النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثاني والعشرون

العالَم الجديد

بخلاف خيبة الأمل الكبرى التي أصابت رانجيت جرَّاء حالة الجو في نيويورك، فإن الأخبار التي استمر بثها على شاشات التليفزيون العديدة التي يعج بها جناحهما في الفندق كانت أشد ترويعًا من المعتاد. على سبيل المثال كانت أمريكا الجنوبية تتمتع بهدوء نسبي — فيما يتعلق بالحرب — لبعض الوقت. لكنها لم تعد كذلك. والآن (حسبما ذكر أحد مضيفي مايرا ورانجيت الأمريكيين) عدَّلت الولايات المتحدة معظم جرائم المخدرات من الجنايات إلى الجنح كحد أقصى. وهو ما أدى إلى إلغاء التجريم القانوني على كل المخزون التجاري تقريبًا لدى تجار المخدرات الكولومبيين. وهذا التعديل للقانون من شأنه أن يمَكِّن أي مدمن أمريكي من الحصول على ما يحتاج إليه لإشباع حاجته من الإدمان بسعر زهيد من أي صيدلية محلية ودون تدخُّل من أفراد العصابات، ومعناه على أرض الواقع توقف أفراد العصابات عن ممارسة نشاطهم. (أسفر هذا القرار أيضًا عن أنه أصبح من العبث لأي تاجر مخدرات في دولة مجاورة أن يوزع عينات مجانية على الفتية الذين يبلغون من العمر اثني عشر عامًا. إذ لم يعد ذلك كفيلًا بتوفير زبائنه من المدمنين في المستقبل؛ لأنه لا أحد من هؤلاء المدمنين المستقبليين — إن وُجِدوا من الأساس — سيشتري منه بأي حال. وهكذا فإن تعداد المدمنين الأمريكيين سيتضاءل رويدًا كل عام بوفاة المدمنين الطاعنين في السن أو إقلاعهم عن الإدمان وإحلال بضعة مدمنين جدد محلهم.)

هذا هو الجانب الجيد في إلغاء التجريم القانوني لتعاطي المخدرات. ولكن هناك جانب سيئ أيضًا.

تمثَّل الجانب السيئ — أو أشد الجوانب السيئة سوءًا — في أن الجهات المحتكرة لتجارة المخدرات — التي حُرِمَت أرباح زراعتها لنبات الكوكا — بدأت تنظر بعين اللهفة إلى النفط الذي يُصَدِّره جيرانهم في فنزويلا. فتجارة النفط تدر أموالًا أكثر من تجارة المخدرات! وهكذا كانت مجموعات مسلحة من معاقل تجارة المخدرات الكولومبية تتسلل إلى حقول النفط التابعة للدولة المجاورة. كان الجيش الفنزويلي الصغير نسبيًّا (الذي يَسْهُل شراؤه بالمال تمامًا) يتظاهر بالمقاومة — في بعض الأحيان — لكن الحافز القوي كان قد بلغ أشده على الصعيد الكولومبي، ومن ثم كادت جميع الانتصارات تكون هناك.

جاءت كل تلك الأخبار لا شك إضافة إلى السلسلة الأخيرة من الأعمال الهوجاء القليلة التي شابها طابع العنف من جانب كوريا الشمالية بزعامة «الحاكم المحبوب»، وتجدد العنف في المناطق التي كانت تتكون منها دولة يوغسلافيا من قبل والتي لم يعد هناك سبيل إلى التصالح بينها، وأيضًا القتال العنيف المتزايد في المناطق التي كان يتألف منها الاتحاد السوفييتي من قبل، وكذلك الشرق الأوسط …

كان الوضع سيئًا تمامًا. لكن ما عوَّض رانجيت قليلًا هو مدينة نيويورك نفسها التي لم تكن تشبه ترينكومالي أو حتى كولومبو في شيء، بل إنها لم تكن تشبه لندن كثيرًا. قال رانجيت لزوجته حال وقوفهما في النافذة الزجاجية لجناح الفندق في الطابق السادس والستين: «المكان شاهق الارتفاع. من كان يتخيل النوم على ارتفاع كهذا؟» لكن ظهرت أمامهما ضمن المنظر العام للمدينة اثنتا عشرة بناية أو أكثر أعلى ارتفاعًا، وعندما سارا في شوارع المدينة، نادرًا ما كانت الشمس تظهر؛ لأن الجدران الخرسانية المرتفعة كانت تحجب ضوءها إلا عندما تكون فوق الرأس مباشرة.

قالت مايرا: «لكن يوجد هذا المنتزه الرائع»، وأشارت — وهي تحدق في البحيرة — إلى المباني العملاقة التي اصطفَّت على الجانب البعيد من المنتزه وإلى الأسطح البعيدة لحديقة حيوان منتزه سنترال بارك.

رد رانجيت، وبالطبع كان يبدو عليه قدر من التذمر، قائلًا: «أوه، لست أبدي تذمرًا.» فعلى الرغم من أن مكتب الدكتور داتوسينا باندارا داخل مبنى الأمم المتحدة يقع في الجانب الآخر من المدينة مباشرة، فإن الدكتور نفسه كان في مهمة لم يشأ أحد أن يُطلع رانجيت عليها. لكن المكتب وفَّر لهما فتاة رافقتهما إلى قمة مبنى إمباير ستيت، ودعتهما لتناول يخنة المحار الفاخرة في محطة السكة الحديد المركزية الكبرى، وكانت على استعداد لحجز تذاكر لهما لمشاهدة أي عرض في شارع برودواي. لم يتحمس رانجيت — الذي اقتصرت خبرته الحياتية فيما يتعلق بالعروض المسرحية على مشاهدتها على الشاشات المسطحة — لهذا العرض، لكن مايرا سعدت به كثيرًا. وهو ما أسعد رانجيت بدوره، فضلًا عن هذا فقد اكتشف رانجيت متحف التاريخ الطبيعي الأمريكي على بعد بضع بنايات فقط، كان المتحف رائعًا في حد ذاته كمثال على تلك المتعة الجديدة في حياة رانجيت المتمثلة في اهتمامه بالآثار، وكان خلابًا أيضًا بالقبة الفلكية الرائعة التي تشغل حيزه الشمالي. «القبة الفلكية» ليست هي الكلمة المناسبة؛ فالواقع أن هذا البنيان الذي يقع في جنوب سنترال بارك هو أكثر من هذا بكثير. قال رانجيت — أكثر من مرة — وهو يتنزه وسط المعروضات الخلابة: «كم أتمنى لو كان يوريس معنا الآن.»

وبعد مرور فترة طويلة كانت كافية لأن يتوقف رانجيت عن التفكير في ظهور يوريس، ظهر الشخص الذي لم يكن مجيئه متوقعًا على الإطلاق والذي بوسعه أن يجعل من هذه الزيارة السارة حدثًا لا يُنسى. عندما فتح رانجيت باب الجناح الذي ينزل فيه هو ومايرا إثر طرقة على الباب — وهو يظن أنه لن يجد أمامه سوى خادمة الفندق تحمل بين يديها مناشف نظيفة — فإذا بجاميني باندارا واقفًا تعلو وجهه ابتسامة ويحمل في إحدى يديه أزهارًا يانعة لمايرا وفي الأخرى زجاجة عَرَق سريلانكي عالي الجودة لكليهما. تلك هي المرة الأولى التي يجتمع فيها ثلاثتهم منذ زواج مايرا ورانجيت، وعندئذٍ انهمرت الأسئلة كثيرة ومتلاحقة. كيف كانت إنجلترا؟ ما رأيهما في أمريكا؟ كيف كانت حياتهما في سريلانكا تلك الأيام؟ وبينما كان رانجيت وجاميني يصبان مشروب العَرَق للمرة الثالثة، إذا بمايرا تنتبه إلى أن الحوار برمته يسير في اتجاه واحد حيث يطرح جاميني الأسئلة، وتتكفل هي وزوجها بالرد عليها. فقالت: «أخبِرْنا إذن يا جاميني، ماذا تفعل في نيويورك؟»

ابتسم جاميني، ومد يديه. وقال: «أحضر اجتماعات لعينة واحدًا تلو الآخر. هذا هو ما أفعله.»

تدَخَّل رانجيت: «لكنني كنت أظن أنك تقيم في كاليفورنيا.»

– «هذا صحيح. لكن هناك أحداث شتى تقع على الصعيد الدولي، وهنا يأتي دور الأمم المتحدة، أليس كذلك؟ ثم تجرَّع الرشفة الثالثة، وبدا جادًّا. ثم قال: «في الواقع يا رانجيت أنا هنا لأطلب منك إسداء صنيع إليَّ.»

رد رانجيت بسرعة: «اطلب ما تشاء.»

نهره جاميني: «لا تتعجل بالموافقة. لأنها ستعني تعهدك بأمر ما فترة من الوقت. لكنه ليس تعهدًا سيئًا في الوقت نفسه. دعني أدخل في صلب الموضوع. عندما تذهب إلى واشنطن سيتصل بك رجل يدعى أوريون بليدسو. إنه عميل سري يحتل مكانة مرموقة في موقع تابع للحكومة لا يعرف معظم الناس عنه شيئًا. وفي هذا الصدد فإن لديه تاريخًا حافلًا. فهو محارب قديم في حرب الخليج الأولى، وفي الاضطرابات التي نشأت بين مناطق يوغوسلافيا سابقًا، ثم في الحرب الثانية — والأسوأ — في الخليج، وهي حرب العراق. وكان قد أصيب فيها بجرح أفقده ذراعه اليمنى لينال بعدها وسام «القلب الأرجواني» وميدالية «الصليب الحربي» ثم المنصب الذي يحتله الآن بنفس هذا الترتيب.»

«أي منصب هذا؟» سأله رانجيت أثناء توقفه عن الكلام هنيهة.

هز رانجيت رأسه. وقال: «كُفَّ عن هذا يا رانجيت. سوف أترك بليدسو ليخبرك بذلك … فثمة قواعد لا بد من اتباعها.»

حاول رانجيت مرة أخرى. وسأله: «هل يتعلق الأمر بوظيفة فعلية؟»

وهو ما جعل جاميني يتوقف ثانية ليفكر. ثم قال أخيرًا: «أجل، لكن لا يمكنني أن أخبرك بطبيعتها الآن أيضًا. الأمر المهم في هذه الوظيفة أنك ستؤدي عملًا يعود بالنفع على العالم. وكل ما نحتاج إليه من بليدسو هو التأكد من أن لديك التصريح الأمني الذي تحتاج إليه.»

سأل رانجيت: «أحتاج إليه من أجل ماذا؟»

هز جاميني رأسه وهو يبتسم. ثم بدا عليه شيء من الارتباك وقال: «عليَّ أن أحذرك من أن بليدسو واحد من قدامى المشاركين في الحرب الباردة، وأنه أحمق قليلًا أيضًا. لكن لن تراه مجددًا حالما تحصل على هذه الوظيفة.» ثم أضاف: «ولأن مقر عملي عندما أكون في أمريكا يبعد عن مكانه بأقل من نصف ساعة بالسيارة فستراني كثيرًا على الأرجح إن كنت تحتمل ذلك.» وغمز جاميني بعينه لمايرا. ثم قال إنه تأخر على حضور اجتماع آخر من تلك الاجتماعات المملة في الجانب الآخر من المدينة، وأنه يتمنى أن يلتقي بهما عما قريب في باسادينا، ثم غادر.

نظر كل من مايرا ورانجيت إلى الآخر. وسأل رانجيت: «أين تقع باسادينا؟»

أجابته مايرا: «في كاليفورنيا، أنا واثقة من ذلك. أتظن أنها ستكون مقر عملك؟ أقصد في حال قبول هذه الوظيفة.»

ابتسم لها رانجيت ابتسامة مشوبة بالامتعاض. وقال: «أتعرفين؟ ربما ينبغي علينا الاستفسار من والد جاميني عن كل ذلك.»

•••

وهو ما فعلاه، أو على الأقل تركا رسالة في مكتبه. لكنهما لم يتلقيا ردًّا على الفور. بل لم يتلقيا ردًّا على الإطلاق إلا بعد أن قطعا الرحلة القصيرة من نيويورك (مطار لاجوارديا) إلى واشنطن (مطار ريجان) حيث رحب بهما أعضاء الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم، وحجزوا لهما في فندقهما الجديد الذي يطل على مبنى الكابيتول — مقر الكونجرس الأمريكي — والذي يقع على مسافة قصيرة من منتزه واشنطن الوطني. لم يذكر الدكتور باندارا شيئًا في رسالته سوى قوله: «يؤكد لي جاميني أن هذا الشخص الذي يريد منك أن تقابله سينفعك كثيرًا.» لكن دون أن يوضح وجه النفع الكثير هذا، أو السبب الذي يجعل جاميني مهتمًّا من الأساس؛ ولذا تنهد رانجيت، وكفَّ عن التفكير في الأمر. والواقع أن ذلك لم يكن مدعاة للشعور بالإحباط التام؛ إذ اتضح أن واشنطن تعج بأشياء أثارت اهتمام رانجيت أكثر من مجرد وظيفة مجهولة سيعرضها عليه شخص يُدعى أوريون بليدسو لم يلتقِ به بعد.

أول مكان ذهب إليه رانجيت ومايرا — برفقة عدد من المتطوعين المتحمسين من الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم — هو مجموعة المتاحف الشهيرة (التي لم يسمع بها رانجيت أبدًا قبل قدومه إلى واشنطن) والتي تُعرف جملةً باسم مُجَمَّع سميثسونيان. سُرَّ رانجيت بزيارة المتحف البريطاني في لندن ومتحف التاريخ الطبيعي في نيويورك؛ لكن مُجَمَّع سميثسونيان هذا — ليس مبنى رائعًا واحدًا فحسب وإنما صف كامل من المباني — سلب عقله. وكل ما استطاع رانجيت أن يوفر الوقت له هو زيارة متحف الفضاء والطيران، وزيارة خاطفة لعدد قليل من المتاحف الأخرى، لكن المعروضات تضمنت — من بين أشياء أخرى كثيرة — نموذجًا فعليًّا (وإن لم يكن بنفس الحجم) لمصعد فضاء أرتسوتانوف الذي كان قد بدأ الدوران حينئذٍ في سماء سريلانكا. بعدئذٍ حان دور كلمته الرئيسية في اجتماع الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم (وهو ما نجح فيه للمرة الثانية)، ثم أصبحت أمامه جلسات الاجتماع السنوي بالكامل ليختار من بينها. علينا أن نضع في اعتبارنا أن هذا العبقري المعروف بين أشهر علماء الأرض وأعظمهم، والمشهور على نطاق عالمي، والحاصل على ثلاث درجات دكتوراه فخرية من أرفع ثلاث جامعات على مستوى العالم (على الرغم من أنه لم ينل شهادة البكالوريوس)، والذي يمكن أن نشبهه بفيرما بل بنيوتن العصر الحديث، لم يحالفه الحظ في حياته الطويلة قط لحضور اجتماع علمي واحد من أي نوع سوى اجتماعات يكون هو المتحدث الرئيسي فيها. لم تكن لدى رانجيت أي فكرة عن مقدار ما يمكن تعلمه عن العديد من الموضوعات. وبعد انتهائه من مهمته الشاقة، أصبح بإمكانه حضور جميع جلسات المؤتمر، وهو ما استفاد منه بأن حضر جلسات عن علم الكون وتكتونيات (الفرع الذي يهتم ببنية قشرة الكواكب) المريخ (والزهرة والقمر أوروبا التابع لكوكب المشتري)، وجلسة بعنوان «ذكاء الآلة: الوعي بالذات» (كانت الجلسة من أجل مايرا في الأساس، لكنها أثارت اهتمام رانجيت بنفس الدرجة عندما استمع إليها)، هذا بالإضافة إلى جميع جوانب البحث البشري المبهمة الأخرى التي لم يسبق لرانجيت استكشافها والتي أثيرت ضمن القائمة الطويلة والمشوقة للاجتماعات.

كانت مايرا مبهورة مثل رانجيت بهذا الكم من المعرفة البشرية، مع وجود استثناءات بسيطة. كان الاستثناء الأساسي بينها هذه الإغفاءة اليومية التي كان يصر عليها رانجيت بعد الغداء؛ لأن واحدًا من الأطباء شدد على أهمية ذلك. ظل رانجيت يُذَكِّرُها كل يوم: «أنتِ على وشك الوضع!» مع أنها لم تكن تشكُّ في ذلك أبدًا. وفي اليوم الأخير تقريبًا من اجتماع الجمعية، وبينما كان رانجيت يغطيها في فراشها، إذا بصوت خافت ينبعث من الهاتف. أفاد بأن رسالة جديدة قد وردت، وجاء فيها:

أرجو أن تنضم إليَّ في جناحي لبعض الوقت اليوم لمناقشة عرض أظن أنه سيحوز اهتمامك.

مقدِّم (متقاعد) تي أُو بليدسو (قوات مشاة البحرية الأمريكية).

نظر كل من رانجيت ومايرا إلى الآخر. «هذا هو الشخص الذي تحدث عنه جاميني في نيويورك»، قالها رانجيت، فأومأت مايرا بسرعة.

وقالت: «لا شك أنه هو. هيا اتصل به لنعرف ماذا يريد. ثم عُد إليَّ، وأخبِرْني بكل شيء.»

•••

كان واضحًا أن الجناح الذي ينزل فيه المقدم متقاعد أوريون بليدسو أكبر اتساعًا من الجناح الذي حجزته الجمعية الأمريكية لتطوير العلوم من أجل مايرا ورانجيت. حتى إن طبق الفاكهة على طاولة الاجتماعات في غرفة الاستقبال كان أكبر، ولم يكن موضوعًا وحده على المائدة. فإلى جواره وُضعت زجاجة ويسكي جاك دانييلز لم تُفتح بعد ومعها الثلج والكئوس ومشروبات إضافية أخرى.

لم يكن تي أوريون بليدسو أطول كثيرًا من رانجيت — ولأنه أمريكي فإنه لم يكن طويلًا على الإطلاق — وكان أكبر منه سنًّا بعقدين على الأقل. لكنه لا يزال محتفظًا بشعره كله، شد بليدسو على يد رانجيت بقوة وهو يصافحه على الرغم من أنه كان يستخدم يده اليسرى. «تفضل سيد … تفضل بالجلوس. هل تستمتع بوقتك في مدينتنا واشنطن العاصمة؟»

لم ينتظر بليدسو ردًّا من رانجيت، وإنما أشار إلى طاولة الاجتماعات. وقال: «أتود شرابًا سيد سوبرا …؟ إن كنت تقوى على تناول جاك دانييلز؟»

كبت رانجيت ابتسامته. فأي شخص قضى عامه السادس عشر — حيث اندفاع الشباب — في تناول مشروب العَرَق سيقوى في الأغلب على تناول أي نوع من الخمور الأمريكية. ثم قال: «لا بأس بذلك. ذكرتَ في رسالتك أن لديك عرضًا.»

نظر إليه بليدسو نظرة عتاب. وقال: «يقولون عنَّا نحن الأمريكيين إننا في عجلة من أمرنا دائمًا، لكن خبرتي أثبتت أنكم أيها الأجانب المتسرعون دومًا. لا شك أنني أود الحديث معك حول موضوع ما، لكني أفضل التعرف على المرء قليلًا قبل أن نعمل معًا.» أمسك بليدسو زجاجة الويسكي بيده اليمنى التي لم يكن يستخدمها طوال الوقت، بينما كان يفتح الزجاجة باليد الأخرى. لاحظ بليدسو الموضع الذي ترتكز عليه عينا رانجيت فضحك ضحكة خافتة. وقال في لهجة أقرب إلى التباهي: «إنها طرف صناعي. كما أنه مصمم بكفاءة عالية. يمكنني أن أصافح بها الآخرين إذا أردت، لكني لا أفضل ذلك. فما الفائدة إن كنت لن أشعر بيدك؟ وإذا شرد ذهني وبالغت قليلًا في الضغط على يدك، فربما تجد نفسك فجأة تبحث عن طرف صناعي أنت الآخر.»

لاحظ رانجيت أن الذراع الصناعية تعمل بكفاءة تامة، وهو ما نبهه إلى إخبار مايرا بذلك. وباستخدام هذه الذراع الصناعية فتح بليدسو الزجاجة، وصب سنتيمترين من الويسكي في كل كأس، ثم قدم إحدى الكأسين لرانجيت. نظر بليدسو بانتباه ليرى هل سيضيف رانجيت أيًّا من المشروبات الأخرى إلى الويسكي. وعندما لم يفعل، أومأ بليدسو إيماءة استحسان صغيرة وارتشف رشفة من كأسه. وقال: «هذا هو ما نسميه رشفة الويسكي. يمكنك تجرعه دفعة واحدة إن أردت، لكن يجدر بك أن تحاول. هل ذهبت إلى العراق من قبل؟»

هز رانجيت رأسه نفيًا وهو يرتشف القليل من الويسكي بدافع إبداء الكياسة مع مُضيفه.

ربَّت بليدسو على ذراعه الصناعية بالذراع السليمة. وقال: «فقدت هذه هناك. حيث لا تدخر فصائل الشيعة والسنة وسعًا في قتال بعضهم بعضًا، لكنهم يتوقفون بين الحين والحين لقتل من يستطيعون قتله منا. تلك الحرب كانت خطأً ارْتُكِب في مكان غير مناسب ولأسباب غير مبررة.»

بذل رانجيت غاية ما في وسعه ليبدي اهتمامه بحديث بليدسو من باب الأدب معه، وهو يتساءل في نفسه هل سيقول بليدسو إن قرار الحرب قد يكون صائبًا في حالة أفغانستان، أو ربما إيران. لكن الأمر لم يكن كذلك. إذ قال بليدسو: «إنها كوريا الشمالية. هؤلاء هم الذين يستحقون إنزال الدمار بهم. إن توجيه عشرة صواريخ إلى عشرة مواقع مناسبة كفيل بإخراجهم من اللعبة.»

تنحنح رانجيت. وقال وهو يتناول رشفة أخرى من كأسه: «على حد علمي أن المشكلة في شن حرب على كوريا الشمالية تكمن في امتلاكها جيشًا مهولًا مزودًا بأحدث التقنيات الحربية، وأنه يتمركز على الحدود بعيدًا عن سول عاصمة كوريا الجنوبية بأقل من خمسين كيلومترًا.»

لوَّح بليدسو بيده مستنكرًا. وقال: «سحقًا، بالتأكيد سيكون هناك خسائر. خسائر جمة لا شك. لكن أي مشكلة في ذلك؟ ستكون هذه الخسائر من نصيب الكوريين الجنوبيين، وليس الأمريكيين.» ثم ردَّ نفسه بسرعة وهو يقطب جبنيه من عبارته المزعجة: «حسنًا، بالطبع توجد أعداد كبيرة من القوات الأمريكية هناك. لكن لا بد دون الشَّهد من إبر النَّحْل، أليس كذلك؟»

بدا لرانجيت أن الحديث اتخذ منحًى بغيضًا، وعندما ألقى بليدسو منديلًا داخل سلة المهملات، خال لرانجيت أنه أدرك السبب. فقد ارتطم المنديل بزجاجة ويسكي فارغة. وهكذا بدا واضحًا أن هذا الاجتماع لم يكن الاجتماع الأول الذي عقده بليدسو يومئذٍ.

تنحنح رانجيت. وأردف قائلًا: «حسنًا سيد بليدسو، جئت من بلد صغير له مشكلاته الخاصة. ولا أود توجيه النقد للسياسة الأمريكية.»

أومأ بليدسو برأسه ليوافقه الرأي. وقال: «وهذا أمر آخر»، ثم توقف ليعرض على رانجيت ملء الكأس ثانية. لكن رانجيت هز رأسه رافضًا. فهز بليدسو كتفيه وملأ كأسه هو. واستطرد: «الجزيرة الصغيرة التي جئت منها. اسمها سرﯾ… سرﯾ…»

صحح له رانجيت بأسلوب مهذب: «سريلانكا.»

– «أجل، تلك الجزيرة. أتعرف ما تتمتعون به هناك؟»

فكر رانجيت. ثم أجاب: «أظن أنها على الأرجح أجمل جزيرة في …»

– «لا أقصد الحديث عن الجزيرة اللعينة بأسرها، بحق السماء! يا إلهي، هناك ملايين من الجزر الجميلة في كل مكان حول العالم، وجمعيها لا يساوي عندي شيئًا. إنني أتحدث عن ميناء صغير لديكم هناك يسمى ترينكوﻣ… تيرنكو …»

أشفق عليه رانجيت. وقال: «أظن أنك تعني ترينكومالي. لقد نشأتُ هناك.»

«حقًّا؟» فكر بليدسو في هذه المعلومة، لكنه وجدها بلا جدوى، فاستطرد. وقال: «على أي حال لا يعنيني أمر هذه المدينة في شيء. إنه الميناء الذي لا مثيل له! أتعرف كيف يمكن الاستفادة من هذا الميناء؟ يمكن أن يصبح أفضل قاعدة لأسطول من الغواصات النووية في العالم سيد سوﺑ… سوبرا …»

ملأ بليدسو كأسه مجددًا، وبدأ أثر الويسكي يظهر عليه. تنهد رانجيت، وأسعفه مرة أخرى. وقال: «اسمي سوبرامانيان يا سيد بليدسو، ونحن نعرف بالفعل بأمر هذه القاعدة. ففي الحرب العالمية الثانية كان الميناء مقرًّا لأسطول الحلفاء، وقبلها صرح اللورد نيلسون نفسه أنه واحد من أعظم الموانئ في العالم.»

– «هذا هراء، ما دخل اللورد نيلسون في ذلك؟ لقد كان يتحدث عن مكان من أجل إبحار السفن. وأنا أتحدث عن الأسلحة النووية! هذا الميناء عميق بدرجة تُمَكِّن الغواصات من الغوص إلى عمق لا يستطيع العدو اكتشافه، وبالطبع لا يستطيع مهاجمته! عشرات الغواصات! وربما المئات. وما الذي فعلناه نحن حيال هذا؟ تركنا الهند تقتنص حقوق التعاقد على الميناء بأكمله. الهند! يا إلهي! وما حاجة الهند إلى أسطول من الأساس، لا أستطيع …»

بدأ رانجيت يمل هذا المخمور المتعنت. صحيح أن جاميني كان أعز أصدقاء رانجيت، لكن ذلك لا يُلزمه بتحمل المزيد من هذا الهراء. وقف رانجيت. وقال: «أشكرك على ضيافتك يا سيد بليدسو، لكن لا بد لي من الانصراف.»

مد رانجيت يده لمصافحة بليدسو، لكن بليدسو لم يصافحه. وإنما حملق فيه بغضب، ثم أعاد الغطاء إلى زجاجة الويسكي في تؤدة. وقال: «ائذن لي لحظة. فلدينا عمل لم ننتهِ منه بعد.»

توارى بليدسو في واحد من حمامات الجناح. وسمع رانجيت صوت انسياب الماء، ثم فكر في الأمر وهز كتفيه، ثم جلس. لكن الأمر لم يستغرق لحظة فحسب. وإنما مرت نحو خمس دقائق قبل أن يظهر تي أوريون بليدسو مرة أخرى في هيئة تكاد تكون مختلفة تمامًا. فهو الآن نظيف الوجه ممشط الشعر يحمل كوبًا غير ممتلئ من القهوة الساخنة؛ لا شك أنه أحضرها من ماكينة القهوة التي تبدو جهازًا أساسيًّا في حمام أي فندق أمريكي.

لم يعرض بليدسو على رانجيت تناول القهوة. ولم يقدم أي تفسير أيضًا، وإنما جلس، وألقى نظرة خاطفة على زجاجة الويسكي كأنه يتعجب من وجودها هناك، ثم قال في حماس: «سيد سوبرامانيان، هل يعني لك اسما ويتفيلد ديفي ومارتن هيلمان شيئًا؟»

وقع رانجيت في شيء من الحيرة بسبب التغير المفاجئ في موضوع الحوار وفي سلوك بليدسو، وإن كان قد تحمس قليلًا لأن الحوار تغير فجأة إلى الحديث عن أمر يعرفه، فقال: «بالطبع، التشفير بالمفتاح العام. تقنية «ديفي-هيلمان-ميركل».»

قال بليدسو: «تمامًا. لا أظن أنني في حاجة إلى أن أخبرك أن مشكلة كبرى تحيط بتقنية «ديفي-هيلمان» بسبب أجهزة الكمبيوتر الكمومية.»

والواقع أنه لم يكن بحاجة إلى ذلك حقًّا. فمع أن رانجيت لم يهتم اهتمامًا خاصًّا من قبل قط بالشفرات أو بفكها — باستثناء محاولة التعرف على كلمة المرور الخاصة بأحد أساتذته — فإن أي عالم رياضيات في العالم كان على علم تام بهذه المشكلة.

استندت تقنية «ديفي-هيلمان» على فكرة بسيطة جدًّا، لكن تنفيذها كان بالغ الصعوبة حتى إن الفكرة ظلت بلا جدوى إلى أن ظهرت أجهزة الكمبيوتر ذات الإمكانيات الخارقة. إن الخطوة الأولى في تشفير أي رسالة يراد الاحتفاظ بسريةِ ما بها من معلومات هي تمثيلها في صورة سلسلة من الأرقام. وبالطبع أسهل طريقة للقيام بذلك هي استبدال حرف الألف بالرقم واحد وحرف الباء بالرقم اثنين وهكذا حتى حرف الياء الذي يمثله العدد ثمانية وعشرون. (لا شك أن أي خبير تشفير في العالم — أو على الأقل أي خبير تشفير تخطى العاشرة من عمره — لن يتعامل بجدية مع هذا الأسلوب البسيط المعتمد على إحلال الأرقام محل الحروف.) وبعدها يمكن الربط بين هذه الأرقام باستخدام عدد كبير جدًّا — وليكن «ن» — وبطريقة تختفي من خلالها عملية الإحلال البسيطة الأصلية. وذلك عبر إضافة الأعداد القائمة مقام الحروف إلى العدد الكبير «ن» لتحقيق الغاية المرجوة.

غير أن هناك لغزًا يكتنف العدد «ن» نفسه. فخبراء التشفير يحصلون على هذا العدد عن طريق ضرب عددين أوليين كبيرين. ويمكن لأي جهاز كمبيوتر عادي إجراء هذا النوع من الضرب في جزء من الثانية، لكن ما إن تنتهي عملية ضرب العددين الأوليين الكبيرين معًا، تصبح محاولة اكتشاف الأعداد الأولية نفسها مهمة بالغة الصعوبة، وربما تستغرق سنوات عديدة حتى مع استخدام أفضل أجهزة الكمبيوتر. من هنا ظهر مصطلح «شفرة الباب الخلفي»؛ فالدخول من الباب الخلفي سهل بينما يكاد يكون الخروج منه مستحيلًا. يستطيع أي شخص أن يشفر أي رسالة باستخدام ناتج ضرب الأعداد الأولية حتى وإن كان واحدًا من أفراد المقاومة الفرنسية — أيام الحرب العالمية الثانية — تعرض لغارة، ونجح في الفرار من الجستابو (البوليس السري الألماني) وفي حوزته معلومات مهمة للغاية عن المكان الذي تتجه إليه مجموعة من الفرق المدرعة التابعة للجيش الألماني. لكن لن يستطيع قراءة هذه الرسالة سوى أناس يعرفون كلا العددين الأوليين اللذين استخدمهما هذا الشخص.

احتسى بليدسو رشفة من القهوة التي كانت تبرد بسرعة. وقال: «الأمر يا سوبرامانيان أننا نرسل ونستقبل رسائل مهمة للغاية عبر جميع أنحاء العالم في الوقت الراهن، ولا تسألني عن طبيعة تلك الرسائل. فليس لديَّ سوى لمحة عامة عن الأمر، وحتى ذلك لا أستطيع أن أخبرك به. لكننا نولي أهمية كبرى في هذا الوقت دون أي وقت آخر لأن تكون شفرتنا مستحيلة الاختراق. قد يكون هناك نظام تشفير لا يتضمن كل هذا الهراء المتعلق بتحليل الأعداد الأولية. ولو كان هذا النظام موجودًا، فنحن نطلب مساعدتك في الوصول إليه.»

بذل رانجيت جهدًا كبيرًا كي يمنع نفسه من الضحك. فما يطلبه منه بليدسو هو ما تحاول جميع الوكالات المعنية بالتشفير في العالم الوصول إليه منذ أن نشر ديفي وهيلمان بحثهما عام ١٩٧٥. ثم سأل رانجيت: «ولماذا وقع الاختيار عليَّ؟»

بدا الارتياح على بليدسو. وقال: «عندما اطلعت على ما نشر من أخبار حول برهانك فيما يتعلق بنظرية فيرما الأخيرة تذكرت شيئًا. فكل علماء الرياضيات الذين عملوا على هذه التقنية الخاصة بالتشفير باستخدام المفتاح العام استخدموا شيئًا أطلقوا عليه «اختبار فيرما»، أليس كذلك؟ من يستطيع إذن أن يعرف الكثير عن هذا سوى شخص نجح للتوِّ في إثبات نظريته؟ لقد نلتَ إعجاب جهات أخرى في كل مكان، ولذلك سارعنا نحن لضَمِّك إلى فريقنا.»

ألحت على رانجيت الرغبة في الوقوف والانصراف عندما فكر في شتى الأسباب التي تجعل حديث بليدسو مثيرًا للسخرية. لا شك أن «اختبار فيرما» اتُّخِذَ أساسًا للعديد من الطرق المستخدمة حديثًا في تحديد الأعداد الأولية. لكن الانتقال من هذه الحقيقة إلى الاعتقاد أن الرجل الذي أثبت نظرية فيرما قد يكون ذا نفع في فك الشفرات باستخدام المفتاح العام ما هو إلا اعتقاد منافٍ للعقل.

غير أن هذا تحديدًا هو العرض الذي طلب جاميني من رانجيت أن يقبله. كبت رانجيت رغبته في الضحك أمام بليدسو، وقال: «أنضم إليكم. أيعني هذا أنكم تعرضون عليَّ وظيفة؟»

رد بليدسو: «قطعًا نعرض عليك ذلك، يا سوبرامانيان. سوف نوفر لك جميع الموارد التي تحتاج إليها — وحكومة الولايات المتحدة لديها الكثير منها — بالإضافة إلى راتب كبير. ما رأيك في …؟»

لم يستطع رانجيت إخفاء دهشته من الرقم الذي ذكره بليدسو. والذي يكفي لإعالة أجيال عديدة من عائلة سوبرامانيان. فعلَّق بجفاء: «يبدو هذا مناسبًا. متى يمكنني البدء؟»

قال بليدسو متجهمًا: «حسنًا، أخشى أن أقول ليس على الفور. فالأمر يتعلق بالحصول على تصريح أمني لك. لا سيما وأنك قضيت بضعة أشهر داخل السجن للاشتباه في تورطك في أنشطة إرهابية.»

حينئذٍ صار رانجيت قاب قوسين أو أدنى من إظهار جام غضبه. وقال: «هذا هراء! لم أتورط في أي …»

رفع بليدسو يده. وقال: «أعرف ذلك. أتظن أني سأعرض عليك وظيفة كهذه ما لم أكن واثقًا من شيء كهذا؟ لكن الجهة المسئولة عن استخراج التصريح الأمني تنتابها الظنون عندما يكون للشخص صلة بجماعة إرهابية معروفة مثل القراصنة الذين اختطفوا السفينة. لا داعي للقلق. فكل ما نحتاج إليه هو تسوية هذا الوضع. وقد تطلَّب ذلك اللجوء إلى أعلى المستويات. وبالفعل تدخَّل البيت الأبيض، وسوف تحصل على التصريح. غاية ما هنالك أن الأمر سيستغرق بعض الوقت.»

تنهد رانجيت، وكظم غيظه. وتساءل: «وكم سيستغرق ذلك؟»

«ربما ثلاثة أسابيع. أو شهرًا على الأكثر. لذلك أقترح عليك أن تنتهي من أمر جميع المقابلات الصحفية التي وافقت عليها، وعندما أتلقى الأمر، سأتصل بك وأرتب لمجيئك إلى كاليفورنيا.»

لم يكن هناك ما يمكن لرانجيت فعله. فقال: «حسنًا. سوف أحتاج إلى عنوان لك لأُعلِمك بمكاني.»

ارتسمت على وجه بليدسو ابتسامة عريضة. ولاحظ رانجيت أن الكثير من أسنان بليدسو — التي تشبه أسنان القرش — تظهر عندما يبتسم. وقال بليدسو: «لا تقلق. سأعرف مكانك.»

•••

غدت الأسابيع الثلاثة ستة أسابيع، ثم شهرين. وبدأ رانجيت يتساءل إلى أي مدى سيمتد سخاء المؤسسة التي تتكفل بدفع مستحقات الفندق، ولم يكن قد تلقى أخبارًا من بليدسو بعد. قالت مايرا في محاولة للتخفيف عنه: «إنه الروتين الحكومي. طلب منك جاميني أن تقبل الوظيفة. وأنت قَبِلْتَها. لا يسعنا الآن سوى السير وفق جدولهم الزمني.»

قال رانجيت عابسًا: «لكن أين جاميني؟» لم يرَ رانجيت جاميني مرة ثانية، وعندما أرسل خطابًا إلكترونيًّا إلى مكتب والد جاميني ليسأل عن عنوانه، جاءه ردهم: «إنه في ميدان العمل، ولا يمكن الوصول إليه.»

زارت مايرا أصدقاءها القدامى في معهد ماساتشوستس لتروح عن نفسها. لكن شيئًا كهذا لم يكن متاحًا أمام رانجيت. وعندما عادت مايرا إلى الفندق لاهثة تتهادى في مشيتها ومعها الكثير من الأنباء عن آخر إنجازات عدد من زملائها، فاجأها رانجيت بسؤال غير متوقع: «ما رأيكِ أن نستقل الطائرة التالية ونعود إلى سريلانكا؟»

جلست مايرا ببطنها المنتفخة على أحد الكراسي. وتساءلت: «ما الأمر يا عزيزي؟»

«لا جدوى من بقائنا هنا»، قالها دون أن يذكر شيئًا عن البرودة القارسة في الخارج. ثم أضاف: «كنت أفكر فيما قاله الدكتور باندارا. فوظيفة أستاذ في الجامعة ليست سيئة، وسأحظى أيضًا بفرصة إجراء الأبحاث، وهناك العديد من المسائل الكبرى التي لم يتوصل أحد لحلها بعد. إذا كنت تحلمين بالثراء يمكنني البحث عن حل لمعادلة بلاك-شولز. وإذا أردتُ تحديًا حقيقيًّا فهناك دائمًا مسألة P = NP. إذا استطاع أحد حل هذه المسألة فسيُحْدِث تغييرًا جذريًّا في علم الرياضيات.»
تململت مايرا في جلستها على الكرسي في محاولة لإيجاد وضع مريح. وعندما لم تجد، مالت لتضغط على يد رانجيت. وسألت: «ما معنى P = NP ؟ أو تلك المعادلة الأخرى؟»

كان الأمر أسوأ مما ظنت مايرا حتى إنها لم تستطع استدراج رانجيت لتغيير الموضوع. قال رانجيت: «المشكلة أننا نضيع وقتنا هنا. ومن الأفضل أن نضع حدًّا لهذا، ونعود إلى بلدنا.»

ذكَّرته مايرا: «لكنك وعدت جاميني. انتظر بضعة أيام أخرى فحسب.»

قال بعناد: «سننتظر بضعة أيام. أو أسبوعًا على الأكثر، ثم نرحل من هنا.»

•••

لم تصل فترة الانتظار إلى هذا الحد. ففي اليوم التالي مباشرة تلقى رانجيت رسالة نصية من المقدم السابق تي أوريون بليدسو. جاء فيها: «تسلمنا التصريح. اذهبا إلى باسادينا في أسرع وقت ممكن.»

لا شك أن مايرا ورانجيت كانا يرغبان في مغادرة بوسطن بمناخها الذي كان الأسوأ حتى ذلك الحين. لكن عندما انتهيا من حزم حقائبهما، وأثناء انتظار الليموزين التي ستنقلهما إلى مطار لوجان ليلحقا بالرحلة المتجهة إلى مطار لوس أنجلوس الدولي وضعت مايرا يدها على بطنها فجأة. وقالت: «يا إلهي، أظن أنها انقباضات الرحم.»

وكانت كذلك بالفعل.

عندما أوضحت مايرا لرانجيت ما يجري، غيرت الليموزين وجهتها من المطار إلى مستشفى ماساتشوستس العام. وبعد مرور ست ساعات أبصرت الصغيرة ناتاشا سوبرامانيان النور.