النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثالث عشر

مكان مناسب للاستجواب

ظل رانجيت في قبضة المحققين أكثر من عامين، وإن كان أغلب التحقيق الفعلي جرى في الأشهر الستة الأولى فحسب. غير أنه لم يشعر بالراحة في أي وقت من الأوقات.

أول مرة راود الشك فيها رانجيت أنه معتقل عندما عُصِبت عيناه، وكُمِّم فمه، وقُيِّدت يداه إلى مقعد داخل الطائرة الهليكوبتر التي كان يستقلها الضابط قبل أن تقلع بهم. لم يدرِ إلى أين اتجهت به الطائرة، لكنها استغرقت أقل من ساعة للوصول إلى وجهتها. بعدها تلقى رانجيت — وهو لا يزال معصوب العينين — مساعدة عند هبوط الدرج الذي يقود إلى سطح ممهد، ثم اقتيد مسافة عشرين أو ثلاثين مترًا إلى درج آخر يقود إلى سطح طائرة أخرى. وهناك قُيِّد ثانيةً إلى مقعده قبل أن تُقلع الطائرة الجديدة.

غير أنها لم تكن طائرة هليكوبتر. فقد شعر رانجيت باصطدام الطائرة المتكرر بسطح المدرج مع زيادة سرعتها، ثم بانتقالها المفاجئ إلى رحلة طيران حرة بلا اصطدامات. لم تكن الرحلة قصيرة، ولا شك أنها لم تكن مؤنسة. استطاع رانجيت أن يسمع طاقم الطائرة يتحدثون بعضهم إلى بعض، لكنه لم يدرِ بأي لغة يتحدثون، وعندما حاول النداء عليهم ليخبرهم أنه يود الذهاب إلى الحمام، لم يكن الرد الذي تلقاه مجرد كلمات. وإنما صفعة قوية مفاجئة على جانب وجهه لم يكن على استعداد لها.

غير أنهم سمحوا له في النهاية بدخول حمام الطائرة الضيق معصوب العينين وتاركًا الباب مفتوحًا. فضلًا عن أنهم قدموا إليه الطعام، فبسطوا صينية الطعام على مقعده، ووضعوا عليها شيئًا، وأمره أحدهم قائلًا: «تناول هذا!» أدرك رانجيت من ملمس الطعام أنه ساندويتش؛ ربما جبن من نوع غير معروف، ولأنه لم يكن قد تناول شيئًا منذ نحو عشرين ساعة، فقد التهم الطعام الذي قُدِّم إليه. وجازف رانجيت بطلب ماء، فتلقى صفعة ثانية على جانب رأسه.

لم يدرِ رانجيت كم استغرقت الرحلة من وقت؛ لأنه نام نومًا مضطربًا، ولم يستيقظ إلا على ارتجاج الطائرة المضطرب ليعرف أنهم يهبطون على مدرج طائرات أسوأ بكثير من المدرج الأول. لم تُرْفَع العصابة عن عينيه. وإنما ساعده أحدهم في الخروج من الطائرة وركوب شاحنة ظلت تتحرك بهم أكثر من ساعة.

انتهى به الحال منقادًا — وهو لا يزال معصوب العينين — إلى ردهة في أحد المباني ومنها إلى غرفة حيث أجلسه معتقِلوه. بعدئذٍ تحدث إليه أحدهم بلهجة إنجليزية وبصوت أجش: «ابسط يديك أمامك. كلًّا، راحتيك لأعلى!» وعندما فعل ذلك ضُرِب على راحتيه بشيء ما في قسوة بالغة.

كان الألم شديدًا. ولم يستطع رانجيت كبت صرخته. ثم قال له نفس الشخص: «قُل الحقيقة. ما اسمك؟»

•••

كان هذا أول سؤال طُرِح على رانجيت تحت التهديد، وهو أكثر سؤال طُرح عليه أيضًا. لم يُرِد المحققون تصديق الحقيقة البسيطة التي تقول إنه رانجيت سوبرامانيان الذي خاطر بارتداء ملابس تخص شخصًا آخر اسمه — كما يظهر في البطاقة المخيطة في الملابس — كيرثيس كاناكاراتنام. وكل مرة ينطق فيها رانجيت بالحقيقة، كانوا يعاقبونه على كذبه.

لكن العقاب اختلف من محقق لآخر. فعندما تصدر الأسئلة عن ذلك الرجل القصير البدين الذي تفوح منه رائحة العرق والذي يدعى برونو، يكون سلاحه المفضل لانتزاع الحقيقة قطعة من كابل كهربائي بسُمْك أربعة أو خمسة سنتيمترات تصيب بألم حاد أينما استُخدمت. وفي أحيان أخرى كان برونو يوجِّه صفعة قوية براحة يده على بطن رانجيت العاري؛ لم تكن هذه الصفعة مؤلمة فحسب، وإنما دفعت رانجيت لأن يسأل نفسه في كل مرة هل تمزقت زائدته الدودية أو طحاله. غير أنه كانت هناك ميزة في الأسلوب الذي ينتهجه برونو في التعذيب. تمثلت في خلوه من انتزاع الأظافر وكسر العظام وفقء العينين؛ خُيِّل لرانجيت أنهم لا يفعلون شيئًا من شأنه أن يخلف أثرًا دائمًا، فعقد الآمال على أنهم ينوون إطلاق سراحه في نهاية الأمر.

غير أن آماله لم تستمر طويلًا. إذ تبددت ذات يوم عندما ألقى برونو السلك الكهربائي ساخطًا في جانب من الغرفة، وانتزع هراوة خشبية قصيرة من إحدى الطاولات، وداوم على ضرب رانجيت بها على وجهه. وهو ما تسبب في إحداث كدمة حول عينه وتحطيم إحدى أسنانه الأمامية وضياع أمله الضئيل في أنهم سيطلقون سراحه في النهاية.

كان الرجل الثاني الذي يشارك في تعذيب رانجيت رجلًا مسنًّا لم يذكر اسمه قط، لكن إحدى عينيه كانت نصف مغمضة دائمًا. (أطلق عليه رانجيت في نفسه اسم «سكوينتي».) قلما كان الرجل يترك أثرًا للتعذيب على جسد رانجيت، وكان حديثه مطَمئنًا على نحو يدعو إلى الدهشة. في اليوم الأول الذي التقى فيه رانجيت — وهو ممدد على ظهره يحمله مساعدان مفتولا العضلات — أمسك سكوينتي بقطعة مربعة من القماش. وحذَّر رانجيت بأسلوب رقيق: «ما سنفعله بك الآن سيجعلك تظن أنك ستلقى حتفك. لكن ذلك لن يحدث. ولن أسمح بذلك. كل ما عليك هو التزام الحقيقة في الرد على أسئلتي.» ثم بسط قطعة القماش على وجه رانجيت وصب فوقها ماءً باردًا من إبريق معدني.

لم يذق رانجيت تجربة كهذه قط. فالنتيجة لم تكن ألمًا قدر ما كانت فزعًا قاسيًا موهمًا بالعجز. لم يخفق رانجيت في سماع سكوينتي عندما وعده بأنه لن يموت من هذه التجربة بل وفهمه أيضًا، لكن كانت لجسده مفاهيمه الخاصة به. إذ شعر أنه يغرق غرقًا سيودي بحياته، وأراد وضع حد لهذه العملية في الحال. صاح رانجيت أو حاول أن يصيح: «النجدة! كفى! أوقفوني!» وكان كل ما صدر عنه أصوات مختنقة ممزوجة بفقاقيع المياه لا تمت للغة الإنجليزية بصلة …

انقطع تقطر الماء المسكوب، وسُحِبَت قطعة القماش من على وجه رانجيت، ورُفِع ليتخذ وضع الجلوس. ثم سأله سكوينتي بلهجة مهذبة: «ما اسمك؟»

حاول رانجيت الكف عن السعال فترة طويلة قبل أن تخرج الكلمات من فمه. ثم قال: «أنا رانجيت سوبر…» لكنه لم يكن قد انتهى من ذكر اسمه حتى ارتطم كتفاه بالأرض بقوة، ووُضعت قطعة القماش على وجهه ثانية، وبدأ صب الماء المروع مرة أخرى.

استطاع رانجيت أن يمسك أنفاسه أربع مرات أخرى قبل أن يشعر بأن قلبه يتوقف وأن المقاومة باتت مستحيلة؛ فالتقط أنفاسه، واستطاع أن يقول: «أنا أي شخص تريدونني أن أكون. فقط توقفوا!»

قال سكوينتي مشجعًا رانجيت: «جيد. أنت تبلي بلاءً حسنًا كيرثيس كاناكاراتنام. أخبرني الآن، ما الدولة التي تعمل لحسابها؟»

•••

لا شك أنه كانت هناك وسائل أخرى عديدة لحث رانجيت على التعاون، لكن أيًّا منها لم يفلح في انتزاع اعتراف صادق منه؛ فهو لم يرتكب جرمًا ليعترف به.

وهذا الأمر أثار حنق المحققين. فتذمر الرجل الذي أطلق عليه رانجيت اسم سكوينتي. وقال: «أنت تجعلنا نبدو أشرارًا يا رانجيت أو يا كيرثيس أو أيًّا كنت. استمع إليَّ، ستسهل الأمر على نفسك إن توقفت عن إنكار أنك كيرثيس كاناكاراتنام.»

حاول رانجيت أن يعمل بنصيحته. ثم سَهُل الأمر قليلًا.