النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل التاسع والثلاثون

التحقيقات

جافى النوم أجفان أسرة سوبرامانيان تلك الليلة، بل وأجفان أي شخص — أيًّا كانت منطقته الزمنية — لأن معظم سكان العالم تسمَّروا في أماكنهم أمام شاشات التليفزيون غير مبالين بالوقت. ظهر جاميني باندارا في البداية لا يرتدي سوى منشفة حمام طويلة، وكان يجلس على حافة حوض الاستحمام، ويخضع للتحقيق من نفس الهيئة المتجسدة في صورة ناتاشا سوبرامانيان والتي سبق لها التحقيق مع رانجيت. لم يكن هناك تفسير عاجل لكيفية حدوث ذلك.

تركز موضوع هذه الأسئلة تحديدًا على تأسيس منظمة السلام عن طريق الشفافية، وتطوير سلاح الرعد الصامت، والتشكيل الرئيسي للمجموعات التي خططت تلك الهجمات ونفذتها. أجاب جاميني عن الأسئلة كافة بوضوح شديد. لكن عند سؤاله عن التفاصيل التقنية لسلاح الرعد الصامت هز رأسه، وذكر اسم واحد من فريق المهندسين الذين صمموا السلاح. وعن المعلومات السرية بشأن المسئول عن إصدار أوامر البدء في هذا المشروع والمكلف بتلقي هذه الأوامر، أحال جاميني السؤال إلى الأمين العام للأمم المتحدة. وعندما تحول التحقيق إلى السؤال عن نزوع الجنس البشري دائمًا إلى خوض غمار الحروب مع جيرانهم اعتذر جاميني. وذكر أن هذه النزعة قديمة قِدَم الجنس البشري ذاته، لكنه لم يستطع تحديد المسار التاريخي الذي سلكته هذه الحروب، لكنه أضاف أنه رسب في مادة التاريخ القديم الوحيدة التي درسها في حياته على الإطلاق. وذكر أن الأستاذة التي درَّست له هذه المادة لا تزال موجودة في كلية الاقتصاد في لندن.

كان هذا صحيحًا، لكنها في تلك اللحظة كانت تقضي إجازتها في مدينة بيليز الصغيرة. ألقت المحَقِّقَة القبض عليها في مكان يعرف باسم ألتون ها. وهناك في يوم حار وفي وضح النهار — حيث مائة من علماء الأنثروبولوجيا والسائحين والمرشدين و(أخيرًا) الشرطة البيليزية يشاهدون ويستمعون إلى كل كلمة تقال دون أن يتمكنوا من الاقتراب من المتحدثين — طرحت ناتاشا الزائفة أسئلتها وحصلت على ملخص التاريخ العسكري للجنس البشري. أمدَّتها أستاذة التاريخ بكل ما طلبته من معلومات. فبدأت بأولى الأمم الموثقة تاريخيًّا — السوماريون والأكاديون والبابليون القدماء والحَيْثيون — في تلك السنوات الغابرة قبل انبثاق «الحضارة» في إقليم الهلال الخصيب الواقع بين نهري دجلة والفرات، وصولًا إلى مصر والصين وأوروبا وأخيرًا العالم بأسره. أينما ذهب البشر وأيًّا كان جيرانهم وأيًّا كان حجم ثرائهم، فإنهم لا ينفكون يشاركون في حصتهم المعهودة من الحروب المدمرة والدامية.

بلغ إجمالي عدد الأشخاص الذين استجوبتهم ناتاشا سوبرامانيان الوهمية نحو عشرين شخصًا. جميعهم أجابوا عن كل أسئلتها حتى وإن تأخر بعضهم في الرد. أكثر من تأخر في الرد عليها كان مصمم قنابل نووية من مدينة أماريلُّو في ولاية تكساس؛ إذ رفض رفضًا باتًّا أن يدلي بأي تفاصيل عن تصميم السلاح النووي الذي كان جزءًا من الرعد الصامت. ولم يتغير موقفه حتى عندما مُنِع الطعام والشراب والذهاب إلى الحمام … إلى أن قال في النهاية إنه سيتحدث إذا أعطاه رئيس الولايات المتحدة الإذن بذلك. استغرقت المقابلة التالية مع الرئيس أقل من عشرين دقيقة قبل أن يتفهَّم الوضع ويدرك تأثيره المحتمل على حياته وراحته، فقال أخيرًا: «تبًّا، أخبروها بما تريد.»

استغرقت جميع التحقيقات المتتالية لتلك الهيئة المتجسدة في صورة ناتاشا نحو إحدى وخمسين ساعة. ثم اختفت تمامًا. وعندما قارن رانجيت ومايرا بين التسجيلات الأولى والأخيرة من التحقيقات أصابهما الذهول عندما شاهدا أن شعرها المجعد لم يتحرك من مكانه. ولم يكن هناك أي أثر للإرهاق على وجهها أو في نبرة صوتها. أيضًا لم تتسخ ملابسها القليلة بفتات الطعام التي لا بد من سقوطها (أي طعام هذا؟ لم يرها أحد تتناول شيئًا)، أو بسبب احتكاكها عرضًا بجدار مغطى بالغبار. قال رانجيت في ذهول: «إنها ليست حقيقية.»

قالت زوجته: «نعم، ليست كذلك. لكن أين ناتاشا الحقيقية؟»

•••

ولأن مايرا ورانجيت ليسا سوى اثنين من البشر فهما بحاجة إلى الراحة. ولكنها كانت صعبة المنال. لذلك أصدرت مايرا إلى الخدم أوامر مشددة بألا يزعجهما أحد قبل العاشرة صباحًا إلا إذا حانت لحظة نهاية العالم.

وعندما فتحت مايرا إحدى عينيها لترى وجه الطاهي الذي مال نحوها ووجهه مكسو بملامح القلق ولتكتشف أن الساعة تجاوزت السابعة بقليل، سارعت بدفع زوجها بمرفقها في صدره. هذا كي لا تفوته لحظة نهاية العالم إن كانت هذه اللحظة قد حانت بالفعل.

ومن ذا يستطيع الجزم بأنها لم تحن؟ فقد أخبرهما الطاهي أن «المتجدد الأعظم» الذي شوهد في سحابةِ أُورت قد عاود الظهور مرة أخرى لكن بقدر ضئيل جدًّا من الطاقة التي ظهر بها من قبل. ومع دوران أعداد متزايدة من أكبر التلسكوبات العاكسة على سطح الأرض للحصول على صورة أكثر وضوحًا اتضح أن هذا الإشعاع الجديد لا ينبع من مصدر واحد. وإنما هناك ما يربو على مائة وخمسين مصدرًا (هكذا ذكر مذيع النشرة الإخبارية وقد امتزج في صوته القلق والحيرة البالغة)، وأوضح تحليل دوبلر معلومة أخرى عن هذه المصادر. فجميعها يتحرك. إنها تتحرك في اتجاه مركز المجموعة الشمسية؛ وتحديدًا في اتجاه كوكب الأرض نفسه.

•••

أتى رانجيت برد الفعل المتوقع منه تمامًا. إذ شرد ببصره برهة. وقال: «حسنًا.» ثم انقلب على جنبه ليعاود النوم على ما يبدو.

فكرت مايرا أن تفعل مثلما فعل رانجيت، لكن محاولة وجيزة من جانبها أثبتت أن هذا محال. أدت مايرا طقوس الصباح بصعوبة بالغة، وانتهى بها الحال في المطبخ لتقبل بكوب شاي من الطاهي دون الدخول في حوار معه. ولتتجنب مثل هذا الحوار أخذت كوب الشاي معها إلى فناء المنزل لتفكر.

كان التفكير من الأمور التي تتقنها الدكتورة مايرا دو سويزا سوبرامانيان إتقانًا شديدًا. لكن الوضع اختلف هذا الصباح إذ لم تستطع التركيز. ربما يكون هذا بسبب صوت نشرة الأخبار التي يديرها الطاهي في المطبخ، بل استطاعت مايرا من مكانها في الخارج أن تسمع تلك الأصوات الخافتة التي لا تتحدث بشيء يسترعي الانتباه؛ لأن وكالات الأنباء صرحت بكل ما لديها في البيان الأول، ولم يعد لديها جديد يثير الاهتمام. أو ربما لأن ما أرادت التفكير فيه هو لغز الظهور المُبْهَم لتلك الفتاة التي تشبه ابنتها كثيرًا وإن لم تكن هي. أو ربما يكون هذا بسبب حرارة شمس الصباح بالإضافة إلى شعورها بالإجهاد.

ثم غطت في نوم عميق.

لم تستطع تحديد الفترة التي نامتها وهي مستلقية على ذلك الكرسي المتحرك أسفل الشمس الساطعة. وعندما استيقظت فجأة لاحظت في الحال أن الشمس قد ارتفعت كثيرًا في السماء، وأن الطاهي والخادمة يصدران قدرًا هائلًا من الضوضاء داخل المطبخ.

بعدئذٍ سمعت مايرا الصوت الخافت الذي انطلق من شاشة الأخبار والذي كان سببًا في هذه الضوضاء. كان هناك بثُّ — التقطه مصادفةً أحد المراقبين في المدار الأرضي المنخفض — صادر من مجموعة سفن الفضاء التي كانت تشارك من قبل في أول سباق من نوعه بين السفن ذات الأشرعة الشمسية. وكان الصوت مألوفًا تمامًا لكلٍّ من مايرا ورانجيت.

انطلق صاحب الصوت المألوف قائلًا: «النجدة. ليساعدني أحد للخروج من هذه الكبسولة قبل أن ينفد هواء الطوارئ.» وأنهى صاحب الصوت استغاثته بمعلومة أخرى لم تكن ضرورية كثيرًا لمايرا أو رانجيت: «أنا ناتاشا دو سويزا سوبرامانيان، كنت أقود السفينة الشمسية ديانا من قبل، وليس لديَّ أدنى فكرة عما أفعل هنا.»