النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السابع والثلاثون

السباق

اختارت ناتاشا سوبرامانيان سفينتها بنفسها، واسمها «ديانا». لم تسافر هذه السفينة من قبل. لكنها جاهزة الآن. كانت السفينة راسية فوق السفينة الأم وقد شُدَّ شراعها الضخم بعد تثبيته فامتلأ بالفعل بالرياح الوفيرة الساكنة التي تهب بين العوالم. حينئذٍ أوشك السباق على البدء.

انبعث صوت الراديو في مقصورة السفينة الخاصة بناتاشا: «باقٍ من الزمن دقيقتان. تحققوا من كل شيء لتأكيد الاستعداد.»

أجاب ربابنة السفن واحدًا تلو الآخر. استطاعت ناتاشا تمييز جميع أصوات أصدقائها ومنافسيها التي كان بعضها مشوبًا بالتوتر والبعض الآخر هادئًا هدوءًا يكاد يوصف بالتبلد. في جميع الأماكن التي سكنها البشر هناك بالكاد عشرون شخصًا يتمتعون بالمهارات اللازمة لقيادة يخت شمسي. وها هم الآن جميعًا — عند خط الانطلاق مثل ناتاشا أو على متن المراكب المرافقة — يدورون على بعد ستة وثلاثين ألف كيلومتر فوق خط الاستواء الأرضي.

«رقم واحد، جوسامير. مستعد للانطلاق!»

«رقم اثنان، ووميرا. كل شيء على ما يرام.»

«رقم ثلاثة، صن بيم. جاهز!»

«رقم أربعة، سانتا ماريا. جميع الأنظمة تعمل.» ابتسمت ناتاشا؛ فهذا صوت رون أولسوس الذي تشعر نحوه بالإعجاب، لكن ليس بقدر إعجابه بها على ما يبدو. كان رد الشاب البرازيلي تكرارًا قديمًا لما كان يقال في بداية عهد الملاحة الفضائية، وهو رد ملائم تمامًا لميل رون نحو التكلف.

«رقم خمسة، ليبيديف. مستعدون.» كان هذا رد الروسي إفريمي.

«رقم ستة، أراكني. مستعدة.» كانت هذه شي ليانج، وهي فتاة من قرية صغيرة شمال مدينة تشنجدو القريبة من جبال الهيمالايا. وفي النهاية حان دور ناتاشا لتقول كلماتها التي سيُسمَع صداها في جميع أرجاء العالم وفي كل موقع يسكنه البشر:

«رقم سبعة، ديانا. مستعدة للفوز!»

جال بخاطر ناتاشا — وهي تلتفت لتتأكد للمرة الأخيرة من أن حبال الشراع مشدودة جيدًا — أنها توجه كلماتها هذه للفتى رونالدينو.

بدا لناتاشا — التي كانت تحلق بلا وزن داخل مقصورتها الصغيرة — أن شراع سفينتها ديانا يملأ السماء. وربما كان هكذا بالفعل. فثمة شراع في الخارج مساحته أكثر من خمسة ملايين متر مربع موصول بكبسولة القيادة على هيئة شبكة عنكبوت عن طريق تجهيزات وحبال يبلغ طولها نحو مائة كيلومتر، وهذا الشراع جاهز لتحريرها من قيود الجاذبية الأرضية. وعلى الرغم من أن سُمْك الشراع — البالغ مساحته عدة كيلومترات مربعة والمصنوع من البلاستيك المصفح بالألومنيوم — لا يتعدى بضعة أجزاء من المليون من السنتيمتر، فقد أمَلَت ناتاشا أن ينتج طاقة تكفي لأن تكون أول المتسابقين وصولًا إلى خط النهاية في المدار القمري.

انطلق مكبر الصوت مرة أخرى: «باقٍ من الزمن عشر ثوانٍ. أديروا جميع معدات التسجيل!»

لم ترفع ناتاشا عينها عن تلك الكتلة الشراعية الضخمة أثناء تحريكها للمفتاح الذي شغَّل جميع الكاميرات وأجهزة التسجيل في سفينة الفضاء ديانا. فهذا الشراع هو الذي ملك عليها حواسها. إذ يصعب على العقل الإحاطة بشيء شديد الضخامة وشديد الهشاشة هكذا في الوقت نفسه. والأصعب من ذلك هو التفكير في أن هذا الغشاء الرقيق الشبيه بالمرآة يستطيع سحبها بأقصى سرعة عبر الفضاء معتمدًا على الطاقة الناتجة عن ضوء الشمس الساقط عليه فقط.

«… خمسة، أربعة، ثلاثة، اثنان، واحد. انطلاق!»

مرَّت سبعة أنصال سكاكين ذات حواف ماسيَّة يجري التحكم فيها عن طريق الكمبيوتر عبر الحبال السبع الرقيقة في آنٍ واحد. فانطلقت اليخوت. حتى هذه اللحظة كانت اليخوت وسفن الصيانة قد دارت حول الأرض كوحدة واحدة متصلة بعضها ببعض اتصالًا وثيقًا. أما الآن فستبدأ السفن انتشارها كبذور نبات هندباء برية تنجرف أمام النسيم.

وسوف يكون الفوز من نصيب أول شخص يتخطى مدار القمر.

•••

على متن ديانا لم يطرأ تغيير على أيٍّ من حواس ناتاشا. ولم تكن ناتاشا تتوقع أن يطرأ أي تغيير؛ الأمر الوحيد الذي برهن على وجود قوة تدفع السفينة هو المؤشر الموجود في لوحة القيادة إذ كان يسجل حينئذٍ معدل تسارع يقدر بنحو واحد على ألف من الجاذبية الأرضية.

بالقطع يمكن وصف هذا المعدل بأنه ضئيل جدًّا على نحو يثير السخرية. لكنه كان أكبر من أي معدل تسارُع آخر سجلته أيٌّ من سفن الأشرعة الشمسية من قبل، وهذا هو ما وعد به مهندسو ديانا وبنَّاءوها. لم تتحقق معدلات التسارع هذه من قبل مطلقًا إلا في حالة تجهيزات الأشرعة الصغيرة الحجم، لكن ها هي تتحقق الآن. أجرت ناتاشا حساباتها بسرعة، وأتبعتها بابتسامة مع ظهور النتيجة على لوحة القيادة؛ فهي لن تحتاج إلا لدورتين على كوكب الأرض لتحصل على السرعة الكافية لمغادرة المدار الأرضي المنخفض والتوجه إلى القمر. وحينئذٍ سوف تكون قوة إشعاع الشمس بالكامل خلفها.

قوة إشعاع الشمس بالكامل …

لم تفارق الابتسامة وجه ناتاشا وهي تفكر في كل تلك المحاولات التي بذلتها من أجل توضيح فكرة الإبحار الشمسي أمام جماهير من المستمعين قد يكون من بينهم رعاة محتملون أو مجرد أشخاص يدفعهم الفضول على كوكب الأرض. كانت تقول لهم: «ارفعوا أياديكم إلى الشمس بحيث تكون راحة اليد للأعلى. بمَ تشعرون؟» وعندما لم تكن تتلقَّى ردًّا على سؤالها كانت تضيف: «حرارة طفيفة»، ثم تبدأ في توضيح الفكرة التي يستند عليها الإبحار الشمسي. «لكن هناك شيء آخر. إنه الضغط. غير أنه ضئيل جدًّا. حتى إنكم قد لا تشعرون به؛ فوزن هذا الضغط على راحة اليد أقل كثيرًا من واحد ملِّيجرام. لكن انظروا ما الذي يمكن أن يفعله هذا الضغط الضئيل جدًّا!»

بعدئذٍ تتناول ناتاشا بضعة أمتار مربعة من مادة الشراع وتقذفها تجاه جمهورها. فيلتف الغشاء الفضي الرقيق ويتلوى كأنه عمود من الدخان، ثم ينجرف نحو السقف فوق السحابة المرتفعة من الهواء الدافئ المنبعث من الأجسام البشرية. وهنا تستطرد ناتاشا:

«لعلكم تلاحظون مدى ضآلة وزن الشراع. الشراع المستخدم في اليخت الخاص بي البالغة مساحته كيلومترًا مربعًا يزن أقلَّ من طن. وهذا هو كل ما نحتاج إليه. فهذا الوزن كافٍ لتجميع اثنين كيلوجرام من ضغط الإشعاع، وهو ما يلزم لبدء تحرك الشراع … وسوف تعمل تجهيزات الشراع على سحب ديانا معه. لا شك أن معدل التسارع سيكون ضئيلًا — أقل من واحد على ألف من ثابت الجاذبية — لكن دعونا نرى ما الذي يمكن أن يفعله هذا الضغط البالغ الضآلة.»

«في الثانية الأولى سوف تتحرك ديانا نحو نصف سنتيمتر. أو ربما لن تصل إلى هذا الحد؛ لأن تجهيزات الشراع سوف تتمدد بدرجة كبيرة يصعب معها قياس الخطوة الأولى.»

تلتفت ناتاشا إلى الشاشة المثبتة على جدار الغرفة، وتطقطق أصابعها لتشغيل الشاشة. تعرض الشاشة صورة لذلك الامتداد الهائل — والذي يكاد يصعب تصوره — للشراع، ثم تركز الصورة على كبسولة الركاب — التي لا يتعدى حجمها حجم كابينة استحمام في فندق صغير — والتي ستكون مسكنًا لناتاشا خلال أسابيع الرحلة.»

بعدئذٍ تستطرد ناتاشا. فتقول: «غير أنه بعد مرور دقيقة واحدة يصبح الوقوف على الحركة أمرًا سهلًا تمامًا. حينها سنكون قد قطعنا مسافة عشرين مترًا بسرعة نحو كيلومتر في الساعة … وهكذا لن يتبقى أمامنا سوى مائة ألف كيلومتر أخرى للوصول إلى مدار القمر.»

عادةً ما يضحك الجمهور ضحكة مكبوتة. فترد عليهم ناتاشا بابتسامة ودودة إلى أن يسود الصمت، فتستأنف حديثها. قالت: «هذه السرعة ليست سيئة. فبعد مرور الساعة الأولى سنكون قد قطعنا ستين كيلومترًا من نقطة البداية، وستكون سرعتها آنذاك مائة كيلومتر في الساعة. وعليكم أن تتذكروا أين نحن! فكل هذا سيحدث في الفضاء حيث لا يوجد أي احتكاك. فما إن تبدأ في تحريك شيء ما سوف يتحرك بلا توقف لأنه ليس هناك ما يبطئ سرعته سوى جاذبية الأجسام البعيدة. سوف تفاجَئون عندما أخبركم بمقدار السرعة التي ستتحرك بها سفينتنا الشراعية التي يبلغ معدل تسارعها واحد على ألف من عجلة الجاذبية في نهاية اليوم الأول. ثلاثة آلاف كيلومتر في الساعة كلها بسبب ضغط ضوء الشمس الذي لا تستطيعون مجرد الشعور به!»

استطاعت ناتاشا إقناع جمهورها. واقتنع العالم كله في النهاية، أو على الأقل اقتنع أصحاب المناصب الرفيعة ومتخذو القرار. تكاتفت المؤسسات والأفراد ووزارات مالية الدول الثلاث العظمى من أجل تمويل النفقات الباهظة لهذا الحدث. لكن هذه الأموال لم تذهب سدى. نجح سباق الطيران الحر الذي أقيم في قناة الحمم القمرية القديمة تلك في إطلاق شرارة التوافد السياحي الحقيقي إلى القمر. وها هو هذا الحدث قد سجل حضورًا لأكبر جمهور شهده التاريخ. علاوةً على ذلك كانت الدول الثلاث الكبرى ترسل بالفعل سفن تنقيب — من بينها عدد كبير يتحرك بالشراع الشمسي — لبدء البحث عن ثروات المجموعة الشمسية من المواد الخام.

وكانت الشابة ناتاشا دو سويزا سوبرامانيان في قلب تلك الأحداث جميعًا!

•••

بدأت سفينة ديانا بداية موفقة. ثمة متسع من الوقت الآن أمام ناتاشا لتلقى نظرة على منافسيها. في البداية تحررت ناتاشا من معظم ملابسها خاصةً وأنه لم يكن هناك أحد ليشاهدها. وتحركت بحذر لتتخذ مكانها أمام البريسكوب (منظار الأفق)؛ صحيح أن هناك أجهزة لامتصاص الصدمات بين كبسولة التحكم وتجهيزات الشراع الدقيقة، لكن ناتاشا عزمت على ألا تجازف أبدًا.

وعبر البريسكوب شاهدت ناتاشا سفن الفضاء الأخرى كأزهار فضية غريبة الشكل زُرِعَت في حقول الفضاء المظلمة. فهناك سفينة سانتا ماريا الأمريكية الجنوبية — بقيادة رون أولسوس — على بعد ثمانين كيلومترًا فقط. كانت سانتا ماريا تشبه إلى حد بعيد طائرة الأطفال الورقية، غير أن طول الجانب الواحد فيها يزيد عن واحد كيلومتر. وبعيدًا عنها كانت سفينة الفضاء الروسية ليبيديف متخذة شكل صليب مالطا، والسبب في ذلك — كما علمت ناتاشا — أنه يمكن الاستفادة من الأشرعة التي تشكل الأذرع الأربعة الكبيرة في توجيه السفينة. على العكس من ذلك كانت سفينة ووميرا الأسترالية تتخذ شكل منطاد دائري قديم وبسيط، وإن كان محيط دائرته خمسة كيلومترات. أما السفينة أراكني فكانت تشبه شبكة العنكبوت، وقد بُنيت السفينة اعتمادًا على نفس الفكرة حيث استُخدمت مكاكيك نسج أوتوماتيكية تتحرك في شكل حلزوني انطلاقًا من نقطة مركزية. واشتركت معها في نفس التصميم أيضًا سفينة جوسامر لكن بحجم أقل قليلًا. وأخيرًا كانت السفينة صن بيم التابعة لجمهورية الصين الشعبية تتخذ شكل حلقة مستوية يتخللها فراغ في المنتصف اتساعه واحد كيلومتر، وكانت تدور ببطء حتى إن حركتها باتت أصعب بفعل قوة الطرد المركزي. كانت ناتاشا على علم بأن هذه فكرة قديمة لكن لم يتمكن أحد من إنجاحها. وكانت متأكدة إلى حد بعيد أن السفينة الآسيوية صن بيم ستواجه مشكلات عندما تبدأ في الدوران.

بالطبع لن يستمر الوضع هكذا مدة ست ساعات أخرى؛ وذلك بعد أن تكون اليخوت الشمسية السبعة قد قطعت الربع الأول من دورانها في المدار الجغرافي المتزامن الذي يستغرق أربعًا وعشرين ساعة. في بداية السباق كانت جميع السفن تجري — إذا جاز لنا هذا التعبير — بعيدًا عن الشمس ومن خلفها الرياح الشمسية. ولا بد لكل سفينة أن تحقق أقصى استفادة من تلك الدورة الأولى قبل أن تديرها قوانين الحركة المدارية بسرعة حول كوكب الأرض. وعند الوصول إلى هذه النقطة ستتجه السفن فجأة وفي اتجاه مباشر نحو الشمس. وعندئذٍ ستظهر أهمية الخبرة في القيادة.

لكن ليس الآن. ليس هناك من المشكلات الملاحية ما يثير قلق ناتاشا. فباستخدام البريسكوب تحققت ناتاشا جيدًا من شراعها ومن جميع نقاط الاتصال الخاصة بتجهيزات الشراع. كان سيتعذر رؤية حبال الصواري والأربطة الدقيقة للغشاء البلاستيكي غير المفضض لولا طلاؤها بالصبغة الضوئية. الآن تظهر هذه الحبال والأربطة عبر البريسكوب على هيئة حبال مشدودة من الضوء الملون تضيق لمسافة مئات الأمتار نحو كتلة الشراع العملاقة. توجد رافعة كهربية صغيرة في كل حبل لا تتعدى حجم بكرة سنارة الصيد. كانت الروافع — التي تخضع لتحكم الكمبيوتر — تدور باستمرار وتحرك الحبال إلى الداخل والخارج بينما يحافظ جهاز الطيران الآلي على ضبط الشراع بما يتناسب مع الزاوية الصحيحة للشمس.

استمتعت ناتاشا بمشاهدة التأثير الذي يلعبه ضوء الشمس على شراعها الكبير الشبيه بالمرآة. اهتز الشراع في صورة تموجات وئيدة مرسلًا عدة صور للشمس وهي تتحرك عبره إلى أن يخبو بريقها عند الأطراف. لا شك أن هذه التموجات لم تكن تمثل مشكلة. بل إنه لا مفر من حدوثها في بناء هائل ورقيق للغاية كهذا، وغالبًا لا تسفر عن أي أضرار. ومع ذلك فقد راقبتها ناتاشا بحذر مع الانتباه إلى الإشارات التي قد تتحول في نهاية الأمر إلى تموجات كارثية، تعرف باسم «الموجات الاهتزازية». يمكن لتلك الموجات أن تمزق الشراع إلى أجزاء، لكن الكمبيوتر طمأنها إلى أن النمط الحالي من التموجات لا يمثل أي خطورة على الشراع.

لم تشعر ناتاشا بالرضا إلا بعد أن تأكدت أن كل شيء على ما يرام، حينئذٍ — وليس قبل ذلك — سمحت لنفسها بالدخول إلى شاشتها الخاصة. ونظرًا إلى أن كل ما يردها من رسائل يمر على مركبة التحكم قبل الوصول إليها، ولأنهم كانوا حريصين على تمرير الرسائل الواردة من قائمة معتمدة فحسب من الأشخاص فقد جنبها ذلك سيلًا هائلًا من الرسائل التي تدعو لها بالتوفيق أو التي تستجدي خدمة ما. وجدت ناتاشا رسالة من أسرتها ورسالة من جاميني ورسالة يوريس فورهولست. وليس أكثر. سعدت ناتاشا بتلقي الرسائل. ولم تكن بحاجة إلى الرد على أي منها.

فكرت ناتاشا هنيهة في أخذ قسط من النوم. من المؤكد أن السباق بدأ لتوِّه، لكن النوم من الأشياء التي ينبغي الاقتصاد فيها. فطاقم القيادة في جميع السفن الأخرى يضم شخصين. بوسعهما تبادل فترات النوم. بينما لم يكن هناك أحد مع ناتاشا يخفف العبء عنها.

اتخذت ناتاشا هذا القرار بإرادتها، وذلك عندما تذكرت البحار الذي يدعى جوشوا سلوكم الذي طاف حول العالم منفردًا بنفسه في مركبه الشراعي الصغير «سبراي» منذ زمن بعيد. ذكرت ناتاشا أنه ما دام سلوكم قد تمكن من القيام بذلك فسوف تتمكن منه هي الأخرى. إضافة إلى هذا فإنه يوجد سبب وجيه يدفعها هي الأخرى إلى المحاولة. وهو أن أداء اليخت الشمسي يتناسب تناسبًا عكسيًّا مع الوزن الذي ينقله. ووجود شخص آخر برفقة ناتاشا — بجميع ما يحتاج إليه من معدات — سيمثل وزنًا إضافيًّا يقدر بثلاثمائة كيلوجرام، ولا شك أن هذا الوزن قد يكون الفارق بين الفوز والخسارة.

وهكذا ربطت ناتاشا الأحزمة المطاطية في كرسي مقصورة القيادة حول خصرها وساقيها. ثم ساورها التردد هنيهة. إذ فكرت أنه سيكون ممتعًا لو ألقت نظرة على بعض النشرات الإخبارية لترى هل توصل أحد من علماء الفلك إلى ماهية هذا الجسم الغريب الذي قيل إنه ليس متجددًا أعظم والذي أضاء السماء الجنوبية على نحو أثار الدهشة ثم لم يلبث أن اختفى فجأة …

تغلَّب الانضباط الذي تحلت به ناتاشا على فضولها. فوضعت قطبي محفز النوم على جبهتها، وحددت وقت النوم بثلاث ساعات، ثم أرخت جسدها. وبرفق شديد سرت النبضات المنومة في فصوص دماغها الأمامية. وانتشرت أشكال لولبية من الضوء الملون أسفل أجفانها المُسْبلة، وأخذت هذه الأشكال تتسع نحو الخارج إلى ما لا نهاية.

ثم راحت ناتاشا في نوم عميق.

•••

استيقظت ناتاشا من نومها العميق إثر سماع صوت المنبه المزعج. قامت على الفور وأخذت عيناها تتفحصان لوحة القيادة. لم تمر سوى ساعتين … لكن هناك ضوء أحمر يومض فوق جهاز قياس التسارع.

كان الضغط يتضاءل. وسفينة ديانا تفقد طاقتها.

أسفر تدريب ناتاشا عن تحليها بالانضباط. وهذا الانضباط حال دون وقوعها فريسة للهلع. لكنها شعرت بخوف شديد وهي تزيح الأربطة التي تثبتها في المقعد لترى ماذا ستفعل. أول ما تبادر إلى ذهنها أن خللًا ما أصاب الشراع. ربما تعطلت الأجهزة المضادة للدوران مما أدى إلى التفاف الشراع حول نفسه. لكنها عندما تحققت من أجهزة القياس التي تقرأ مدى توتر حبال الشراع لاحظت أمرًا غريبًا. كانت قراءة أجهزة القياس طبيعية على أحد جانبَي الشراع. في حين كانت القيمة تتضاءل أمام عينيها ببطء على الجانب الآخر.

بعدها استوعبت ناتاشا ما يجري. أمسكت بالبريسكوب لفحص الزوايا العريضة لأطراف الشراع. أجل! ها هي المشكلة … ليس هناك سوى سبب واحد لحدوثها.

فهمت ناتاشا ما يجري عندما شاهدت ظلًّا هائلًا مستدق الأطراف ينزلق نحو شراع ديانا الفضي البراق. كان الظلام يلقي بظلاله على أحد جوانب سفينة ناتاشا كأن سحابة مرت بينها وبين الشمس فحجبت عنها الضوء ووضعت حدًّا للضغط الضئيل الذي يدفع السفينة.

لكن لم يكن هناك سحب كهذه في الفضاء.

ابتسمت ناتاشا ابتسامة عريضة عندما أدارت البريسكوب تجاه الشمس. انزلقت المرشحات البصرية في أماكنها على نحو آلي لتقي ناتاشا من فقدان البصر الفوري، وشاهدت ناتاشا ما كانت تتوقع رؤيته تمامًا. بدا المشهد كأن طائرة ورقية ضخمة تشق طريقها في وجه الشمس.

استطاعت ناتاشا تمييز هذا الشكل في الحال. كانت سفينة أمريكا الجنوبية سانتا ماريا تحاول إحداث كسوف صناعي أمام ناتاشا على مسافة ثلاثين كيلومترًا خلفها.

همست ناتاشا: «حسنًا، سيد رونالدينو أولسوس، يا لها من حيلة قديمة!»

بالفعل كانت تلك حيلة قديمة، لكنها مشروعة في الوقت نفسه. ففي السباقات التي كانت تُجرى قديمًا في المحيطات كان ربابنة السفن يبذلون ما في وسعهم لسلب الرياح من منافسيهم.

كانت هذه الخدعة تنطلي على من يفتقرون إلى الكفاءة فقط، وناتاشا دو سويزا سوبرامانيان ليست من بين هؤلاء. درس كمبيوتر ناتاشا الصغير — الذي كان بحجم علبة الثقاب لكن قدرته تضاهي قدرة ألف شخص من خبراء تحطيم الأرقام — المشكلة بضع ثوانٍ، وبسرعة أخرج تصحيحات المسار.

يستطيع اثنان لعب هذه الحيلة. ابتسمت ناتاشا وهي تمد يدها لتعطيل جهاز الطيران الآلي وإدخال التعديلات التي تضمن توازن تجهيزات شراعها …

لكن ذلك لم يحدث.

ظلت الروافع الصغيرة بلا حراك. فجأةً لم تعد هذه الروافع تتلقى أي أوامر على الإطلاق سواء من جهاز الطيران الآلي أو من الشخص الذي من المفترض أن يتحكم في كل شيء.

توقفت السفينة ديانا عن الانطلاق؛ وبدأ الشراع الهائل في التأرجح …

ثم بدأ يلتوي …

ثم بدأت تموجات الشراع في التحول إلى موجات واسعة غير منتظمة. ووصلت المادة الرقيقة التي يتكون منها الشراع إلى أقصى درجات التوتر المسموح بها، بل وتجاوزتها.

•••

لاحظ العميد البحري على الفور أن ديانا تواجه مشكلة. وهو ما لاحظه أسطول السفن بالكامل أيضًا، وفي لمح البصر سادت الاتصالات اللاسلكية حالة من الاضطراب. كان رون أولسوس أول من طلب مركبًا يعمل بالطاقة الكيميائية ليقلع به من سفينته حتى يتسنى له المساعدة في البحث عن ناتاشا سوبرامانيان وسط البقايا المنهارة من السفينة ديانا. ولم يكن رون الأخير. ففي غضون ساعة أخرى تفكك السباق إلى أكثر من عشرين سفينة من مختلف الأنواع تتحرك على غير هدى حول السفينة الجميلة ديانا التي تحولت إلى كتلة متجعدة، والجميع يبذل ما في وسعه كي لا يصطدم بعضهم ببعض. استعد عدد كبير من الطواقم في سفينة الفضاء المخصصة لركوب رواد الفضاء من أجل المشاركة في عملية البحث.

بحث الجميع في كل ثنية من ثنايا الشراع الهائل المتغضن بالعين المجردة وأيضًا بالمناظير التي تستخدم الأشعة تحت الحمراء في حال وجودها. فهذه المناظير بوسعها أن تلتقط على الفور أدق إشارة على وجود جسد بشري دافئ في أي مكان في الشراع المحطم.

بحث هؤلاء أيضًا في الفضاء المحيط بحطام ديانا في حال كانت ناتاشا قد قُذِفت خارج السفينة على إثر حادث غير معروف …

والأهم من ذلك أنهم بحثوا في مقصورة القيادة الصغيرة داخل السفينة ديانا.

لم تستغرق عملية البحث طويلًا. فبسبب وجود ناتاشا بمفردها على متن السفينة لم تكن هناك حاجة للخصوصية؛ لم تتعد مساحة كبسولة ديانا بضعة أمتار مكعبة، ولم يكن بها مكان للاختفاء.

لكنها لم تكن داخل المقصورة. وهكذا انتهى فريق البحث إلى أن ناتاشا سوبرامانيان ليست في أي مكان على الإطلاق.