النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الخامس والعشرون

الرعد الصامت

كان لهذه الطائرة اسم رسمي في سجلات البنتاجون، لكن الأشخاص الذين ابتكروها وصمموها وأرسلوها في طريقها أطلقوا عليها اسم «الرعد الصامت».

في ظلام منتصف الليل أقلعت «الرعد الصامت» من مكانها — وهو مطار بوينج فيلد القديم خارج مدينة سياتل في واشنطن — وتقدمت نحو الغرب بتؤدة وبسرعة ألف كيلومتر في الساعة. لم يكن الغرض من الإقلاع في الظلام هو حجب الطائرة عن رؤية الأعداء. فربما يكون هذا مستحيلًا. فأي دولة معادية محتملة — وأي دولة أخرى أيضًا — لديها سماء تعج بأقمار المراقبة التي ترصد أي تحرك لأي شخص.

لكن الظلام لا يزال مخيمًا، وبعد عدة ساعات كانت طائرة «الرعد الصامت» قد أكملت دائرتها الكبرى بعبور المحيط الهادي، وهبطت — «كأنها صخرة» على حد وصف الطيار لاحقًا — إلى مستوى سطح البحر تقريبًا. ثم أخذت تتقدم فوق المياه التي تفصل بين جزيرتَي هونشو وهوكايدو، ودخلت إلى بحر اليابان.

كان الظلام حينئذٍ يصب في مصلحة طاقم «الرعد الصامت». فالظلام يعني أنه ما من أحد من مذيعي الأخبار الفضوليين في إحدى جزر اليابان سيرى ما يجري بوضوح؛ ولذا لن تذاع أخبار الطائرة على الملأ في الصباح. لا شك أن أجهزة الرادار التي يمتلكها الجيش الياباني الصغير في مدينتَي آموري وهاكوديت أصدرت إشارات. لكن لم يكترث لها أحد. فاليابان لا تمتلك سلاحًا يكفي لاتخاذ إجراء بشأن «الرعد الصامت». وعلى أي حال فقد أُعْلِمَ الجنرالات اليابانيون في سرية تامة وقبل اثنتي عشرة ساعة أن الولايات المتحدة سوف ترسل طائرة تجريبية إلى اليابان، وأن حسن التصرف يفرض عليهم غض الطرف عنها.

وما إن توغلت «الرعد الصامت» في بحر اليابان حتى بدأت ترتفع مرة أخرى، ثم استقامت في طيرانها على ارتفاع اثني عشر ألف متر. لا شك أن السواحل الغربية لبحر اليابان تتبع روسيا، ولا شك أيضًا أن أجهزة الرادار هناك أكثر عددًا وأكثر فعالية من أجهزة الرادار اليابانية. لكنهم لم يكترثوا لذلك أيضًا؛ فكبار الضباط الروس تلقوا معلومات بأن «الرعد الصامت» لا تشكل تهديدًا؛ بالأحرى لا تشكل تهديدًا لهم.

عندما اتفق الطيار والملاح على بلوغ النقطة المستهدفة، خففت «الرعد الصامت» من سرعتها إلى الحد الذي يبقيها في الهواء، وبدأت تنشر أسلحتها. ربما أربكت هذه الأسلحة — قنبلة نووية محدودة الأثر وأسطوانة نحاسية مجوفة عرضها لا يتعدى عرض جسم الإنسان — خبراء الأسلحة قبل عقد من الزمان، لكن هذه الأسلحة هي كل ما تحتاج إليه «الرعد الصامت» لتنفيذ مهمتها.

وبداخل نظام توجيه السلاح ظهرت كوريا الشمالية بزعامة «الحاكم المحبوب» مظللة بشكل بيضاوي طويل هو موضع تأثير السلاح.

لم يكن أحد داخل «الرعد الصامت» ينظر إلى تلك الخريطة؛ لأنه لم يكن بها أحد من الأساس. فقبطان الطائرة وجميع طاقمها كانوا في ولاية واشنطن يراقبون الخريطة على شاشة تليفزيونية. وجه القبطان الأمريكي كلامه إلى المدفعي الروسي: «يبدو كل شيء على ما يرام. انشر العوازل.»

أجابه المدفعي وأصابعه فوق لوحة المفاتيح: «حسنًا.» تكونت أشكال سوداء حول أطراف الشكل البيضاوي محدِّدةً مسار نهر يالو شمالًا وغربًا، والخط الحدودي بين كوريا الشمالية والجنوبية، وأيضًا ساحل المحيط الهادي جنوبًا وشرقًا. بالطبع لم تكن هذه الأشكال أشياء ملموسة. لا شيء مادي يمكن أن ينجو مما أرادوا عزله بالضربة، وقد كان ابتكار المجالات الإلكترونية التي ستتكفل بتنفيذ عملية العزل واحدًا من أكثر التقنيات تقدمًا وبراعة في تصميم طائرة «الرعد الصامت». قال المدفعي للطيار: «كل شيء جاهز.»

سأل الطيار الملَّاح الصيني: «أما زال الوضع على ما يرام؟»، وعندما أكد الملاح أن الوضع كذلك، رسم الطيار علامة الصليب. (كان الطيار يعتبر نفسه كاثوليكيًّا ارتد عن عقيدته، لكن كانت هناك أوقات لم يفكر فيها أنه مرتد على الإطلاق.) وجه الطيار أمره للمدفعي قائلًا: «أطلق السلاح!» وللمرة الأولى في تاريخ العالم تُهزم إحدى الدول هزيمة منكرة في حرب دون أن يتأذى أي شخص.

•••

الواقع أن هذا لم يكن صحيحًا تمامًا.

فقد قضى عدد قليل من مرضى القلب في إقليم «الحاكم المحبوب» نحبهم. وهم الذين أخطأهم الحظ باستخدام منظم ضربات القلب لحظة وقوع الانفجار الكهرومغناطيسي حاملًا معه طاقة تفوق صاعقة البرق. (لكن الفئة الوحيدة التي كانت تستطيع امتلاك تقنية — غربية الصنع — بهذه التكلفة الباهظة في كوريا الشمالية هم المسئولون رفيعو المستوى. وهؤلاء لم يُؤسَف على موتهم.) هذا بالإضافة إلى عدد ضئيل من التعساء الذين كانوا يستقلون طائرات خفيفة والذين راحوا ضحية التصادمات المترتبة على وقوع الانفجار. (كان هؤلاء مسئولين رفيعي المستوى كمن سبقوهم؛ ولذا لم يُؤسَف على موتهم أيضًا.) وهكذا فإن آخر تغيير في نظام الحكم في كوريا الشمالية قد حدث مع وقوع عدد من الضحايا أقل بكثير ممن يلقون حتفهم على الطرق السريعة في الغرب في إحدى العطلات الأسبوعية العادية.

في غضون جزء من الثانية تعطلت جميع شبكات الهاتف في دولة «الحاكم المحبوب». وتعطلت معظم خطوط نقل الطاقة الكهربائية. فضلًا عن ذلك تعطلت جميع أسلحته الأكثر تطورًا من البندقية، والمعروف أن كوريا الشمالية بزعامة «الحاكم المحبوب» تمتلك عددًا هائلًا من جميع أنواع الأسلحة. فمن دون التليفونات وأجهزة اللاسلكي لن يتمكن أحد من معرفة ما يجري في مكان آخر. لم تعد هذه الدولة تشكل تهديدًا لأي شخص؛ لأنه لم تعد هناك دولة بالمفهوم الفعلي على هذه البقعة من الأرض.

أثناء تنفيذ هذه العملية اندلع قتال فعلي ضيق النطاق.

اندلع هذا القتال بسبب عقيد عنيد كان متمركزًا خارج مدينة كيسونج. بالطبع لم يكن بوسع الرجل استيعاب ما حدث، لكنه أدرك على الأقل أن جنوده في خطر. ففعل ما كان سيفعله عقداء كثيرون في مثل هذا الموقف. إذ نشر فرقته، وأمدهم بكل ما قد يحتاجون إليه من البنادق والمسدسات، ثم أطلقهم في هجوم على الخط الحدودي.

لكنهم لم يبتعدوا كثيرًا.

بل إنهم لم يتمكنوا من قطع الطريق بأكمله عبر حقول الألغام الكثيفة المحيطة بالخط الحدودي مع كوريا الجنوبية. لقي ستة من جنود الخط الأمامي مصرعهم عندما انفجرت الألغام، ولقي نحو عشرون آخرون مصرعهم عندما شاهدتهم القوات الكورية الجنوبية في الجهة الجنوبية من الخط وهم يقتربون وفتحت النار عليهم … ثم أوقفت إطلاق النار عندما رأت أن الكوريين الشماليين ما زالوا يتقدمون إلى الأمام — لكن ببطء وبحذر — وأياديهم فوق رءوسهم.

حينئذٍ بدأ العالم بأسره ينتبه إلى ما كان يجري … وليس فقط عالم البشر.

•••

سُمع دوي الأزيز الإلكتروني لهذا السلاح في باقي أنحاء المجرة عندما وصلها بسرعة الضوء البطيئة جدًّا والتي تبلغ ٣٠٠ ألف كيلومتر في الثانية (أو ١٨٦ ألف ميل في الثانية لدى الأمريكيين وغيرهم من التقليديين.)

وأخيرًا بلغ الأزيز أسطول «واحد فاصل خمسة» — الذي كان على بعد خمسة عشر سنة ضوئية عن الأرض وقت وقوع الانفجار — وأدركوا أن مصدره تلك الكائنات التي هم في الطريق لإبادتها.

بالطبع لم يكن أحد على سطح كوكب الأرض يعلم شيئًا عن ذلك.

وعلى الجانب الآخر لم يعلم أحد بين «المخزنين في الآلات» — أو في أي مكان آخر تابع لسيادة «عظماء المجرة» — بما حدث للتوِّ في كوريا الشمالية. ولذا عندما بلغ ضجيج الانفجار الإلكتروني مسامعهم أخذوا يفكرون في بعض الاستنتاجات المنطقية، لكن الصواب جانَبَ استنتاجاتهم.

مرت سنوات قبل وصول ذلك الضجيج الأبيض من الموجات الكهرومغناطيسية إلى الكواكب التي تقطنها الأجناس التي تتبع عظماء المجرة. خاصة إلى ذلك الخط المتعرج في جداول المادة المظلمة الذي كان موطنًا لأقرب مجموعة من «عظماء المجرة» أنفسهم. وكان لذلك تأثير سيئ. في الواقع ربما كان هذا التأثير سيئًا على نحو مأساوي، بل ومدمرًا أيضًا.

فالمشكلة تكمن في طبيعة السلاح الذي أطلق عليه مالكوه اسم «الرعد الصامت».

لم يكن معظم الأسلحة البشرية يشكل خطورة؛ لأنها إما أن تعتمد على الانفجارات الكيميائية أو النووية من أجل إحداث الأثر المطلوب. لم يكن مثل هذه الأحداث التافهة ليُوقع الخوف في نفس «عظماء المجرة» الذين لا تتكون أجسامهم من الباريونات. لكن الأمر يختلف تمامًا مع مِرجَل الجزيئات الذي يُطلق عليه «الرعد الصامت». فهذا السلاح من شأنه أن يعرض أجزاء من المعدات التي يستخدمها «عظماء المجرة» للخطر. والحديث هنا لا يتعلق بالنموذج الأولي البسيط الذي أصاب دولة «الحاكم المحبوب» بالشلل، وإنما بالنماذج الأكثر تطورًا التي من المتوقع أن يبتكرها هؤلاء البشر المزعجون عما قريب إن سُمح لهم بذلك.

ولا شك أن «عظماء المجرة» لن يسمحوا للبشر بشيء كهذا. هذا لأنهم قد خططوا بالفعل لإبادتهم نهائيًّا. وسوف تنتهي هذه المشكلة بانتهاء الجنس البشري.

وهو ما يعني — حسب الكلمات الشهيرة التي ذكرها الكاتب المسرحي ويليام شوينك جيلبرت قديمًا على لسان السيَّاف كوكو أثناء تبرير خطيئته أمام إمبراطور اليابان في المسرحية الغنائية «ميكادو» — أن صدور الأمر يكاد يعني تنفيذه على أكمل وجه.

حتى ذلك الحين لم تكن مسألة إبادة الجنس البشري محسومة نهائيًّا بشكل أو آخر. فقد ظل عظماء المجرة أنفسهم يراجعون الموقف — بعد أن أصدروا أمرهم — لوجود احتمال بعيد بأن الظروف قد تتغير مما قد يضطرهم إلى إلغاء الأمر الذي أصدروه.

وتوقف «عظماء المجرة» عن مراجعة الموقف. لأنهم لم يروا سببًا لإزعاج عقولهم (إن كانت لديهم عقول) بهذه المسألة تحديدًا.

لذلك أسقط «عظماء المجرة» هذه المسألة من إدراكهم لصالح أمور أخرى أكثر أهمية وأكثر متعة لا شك. ويتصدر هذه القائمة؛ أولًا، نجم قزم أبيض على وشك اختلاس مادة من شريكه العملاق الأحمر تكفيه لأن يتحول إلى متجدد أعظم (أي نجم متفجر فائق التوهج تظل نواته كنجم نيوتروني بعد انقذاف طبقاته الخارجية) من النوع «آي إيه»؛ ثانيًا، بعض الرسائل التي وردت من نظرائهم في مجرات أخرى والتي لا بد من الإقرار بوصولها على الأقل؛ وثالثًا، سؤال يتعلق بفصل جزء آخر منهم مثل «بيل» ليراقب عن كثب المجرة الثانوية الصغيرة التي تتحرك بسرعة شديدة والتي قد يتسبب دورانها في اصطدامها بمجرتهم في أي لحظة خلال أربعة أو خمسة ملايين سنة مقبلة على أقصى تقدير.

أما أي شيء قد يذكرهم بهذا الكوكب الضئيل المزعج التي يطلق عليه قاطنوه اسم كوكب الأرض فكان في ذيل قائمة اهتماماتهم. ولِمَ قد يكترثون له؟ فالأمر برمته ليس تجربة جديدة على عظماء المجرة. فعلى مدار مليارات السنين منذ أن أصبح «عظماء المجرة» — طوعًا أو كرهًا — أسيادًا لهذا الجزء من الكون فإنهم صادفوا نحو ٢٥٤ جنسًا على نفس الدرجة من الخطورة، وأبادوا ٢٥١ منها. (مُنِحَت الأجناس الثلاثة الأخرى — التي لم يكن أذاها بالغًا — فرصة ثانية.)

ولم يكن من المرجح أن يصبح البشر على كوكب الأرض الجنسَ الرابع الذي يُمْنَح فرصة أخرى.