النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الحادي والعشرون

شهر العسل: الجزء الثاني

بينما كان رانجيت ومايرا في طريقهما إلى لندن — في رحلة طويلة وشاقة مثلما وصفها جاميني قبل سنوات — كان العالم يمضي في طريقه. وكان هذا طريق الموت والخراب لا ريب. اختار الاثنان أن تكون رحلتهما عبر الطريق الأطول — مرورًا بمومباي — حتى يتسنى لرانجيت إلقاء نظرة سريعة على المدينة. لكن طائرتهما تأخرت أربعين دقيقة بسبب دورانها في الجو قبل السماح لها بالهبوط. تجدد القصف المدفعي في وادي كشمير. ولم يكن بوسع أحد أن يتنبأ بما قد يخطط العملاء الباكستانيون السريون لاستهدافه في قلب الأراضي الهندية؛ لذلك قضى الزوجان كل وقتهما في المدينة القديمة داخل غرفتهما في الفندق يشاهدان التليفزيون. ولم يكن يبث أخبارًا سارة هو الآخر على أية حال. فقد تجاسرت وحدات من الجيش الكوري الشمالي بزعامة «الحاكم المحبوب» — تلك الوحدات التي لم تعد تكتفي بهجماتها على طول الحدود مع كوريا الجنوبية — على الدخول في بضع منازعات مع الدولة التي تمدها بالغذاء والتي كادت تكون الصديقة الحقيقية الوحيدة لها في العالم، وهي جمهورية الصين الشعبية. لم يستطع أحد تخمين ما يخططون له، لكن أربع وحدات منفصلة — لا يزيد عدد الجنود في كل منها عن اثني عشر جنديًّا أو نحو ذلك — عبرت إلى الأراضي الصينية حيث لا شيء سوى التلال والصخور، وأقامت معسكرًا.

وبعد ثلاث ساعات كان رانجيت ومايرا يصعدان إلى متن الطائرة المتجهة إلى لندن، لكن ما إن أصبحا في الهواء — حيث حلقت الطائرة بهما فوق ساحل باكستان في طريقها إلى مطار هيثرو في إنجلترا — حتى هدأ القتال في كشمير، وعاد جيش كوريا الشمالية أدراجه إلى ثكناته دون أن يعرف أحد ما كان يخطط له من الأساس.

بعدئذٍ وصلا إلى لندن.

لم تكن هذه الرحلة مدعاة للإحباط تمامًا. إذ انبهر رانجيت بالمعالم الشهيرة للمدينة شأنه في ذلك شأن الملايين من زوارها عبر مئات السنين. زار رانجيت جميع المعالم الشهيرة التي لا بد لأي سائح من زيارتها — مثل كاتدرائية القديس بولس وبرج لندن ومبنى البرلمان وكاتدرائية ويستمينستر أبي — وعددًا كبيرًا من الأماكن التي لم تكن مشهورة حقيقة، وإنما تحظى بأهمية خاصة لدى رانجيت مثل كلية لندن للاقتصاد ومنزل فخم محدد يقع على مسافة بضعة أمتار في شارع أرونديل، ذلك أن جاميني باندارا نزل في كلا المكانين في وقت لم يكن لدى رانجيت فيه أي أمل في زيارتهما. وعندما أقنعته مايرا بالذهاب في نزهة إلى حدائق كيو، نالت الصوبات الزراعية الضخمة إعجابه الشديد. أُعْجِب رانجيت بكل المباني الكبرى والشهيرة في المدينة بلا استثناء تقريبًا. لكن الشيء الذي لم يعجبه هو كل المساحات المفتوحة وغير المسقوفة التي تفصل بين هذه الأماكن والتي لا بد من عبورها للانتقال بين مكان وآخر.

كانت جميع هذه المساحات — بلا استثناء في هذا التوقيت من شهر نوفمبر — قارسة البرودة على نحو لا يطاق.

لم يمر رانجيت طوال حياته بتجربة تصيب النفس بالجمود كهذه التجربة. ربما كابد الشعور بالبرد لأمد قصير في بعض الأحيان على قمة صخرة سوامي عندما كانت الرياح تهب بقوة، أو عندما يكون خارجًا لتوِّه من السباحة وسط الأمواج المتكسرة في الصباح الباكر جدًّا. لكن ليس مثلما يشعر به الآن! فالجو قارس البرودة حتى إن قطرات الثلج التي تساقطت قبل أسبوع — بل وتلك التي تساقطت قبل أسبوعين — لا تزال تُخَلِّف بقاياها ذات اللون القاتم على أطراف الساحات المخصصة لانتظار السيارات وأطراف المروج؛ إذ لم يصل الجو إلى درجة الدفء التي تكفي لإذابة بقايا الثلج هذه.

غير أن متاجر لندن كانت تمتلئ بالملابس المُعَدَّة لإمداد زائريها ممن يعانون البرودة القارسة بالدفء الشديد أو بشيء من الدفء على أي حال. وهكذا فإن الملابس الداخلية الحرارية والقفازات والمعطف ذا الياقة الفرو ساعدت رانجيت على تحمُّل شوارع لندن، في حين تحسنت الأمور لدى مايرا كثيرًا بارتدائها أول معطف من فراء المنك في حياتها.

التقى رانجيت ومايرا بالسيد طارق. وهو الذي دعا رانجيت — باسم جمعية الرياضيات الملكية — للانضمام إلى الجمعية والقدوم إلى لندن ليحدثهم عن إنجازه. (وهو الذي أنشأ مؤسسة تولت التكفل بنفقات رانجيت ومايرا.) كان السيد طارق الديواني رجلًا بدينًا كبير السن مشعَّث الشعر مثل ألبرت أينشتاين ودود القلب لا يبدو في لسانه أي لكنة سوى اللكنة الخالصة لأوكسفورد وكامبريدج. (وأوضح قائلًا: «حسنًا، أنا على أية حال أمثل الجيل الرابع للعائلة في لندن.») وعندما لاحظ أن رانجيت يكاد يتجمد من البرد معظم الوقت، ضرب جبهته بيده. وعلق قائلًا: «تبًّا! تركتُهم يوفرون لك الرفاهية بدلًا من الراحة. سوف أنقلك إلى مكان آخر.»

نُقِل رانجيت ومايرا إلى فندق حديث البناء في جنوب كينسنجتون، لكنه لم يكن على قدر كبير من الفخامة. وهو ما أثار حيرة مايرا قليلًا إلى أن تحدثت مع الحارس، ثم أخبرت رانجيت وعلى وجهها ابتسامة أن السيد طارق اختار هذا الفندق على وجه التحديد لسببين: أولًا لأنه قريب من عدد من أفضل متاحف المدينة — إن كانا يكترثان لأمر كهذا أثناء إقامتهما في لندن — وثانيًا لأن الفندق دائمًا يكون مشغولًا بشيوخ النفط العرب وحاشيتهم الكبيرة العدد إذ ينزلون في طابق كامل أو اثنين في كل مرة. وتكمن أهمية ذلك في أن شيوخ النفط يكرهون الشعور بالبرد — لدرجة تفوق كراهية رانجيت له — ليس فقط داخل غرفهم الخاصة، وإنما داخل ردهات الفندق وسلالم الحريق بل وفي المصاعد أيضًا. وأكثر ما يكرهه مُلَّاك الفندق هو الإخفاق في تلبية كل ما قد يرغب فيه هؤلاء العرب ذوو الأيادي المبسوطة.

لم يكن رانجيت واحدًا من شيوخ النفط ذوي الأيادي المبسوطة، لكنه استمتع بتبعات هذا البسط في الإنفاق. وعلى مدار الشهرين المقبلين تحسنت حالته المزاجية بوضوح حتى إنه بدأ يفكر في السبب الآخر لاختيار ذلك الفندق، وهو وقوعه على مقربة من منطقة المتاحف. استمتع رانجيت بزيارة متحف التاريخ الطبيعي (على الرغم من برودة الجو هناك)، وهو ما شجعه على القيام برحلة عبر المدينة للوصول إلى المتحف البريطاني الكبير نفسه ليعود إلى المكان الذي أقام فيه جاميني في المدينة والذي كان أكثر فخامة (وأشد برودة)، ويُقِرُّ بعدها أن البلاد الباردة ربما تتمتع ببعض المزايا التي لا تتمتع بها البلاد الحارة.

لم يقتصر الأمر على السياحة فحسب. إذ نالت محاضرة رانجيت في جمعية الرياضيات الملكية قسطًا من التفكير، على أن ما قاله في لندن كاد يكون نفس ما قاله في المؤتمر الصحفي في كولومبو. ألحت مجلتان في طلب زيارة من رانجيت؛ الأولى مجلة «نيتشر» لأنها هي التي نشرت بحثه، والثانية «نيو ساينتيست» لأن القائمين عليها وعدوا باصطحابه إلى أفضل حانة في منطقتهم المطلة على نهر التايمز. أيضًا رتَّب دو سارام من مكانه البعيد في كولومبو لعقد مؤتمرين صحفيين. وعلى الرغم من انتشار صور رانجيت ومايرا على صفحات الجرائد في جميع أكشاك بيع الصحف وعلى شاشات التليفزيون في بعض الأحيان، أقنعت مايرا رانجيت باختبار ملابسه الداخلية الحرارية عن طريق الوقوف خارج قصر باكينجهام ذات ليلة لمشاهدة تغيير نوبة الحراس. وعندما عادا إلى الفندق، ولم يجد رانجيت بدًّا من الإقرار بأن الصقيع لم يؤثر على أيٍّ من أطرافه بعد هذه التجربة، أشار أيضًا إلى أن جميع الكاميرات التي حملها غيرهم من السائحين كانت موجهة نحو الحراس وليس إليهما. وقال: «إذن هذا صحيح. يمكننا التجول في لندن كيفما نشاء دون أن يلتفت إلينا أحد على الإطلاق. كنت سأفضل هذا المكان حقًّا إذا ابتعد مسافة ألف كيلومتر أو نحو ذلك جهة الجنوب.»

•••

ولأن شيئًا كهذا لم يكن وارد الحدوث، فقد استسلم رانجيت للأمر الواقع بعد بضع ساعات قضاها في ارتداء الملابس الثقيلة من أجل الخروج من ردهة الفندق إلى إحدى سيارات الأجرة ومنها إلى ردهة أخرى في مكان آخر. انتحى رانجيت بالسيد طارق جانبًا. ثم تحدث عبر الهاتف مع دو سارام في كولومبو، وأخبر مايرا مبتسمًا: «سنذهب إلى أمريكا. إلى مكان أظن أنهم يطلقون عليه الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم، أليس كذلك؟ ففيها سيعقدون اجتماعهم السنوي الشهر المقبل، وقد رتَّب دو سارام لذلك. نحن لم ننتهِ من الأمر هنا يا مايرا. سنقوم بكل ما يمكن القيام به هنا، لكن ليس قبل أن يغدو الطقس أكثر دفئًا.» وهكذا تكلفت مؤسسة أخرى من تلك المؤسسات السخية بحجز مكانين لهما على الدرجة الأولى ليغادرا على متن الرحلة التابعة لخطوط دلتا الأمريكية إلى مطار كينيدي في مدينة نيويورك في الساعة الثانية بعد ظهر هذا اليوم.

سافر رانجيت ومايرا، لكن بعد توجيه الكثير من عبارات الشكر الصادقة إلى السيد طارق، وفي الساعة الثانية وعشرين دقيقة كانا يغادران إنجلترا ويقتربان من الساحل الشرقي لأيرلندا.

بدا القلق التام على رانجيت. وسأل مايرا: «ألم نتسرع كثيرًا في قرار السفر؟ ألستِ …؟» استدلت مايرا على سؤال رانجيت من الشهقة التي انطلقت من فمه، فضحكت، ومدت كأسها إلى المضيف الذي أسرع في تلبية طلبها بإعادة ملء الكأس بعصير البرتقال.

قالت مايرا: «أنا بخير. ويمكننا العودة إلى إنجلترا عندما يصير الطقس أكثر دفئًا واعتدالًا، وليكن في شهر يونيو مثلًا. لكن هل أنت واثق أنك تفعل الصواب الآن بالسفر إلى أمريكا؟»

انتهى رانجيت من فرد القشدة ومربى الفراولة على كعكته، وقضمها بفمه. ثم قال وهو يمضغ الطعام: «بالتأكيد. تحققت من نشرات الأحوال الجوية في نيويورك بنفسي. ودرجة الحرارة الصغرى هناك تسع والعظمى ثماني عشرة. لقد كانت درجة الحرارة تصل إلى أقل من هذا أحيانًا في ترينكومالي.»

وضعت مايرا كأسها وهي لا تدري أتأسف على ما قاله رانجيت أم تضحك. وقالت: «أوه، يا عزيزي. ألم تذهب إلى أمريكا من قبل؟»

شعر رانجيت بالقلق فجأة، واستدار لمواجهتها. قائلًا: «ماذا تعنين؟»

مدت يدها لتربت على يده. وقالت: «كل ما في الأمر أنك لم تلاحظ أنهم تقليديون إلى حدٍّ ما في بعض النواحي. ومن ذلك استخدامهم الأميال بدلًا من الكيلومترات مثلًا. وأيضًا — وأتمنى ألا يزعجك هذا — تمسكهم باستخدام مقياس الحرارة الفهرنهايتي بدلًا من مسايرة باقي دول العالم واستخدام المقياس المئوي، ألست معي في ذلك؟»