النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل العاشر

حياة جديدة لآل كاناكاراتنام

كان والد رانجيت قد طلب منه الاحتفاظ بالشاحنة للذهاب بها إلى العمل؛ لذا فبوسعه أن يقلَّ آل كاناكاراتنام. على الأقل يستطيع فعل ذلك بعد أن يخبر كبير العمال أن صهره قد يحل محله في العمل فترة أطول. وعندما عاد إلى منزل دوت وجد كل شيء جاهزًا. وفي غضون عشرين دقيقة كان الأطفال يجلسون في المقعد الخلفي من الشاحنة وقد تعالت صيحات فرحهم، في حين جلست دوت بجوار رانجيت وأخذت تحدق النظر في المرفأ وهم يقتربون منه.

لم يرَ رانجيت هذا المرفأ كثيرًا منذ أن حل السلام على سريلانكا. والحقيقة أن بالمرفأ أشياء تُذَكِّر بالعالم الخارجي الذي يسوده العنف. فعلى الجانب البعيد من المرفأ استطاع رانجيت أن يرى غواصتين نوويتين — يرجح أن تكونا تابعتين للهند — تشبهان أسماك القرش في شكلهما، وغير ذلك الكثير! بالطبع كانت توجد سفن للصيد، لكنها ليست من النوع الذي يتسع لأربعة أو خمسة رجال والتي ترسو على كل شاطئ حول الجزيرة. بل هي سفن قد تبحر من اليابسة وتقطع في المياه العميقة مائة كيلومتر أو أكثر للوصول إلى أسراب الأسماك التي تدر على أصحابها أرباحًا وفيرة. وكانت توجد أيضًا شاحنات من جميع الأنواع والأحجام إما تفرغ حاوياتها أو شحناتها أو يُجرى تحميلها بشحنات جديدة. دهش رانجيت عندما رأى عددًا كبيرًا من السفن من نوع مختلف تمامًا؛ فكانت مطلية باللون الأبيض الناصع تتوجها قوارب النجاة المعلقة في الروافع المخصصة لإنزالها، وعلى جانبيها صفوف من النوافذ الدائرية. يا للعجب، عادت سفن الركاب مرة أخرى! ولم يتمالك رانجيت نفسه فأوقف السيارة بجانب الطريق ليتمكن الأطفال من إلقاء نظرة. وتوقع أن يسمع صيحات دهشة من الأطفال، وتعجب عندما لم يسمع سوى همساتهم المتواصلة بعضهم إلى بعض.

غير أن دوت لم تكن لتقبل بأي تأخير. فوَجَّهت أمرها للأطفال قائلة: «اهدءوا.» ثم قالت لرانجيت: «أود أن أصل إلى هناك بأسرع ما يمكن. أترى متجر الهدايا التذكارية القريب من مرسى تلك السفن البيضاء؟ أظن أن هذا هو المكان.»

كان المكان كشكًا صغيرًا ورديئًا إلى حد ما، ولم يكن مزدحمًا أيضًا. فبضعة سيَّاح مسنين يرتدون شورتات ذات ألوان زاهية وقمصان هاواي غير أصلية كانوا يتأملون البطاقات البريدية المصورة وتماثيل الأفيال البلاستيكية دون اكتراث حقيقي. لكنه المكان الذي أصرت دوت كاناكاراتنام على الذهاب إليه هي وأطفالها وكل ما معهم من أمتعة. فطمأنت رانجيت. وقالت: «نعم، هذا هو المكان. سوف يأتي أصدقاؤنا إلينا، والآن يمكنك الذهاب يا رانجيت.» ثم أحاطته فجأة بذراعيها، وأضافت: «سوف يفتقدك الأطفال، وأنا أيضًا!» عانقه الأطفال واحدًا تلو الآخر، وبينما يقود السيارة مبتعدًا لاحظ أن جميع الأطفال يبكون.

وبالطبع، لم يبكِ رانجيت. هذا لأنه رجل ناضج. ولأن الناس كانوا ينظرون إليه على كل حال.

•••

لم يكن رانجيت في عجلة من أمره للعودة إلى العمل على الشاطئ بعد أن خلا المكان من أطفال صغار كانوا يروحون عنه. كانت توجد أربعة أو خمسة مطاعم صغيرة ومتاجر للوجبات السريعة بالقرب من الميناء لخدمة ركاب سفن الرحلات. أوقف رانجيت السيارة بجوار أفضل متجر فيها لتناول كوب من الشاي، وجلس بعض الوقت يفكر كيف أن الأطفال الصغار يأسرون القلب على جناح السرعة.

وفكر أنه من الغريب أن تعرف دوت بعض التفاصيل مثل حصولها على سكن مع الوظيفة — على سبيل المثال — في حين أنها لا تعرف طبيعة الوظيفة نفسها. وأخذ يتساءل هل تخفي دوت عنه شيئًا.

غير أنه لم يجد صعوبة في العدول عن التفكير هكذا. فأي سبب يجعل هذه المرأة تخفي أسرارًا عنه؟ وعندما غادر المتجر ألقى نظرة خاطفة على المكان الذي تركهم فيه.

لقد ذهبوا.

تمنى رانجيت في نفسه حظًّا موفقًا لهم، وقاد سيارته في تؤدة على طول الطريق المتاخم للخليج. ومر بجوار سفينة صغيرة تفوح منها رائحة عبقة إذ كانت معبأة بقرفة للتصدير بجوار سفينة حاويات قادمة من سنغافورة كانت حينئذٍ تفرغ شحنتها من السيارات وأجهزة الكمبيوتر والأجهزة المنزلية صينية الصنع. بعدها رأى رانجيت مجموعة سفن الرحلات التي بدت عن كثب أكثر اتساخًا بكثير مما بدت عليه أول الأمر. كان عدد قليل من الركاب الذين لا يبدو عليهم الاهتمام بالرحلات البرية إلى صخرة سوامي أو إلى معبد والده يتسكعون حول السياج الحديدي على سطح المركب. ومن بينهم طفلة صغيرة كانت تلوح بيدها نحوه في ابتهاج …

كلا! إنها ليست أي طفلة. إنها بيتسي كاناكاراتنام! وكانت أختها الكبرى تيفاني تركض مسرعة نحوها على ما يبدو من أجل توبيخها وعلى بعد بضعة أمتار كان الولد الوحيد في الأسرة ممسكًا بيد رجل أسود قصير القامة ممتلئ الجسم.

أيمكن أن يكون هذا هو كيرثيس كاناكاراتنام؟ إنه هو بكل تأكيد. فتيفاني تنادي على الرجل وتجر أختها الصغرى نحوه.

أومأ الرجل برأسه مبديًا الاهتمام. ثم التفت ناحية رانجيت الذي كان يطل برأسه من نافذة الشاحنة في الأسفل. وأشار إليه وهو يبتسم ابتسامة عريضة.

لم يكن من الصعب فهم ما يحاول الرجل قوله؛ فقد كان يلوح لرانجيت أن يصعد على متن السفينة مشيرًا إلى مكان غير بعيد لإيقاف السيارة ثم مشيرًا إلى نفسه وإلى الممر الذي يصل بين السفينة والمرسى. لم يتردد رانجيت. اتجه إلى مكان إيقاف السيارة، وأوقف المحرك، ثم أغلق بابها بحدة، وهرول صاعدًا الممر.

وأثناء صعوده لاحظ أن السفينة ليست بالتأكيد واحدة من السفن الضخمة التي تتسع لحمل خمسة آلاف طن والتي تجوب جزر اليونان والكاريبي. بل كانت أقل حجمًا وأكثر اتساخًا وبها الكثير من الصدوع في طبقة الطلاء تشير إلى حاجتها إلى طبقة طلاء جديدة. وفي نهاية الممر كان رجل ضخم أسود اللحية يرتدي الزي الرسمي لطاقم السفينة ويقف أمام قارئ بطاقات الهوية وبوابة صغيرة. إلا أنه بجوار الرجل وقف من ظن رانجيت أنه جورج كاناكاراتنام، وهمس إلى الرجل بشيء، ثم تحدث مرحِّبًا برانجيت: «تقدم! إنه لمن دواعي سروري أن ألتقي بك يا سيد سوبرامانيان. فالأولاد يقولون عنك الكثير! تفضل من هنا، سوف ننزل لأخبر دوت شيئًا، ويمكنك أن تشاهد الغرفة الرائعة التي ينزل فيها الأطفال، وهي ملك لهم بكل ما فيها! إنني أتلقى راتبًا مناسبًا، ويبدو أنهم سيعثرون على عمل من أجل دوت أيضًا. لم يبتسم لنا الحظ من قبل هكذا!»

قال رانجيت: «حسنًا، أظن أنك كنت محظوظًا للغاية …»

لم يكن الرجل ليفتح الباب أمام مقاطعات رانجيت خاصة وأنه قد يشير إلى هروبه من السجن. فاستطرد: «بالتأكيد. وسوف أتلقى راتبًا مجزيًا أيضًا! سوف نهبط هذا الدرج الآن …»

هبطا الدرج بالفعل وسارا عبر ممر آخر، وهبطا درجًا آخر دون أن يتوقف كيرثيس (أو جورج) كاناكاراتنام عن الحديث حول حسن حظ أسرته وحول مدى حب الأطفال لرانجيت سوبرامانيان. مرَّا أمام سبعة أو ثمانية أبواب جميعها من النوع الذي ينغلق على نحو لا رجعة فيه في حالات الطوارئ ومعظمها مكتوب عليه «ممنوع الدخول». إلى أن وصلا في النهاية إلى باب من نوع مختلف تمامًا حيث توقف كاناكاراتنام أمامه وقرع الباب. فَتَح الباب رجل ضخم ذو لحية. فقال كاناكاراتنام لرانجيت: «إنه صومالي. كلهم يبدون هكذا إلى حد بعيد.»

ثم أومأ للرجل ذي اللحية الذي رد عليه بإيماءة أخرى. وبعدها قال كاناكاراتنام بلهجة مختلفة تمامًا: «الآن اجلس. سوف تبقى هنا يومًا أو يومين. لا تحدث جلبة أو تحاول الهرب؛ لأنك إن أقدمت على ذلك فسوف يقتلك.»

وأشار إلى الرجل الصومالي. بدا أنه فهم الكثير مما كان يجري؛ إذ ضرب بيده على سكين عريض النصل موضوع داخل حزامه.

سأل كاناكاراتنام: «هل فهمت كل هذا؟ لا تحدث ضجيجًا ولا تحاول الهرب، سوف تظل هنا إلى أن يخبرك أحد أنه يمكنك الرحيل. لذا لا تكن سببًا في إثارة المشكلات وسوف تكتشف أنها رحلة مثيرة … بعد أن نستولي على السفينة.»