النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثامن والعشرون

تأسيس حياة

ما زال عرض التدريس بالجامعة قائمًا بالفعل. فأيًّا كانت نقائص الدكتور داتوسينا باندارا فإن نزعة الانتقام لم تكن واحدة منها. وهكذا كان من دواعي سرور الجامعة أن ترحب بالدكتور رانجيت سوبرامانيان (وإن كان هذا اللقب فخريًّا فحسب) ضمن هيئة التدريس بها كأستاذ جامعي بعقد دائم على أن يبدأ تعيينه (وأيضًا تلقي راتبه) في الحال، ويبدأ مزاولة العمل الفعلي عندما يرى الوقت مناسبًا لذلك تمامًا. فضلًا عن ذلك فإنه من دواعي سرور الجامعة أيضًا أن تجد منصبًا جامعيًّا للدكتورة مايرا دو سويزا سوبرامانيان (واللقب هذه المرة ليس فخريًّا وإنما حصلت عليه مايرا فعليًّا). ومما لا شك فيه أن لقبها لن يرقى إلى مكانة اللقب الذي يحمله زوجها، وكذلك الحال مع راتبها. ومع ذلك …

ومع ذلك سيعودان إلى سريلانكا!

إذا كان رئيس الولايات المتحدة قد اعترض على رفض رانجيت العرض الوظيفي الذي قدمه له، فإنه لم يبدِ أي رد فعل. وكذلك لم يعترض أي شخص آخر. جمع رانجيت متعلقاته الشخصية البسيطة من المكتب؛ صحيح أن عاملًا من عمال الصيانة — صادف كونه أحد أفراد الأمن أيضًا — ساعده في حزم متعلقاته. وصحيح أنه كان مطالبًا بتسليم بطاقات الدخول والشارات وبطاقات الهوية. لكن أحدًا لم يضايقه هو وزوجته في شقتهما أو في المطار أو على متن الطائرات التي استقلاها. وجلست ناتاشا في مقعد الأطفال بينهما في هدوء تام.

بالطبع كانت السيدة فورهولست في انتظارهما في مطار كولومبو؛ إذ كان واضحًا أن أفضل شيء لهم جميعًا أن يقيموا في منزلها مرة أخرى. قالت مايرا وهي تعانقها: «إلى أن نجد منزلًا.»

قالت السيدة فورهولست: «امكثا قدر ما تشاءان. لن يقبل يوريس خيارًا آخر.»

•••

اكتشف رانجيت شيئًا غريبًا بشأن قاعات التدريس في الجامعة. فعندما كانت أعز أماني رانجيت الخروج من هذه القاعات كان يجدها ضيقة المساحة على نحو يثير الشعور بالكآبة. لكنها لم تعد كذلك الآن؛ لم تعد كذلك أمام أستاذ جديد لم يلقِ محاضرة أمام الطلاب من قبل. فالقاعة حينئذٍ بدت كأنها منصة مُحَلَّفين فسيحة مكتظة بطلبة وطالبات يجلسون للحكم عليه. فأعينهم مصوبة بدقة نحو كل حركة يقوم بها، وآذانهم شديدة التوق لسماع الحقائق العظمى التي سيحدثهم بها الأستاذ سوبرامانيان حول الأسرار الكامنة لعالم الرياضيين.

لم يكن إطعام هذا العش المليء بصغار الطيور الجائعة هو وحده الذي أربك رانجيت. بل كان اختياره لما سيسد به رمقهم. عندما أبدت هيئة البحث بالجامعة ترحيبها بانضمام رانجيت إلى هيئة التدريس تفضلوا بترك طبيعة مهامه الوظيفية يضعها هو وفق خطته المُحْكَمة.

لكن لم تكن لدى رانجيت أي خطط.

أدرك أنه بحاجة إلى المساعدة. بل إنه تمنى أن يجد ضالته عند الدكتور دافودبوي؛ ذلك الرجل الذي أحسن التصرف معه عندما كان يحدثه بشأن استيلائه على كلمة المرور الخاصة بأستاذ الرياضيات.

كان دافودبوي لا يزال يعمل بالجامعة. ونتيجة لحالات التقاعد والوفيات التي تحدث بطبيعة الحال، قد ترقى درجة أو درجتين في السلم الوظيفي. لكن عندما لجأ إليه رانجيت طلبًا للمساعدة لم يجد لديه الكثير. قال دافودبوي: «رانجيت، أما زال بإمكاني أن أناديك باسم رانجيت؟ أنت تعرف كيف تسير الأمور. لا تحظى جامعتنا الصغيرة بالعديد من مشاهير العالم. ولجان البحث يريدونك هنا بشدة، لكنهم لا يعرفون تحديدًا فيمَ يريدونك. أتعرف أنك لست مضطرًّا بالفعل لمزاولة مهنة التدريس كثيرًا؟ ليس لدينا عدد كبير من أعضاء هيئة التدريس المتخصصين في البحث، لكنه احتمال قائم.»

قال رانجيت بحرص: «آها.» ثم أمعن التفكير هنيهة، ثم أردف: «أظن أن بإمكاني إلقاء نظرة على بعض المسائل القديمة الشهيرة مثل فرضيات ريمان وجولدباخ وكولاتز …»

قال دافودبوي: «بالتأكيد، لكن لا تفقد الأمل في التدريس إلى أن تجربه. لم لا نعقد بضع حلقات دراسية سريعة على سبيل التدريب؟ يمكننا القيام بذلك على الفور.» وبينما يهم رانجيت بالانصراف وهو يدير الفكرة في عقله، قال دافودبوي: «ثمة شيء آخر يا رانجيت. كنتَ محقًّا بشأن فيرما وكنتُ أنا المخطئ. لم أضطر إلى قول ذلك كثيرًا في حياتي. وهو ما يدفعني إلى الرغبة في أن أثق بآرائك.»

•••

سعد رانجيت لمعرفته أن عميد الجامعة يثق برأيه. مع أن رانجيت نفسه لم يكن شديد الميل إلى الثقة في الآخرين. نُظِّمَت أولى حلقات رانجيت الدراسية تحت عنوان «أسس نظرية الأعداد». قال رانجيت لدافودبوي الذي بدأ التنفيذ على الفور: «سوف أعطيهم نظرة عامة حول الموضوع بأكمله.» ستستغرق الحلقة الدراسية ستة أسابيع على أن تكون المحاضرة الواحدة أربع ساعات، وسوف تقتصر على طلاب السنة الثالثة والرابعة وطلاب الدراسات العليا في قاعة لا تتسع لأكثر من خمسة وعشرين طالبًا.

لم يكن رانجيت قد كرس اهتمامًا كبيرًا للموضوع الذي اختاره لهذه الحلقة الدراسية منذ أن كان في الرابعة عشرة من عمره وهو يخطو أولى خطواته نحو الولع بنظرية فيرما. لذلك نقَّب مكتبة الجامعة بحثًا عن كتب ذات صلة، وأخذ يُدَرِّس منها محاولًا أن يسبق في القراءة بنحو اثنتي عشرة صفحة على الأقل عن الطلاب الذين التحقوا بالصف والذين كانوا يتمتعون بذكاء وسرعة بديهة يبعثان على الشعور بالقلق.

ومع الأسف لم يستمر الأمر وقتًا طويلًا حتى فطن الطلاب لما يقوم به رانجيت. وفي تلك الليلة اعترف رانجيت لمايرا: «إنني أصيبهم بالملل. فهم يستطيعون القراءة من الكتاب تمامًا مثلما أفعل.»

قالت مايرا بلهجة داعمة: «هذا كلام غير معقول.» لكن بعد ذلك — عندما أعاد رانجيت على مسامعها بعضًا من تعليقات الطلاب التي تنم عن احترام شديد لكنها تفتقر إلى علامات التأثر — فكرت مايرا بتمعن. ثم قالت: «أتَفَهَّم ذلك. عليك بالمزيد من التواصل الشخصي معهم. لماذا لا تعرض عليهم بعض الحيل المتعلقة بالحساب الثنائي؟»

نفذ رانجيت الفكرة التي طرحتها مايرا؛ إذ لم تكن لديه فكرة أفضل. فعرَّف الطلاب على طريقة الضرب الروسية والعد على الأصابع بالإضافة إلى تلك الحيلة التي يَكتب فيها تباديل الصور والكتابات لصف غير معلوم الطول من العملات، واستخدم عملات معدنية حقيقية، وسمح للطلاب بتعصيب عينيه، في حين غطى أحدهم جزءًا من الصف. كانت مايرا محقة. فقد استمتع الطلاب. ورَجَاه بعضهم أن يريهم المزيد، وهو ما جعل رانجيت يذهب إلى أرفف المكتبة حيث وجد نسخة قديمة من كتاب مارتن جاردنر حول الألغاز والأحجيات الرياضية، وهكذا مرت الأسابيع الستة التي استغرقتها الحلقة الدراسية دون أن يتعرض رانجيت للنقد من طلابه.

أو هكذا ظن.

بعد انتهاء الحلقة الدراسية دعاه الدكتور دافودبوي لزيارة قصيرة من أجل مناقشة بعض الأمور. قال دافودبوي، وهو يصب كأسًا من النبيذ لكل منهما: «أتمنى ألا تمانع يا رانجيت، لكننا بين الحين والآخر — خاصةً عندما نجرب شيئًا جديدًا — نطلب من الطلاب إبداء آرائهم. وقد كنت ألقي نظرة لتوي على الأوراق التي تضم آراء الطلاب في الحلقة الدراسية.»

قال رانجيت: «أه. أتمنى أن تكون الآراء جيدة.»

تنهد عميد الجامعة. وقال: «ليس تمامًا مع الأسف.»

•••

والواقع أن آراء الطلاب لم تكن جيدة تمامًا، وهو ما اعترف به رانجيت أثناء تناول العشاء تلك الليلة. أخبر رانجيت زوجته والسيدة فورهولست: «قال بعضهم إنني كنت أؤدي خدعًا سحرية كالتي تؤدَّى في ملهى ليلي بدلًا من تدريس الرياضيات. وجميعهم تقريبًا لم ترُقهم فكرة التعلم دون استخدام الكتاب.»

قالت السيدة فورهولست وقد قطبت جبينها: «لكنني ظننت أنهم سيستمتعون بتلك الخدع.»

قال: «أظن أنهم استمتعوا — نوعًا ما — لكنهم قالوا إنهم لم يلتحقوا بالصف من أجل هذا.» قشر رانجيت ثمرة برتقال والكآبة تعلو وجهه. وأردف قائلًا: «وأنا أتفق معهم. لكنني لا أدري ماذا يريدون.»

ربتت مايرا على يد رانجيت، وأخذت قطعة من البرتقال. وقالت: «ولهذا السبب نُظِّمت هذه الحلقة الدراسية، أليس كذلك؟ لكي ترى هل سيجدي هذا الأسلوب نفعًا أم لا؟ ومن الواضح أنه لم يُجْد نفعًا، لذا عليك أن تجرب أسلوبًا آخر.» جففت مايرا شفتيها من عصير البرتقال، ومالت إلى الأمام، ثم طبعت قبلة على جبهة رانجيت. وقالت: «هيا لنحمم تاشي، ثم نذهب أنا وأنت للسباحة في حوض السباحة كي نُرَوِّح عن أنفسنا.»

أتم رانجيت ومايرا كل ما خططا له. وهو ما أشاع البهجة في نفسيهما. وحقيقة الأمر أن كل ما يتعلق بالحياة في منزل فورهولست كان مصدرًا لإشاعة البهجة في النفس. فمن الواضح أن العاملين في المنزل فخورون بضيوفهم المميزين، وبالطبع متيَّمُون بناتاشا أيضًا. صحيح أن مايرا كانت تقضي ساعة أو ساعتين معظم الأيام في البحث عن شقة لينتقل إليها ثلاثتهم، لكنها لم تنجح في العثور على تلك الشقة. بدت بعض الشقق ملائمة في البداية، لكن السيدة فورهولست تكفلت بلفت أنظارهما إلى العيوب الخفية مساعدةً منها: ومن هذه العيوب أن الشقة تقع في حي سيئ، أو أنها تبعد عن الجامعة، أو أن الغرف ضيقة أو إضاءتها ليست جيدة أو كلاهما معًا. كان هناك عدد كبير من العيوب التي تجعل أي شقة غير ملائمة لآل سوبرامانيان، ولم تكن السيدة فورهولست تألو جهدًا في كشف النقاب عن تلك العيوب. قالت مايرا لزوجها وهما يخلدان إلى النوم ذات ليلة: «لا شك أنها ترغب في بقائنا معها. أظن أنها تشعر بالوحدة في غياب يوريس.»

قال رانجيت والكرى يطوف بأجفانه: «صحيح.» ثم أضاف، وهو يتثاءب: «قد تكون هناك أمور أسوأ من الإقامة هنا.»

لا مراء في صدق ما قاله رانجيت. ففي منزل فورهولست تُلبَّى كافة احتياجاتهم دون أي جهد من جانبهم، ودون تكلفة أيضًا. ألح رانجيت في السماح له بالمساهمة مع آل فورهولست في نفقات المنزل. رفضت السيدة فورهولست. كان رفضها نابع من محبة ووُدٍّ، لكن كان رفضًا قاطعًا. قال رانجيت لمايرا وهما يسترخيان بجوار حوض السباحة ذلك المساء: «أوه، حسنًا. إذا كانت السيدة فورهولست تستمتع بتدليلنا، فلِمَ نحرمها هذه المتعة؟»

كان رانجيت يتمنى أن يكون العالم في الخارج باعثًا على البهجة هكذا. لكنه لم يكن كذلك. فعلى الرغم مما حدث في كوريا فإن الكرة الأرضية ما زالت تعاني حروبًا صغيرة وأعمال عنف. حدث توقف مؤقت بعد استخدام «الرعد الصامت»؛ إذ ترددت الأطراف المتناحرة حول العالم خشية أن يحين الدور عليها. لكن ذلك لم يحدث. لم يتكرر استخدام «الرعد الصامت» مباشرة، وفي غضون شهر كانت المدافع والقنابل خارج كوريا الشمالية قد عادت إلى طبيعتها.

في بعض الأحيان كان رانجيت يتمنى زيارة من جاميني باندارا ليخبره بما يعرف من معلومات سرية حول ما يجري. إلا أنه لم يفعل. ظن رانجيت أن جاميني ربما يكون مشغولًا للغاية في تسوية الأوضاع فيما كان يطلق عليها من قبل اسم كوريا الشمالية. والواقع أن هذا المكان كان يشهد الكثير من الأحداث. فالكهرباء عاودت الانتقال عبر خطوط نقل القوى الكهربية التي تعرضت للضرب. وأعيد حرث المزارع التي أُهملت بسبب انضمام الرجال الذين كانوا يعملون فيها إلى الجيش. كما بدأ التصنيع الفعلي للسلع الاستهلاكية. فضلًا عن ذلك كانت هناك أخبار محيِّرة بشأن التخطيط لإجراء انتخابات. كانت أخبار غريبة لم يستطع آل سوبرامانيان أو أي شخص يتحدثون إليه أن يخرج منها بفهم واضح للأمر. من الواضح أن للكمبيوتر دورًا كبيرًا في ذلك، لكن لم يتمكن أحد من توضيح ماهية هذا الدور على وجه التحديد.

على الرغم من ذلك أقر رانجيت ومايرا وهما يتجاذبان أطراف الحديث ليلًا وكلاهما ممسك بيد الآخر أن معظم الأحداث بدأت تسير في اتجاه أفضل إلى حدٍّ ما — أو على الأقل لم تعد تسير في الاتجاه الأسوأ — عما قبل إطاحة «الرعد الصامت» بنظام الحكم. أو بالأحرى معظم الأحداث. في الواقع، لم تكن المسيرة الأكاديمية لرانجيت من بين هذه الأحداث.

المشكلة التي ارتبطت بمسيرة رانجيت الأكاديمية هي أنه بدا غير قادر على بدئها. فبعد رد الفعل المُحْبِط التي تلقاه بشأن حلقته الدراسية الأولى، عزم ألا يكابد المصير نفسه في محاولته الثانية.

لكن ماذا عساها أن تكون هذه المحاولة؟ بعد تفكير طويل قرر رانجيت أنها ستكون توضيحًا تفصيليًّا لقصته الطويلة بدءًا من تعلقه بنظرية فيرما وانتهاءً بما حققه من نجاح فيها. وافق الدكتور دافودبوي على ترتيب موعد لذلك مشيرًا في هدوء إلى أنه أمر يستحق المحاولة على الأقل.

غير أنه كان للطلاب رأي آخر. من الواضح أن الأخبار المتعلقة بضعف مهاراته التدريسية قد ذاعت بين الطلاب، ورغم انضمام عدد قليل منهم إلى الصف، فإن كثيرين استفسروا عن مضمون الحلقة الدراسية، وظلوا مترددين في اتخاذ القرار، وفي النهاية صرفوا أنظارهم عن الأمر. من الواضح أن معظم الطلاب فكروا في أن رانجيت قد تناول هذا الموضوع باستفاضة في أحاديثه ومقابلاته الصحفية. فألغيت الحلقة الدراسية.

فكر رانجيت في خيار البحث. ووجد أمامه المسائل السبع الشهيرة التي لم يتوصل أحد إلى حلها والتي طرحها معهد كلاي للرياضيات في مطلع القرن الحادي والعشرين — لم تكن هذه المسائل مثيرة للتشويق في حد ذاتها فحسب، بل إن المعهد رصد مكافأة سخية قدرها مليون دولار لحل كل مسألة منها.

وهكذا بحث رانجيت في القائمة التي تضم المسائل وفكر فيها مليًّا. كان بعض هذه المسائل عويصًا حتى على رانجيت نفسه، لكن هناك حدسية هودج وفرضية بوانكاريه وفرضية ريمان؛ كلا على الأقل وُجِدَ حل لبعض هذه المسائل، ومُنِحَت الجوائز المرصودة لها. وهناك أيضًا أهم هذه المسائل، وهي معادلة P = NP.

وبغض النظر عن الوقت الذي قضاه رانجيت في التفكير في هذه المسائل، فإن حلها ما زال بعيد المنال. لم يكن بوسعه أن يشعر بذات الشعور الذي ملك عليه نفسه أول ما وقعت عيناه على ما كتبه فيرما في هامش كتابه. وفسرت مايرا ذلك بقولها: «ربما لأنك لم تعد في الرابعة عشرة من عمرك.»

لكن هذا لم يكن السبب. فبرهان فيرما كان أمرًا مختلفًا تمامًا. إذ لم يحدث أن عُرِض على رانجيت باعتباره مسألة ينبغي عليه محاولة حلها. ما حدث أن واحدًا من العظماء في تاريخ علم الرياضيات تباهى بأن لديه برهانًا لتلك النظرية الأخيرة. وكان على رانجيت أن يكتشف هذا البرهان.

حاول رانجيت أن يوضح الأمر لمايرا. وقال لها: «هل سمعتِ من قبل عن شخص يُدعى جورج دانتزيج؟ كان طالب دراسات عليا في جامعة كاليفورنيا بيركلي عام ١٩٣٩. ذات مرة وصل دانتزيج إلى المحاضرة متأخرًا، ورأى معادلتين كتبهما المحاضر على السبورة. ظن دانتزيج أن هاتين المعادلتين واجب منزلي، فنقلهما في دفتره، وأخذهما إلى المنزل ليفكر في حل لهما.»

استطرد رانجيت: «لم تكن المعادلتان واجبًا منزليًّا. فقد كتبهما الأستاذ على أنهما مسألتان في الرياضيات الإحصائية لم يستطع أحد حلهما.»

زمت مايرا شفتيها. وقالت: «أتريد أن تقول إن دانتزيج قد لا يستطيع حل المسألتين لو عرف شيئًا كهذا؟»

هز رانجيت كتفيه. وقال: «ربما.»

استعانت مايرا بالرد الذي يفضله زوجها على التعليقات المربكة. إذ قالت: «هكذا إذن!»

ابتسم رانجيت ابتسامة واسعة. وقال: «حسنًا. هيا إذن لنعطي تاشي درسًا في السباحة.»

•••

لم يشُكَّ أي شخص عرف الصغيرة ناتاشا دو سويزا سوبرامانيان للحظة واحدة أنها لا تتمتع بذكاء خارق. فقد تدربت على استخدام الحمام قبل أن تتم عامها الأول، وخطت أولى خطواتها بعدها بشهر، ثم نطقت أولى كلماتها بوضوح — وهي كلمة «مايرا» — بعد أقل من شهر آخر. وكل هذه الأشياء فعلتها تاشي وحدها.

لم يكن سبب ذلك أن مايرا ليس لديها أشياء تتوق إلى أن تعلمها لابنتها. فهناك الكثير من هذه الأشياء، لكن ذكاء مايرا جعلها تحجم عن تعليمها كل تلك الأشياء مرة واحدة. لذا قصرت مايرا توجيه ابنتها التي لم تتجاوز من العمر عامين على موضوعين. أحدهما كان الغناء، أو على الأقل نطق أصوات تضاهي ما تغنيه مايرا أمامها. وكان الآخر السباحة.

ابتسم رانجيت لمايرا وناتاشا وهو يجلس على حافة حوض السباحة في منزل فورهولست وقدماه تتدليان في الماء. اعتاد رانجيت ألا يهرع إلى إنقاذ ابنته كلما انزلقت تحت سطح الماء لدقيقة. وطمأنته مايرا بقولها: «سوف تفعل وحدها»، والواقع أن ناتاشا كانت تفعل ذلك دائمًا. ثم استطردت مايرا: «وعلى أي حال فأنا هنا إلى جوارها.»

بعدئذٍ — عندما جُفِّفَت تاشي وتُرِكَت تلهو بأصابع قدميها بابتهاج داخل سريرها المتحرك بجوار حوض السباحة — وبينما كانت مايرا تقطب جبينها أمام تقارير الأنباء على شاشتها المحمولة، ألقى رانجيت نظرة خاطفة. وبطبيعة الحال كانت الأخبار سيئة. ومتى لم تكن كذلك؟

قال رانجيت: «سيكون أمرًا رائعًا لو تلقينا خبرًا سارًّا.» ثم حدث شيء ما.

•••

كان هذا الحدث يتعلق بيوريس فورهولست. عندما عاد رانجيت إلى المنزل بعد يوم آخر من الجلوس في جامعته الصغيرة محاولًا إيجاد وسيلة تجعله يستحق ما يتقاضاه من راتب، سمع أصواتًا تتعالى بالضحك. وبسرعة ميز رانجيت تلك الضحكات الخافتة التي تليق بوقار سيدة متقدمة في السن كالسيدة فورهولست، وأصوات القهقهة الأقل تحفظًا لزوجته الغالية، بينما ذلك الصوت الجهوري الرجالي كان يصدر عن …

كاد رانجيت أن يركض الاثني عشر مترًا التي تفصله عن الشرفة المشمسة حيث يجلس الثلاثة. وصاح متهللًا. وقال: «يوريس! عفوًا، الدكتور فورهولست! كم أنا سعيد لرؤيتك!»

ما إن نطق رانجيت هذه الكلمات حتى أدرك مدى صدقها. فمنذ أيام وهو يتمنى أن يقابل شخصًا مثل أستاذه الذي درَّس له أساسيات علم الفلك في السابق … ليس شخصًا مثله! بل هو على وجه التحديد! يوريس فورهولست الذي بفضله كان علم الفلك المحاضرة الوحيدة التي يتوق رانجيت لاقتراب موعدها أثناء دراسته بالجامعة. وهو الذي ربما يمد يد العون لرانجيت في حل مشكلاته المتعلقة بالتدريس.

أول شيء كان لا بد من الاتفاق عليه ألا يناديه رانجيت باسم «الدكتور فورهولست» بعد الآن. قال فورهولست: «في النهاية أنت أستاذ في الجامعة مثلي، حتى وإن كنتُ في إجازة ممتدة من أجل العمل في مصعد الفضاء.»

اقتضى هذا بطبيعة الحال أن يُحَدِّثهم فورهولست عن آخر التطورات المتعلقة بالسلم الفضائي. فطمأنهم إلى أن المشروع يتقدم بخطًى حثيثة. وقال: «بدأنا بالفعل في استخدام كابل يبلغ مقطعه ميكرونًا واحدًا. وحالما نبدأ بداية مطمئنة سنشرع على الفور في مضاعفة الجهد المبذول، وبعدها ستبدأ الأشياء في التحرك بالفعل؛ لأننا سنتمكن حينئذٍ من استخدام السلم نفسه لرفع المادة المراد نقلها إلى مدار أرضي منخفض بدلًا من تلك الصواريخ بمشاكلها الكثيرة …» ثم أردف في الحال: «ليس معنى هذا أننا لا نستفيد منها استفادة كبرى. وها هو المشروع يتقدم بسرعة. هذا لأن القوى العظمى التي تشرف عليه — وهي روسيا والصين وأمريكا — تسعى سعيًا حثيثًا إلى دفعه قدُمًا حتى إنهم كادوا يوجهون كل برامج الفضاء التابعة لتشغيل السلم الفضائي. وأنا أتفقد كل مواقع الإطلاق الخاصة بهم منذ شهرين.» مد فورهولست كأسه ليعيد الخادم ملأه. وأضاف: «لقد بدءوا إنشاء المحطة الأرضية على الساحل الشرقي الجنوبي. ولهذا السبب جئت إلى سريلانكا اليوم؛ لا بد أن أذهب إلى هناك لأعد تقريرًا وأرفعه إلى رؤساء الدول الثلاثة.»

قال رانجيت متلهفًا: «أود أن أرى هذا المكان بنفسي.»

رد يوريس: «بالتأكيد يمكنك ذلك. وكذا أي شخص من صف علم الفلك، لكن ليس الآن. فهناك مائتا آلة حفر تعمل كلها في آنٍ واحد، إضافة إلى نحو ثلاثة آلاف عامل بناء مما يجعل المكان مزدحمًا هناك. انتظِرْ بضعة أشهر، وسنذهب في زيارة معًا. وعلى أي حال هذا المشروع محاط بدرجة عالية من السرية؛ أظن أن الأمريكيين يخشون استيلاء بوليفيا أو جزيرة إيستر أو أي دولة أخرى على أفكارهم وبناء مصعد فضاء خاص بها. ستحتاج تصريحًا أمنيًّا من جهات عليا لتتمكن من الدخول.»

همَّ رانجيت أن يطمئن أستاذه القديم بأن لديه أفضل التصاريح الأمنية التي يمكن لأي شخص الحصول عليها، لكنه تردد خشية أن تكون هذه التصاريح قد أُلغيت. عندها قال فورهولست: «وماذا عن أخبارك يا رانجيت؟ بعيدًا عن اكتشاف برهان فيرما والزواج من أجمل عالمة ذكاء صناعي في سريلانكا، ماذا كنت تفعل؟»

•••

بدا أن يوريس فورهولست قد عرف الكثير عن مغامرات تلميذه السابق، وأنه يرغب في معرفة المزيد. فاستمر الحديث حتى وقت العشاء. تردد رانجيت في طلب المساعدة أمام الأسرة بأكملها، وعلى أي حال فالسيدة بيتريكس تشاهد برامج الأخبار ولديها من الأسئلة الكثير. قالت بيتريكس لبقية المجموعة: «إنهم يرسلون سفنًا محملة بدبابات ومدافع قديمة ذاتية الحركة وأشياء أخرى من هذا القبيل إلى بحر الصين، ويلقون بها في المياه. وهذا من أجل بناء شعاب صناعية تُتَّخَذ مكانًا لتوالد الأسماك على حد قولهم. وقد عرضوا مقاطع مصورة لنوع يمتلكونه من المقاصل — كالتي شاعت أيام الثورة الفرنسية غير أنها على ارتفاع خمسة طوابق — يستخدمونها في تقطيع الصواريخ البالستية العابرة للقارات. أظن أنهم يعملون على تفريغ الوقود ورءوس القذائف أولًا.»

قال يوريس لوالدته: كما أنهم يزيلون المعادن القابلة للتدوير أولًا. رأيت حمولات قطار من هذه المواد تتجه غربًا عبر سيبيريا؛ يقول الروس إن هذا جزء من التعويضات المفروضة على كوريا. هل سمعتم عن الانتخابات التي حددوا موعدًا لإجرائها؟»

أجابت مايرا: «بالتأكيد سمعت عنها. لكنني لم أفهم شيئًا.»

ابتسم يوريس ابتسامة ممزوجة بالأسى. وقال: «وأنا أيضًا. لكني التقيت مصادفة في الصين بسيدة حاولت توضيح الأمر لي. أول شيء أن الوحدة الرئيسية للانتخاب لن تكون المدينة أو الدائرة الانتخابية التي يعيش فيها الناخبون. وإنما مجموعة عشوائية تضم عشرة آلاف شخص — من كل مكان في الدولة — وُلدوا في نفس اليوم. ومن بين هؤلاء العشرة آلاف يجري اختيار مجموعة تضم خمسة وثلاثين شخصًا — اختيارًا عشوائيًّا عن طريق الكمبيوتر — لزعامة المجموعة. يلتقي هؤلاء الخمسة والثلاثون شخصًا، ويجتمعون على مدار أسبوع شهريًّا في مكان ما في كوريا، ويختارون من بينهم رئيسًا — أو بالأحرى رئيس مدينة — ومشرِّعًا يتولى إصدار التصريحات والتخطيط لمشروعات الإنشاء. فضلًا عن أنهم يختارون قضاة، وينتخبون ممثلين عن المجلس التشريعي الوطني وغير ذلك.»

قالت والدة يوريس: «يبدو أمرًا معقدًا. وماذا عن فكرة الاختيار العشوائي عن طريق الكمبيوتر؟ لقد طرح أحد كتاب الخيال العلمي هذه الفكرة قبل ثلاثين عامًا.»

أومأ يوريس. وقال: «لديهم أفضل الأفكار، أليس كذلك؟ على أي حال، لن تعمل الشبكة قبل أن يستعيدوا اتصالاتهم بعد شهر أو شهرين على الأقل، على ما أظن. وربما نفهم ما يجري حينئذٍ.»

•••

بعد تناول العشاء كان لا بد للوالدين الفخورين أن يُرِيا فورهولست كيف أن طفلتهما تجيد السباحة، وبعد أن انتهت تاشي أصرت السيدة فورهولست على ذهاب يوريس إلى النوم. لأنه قطع نصف الطريق حول العالم بالطائرة منذ آخر مرة نام فيها، والآن حان وقت حصوله على قسط من الراحة!

وهكذا لم تتح لرانجيت أي فرصة لطلب المساعدة من يوريس. بعد أن اطمأن رانجيت إلى نوم ناتاشا ومايرا، أخذ يتابع الأخبار في عبوس داخل غرفة الملابس وبصوت خافت للغاية كي لا يزعج النائمين. أصدر مجلس الأمن مجموعة جديدة من التحذيرات الشديدة اللهجة إلى الدول المتورطة — أو التي تبدو على شفا التورط — في إحدى تلك الحروب الصغيرة؛ لم يَرِد ذكر «الرعد الصامت» ضمن التحذيرات، لكن كان رانجيت واثقًا أن جميع الأطراف المتناحرة تضعه في حسبانها. حدَّث رانجيت نفسه أنه ربما اتخذ قرارًا خاطئًا عندما رفض عرض جاميني. فمن الواضح أن منظمة السلام عن طريق الشفافية موجودة دائمًا في قلب الحدث، على عكس جامعة كولومبو.

ثارت نفس رانجيت فتوقف عن سماع الأخبار. وفكر في الحصول على قسط من النوم هو الآخر، وأن يكون حديثه مع يوريس أول ما يفعله في الصباح قبل أن يمضي مجددًا في طريقه إلى موقع بناء المحطة الطرفية.

لكنه سمع صوت موسيقى خافت يأتي من مكان ما.

ارتدى رانجيت روبًا، وخرج يتحقق من الأمر. وفي الشرفة المطلة على الحديقة كان يوريس جالسًا يرشف شرابًا في كأس طويلة، ويحدق إلى القمر بينما صوت المذياع ينطلق في هدوء. وعندما شاهد رانجيت يحدق النظر إليه، ابتسم ابتسامة يمازجها شيء من الخجل. وقال: «ها قد أمسكتَ بي. كنت أفكر للتوِّ في المكان الذي سأختار الهبوط فيه — ربما بعد خمس أو ست سنوات من الآن — عندما يكون مصعد الفضاء جاهزًا للعمل، وأستطيع الذهاب هناك. ربما أهبط في منطقة بحر السكون أو بحر الشدائد أو ربما في مكان أبعد يمنحني فرصة للتباهي أمام الآخرين. اجلس يا رانجيت. أتريد شرابًا؟»

وافق رانجيت، وكان لدى يوريس جميع الإضافات التي تلزمهما. وبينما يتناول رانجيت كأسه، أومأ برأسه ناحية القمر الذي كاد يكتمل وكاد ضوءه يكفي للقراءة عليه. وسأل يوريس: «هل تظن حقًّا أنك ستتمكن من القيام بذلك؟»

قال فورهولست بنبرة واعدة: «ليس ظنًّا، بل هو يقين. ربما يستغرق الأمر وقتًا أطول حتى يحصل رجل الشارع العادي على تَذْكرة للسفر إلى الفضاء. لكن هذا لن ينطبق عليَّ. فأنا واحد من مديري البرنامج، والمنصب يمنح صاحبه امتيازات.» انتبه يوريس إلى نظرة الدهشة التي علت وجه رانجيت. فقال: «ما الأمر؟ ألم تكن تتوقع أن أستغل منصبًا للحصول على شيء أريده؟ لم أكن لأفعل هذا في كثير من الأمور. لكن السفر إلى الفضاء أمر استثنائي. وإذا كان السبيل الوحيد للذهاب إلى القمر هو سرقة البنوك من أجل تمويل الرحلة، فلن أتورع عن فعل ذلك.»

هز رانجيت رأسه. ثم قال بنبرة يشوبها شعور ضئيل أدرك أنها الغيرة: «كم أتمنى لو أني أحب عملي هكذا.»

نظر الدكتور فورهولست إلى تلميذه السابق نظرة متفحصة. وعرض عليه قائلًا: «املأ الكأس مرة أخرى.» ثم أردف وهو يعد الشراب لرانجيت: «بما أنك أثرت هذه النقطة، لِمَ لا تحدثني عن عملك في الجامعة؟»

•••

بالتأكيد لم يكن رانجيت ليرغب في شيء أفضل من هذا. ولم يستغرق وقتًا طويلًا في الإفضاء بمشكلاته إلى أستاذه السابق، وبسرعة استوعب يوريس فورهولست المشكلة. فقال بلهجة متأنية وهو يعيد ملء الكأسين: «لنعد إلى الأساسيات. لا توجد لديك مشكلة في تجميع صف من الطلاب، أليس كذلك؟»

هز رانجيت رأسه نفيًا. وقال: «في الحلقة الدراسية الأولى ضمت قائمة الانتظار ثلاثين أو أربعين طالبًا لم يتمكنوا من تسجيل أسمائهم.»

قال يوريس: «لماذا يسجل الطلاب أسماءهم في صف معك؟ ليس لأنك أستاذ نابغة؛ فحتى لو كنت كذلك فإن الفرصة لم تتح لهم لاكتشاف هذا. وليس أيضًا لأن علم الرياضيات المعقد اكتسب شعبية فجأة بين الطلاب. كلَّا يا رانجيت، إنهم ينجذبون لشخصك ولمثابرتك على حل تلك المسألة طوال هذه السنوات. لم لا تعلِّمهم أن يفعلوا مثلك؟»

قالت رانجيت في عبوس: «حاولت ذلك. فقالوا إنهم سمعوني أحاضر حول هذا الموضوع من قبل. إنهم يريدون موضوعًا جديدًا.»

قال يوريس: «حسنًا، لم لا تعرِّفهم على ما فعله شخص آخر لحل مسألة كهذه، وخطوة خطوة …»

نظر رانجيت إليه وقد ظهرت أمامه بارقة أمل. وقال: «أها. أجل، ربما. فأنا أعرف الكثير عن الطريق الذي سلكته صوفي جيرما في محاولة حل نظرية فيرما، وبالطبع لم يحالفها النجاح إلا قليلًا.»

قال يوريس راضيًا: «جيد»، لكن رانجيت ظل يفكر.

قال رانجيت وقد بدت عليه الإثارة فجأة: «تمهل، أتدري ماذا يمكنني أن أفعل؟ يمكنني اختيار واحدة من المسائل الشهيرة القديمة التي لم يفلح أحد في حلها؛ مثل تنقيح أويلر لفرضية جولدباخ؛ يمكنني شرح ذلك بصورة سهلة جدًّا يفهمها أي شخص، على الرغم من أن أحدًا لم يستطع التوصل إلى برهان. لقد افترض جولدباخ أن …»

رفع يوريس يده. وقال: «من فضلك لا تشرح فرضية جولدباخ هذه لي. ولكن، أجل، تبدو فكرة جيدة. يمكنك الاستعانة بها بوصفها مشروعًا للصف. بحيث تعمل عليها أنت وطلابك معًا. ومن يدري؟ ربما تتوصلون إلى حل لها!»

جعل هذا رانجيت يضحك. وقال: «سيكون هذا يومًا موعودًا! لكن لا أهمية لحل المسألة؛ فسوف يشعر الطلاب على الأقل بالشعور الذي يستحوذ عليك عند حل مسألة مهمة، وهذا كفيل بإثارة انتباههم.» ثم أومأ رانجيت لنفسه وقد غمره السرور. وقال: «سوف أجرب ذلك! لكن الوقت تأخر، وعليك أن تستيقظ في الصباح، شكرًا لك، دعنا ننهِ هذا الحوار الآن.»

وافق فورهولست قائلًا: «من الأفضل أن نفعل ذلك قبل أن تكتشف أمي أني ما زلت مستيقظًا. لكن هناك شيء آخر أود أن أحدثك بشأنه يا رانجيت.»

توقف رانجيت — الذي كان يستعد للنهوض — ويداه على ذراعَي الكرسي. وتساءل: «ماذا؟»

قال يوريس: «كنت أفكر في اللجنة التي دُعِيتَ إلى العمل فيها لدى منظمة السلام عن طريق الشفافية. خطر ببالي أننا سنكون في حاجة إلى شيء كهذا في مشروع سلم الفضاء. سنكون في حاجة إلى أشخاص من المشاهير يضعون ما نفعله نصب أعينهم، ويخبرون به العالم بين الحين والحين. وأنت واحد من المشاهير يا رانجيت. أتظن أن بإمكانك …؟»

قاطعه رانجيت. وقال: «أيًّا كان ما تطلب مني، فأنا موافق. فقد أنقذت حياتي لتَوِّك!»

كان ما قاله رانجيت حقيقي … فبعد سنوات فكر رانجيت متسائلًا كيف أن هذا الحوار البسيط قد غير مجرى حياته.

•••

على بعد بضع سنوات ضوئية كانت حياة ١٤٠ ألفًا من كائنات «واحد فاصل خمسة» داخل الأسطول المكلف بإخلاء كوكب الأرض من السكان على شفا تغيير هائل أيضًا.

وفقًا لحسابات ربابنة السفن من «المخزنين في الآلات» كان أمام الأسطول ثلاث عشرة سنة أرضية قبل الهجوم على الجنس البشري المحكوم عليه بالهلاك. وتلك نقطة فاصلة في حياة كائنات «واحد فاصل خمسة». هذا لأنها تعني أن الوقت قد حان لاتخاذ إجراء مهم.

وهكذا بدأت الطواقم الفنية المدربة تدريبًا عاليًا في كل مكان من الأسطول — في كل زاوية من كل سفينة — تتفقد جميع الآلات أو المعدات المضبوطة على وضع التشغيل، وتُوقِف تشغيل معظمها. أُوقِفَ تشغيل الدفع الرئيسي، وهو ما يعني أن الأسطول يتحرك الآن ببطء نحو كوكب الأرض، على الرغم من أن السرعة العالية التي كان يتحرك بها من قبل تجعل المزيد من التسارع صعبًا للغاية أو بلا جدوى تقريبًا وذلك وفقًا لقوانين أينشتاين. أيضًا أُوقِفَ تشغيل أجهزة ترشيح الفضلات المحمولة جوًّا. ولذا فإن شروع كائنات «واحد فاصل خمسة» في إخراج الزفير في آنٍ واحد سوف يبدأ في تلويث الهواء الذي يتنفسونه. فضلًا عن ذلك أُوقِفَت أجهزة شحن المحولات الكهربائية. وكذلك أُوقِفَت أشعة البحث. والآلات المتحكمة في تشغيل جميع المعدات التي لا يمكن إيقافها ولو لوقت قصير، جميعها توقف عن العمل.

فجأة لم يعد أسطول «واحد فاصل خمسة» ذلك الأسطول القتالي المهيب الموجه نحو نقطة القتال، وإنما تحول إلى مجموعة آلات معطلة تكاد تكون بلا تأثير وعلى وشك الوصول إلى نقطة من المحتمل أن تصطدم السفن بعضها ببعض فيها. لن يتمكن الأسطول من السيطرة على هذا الوضع طويلًا.

والواقع أن كائنات «واحد فاصل خمسة» لم تكن في حاجة إلى استمراره طويلًا. فما إن أبلغ الطاقم الأخير عن إيقاف تشغيل كل شيء يمكن وقف تشغيله حتى بدأت كائنات «واحد فاصل خمسة» في نزع جميع الدروع الواقية والأجهزة التي تساعد في الإبقاء على حياتهم. ثم انخرطوا في أعنف موجة من التزاوج الجنسي قد يتخيلها أي فرد من كائنات «واحد فاصل خمسة».

استمر ذلك نحو ساعة.

بعدئذٍ عادت كائنات «واحد فاصل خمسة» الهزيلة بسرعة إلى الدروع الواقية. وعلى الفور أعادت الطواقم الفنية في كل سفينة تشغيل كل شيء كانوا قد أوقفوا تشغيله، وكانت تلك نهاية التزاوج الجنسي.

لماذا أقدمت كائنات «واحد فاصل خمسة» على هذا الفعل؟

من اليسير على معظم البشر أن يدركوا السبب وراء ذلك. لم يكن هناك وجه شبه على الإطلاق بين كائنات «واحد فاصل خمسة» — سواء أكانت أجسامها الحية الضئيلة الهزيلة مكشوفة أم مغطاة بالدروع الواقية — وبين البشر، لكنهم اشتركوا في بعض الصفات. فما من أحد من كائنات «واحد فاصل خمسة» يريد الموت دون أن يترك نسلًا حيًّا يحل محله. وهناك احتمال مؤكد في ظل ما هم مقبلون عليه من صراع أن يموت معظمهم أو جميعهم. ولذا فإن هذا التزاوج الجماعي سيسفر عن حمل عدد كبير من إناثهم وربما معظمهن إذا واتاهم الحظ. والخمس عشرة سنة الأرضية المتبقية على القتال النهائي هي أقل وقت يلزم لوضع الإناث مواليدهن الصغيرة البائسة، وإيداعهم الحضَّانات، وأقل وقت يحتاج إليه الصغار أيضًا للنمو والوصول إلى مرحلة البلوغ.

وعندما يَطمئن الآباء لحصول هذا، سيكون بمقدورهم شن الهجوم.

بطبيعة الحال لم يكن أحد من البشر يعرف شيئًا عن هذا الأمر، وهكذا واصل التسعة مليارات شخص مهام حياتهم اليومية المعتادة دون أن يدري أحد منهم أن مواليدهم الجدد — بدءًا من تلك اللحظة — سيشعرون ببدايات النضوج الجنسي فحسب قبل أن يبادوا من على وجه الأرض.