النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الأول

على صخرة سوامي

ها نحن الآن نلتقي — أخيرًا — رانجيت سوبرامانيان الذي يدور هذا الكتاب حول حياته الطويلة والمميزة.

في ذلك الوقت كان رانجيت في السادسة عشرة من عمره، وكان طالبًا مستجدًّا في الجامعة الرئيسية في سريلانكا بمدينة كولومبو، ومعجبًا بنفسه بدرجة تفوق ما يمكن أن يكون عليه أي فتًى عادي في السادسة عشرة من عمره. غير أنه لم يكن في الجامعة حينئذٍ. فبناءً على طلب والده قطع رانجيت رحلة طويلة من كولومبو مرورًا بجزيرة سريلانكا ووصولًا إلى مقاطعة «ترينكومالي» حيث نال والده لقب كبير الكهنة في المعبد الهندوسي الذي يسمى تيرو كونيسفارام. أحب رانجيت والده حبًّا جمًّا. ودائمًا ما كان يبتهج برؤيته. لكن بهجته برؤية والده هذه المرة كانت أقل إلى حد ما؛ لأنه يعلم تمام العلم الأمر الذي يود جانيش سوبرامانيان المُوَقَّر التحدث معه بشأنه.

كان رانجيت فتًى ذكيًّا؛ بل كان في الواقع قاب قوسين أو أدنى من مستوى الذكاء الذي ظن نفسه عليه. وكان حسن المظهر أيضًا. لم يكن طويل القامة بدرجة كبيرة، لكن معظم أهل سريلانكا ليسوا كذلك. كان رانجيت ينتمي عرقيًّا للتاميل؛ ذا بشرة بنية داكنة كلون ملعقة من الكاكاو قبل مزجها بالحليب الساخن. مع ذلك لم يكن لون بشرته يعزى إلى أصله التاميلي. فالسريلانكيون يتمتعون بمجموعة متنوعة من ألوان البشرة بدءًا من الأبيض الشبيه بلون بشرة الاسكندنافيين إلى الأسود الشديد القتامة. كان أقرب أصدقاء رانجيت — جاميني باندارا — سنهاليًّا خالصًا يعود نسبه إلى أجيال سنهالية عديدة، لكنهما كانا متشابهين في لون البشرة.

نشأت الصداقة بين الفتَيَين منذ زمن طويل؛ تحديدًا منذ تلك الليلة المروعة التي شب فيها حريق أتى على مدرسة جاميني؛ غالبًا بسبب تدخين اثنين من الطلبة للسجائر المحظور تدخينها في أحد المخازن.

وكأي شخص في الجوار قادر على أن يحمل قطعة من الخشب الرقائقي ويلقي بها فوق سطح شاحنة، اختير رانجيت للمشاركة في أعمال الإغاثة. كان شأنه في ذلك شأن جميع الطلاب الآخرين في مدرسته. كان عملًا مُهينًا وأشق بكثير من أن تتحمله عضلات فتًى في مرحلة النمو، ناهيك عن الشظايا والخدوش والجروح التي لا تنتهي بسبب قطع الزجاج المبعثرة في كل مكان.

تلك هي الجوانب السلبية، وقد كانت كثيرة. لكن كانت هناك جوانب إيجابية أيضًا. كالمرة التي تتبَّع فيها رانجيت وفتًى آخر في مثل عمره تقريبًا مصدر صوت أنَّات تنبعث من بين كومة من الحطام، وأنقذا قطًّا سياميًّا كبير السن بدا مذعورًا — وإن لم يُصَب بسوء — كان يمتلكه مدير المدرسة.

عندما حمل أحد المدرسِين القط إلى صاحبه، وقف الفَتَيان وكل منهما يبتسم للآخر. مَدَّ رانجيت يده على الطريقة الإنجليزية. وقال لصاحبه: «رانجيت سوبرامانيان.»

قال الفتى الآخر وهو يهز يده مبتهجًا: «وأنا جاميني باندارا، لقد قمنا بعمل رائع، أليس كذلك؟»

اتفقا على أنهما قاما بعمل رائع بالفعل. وعندما سُمح لهما بترك العمل في ذلك اليوم، وقفا معًا في صف للحصول على وجبتهما المسائية من حساء الشعير، ووضعا أكياس النوم متجاورة هذه الليلة ليصبحا أقرب صديقين منذ ذلك الحين. وساعدهما في ذلك — بكل تأكيد — أن مدرسة جاميني أصبحت غير صالحة للسكن بسبب الحريق، ومن ثم كان على طلابها أن يتشاركوا أماكن النوم مع طلاب مدرسة رانجيت. اتضح أن جاميني يتمتع بكل صفات الصديق الحميم، بما في ذلك حقيقة أن الهوس الأكبر في حياة رانجيت — الذي لم يكن يمكن لأي شخص آخر أن يشاركه إياه — لم يكن يعني جاميني في شيء على الإطلاق.

وبالطبع كان هناك أمر آخر يتعلق بجاميني. كان هذا الشيء هو إنه كان جزءًا من حوار رانجيت الوشيك مع والده، وهو حوار لم تكن لدى رانجيت أدنى رغبة فيه.

تجهم وجه رانجيت. وكما طُلِبَ منه اتجه مباشرة إلى أحد الأبواب الجانبية للمعبد، لكن لم يكن والده هو من قابله هناك. وإنما كان من قابله راهبًا عجوزًا يدعى سوراش أخبره — بلهجة رآها رانجيت آمرة بعض الشيء — أن عليه الانتظار قليلًا. لذا فقد انتظر وقتًا اعتبره طويلًا جدًّا دون أن يفعل شيئًا سوى الاستماع إلى أصوات الترانيم الصادرة من معبد والده الذي كان يثير في نفسه مشاعر مضطربة.

أعطى المعبد والد رانجيت غاية ومكانة وعملًا مجزيًا، وكلها أمور جيدة. لكنها شجعت الوالد العجوز على أن يعقد آمالًا واهية أن ابنه سيسير على خطاه. لكن هذا ما كان ليحدث قط. فحتى عندما كان رانجيت صبيًّا لم يستطع أن يؤمن بآلهة الهندوس الذين كان لبعضهم رءوس حيوانات متعددة الأشكال وعدد هائل من الأذرع، والذين كانت تماثيلهم المنحوتة تغطي جدران المعبد. عندما بلغ رانجيت السادسة من عمره كان يعرف اسم كل إله من تلك الآلهة، ويستطيع تعديد قدراته الخاصة وذكر أيام الصوم الأساسية أيضًا. لكن ذلك لم يكن نابعًا من حماسة دينية. وإنما فقط لأنه أراد إدخال السرور على نفس والده الذي أحبه.

تذكر رانجيت استيقاظه في الصباح الباكر وهو طفل صغير عندما كان لا يزال يقيم في بيت أبيه، واستيقاظ والده مع شروق الشمس ليغتسل في مسبح المعبد. كان يشاهد والده متجردًا من ثيابه حتى خاصرته في مواجهة الشمس المشرقة، ويسمعه وهو يكرر لفظة «أوم» طويلًا وبصوت رنان. وعندما تقدم رانجيت في السن قليلًا، تعلَّم إنشاد الترانيم، وتحديد مواضع الجسد الستة التي كان يلمسها، وتقديم الماء إلى التماثيل في غرفة الطقوس. لكنه ذهب بعدها إلى المدرسة. وهناك لم يعد لطقوسه الدينية مكان، وهكذا سُطرت نهايتها. وعندما بلغ العاشرة من عمره، أدرك أنه لن يسير على نهج والده الديني أبدًا.

لم يكن السبب في ذلك أن مهنة والده ليست جديرة بالاحترام. لم يكن معبد جانيش سوبرامانيان بنفس قِدَمِ أو اتساع المعبد الذي بُني ليحل محله. ومع أنهم أقدموا بشجاعة على تسميته بنفس اسم المعبد الأصلي — تيرو كونيسفارام — نادرًا ما كان كبير الكهنة يطلق عليه اسمًا آخر سوى «المعبد الجديد». لم يكتمل بناء المعبد حتى عام ١٩٨٣، وفيما يتعلق بمساحته لم يكن المعبد الجديد يضاهي تيرو كونيسفارام الأصلي؛ ذلك «المعبد الشهير ذي الألف عمود»، الذي مضت ألفا سنة على نشأته.

وفي النهاية لم يلتقِ رانجيت بوالده، وإنما التقى بسوراش العجوز. بدا معتذرًا. إذ قال: «هؤلاء الحجاج هم السبب، فأعدادهم هائلة! هناك أكثر من مائة حاجٍّ ووالدك — كبير الكهنة — مُصِرٌّ على تحية كل واحد منهم. اذهب يا رانجيت واجلس على صخرة سوامي، وتأمل البحر. سيلحق بك والدك ربما في غضون ساعة …» تنهَّد سوراش، وهز رأسه، ثم انصرف لمساعدة رئيسه في التعامل مع الجمع الغفير من الحجاج. ليترك بذلك رانجيت يتدبر أمر نفسه.

•••

والواقع أن ذلك العرض راق لرانجيت الذي اعتبر أن اختلاءه بنفسه على صخرة سوامي ساعة أو نحو ذلك هو هدية ترحيب.

المتأمل في صخرة سوامي قبل نحو ساعة كان سيجدها مزدحمة بأشخاص يتنزهون في ثنائيات أو أسر كاملة، ويزورون المعالم الشهيرة، أو يستمتعون بالنسيم العليل القادم من خليج البنغال. أما الآن — والشمس تتوارى خلف التلال نحو الغروب — تكاد الصخرة تخلو من زائريها.

هكذا كان رانجيت يفضل المكان. لقد أحب صخرة سوامي. في الحقيقة، لقد أحبها طوال حياته؛ أو ربما لا — هكذا عدل أفكاره — فهو في سن السادسة أو السابعة لم يكن يحب الصخرة نفسها قدر حبه للبحيرات الضحلة والشواطئ المحيطة بها حيث يمكنه اصطياد السلاحف النجمية الصغيرة وإجراء سباق فيما بينها.

غير أن هذا كان فيما مضى. أما الآن — وهو في السادسة عشرة من عمره — فإنه يعتبر نفسه رجلًا مكتمل النضج لديه أمور أهم للتفكير فيها.

وجد رانجيت مقعدًا حجريًّا خاليًا فجلس — مستمتعًا بدفء الشمس الآخذة في الدلوك وراء ظهره ونسيم البحر الذي يداعب وجهه — وهو يتهيأ للتفكير في الموضوعين اللذين كانا يشغلان فكره.

والحقيقة أن الموضوع الأول لم يكن بحاجة إلى الكثير من التفكير. لم يكن رانجيت مستاءً من غياب والده. لم يخبر جانيش ابنه البالغ من العمر ستة عشر عامًا عما يود الحديث بشأنه تحديدًا. لكن رانجيت كان متيقنًا من علمه بالأمر على نحو بعث الهم في نفسه.

كان الموضوع باعثًا على الشعور بالحرج، وأسوأ ما فيه أنه لم يكن له داعٍ على الإطلاق. كان يمكن تلافي الأمر برمته إذا تذكر رانجيت أن يغلق باب غرفته كي لا يتسنى للحارس في سكنه الجامعي أن يقتحم الغرفة عليه هو وصديقه ظهيرة ذلك اليوم. لكنه لم يغلق الباب. وفاجأهما الحارس بالدخول عليهما وكان رانجيت يعلم أن جانيش سوبرامانيان قد تحدث مع الرجل منذ وقت طويل. تحدث معه لغرض واحد — حسب قول جانيش — وهو الاطمئنان على أن رانجيت لا ينقصه شيء. لكن ذلك سيضمن بالتبعية أن يظل جانيش على علم تام بما يحدث في حياة ابنه.

تنهَّد رانجيت. ربما تمنى تفادي هذا الحوار المرتقب. لكنه لم يستطع؛ لذا فقد حوَّل اهتمامه إلى الموضوع الثاني — والأهم — الذي كان يشغله والذي دائمًا ما كان يحتل صدارة أفكاره.

ومن موقعه فوق صخرة سوامي — على ارتفاع مائة متر فوق المياه متلاطمة الأمواج في خليج البنغال — تَوجَّه رانجيت بنظره ناحية الشرق. على السطح — في وقت الغسق — لم يكن يُرى شيء سوى المياه؛ لا شيء على الإطلاق لمسافة تزيد عن ألف كيلومتر، باستثناء بضع جزر متبعثرة حتى تصل إلى ساحل تايلاند. في تلك الليلة كانت الرياح الموسمية الشمالية الشرقية ساكنة والسماء صافية تمامًا. لاح في شرق الأفق نجم لامع اصطبغ ضوءه قليلًا بلون أحمر مائل إلى البرتقالي فكان أشد النجوم تألقًا في السماء. تساءل رانجيت في نفسه عن اسم هذا النجم. لا شك أن والده يعرف. فجانيش سوبرامانيان كان واحدًا ممن يعتقدون بصدق وإخلاص في علم التنجيم كما يفترض لكاهن المعبد أن يكون. لكنه كان ذا باع طويل أيضًا في الاهتمام بشتى أنواع العلوم الدنيوية. فعرف كواكب المجموعة الشمسية، وأسماء العديد من العناصر، وكيف يمكن توليد طاقة كهربائية تكفي لإضاءة مدينة باستخدام عدد قليل من قضبان اليورانيوم المعدني، ووَرَّث قدرًا من هذا الشغف لابنه. ورغم ذلك لم يدم في عقل رانجيت الكثير عن علوم الفلك والفيزياء والأحياء، وإنما دام في عقله ذلك العلم الذي يربط جميع العلوم الأخرى بعضها ببعض، وهو علم الرياضيات.

أدرك رانجيت أنه يدين لوالده بهذا بسبب ذلك الكتاب الذي أعطاه إياه في ذكرى ميلاده الثالثة عشرة. كان كتابًا بعنوان «اعتذار عالم رياضيات» لعالم الرياضيات جي إتش هاردي. وفي هذا الكتاب، وقعت عينا رانجيت لأول مرة على اسم سرينفاسا رامانوجن؛ ذلك الموظف الهندي المُعْسِر الذي لم يتلقَّ أي تأهيل رسمي في الرياضيات بيد أنه صار معجزة عالَم الرياضيات في السنوات الحالكة التي شهدت أحداث الحرب العالمية الأولى. تلقى هاردي خطابًا من رامانوجن يضم نحو مائة نظرية اكتشفها، وهو الذي أحضر رامانوجن إلى إنجلترا، وأدخله عالم الشهرة.

كان رامانوجن مصدر إلهام رانجيت — فالنبوغ في الرياضيات قد ينبع من أي شخص — وخَلَّف الكتاب لدى رانجيت اهتمامًا خاصًّا وطاغيًا بنظرية الأعداد. لم يقتصر اهتمامه على نظرية الأعداد فحسب، وإنما اهتم بوجه خاص بالأفكار الرائعة التي كانت موضع بحث العبقري بيير دو فيرما الذي رحل منذ قرون، وبصورة أكثر تحديدًا تلك المسألة الشهيرة التي تركها فيرما لخلفائه، وهي إيجاد برهان يؤيد أو ينفي نظريته الشهيرة المعروفة باسم «النظرية الأخيرة».

كان هذا هو شغل رانجيت الشاغل والاستحواذ المسيطر عليه، وهو الموضوع الذي عزم على تخصيص الساعة المقبلة للتفكير فيه. لم يكن رانجيت يحمل آلته الحاسبة في جيبه، وهو ما اعتبره أمرًا سيئًا للغاية، لكن صديقه الحميم أقنعه بألا يفعل. قال جاميني: «أتذكُر ابن عمي تشاريثا؟ ذلك الذي يعمل نقيبًا في الجيش؟ لقد قال لي إن بعض الحراس يصادرون الآلات الحاسبة على متن القطارات. ويبيعونها مقابل أي مبلغ يحصلون عليه من المال. وربما يبيعون آلتك الحاسبة التي أنتجتها تكساس إنسترامنتس والتي تساوي مائتي دولار نظير عشرة دولارات لأي شخص يرغب في حساب ما أنفقه من نقود فحسب؛ لذلك من الأفضل أن تتركها في المنزل.» وهذا ما فعله رانجيت.

كان غياب الآلة الحاسبة مصدر إزعاج لرانجيت، غير أنه لم يكن بالخطب الجلل؛ لأن بساطة النظرية الأخيرة لفيرما هي أروع ما يميزها. فهل هناك أبسط من: أ٢ + ب٢ = ج٢؟ ومعناه أن مربع طول ضلع مثلث قائم الزاوية مضافًا إلى مربع طول الضلع الآخر يساوي مربع طول وتر المثلث. (أبسط صور هذه المعادلة أن يكون ضلعا المثلث طولهما ثلاث وأربع وحدات، وحينئذٍ يكون الوتر خمس وحدات، لكن هناك العديد من الحالات الأخرى ذات الحلول الوحدوية.)

يمكن لأي شخص إثبات هذه المعادلة البسيطة بنفسه باستخدام مسطرة وعملية حسابية بسيطة. وكان ما فعله فيرما ليشغل بال أجيال من علماء الرياضيات أنه زعم أن مثل هذه العلاقة تنطبق فقط على الأسس التربيعية، وليس على الأسس التكعيبية أو أي أس أعلى رتبة. وأضاف أن لديه البرهان على ذلك.

لكنه لم ينشر برهانه.

(إذا أردت مناقشة أكثر شمولًا للنظرية «الأخيرة»، فثمة واحدة في نهاية الكتاب بعنوان «الخاتمة الثالثة».)

***

مط رانجيت جسده، وتثاءب، واستفاق من أفكاره. التقط حصاة، وقذفها بأقصى قوته، وفقد أثرها في ضوء الغسق قبل لحظة من ارتطامها بالماء في الأسفل. ابتسم رانجيت. ثم اعترف لنفسه أن بعضًا مما يقوله الناس عنه ليس عاريًا من الصحة تمامًا. فعلى سبيل المثال، لم يكن من الخطأ كليةً أنهم يقولون إنه مشغول بأفكار تستبد به. فقد اختار مبكرًا ما سيكرس نفسه له، وظل متمسكًا به، وصار الآن ما يمكن أن يطلق عليه المرء أحد أنصار فيرما. ما دام فيرما قد زعم أنه وجد البرهان، فإن رانجيت سوبرامانيان — شأنه في ذلك شأن كثير من علماء الرياضيات قبله — يعتبر وجود البرهان من المسَلَّمات.

غير أن هذا لا يعني انحرافًا عن المسلك الطبيعي كما حدث مع برهان وايلز الذي حاول إقناع أستاذه في الرياضيات بمناقشته في الجامعة. فلو جاز تسمية هذا العبث القديم (الذي يرجع تاريخه إلى أواخر القرن العشرين) برهانًا، فإن رانجيت — الذي تردد في استخدام كلمة «برهان» لوصف شيء لا يمكن لبشر قراءته — لم يُنكر صلاحيته من الناحية الفنية. كل ما في الأمر أنه اعتبره هراءً ليس غير. والواقع أنه أخبر جاميني باندارا قبل أن يفاجئهما هذا الحارس المَقِيت بفتح باب الغرفة بقليل أن برهان وايلز قطعًا ليس هو البرهان الذي تباهى بيير دو فيرما باكتشافه على هامش كتاب «الحساب» لعالم الرياضيات ديوفانتس.

ومرة أخرى تجهم وجه رانجيت؛ لأن ما حدث بعد ذلك هو أنه أخبر جاميني بأنه سيجد مبرهنة فيرما بنفسه. وكانت تلك بداية المزاح الصاخب بين الصديقين والتعليقات التهكمية المضحكة التي أدت مباشرة إلى ما رآه الحارس عند دخول الغرفة عليهما. احتشدت ذكريات ذلك الوقت في عقل رانجيت حتى إنه لم يسمع وقع أقدام أبيه من خلفه، ولم يدرك وجوده إلى أن وضع الأب يده على كتف ابنه، وقال: «مستغرق في التفكير، أليس كذلك؟»

•••

حالت ضغطة يد جانيش دون وقوف رانجيت. فجلس جانيش بجواره، وأخذ يتفرس في وجهه وملابسه وجسده. ثم قال متبرمًا: «أصبحت نحيفًا.»

أجاب رانجيت مبتسمًا: «وأنت أيضًا»؛ لكنه شعر ببعض القلق أيضًا إذ علت وجه أبيه نظرة لم يرَها من قبل قط امتزج فيها القلق والأسى على نحو غريب في وجه العجوز الذي اعتاد بساطة الوجه. وأضاف رانجيت: «لا تقلق. فهم يطعمونني جيدًا في الجامعة.»

أومأ والده برأسه. وقال في اعتراف منه بدقة العبارة، وبأنه على يقين أن ابنه يحصل على التغذية الكافية: «صحيح.» ثم أضاف: «أخبِرْني عما يفعلونه هناك من أجلك أيضًا.»

كان بإمكان رانجيت أن يعتبر تلك دعوة للحديث عن حقه في حياة خاصة وفي بعض الحرية التي تحول دون تلصص الخدم عليه. لكنه آثر تأجيل هذا الموضوع قدر ما يتسنى له. قال رانجيت مرتجلًا في عجالة: «إنها الرياضيات التي تشغل وقتي في الأساس. أتعرف النظرية الأخيرة لفيرما …» وعندما عبَّرت النظرة التي علت وجه جانيش عن استمتاع حقيقي للمرة الأولى استطرد رانجيت: «حسنًا، بالطبع تعرفها. فأنت الذي أعطيتني كتاب هاردي في الأساس، أليس كذلك؟ على أي حال هناك شيء يسمى برهان وايلز. إنه عمل بغيض. ما الذي استند إليه وايلز في برهانه؟ لقد استند إلى إعلان كين ريبيت أنه أثبت وجود رابط بين فيرما وبين فرضية تانياما-شيمورا، وهي فرضية تقول …»

ربَّت جانيش على كتفه. وقال برفق: «حسنًا يا رانجيت. لا داعي لأن ترهق نفسك بشرح فرضية تانياما-شيمورا لي.»

فكر رانجيت هنيهة. ثم قال: «لا بأس. حسنًا، سأبسط الأمر. تكمن المشكلة الأساسية في حجة وايلز في نظريتين. تقول النظرية الأولى إن أيَّ منحنًى ناقص يكون شبه مستقر لكنه ليس معياريًّا. بينما تقول النظرية الثانية إن جميع المنحنيات الناقصة شبه المستقرة ذات المعاملات الجذرية تكون معيارية. ومعنى ذلك أن هناك تناقضًا مؤكدًا، و…»

تنهد جانيش في حنان. وعلَّق قائلًا: «أنت مشغول للغاية بهذا الأمر، أليس كذلك؟ لكنك تعرف أنني لست خبيرًا في الرياضيات؛ لذا دعنا نتحدث عن شيء آخر. ماذا عن باقي المواد الدراسية؟»

بدا رانجيت حائرًا قليلًا، فهو يعلم يقينًا أن أباه لم يأتِ به إلى ترينكومالي ليتحدث عن دراسته، فأجاب قائلًا: «ها. أجل. المواد الدراسية الأخرى.» لم يكن هذا الحوار يثير نفس القدر من الإزعاج الذي قد يثيره الحديث عما نقله الحارس من أخبار إلى أبيه. لكنه في الوقت نفسه لم يكن بالحوار الرائع أيضًا. تنهد رانجيت، واصطبر على الأمر. ثم قال: «حقًّا، لماذا يتعين عليَّ تعلُّم الفرنسية؟ ألكي أذهب إلى المطار، وأبيع الهدايا التذكارية إلى السياح الوافدين من مدغشقر أو كيبيك؟»

ابتسم والده. وقال موضحًا: «الفرنسية لغة ثقافة. فضلًا عن أنها اللغة التي يتحدث بها بطلك المحبوب مسيو فيرما.»

«حسنًا»، قالها رانجيت مدركًا لنقطة الخلاف، لكنه ظل غير مقتنع. ثم أردف: «ولكن ماذا عن التاريخ؟ من يأبه به؟ لِمَ يُفترض أن أعرف ما قاله ملك كاندي للبرتغاليين؟ أو هل طرد الهولنديون الإنجليز من ترينكو أم العكس؟»

ربَّت والده على كتفه مرة أخرى. وقال: «هناك إجابة سهلة لسؤالك. السبب هو أن الجامعة تتطلب اجتياز هذه المقررات قبل أن تمنحك درجتك الجامعية. وبعدها يمكنك أن تتخصص في دراساتك العليا حسب ما تريد. ألا تدرس في الجامعة شيئًا تستمتع به سوى الرياضيات؟»

انفرجت أسارير رانجيت قليلًا. وأجاب قائلًا: «ليس الآن، لكن في العام القادم سأكون قد انتهيت من علم الأحياء الممل هذا. حينئذٍ يمكنني أن أدرس مقررًا علميًّا مختلفًا، ولسوف أدرس علم الفلك.» وعندما أتى على ذكر علم الفلك رفع نظره إلى السماء حيث النجم الأحمر المضيء الذي بات يغطي الأفق الشرقي حينئذٍ.

لم يحبطه والده. وقال وهو يتبع مسار رؤيته: «إنه المريخ. إنه متألق على نحو غير معتاد، والرؤية واضحة الليلة.» ثم أعاد جانيش نظره إلى ابنه. وقال: «بمناسبة الحديث عن كوكب المريخ، هل تذكر بيرسي مولزويرث؟ ذلك الشخص الذي اعتدنا زيارة قبره، أتذكره؟»

فتش رانجيت في ذكريات طفولته، وشعر بالسعادة؛ لأنه وجد ما يساعده في الإجابة عن سؤال والده. فقال: «نعم بالتأكيد. إنه عالم الفلك.» كانا يتحدثان عن بيرسي مولزويرث، وهو نقيب في الجيش البريطاني أُرسِل إلى ترينكومالي قرب نهاية القرن التاسع عشر. أردف رانجيت وهو سعيد بالتحدث عن شيء سيسر والده: «كان عالمًا متخصصًا في دراسة كوكب المريخ، أليس كذلك؟ إنه الشخص الذي أثبت أن …»

ساعده والده قائلًا: «القنوات.»

– «أجل، القنوات! أثبت أنها لم تكن قنوات حقيقية شقَّتها حضارة مريخية متقدمة، وإنما هي مجرد مثال لأنواع الخدع التي تُوقعنا فيها أعيننا.»

أومأ جانيش إيماءة تشجيعية. وقال: «إنه عالم الفلك — عالم الفلك عظيم الشأن — الذي أدى معظم عمله هنا في ترينكومالي، وهو …»

قطع جانيش عبارته. والتفت يحدق في وجه رانجيت. ثم تنهد. وأردف: «أترى ما أفعله الآن يا رانجيت؟ إنني أؤجل الحديث في أمر لا مفر منه. فأنا لم أطلب منك أن تأتي هنا الليلة للحديث عن علماء الفلك. هناك أمر بالغ الأهمية لا بد من الحديث عنه. وهو علاقتك بجاميني باندارا.»

ها قد آن الأوان.

أخذ رانجيت نفسًا عميقًا قبل أن يقول مندفعًا: «صدقني يا أبي! الأمر ليس كما تظن! أنا وجاميني لا نأخذ هذا الأمر على محمل الجد. إنه لا يعني شيئًا.»

بدا والده مندهشًا على غير المتوقع. وهو يقول: «لا يعني شيئًا؟ بالطبع ما كنتما تفعلانه لا يعني شيئًا. أكنت تظن أنني لا أعرف الأساليب التي يحب الشباب أن يجربوا بها مثل هذه السلوكيات؟» هز رأسه معاتبًا، ثم علا صوته فجأة وهو يقول: «لا بد أن تصدقني في هذا يا رانجيت. ليست تجربة السلوك الجنسي هي الأمر المهم. إنما المهم هو الشخص الذي تشاركه التجربة.» ثم شدد على النبرة التوكيدية في صوته كأنما شُقَّ عليه نطق هذه الكلمات. وقال: «تذكر يا بني أنك تاميلي وأن باندارا سنهالي.»

كان أول رد فعل لرانجيت أنه لم يستطع تصديق ما سمعه من والده. كيف يمكن والده — الذي طالما علَّمه أن جميع البشر إخوة — أن يقول كلامًا كهذا الآن؟ لقد كان جانيش سوبرامانيان مخلصًا لمعتقداته على الرغم من أن أحداث الشغب العرقية التي بدأت في الثمانينيات من القرن العشرين خلفت جراحًا ربما تحتاج إلى عصور قبل اندمالها. فقدَ جانيش عددًا من أقربائه بسبب الغوغاء الثائرين. وهو نفسه نجا من الموت بأعجوبة أكثر من مرة.

لكن هذا تاريخ قديم. لم يكن رانجيت قد وُلِد بعد في هذه الأيام — بل ربما لم تكن والدته المتوفاة قد وُلِدت بعد هي الأخرى — وثمة هدنة معقودة منذ سنوات ويلتزم بها الجميع. رفع رانجيت إحدى يديه. وقال متوسلًا: «أرجوك يا أبي! هذا ليس كلامك. جاميني لم يقتل أحدًا.»

كرَّر جانيش سوبرامانيان كلماته المؤلمة في تعنت. ليقول: «جاميني سنهالي الأصل.»

– «لكن يا أبي! ماذا عن كل الأشياء التي علمتني إياها؟ وتلك القصيدة التي جعلْتَني أحفظها عن ظهر قلب، تلك القصيدة من الشعر التاميلي. «جميع البلاد بلادنا، وكل الناس أهلنا، هكذا علمتنا آراء الحكماء.»»

كان رانجيت يحاول إقناع والده بيأس وبلا جدوى. فجانيش لم يكن ليتأثر بأبيات من الشعر التاميلي نُظِمَت منذ ألفي عام. لم يرد والده، وإنما اكتفى بهز رأسه، رغم أن رانجيت قرأ علامات المعاناة في وجه أبيه أيضًا.

قال رانجيت في أسًى: «حسنًا. ماذا تريدني أن أفعل؟»

بدت الجدية في نبرة والده. إذ قال: «ما يتحتم عليك فعله يا رانجيت. لا يمكنك أن تظل قريبًا هكذا من شخص سنهالي.»

– «لكن لماذا؟ لماذا الآن؟»

أجاب والده: «الأمر ليس بيدي. لا بد أن ألتزم أولًا بالواجبات التي تمليها عليَّ صفة كبير كهنة المعبد، وهذا الأمر يُحدث شقاقًا.» ثم تنهد، وأضاف: «لقد نشأتَ على الإخلاص يا رانجيت. لذا فإنني لستُ مندهشًا لرغبتك في البقاء مع صديقك. كل ما أتمناه أن تجد سبيلًا للإخلاص لأبيك أيضًا، لكن ربما يكون هذا مستحيلًا.» هز جانيش رأسه، ثم وقف، ونظر إلى ابنه. وقال: «لا بد أن أخبرك يا رانجيت بأنك لست محل ترحاب الآن في منزلي. سوف يدبر لك أحد الرهبان مكانًا تبيت فيه الليلة. وإذا قررت في النهاية أن تقطع علاقتك بباندارا، فاتصل بي، أو اكتب لي لتخبرني بذلك. وإلى أن تفعل ذلك، ما من سبب يدعوك للاتصال بي مجددًا.»

وعندما استدار والده، وسار بعيدًا، انتابت رانجيت فجأة حالة من التعاسة …

ربما تحتاج هذه الحالة إلى تحليل عن كثب. فلا شك أن رانجيت شعر بالتعاسة لهذه الفجوة المفاجئة التي تكونت بينه وبين والده الحبيب. غير أن هذه الحقيقة لم تجعله يفكر في أنه قد يكون مخطئًا بأي حال من الأحوال. فهو ليس سوى فتًى في السادسة عشرة من عمره على أي حال.

***

على بُعد نحو عشرين سنة ضوئية وعلى سطح كوكب متخم بالخراب والتلوث إلى حد لا يمكن معه تصور وجود كائنات حية على سطحه، كانت تعيش على الرغم من هذا سلالة غريبة الهيئة تعرف باسم كائنات «واحد فاصل خمسة».

كانت القضية التي تشغل تفكير عقول كائنات «واحد فاصل خمسة» — وهم يستعدون لتنفيذ الأوامر المحتَّمة من أسيادهم «عظماء المجرة» — هي إلى متى سيستمر بقاؤهم.

صحيح أن كائنات «واحد فاصل خمسة» لم تتلقَّ أوامر التحرك بعد. لكنهم كانوا على علم بما سيحدث. لقد انتبهوا إلى الانبعاثات المزعجة القادمة من كوكب الأرض في ظل اندفاع أمواج الفوتونات المتتالية نحو كوكبهم. وكانوا على علم أيضًا بالوقت المحدد الذي ستصل فيه تلك الفوتونات إلى عظماء المجرة.

وفوق كل شيء، كانوا يعلمون تمامًا رد الفعل المتوقع من عظماء المجرة. كانت فرائصهم ترتعد داخل دروعهم الواقية لمجرد التفكير فيما قد يعنيه رد الفعل هذا بالنسبة إليهم.

لم يكن لدى كائنات «واحد فاصل خمسة» آمال سوى أمل واحد فقط. انحصر في أن يتمكنوا من إنجاز كل ما يطلبه عظماء المجرة منهم، وأن ينجوَ من سلالتهم بعد انتهاء هذه المهمة عدد يكفي لاستمرار سلالتهم في الحياة.