النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السابع عشر

الجنة

عند اقتراب الطائرة بوينج-إيرباص ٢٢٠٠ بسرعة من إحدى بوابات المطار، أصدرت الطبيبة جيني حكمها: ما يحتاج إليه رانجيت حقًّا هو الراحة والرعاية التامة وما يكفي من الطعام لاسترجاع الثمانية أو العشرة كيلوجرامات التي فقدها من جسمه بسبب نظامه الغذائي أثناء فترة التسليم الاستثنائي، وأضافت أن قضاء اليومين المقبلين داخل إحدى المستشفيات لن يضره في شيء أيضًا. غير أن المجموعة التي كانت في انتظاره عند البوابة رفضت ذلك. ولم تكن هذه المجموعة تضم سوى شخص واحد هو السيدة بيتريكس فورهولست، وكانت في مزاج لا يسمح بمعارضتها. أوضحت السيدة فورهولست أن المكان الذي سيسترد فيه رانجيت عافيته لن يكون معملًا لا مكان فيه للمشاعر الإنسانية يوفر قدرًا كبيرًا من الرعاية الطبية لكن مع أقل القليل من الحب. كلا، لن يكون كذلك. كان المكان المناسب لرانجيت كي يسترد قوته هو منزل مريح يوفر له العناية. مكان كمنزلها على سبيل المثال.

وهكذا تم الأمر. كانت السيدة فورهولست محقة قطعًا في وعدها بالرعاية الفائقة؛ إذ إنه في اللحظة التي وصل فيها رانجيت كان كل ما في هذا المنزل الأنيق في خدمته. فالغرفة التي أقام فيها رانجيت بلغت في اتساعها واعتدال جوها أقصى ما بلغه خياله في أشد لياليه في السجن سخونة وتصببًا للعرق. إضافة إلى أنه كان يتناول ثلاث وجبات رائعة في اليوم؛ كلَّا، كان يتناول أكثر من ذلك؛ لأنه في كل مرة يغمض عينيه فيها مدة دقيقة يستيقظ ليجد بجوار فراشه ثمرة تفاح أو موز أو أناناس مثلجة. والأفضل من ذلك أنه فاز على المدى الطويل في جداله مع الأطباء الذين طلب منهم جاميني إعادة فحصه. كان عليه أول الأمر أن يقنعهم بأنه طوال فترة اعتقاله كان يتحرك بحرية دون أن يتعرض للأذى، أو على الأقل في جميع الأيام التي لم يكن يُوسَع فيها ضربًا إلى الحد الذي يكون معه المشي مؤلمًا. لكنه الآن يتمتع بحرية الحركة في هذا المنزل الواسع وحدائقه الأكثر اتساعًا. كان المنزل يضم مسبحًا، ويا لها من متعة أن يسبح على ظهره في تلك المياه الفاترة بينما تمنحه الشمس الدافئة دفئها من السماء وأشجار النخيل تتمايل فوق رأسه. وفوق كل هذا صار بإمكان رانجيت الاطلاع على الأخبار.

لكن لم يكن هذا أمرًا جيدًا تمامًا. فالفترة التي قضاها رانجيت دون وصول إلى الصحف أو التليفزيون لم تُعدَّه لتفاصيل كل ما كان يدور من أحداث على كوكب الأرض مثل جرائم القتل وأحداث الشغب وتفجير السيارات والحروب.

غير أن هذه الأحداث لم تكن أسوأ الأخبار السيئة. بل جاء أسوءها، عندما مر جاميني لزيارة رانجيت سريعًا قبل مغادرة سريلانكا لأمر عاجل (لم يفصح عنه بالطبع). توقف جاميني عند الباب وهو يستعد للرحيل. وقال: «ثمة شيء لم أخبرك به يا رانجيت. وهو يتعلق بوالدك.»

قال رانجيت آسفًا: «صحيح. ينبغي لي الاتصال به في الحال.»

لكن جاميني هز رأسه. وقال: «أتمنى لو كنت تستطيع ذلك. فما حدث أن والدك أصيب بسكتة دماغية. وتوفي على إثرها.»

•••

كان هناك شخص واحد في العالم يود رانجيت التحدث إليه هذه اللحظة، وقبل أن يغادر جاميني منزل فورهولست كان رانجيت يتحدث مع هذا الشخص على الهاتف. إنه الراهب المسن سوراش الذي ابتهجت نفسه عند سماع صوت رانجيت. لا شك أن هذه البهجة تضاءلت عندما تحدث عن موت جانيش سوبرامانيان، لكن الغريب في الأمر أنه لم يبدُ عليه الحزن الشديد أيضًا. قال سوراش: «أجل، يا رانجيت، بذل والدك قصارى جهده في البحث عنك، وأظن أن قواه قد خارت. وعلى كل حال فقد عاد من زيارة قسم الشرطة في إحدى المرات يشكو من شعوره بالتعب، وفي صباح اليوم التالي وجدناه ميتًا على فراشه. وكما تعرف فإنه كان يعاني من مشكلات صحية منذ فترة.»

قال رانجيت في أسف: «الواقع أنني لم أكن أعرف. فهو لم يخبرني بهذا قط.»

– «لم يكن يريد أن يشغل بالك، ولا ينبغي أن تقلق يا رانجيت. فسوف تلقى روحه إكرامًا، فضلًا عن أن جنازته شُيِّعت في موكب مهيب. منذ أن اختفيت وأنا أحرص على تلاوة الصلاة عليه، وأتأكد من وجود الزهور وكرات الأرز في تابوته، وعندما حُرقت جثته حملت الرماد بنفسي إلى البحر. والموت ليس النهاية كما تعلم.»

قال رانجيت تطييبًا لخاطر الراهب أكثر من كونها تطييبًا لخاطره: «أعرف ذلك.»

– «ربما لن يحتاج حتى إلى البعث مرة أخرى. وإذا حدث ذلك، فأنا واثق أنه سيُبْعَث في صورة شخص أو مخلوق شبيه بك. تعالَ لزيارتنا عندما تستطيع السفر يا رانجيت. هل لديك محامٍ؟ فثمة بعض الأملاك لوالدك وستنتقل إليك قطعًا. لكن لا بد من توثيق بعض المستندات.»

شعر رانجيت بالانزعاج. لأنه لا يتعامل مع محامٍ. لكن عندما ذكر الأمر أمام السيدة فورهولست قالت إنه لا توجد مشكلة، ومنذ ذلك الحين صار لدى رانجيت محامٍ يدير له شئونه. ولم يكن هذا المحامي محاميًا عاديًّا، إنما هو شريك في الشركة التي يمتلكها والد جاميني ويدعى نايجل دو سارام. ما كان يقلق رانجيت كثيرًا هو الشعور بالذنب الشديد. فهو لم يعرف بوفاة والده، والسبب أنه لم يكترث للسؤال عنه.

أوه، قطعًا، لقد كان مشغولًا بهموم أخرى لا حصر لها، حسبما حدث نفسه.

لكن إن كان العكس قد حدث، فهل كان والده سينساه؟

•••

إذا لم نضع الخدم في الاعتبار، فإن السيدة فورهولست كانت الزائر الوحيد لرانجيت في الأيام القليلة الأولى، لكنه ذكر بعدها أن أي إجهاد سيسببه له أي زائر لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يضاهي الإجهاد الذي كان يشعر به عندما كان السجانون الأقوياء يضربونه بالهراوات (واضطر الأطباء لموافقته). وبالفعل قُلِّلَت الحواجز المفروضة على رانجيت. ففي الصباح التالي — بينما كان رانجيت يتدرب على بعض الآلات الرياضية الخاصة بآل فورهولست — دخل كبير الخدم صالة التمارين وتنحنح قائلًا: «لديك زائر يا سيدي.»

كان رانجيت شارد الذهن. وسأل كبير الخدم: «هل وردت إليَّ أي رسائل؟»

تنهد كبير الخدم. وقال: «كلا، يا سيدي. إذا جاءتك أي رسائل فستصلك في الحال كما طلبت. يرغب الدكتور دو سارام في رؤيتك. فهل أسمح له بالدخول؟»

وبسرعة ارتدى رانجيت واحدًا من الأرواب الكثيرة الموجودة في منزل فورهولست. ودخل المحامي دو سارام على الفور. لم يبدُ لرانجيت أن الرجل صغير السن — ربما كان يبلغ من العمر خمسين أو ستين عامًا وربما أكثر — وكان واضحًا أنه ماهر فيما يقوم به. لم يكن في حاجة إلى أن يخبره أحد بتركة والد رانجيت. وعلى الرغم من أنه طُلِبَ منه متابعة شئون رانجيت منذ ثمانٍ وأربعين ساعة فقط، فإنه قد أثبت وجود رانجيت لدى المحكمة المختصة في ترينكومالي، وأصبح على علم تام بقيمة التركة. فقال لرانجيت: «لا تقدر التركة بعشرين مليون روبية تمامًا يا سيد سوبرامانيان، لكنها ليست أقل من ذلك بكثير أيضًا؛ أو ربما تقدر — وفق سعر الصرف الحالي — بعشرة آلاف دولار أمريكي. ويتمثل معظم التركة في عقارين؛ منزل والدك ومنزل أصغر، لكنه شاغر في الوقت الحاضر.»

قال رانجيت: «أعرف ذلك المنزل. أهناك شيء يتعين عليَّ فعله؟»

أجابه دو سارام: «ليس الآن، وإن كان هناك أمر قد ترغب في التفكير فيه. كان الدكتور باندارا يتمنى القيام بذلك نيابة عنك، لكنه مشغول في بعض الشئون شديدة السرية مع الأمم المتحدة.»

قال رانجيت: «أعلم ذلك، لكني لا أعرف الكثير.»

– «بالطبع. الأمر هو أنه يمكنك المطالبة بتعويض ضد هؤلاء الذين حالوا دون عودتك إلى موطنك هذه الفترة الطويلة، لكن …»

قال رانجيت: «أعرف. ليس من المفترض أن نتحدث عن هؤلاء الأشخاص.»

قال دو سارام وقد بدا عليه الارتياح: «بالضبط. وإن كان هناك طريق آخر يمكن أن نسلكه. يمكنك اتخاذ إجراء ضد شركة خطوط الرحلات البحرية؛ لأنهم سمحوا باستيلاء القراصنة على السفينة التابعة لهم. وبالطبع لن يكون مبلغ التعويض هذا كبيرًا كالمبلغ الآخر إذ يصعب تحديد مسئوليتهم إلى حد ما، فضلًا عن أنهم لا يتمتعون بسيولة مالية كافية …»

قال رانجيت: «كلَّا، تمهل قليلًا. لقد سُرقت سفينتهم — التي كنت على متنها بسبب غبائي — والآن أقاضيهم لأنهم سمحوا بحدوث شيء كهذا؟ لا يبدو ذلك عدلًا.»

للمرة الأولى ابتسم دو سارام لرانجيت ابتسامة ملؤها المودة. وقال: «توقع الدكتور باندارا أنك ستقول هذا. أظن الآن أن سيارتي جاهزة …»

وعندها تحديدًا سُمِع صوت طرق على الباب. وكان الطارق كبير الخدم فاس الذي أعلن أن السيارة جاهزة. وقبل أن يقول رانجيت شيئًا، قال له كبير الخدم: «لم ترد إليك أي رسائل يا سيدي.» ثم أضاف: «وإذا سمحت لي — لم أرغب في إزعاجك من قبل — جميعنا يأسف بشدة على وفاة والدك.»

•••

لم يكن ما قاله كبير الخدم سببًا في أن يتذكر رانجيت موت والده. إنه لا يحتاج إلى تذكير. فالشعور بالافتقاد بات جزءًا منه نهارًا أو ليلًا، وهو جرح لم يلتئم.

أسوأ ما في الموت أنه يضع نهاية للتواصل على نحو لا رجعة فيه. ولدى رانجيت قائمة طويلة بأشياء كان من المفترض أن يخبر بها والده، لكنه لم يفعل. الآن وقد ضاعت الفرصة، فإن قلب رانجيت يمتلئ بكل تعبيرات الحب والاحترام التي لم يقلها لوالده.

وبطبيعة الحال لم يكن في الأخبار ما يسرِّي عن رانجيت. فقد اندلعت الحرب بين الإكوادور وكولومبيا، وظهرت خلافات جديدة حول تقسيم مياه النيل، وتقدمت كوريا الشمالية بشكوى لمجلس الأمن متهمة الصين بتحويل مسار السُّحُب الممطرة من حقول الأرز الكورية إلى حقولها.

لم يتغير شيء. كل ما في الأمر أن تعداد سكان العالم قد نقص واحدًا وبلا رجعة.

•••

لكن كان هناك أمر واحد يستطيع رانجيت فعله، أو كان ينبغي عليه القيام به منذ فترة، في اليوم السادس من نزوله ضيفًا على آل فورهولست طلب الحصول على نسخة من تلك الرسالة غير المنظمة التي أرسلها على عجل من الطائرة، وحصل عليها. فدرسها بعين ناقدة متفحصة مدققة مثلما يراجع مدرس مادة الإنشاء ورقة الامتحان النهائي للطلاب المستجدين. سوف يكتشف نوعية الأخطاء التي قد تجرد برهانه من الأهلية. صُعِقَ رانجيت عندما اكتشف وجود بعض الأخطاء؛ اثنان منها عندما وقعت عيناه على البحث أول مرة، تلاها أربعة أخطاء، ثم فقرة أو فقرتان لم تكونا خطأً تمامًا، ولكن يبدو أنهما تفتقران إلى درجة الوضوح المطلوبة.

كانت لرانجيت أعذاره. فكل هذه الأخطاء حدثت بسبب الأسابيع السبعة أو الثمانية الأخيرة عندما تمكَّن أخيرًا من استكمال البرهان في عقله — وهو كل ما كان في استطاعته؛ إذ كان يفتقر إلى الأوراق أو القلم أو الكمبيوتر — وظل يردده على مسامعه خطوة خطوة وقد تملَّكه الرعب أن ينسى بعض الخطوات المهمة.

السؤال الآن هو: ما الذي ينبغي فعله الآن بشأن تلك الأجزاء المغلوطة؟

شغل هذا السؤال بال رانجيت نهار يوم كاملًا وجزءًا طويلًا من الليل. أينبغي عليه إرسال قائمة بالتصحيحات إلى المجلة؟ يبدو أن هذا هو التصرف المنطقي … لكن اعتداد رانجيت بنفسه حال دون ذلك، لأن «الأخطاء» بسيطة إلى حد ما، ويمكن لأي عالم رياضيات جدير بالاحترام أن يرصدها في الحال، وأن يعرف بسرعة كيف يصححها. ورانجيت لا يحب أن يظهر في موقف استجداء.

لم يرسل رانجيت رسالة أخرى لمجلة «نيتشر»، لكن أثناء محاولته الخلود إلى النوم معظم الليالي التالية كان يعاود التفكير من جديد أكان يتعين عليه إرسال التصحيحات أم لا.

تمنى رانجيت لو أنه يعرف ما تفعله مجلة مثل «نيتشر» بما يرد إليها من وثائق كالتي أرسلها رانجيت لهم. لكنه كان واثقًا أنهم إذا فكروا في نشرها، فستكون الخطوة الأولى إرسال نسخ منها إلى ثلاثة أو أربعة — أو أكثر — من الخبراء في المجال وثيق الصلة بالوثيقة للتأكد أنها تخلو من أي أخطاء فادحة.

كم سيستغرق هذا الأمر من وقت؟

لم يكن رانجيت يعرف ذلك. لكن ما يعرفه الآن أنه استغرق بالفعل وقتًا أطول مما كان يريد.

ولذا فإنه في كل مرة كان كبير الخدم يطرق الباب ليخبر رانجيت بقدوم زائر كانت آماله تبلغ عنان السماء؛ وعندما يعلن كبير الخدم السبب التافه وراء قدوم هذا الزائر، تتحطم تلك الآمال من جديد.