الأمر بسلام.» لكن صعوبة الحركة لم تكن بسبب حادث غوص، ولم تمر بسلام. وكان أفضل رأي طبي تلقاه — وهو أفضل رأي يمكن أن يعرضه عالَم الطب لأن آرثر زار جميع المراكز البحثية الكبرى التي وجدها أثناء طلبه للمساعدة — أنه يعاني ما يطلق عليه متلازمة ما بعد الشلل. لكن هذا التشخيص لم يفد في شيء؛ لأن هذا المرض لم يكن له علاج معروف. وفي النهاية لازم كرسيًّا متحركًا لم يبرحه طوال العقود الأخيرة من حياته.

لكن في حقبة الستينيات والسبعينيات كانت كلمة «في النهاية» لا يزال أمامها وقت طويل. ظل آرثر مشغولًا كعادته، وكنا نقضي بعض الوقت معًا في مناسبة أو أخرى.

وعندما حلت ذكرى ميلاده التسعين، وبدا واضحًا أن صحته تتدهور سريعًا اجتمع عدد من أصدقائه لإرسال تهانيهم بذكرى ميلاده، بينما قررتُ إدخال السرور على قلبه عن طريق تذكيره ببعض الأوقات الرائعة التي قضيناها معًا، وعلى وجه التحديد في مؤتمر أقامته وكالة ناسا للفضاء نحو عام ١٩٧٠ حول ما أطلقوا عليه اسم التكنولوجيا التأملية، وكان حضور المؤتمر بالدعوات فقط، وأدركت ناسا أن إتقان التأمل يستلزم وجود كاتب أو اثنين من كتاب الخيال العلمي على لائحة الحضور ليبينوا للآخرين كيفية القيام بذلك. ومن ثم اختارت الوكالة دعوة اثنين من أفراد مهنتنا هما آرثر كلارك وأنا.

لا أدري هل حصلت وكالة ناسا على ما كانت تتطلع إليه من عقد هذا المؤتمر. ما أعرفه هو أنها كانت في رأيي — وأنا على يقين أن آرثر يشاركني نفس الرأي — عطلة أسبوعية رائعة. فمن حيث التنظيم عقد المؤتمر على جزيرة قرب شاطئ جورجيا، ولم يكن هناك سبيل للعودة إلى اليابسة إلا على متن طائرة مروحية صغيرة. وهذا يعني أن نجوم هذا الحدث — هؤلاء الذين اعتادوا استقلال الطائرة مسافات طويلة للإدلاء بكلمتهم ثم التحليق على الفور إلى موعدهم التالي — قد اضطروا إلى البقاء في المكان والتحدث مع من تبقى منا طوال العطلة، وهي أفضل طريقة لتنظيم حدث كهذا. ضم المؤتمر خمسين أو ستين مدعوًّا جميعهم نجوم في مجالات علمية وتكنولوجية مختلفة، ومن بينهم أصدقاء قدامى مقربون مثل مارفين مينيسكي مدير معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا في مجالَي علم صناعة الإنسان الآلي والذكاء الاصطناعي، بالإضافة إلى أصدقاء جدد رائعين مثل إدجار ميتشيل أحد رواد الفضاء في مركبة أبولُّو الذي حاول إرسال رسائل تخاطرية من فوق سطح القمر إلى رفاقه على سطح الأرض. وكان لدى هؤلاء جميعًا أمور مشوقة يتحدثون عنها.

لم تقتصر المتعة على البرنامج الرسمي للمؤتمر فحسب. ففي البداية اكتشفت أنا وآرثر بعض الدراجات التي لم يكن يستخدمها أحد؛ لذلك دعوْنا مجموعة من الآخرين للانضمام إلينا في سباق للدراجات. (سألته في الرسالة التي أرسلتها إليه في عيد ميلاده: «هل تتذكر عندما كنا مفعمين بالحيوية؟»)

•••

في نهاية الأمر انتهت رواية «النظرية الأخيرة» بنجاح، لكن صحة آرثر اتخذت منحًى آخر. كانت معاناته من أمراض الشيخوخة تزداد يومًا بعد يوم؛ تلك الدورة المتكررة من الأسقام والعلل التي تخبرنا بأن أجسادنا قد أُنهكت بسبب ما نُلحقه بها من أضرار. (إنني خبير في هذه الأمور لأنني في النهاية أصغر من آرثر ببضع سنوات فحسب.) في حالة آرثر كان بعض ما يعانيه من أسقام محيرًا. فذات صباح استيقظ ووجد أنه لا يستطيع النهوض من فراشه. وعندما وصل الأطباء كان كل ما أخبروه به أنه أثناء نومه كسرت اثنتان من فقراته بطريقة ما، لكن لم يعرف أحد كيف حدث ذلك. كتب إليَّ آرثر حينئذٍ أن أكثر ما كان يتوق إليه في هذا العالم هو يوم يستطيع فيه الانتقال مرة أخرى بالكرسي المتحرك الذي أُعِد له خصوصًا.

بعدها سادت فترة طويلة من الصمت استمرت أسابيع أو ربما شهرًا أو شهرين. كانت تصلني الأنباء بين الحين والحين أن السبب هو نقل آرثر إلى المستشفى حيث كان يُمنع من الاتصال بالعالم الخارجي في بعض الأحيان. وعندما كان يشتد عليه المرض كان العاملون في مكتبه وفي منزله في سريلانكا يبذلون قصارى جهدهم كي يتضافروا ويحُولوا بينه وبين الاهتمام بأي شيء سوى صحته. وبعد شهر وأكثر من هذا الصمت أرسلتُ إليه الرسالة المذكورة آنفًا لأخبره بانتهاء الرواية، وأنني أتمنى أن يبذل بعض الجهد ليخبرني برأيه في المخطوطة النهائية التي كانت لديه منذ وقت طويل. لا بد أني كنت أشعر ببعض الضيق لأني أنهيت الرسالة قائلًا: «من فضلك أخبرني برأيك. أعرف أنك طاعن في السن ومعتل الصحة، لكني مثلك أيضًا.»

بعد يوم أو يومين تلقيت منه رسالة مطولة تحدث فيها عن كل ما أود سماعه، فأثنى على العمل الذي قمت به، وقال إن الرواية ممتازة، وسامَحَني لأني لم ألتزم بإجراء تغير أو تغيرين بسيطين للغاية لأنني (كما أخبرته) تعلَّقت بهذه الأجزاء وتمنيت ألا يشعر بالإحباط لأني أبقيت عليها دون تغيير. ولم يقتصر آرثر على قول كل ما كنت أتمنى سماعه، وإنما قاله بالأسلوب المميز الذي يتسم به سير آرثر تشارلز كلارك؛ ذلك الأسلوب الحي والموجز الذي اعتاده دائمًا.

يصعب عليَّ وصف كمِّ السعادة التي شعرت بها عند تلقي هذه الرسالة. وبسرعة كتبت ردًّا أخبره أنه على الرغم من احتمال تفتت عظامه وانهيار أعضائه الداخلية فإن عقله لا يزال متقدًا. وبعد بضعة أيام كنت أشاهد الأخبار على شاشة التليفزيون أثناء تصفح بعض الخطابات وإذا بالمذيع يقول إن سير آرثر كلارك قد وافته المنية وهو نائم الليلة الماضية.

وهكذا فقدناه.

كان آرثر مواطنًا قيِّمًا، وسوف نفتقده كثيرًا، وهو ما نشعر به الآن بالفعل. غير أن هناك جانبًا هزليًّا آخر في هذا الحدث كنت أتمنى أن يشاركنا إياه.

فلأنني حظيت بقراءة التعليمات المفصلة المرحة التي كتبها آرثر وأوصى بتطبيقها في مراسم دفنه فإني أُدرك أنه كان سيسعد بمزحة صغيرة وسط هذه المحنة؛ فقد لا يكون هناك أساس للربط بين الموت وبين التعاون في كتاب واحد مع فريدريك بول عند التفكير في الأمر بعقلانية، لكن يبدو أن التاريخ يثبت العكس. ولا أظن أني أرغب في التعاون مع أي كاتب آخر بعد الآن.