النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الأربعون

معرض الصور

قبل أربع وعشرين ساعة كان الشيء الوحيد الذي تتمناه مايرا سوبرامانيان في العالم هو أن تعلم أن ابنتها على قيد الحياة وفي أمان، رغم تأكيد جميع الشواهد عكس ذلك. كان هذا حينها. أما الآن سمعت مايرا رسالة ناتاشا. بل وسمعت رسالة طواقم الطوارئ الذين استجابوا على الفور لاستغاثة ناتاشا. وبثوا رسالة لاسلكية إلى العالَم المترقِّب يقولون فيها إن الفتاة المفقودة ليست على قيد الحياة وبصحة جيدة حسبما يرون فحسب، بل هي الآن في مأمن لأنهم يصطحبونها في صواريخهم، ويتجهون بها إلى نقطة اتصال المدار الأرضي المنخفض بمصعد الفضاء.

لم تكتفِ مايرا بهذا. فما ترغب فيه الآن هو ضم ابنتها بين ذراعيها. لا أن تكون على بعد آلاف الكيلومترات عنها بلا أي أمل في رؤيتها وجهًا لوجه طوال كل الأسابيع التي سيستغرقها مصعد الفضاء حتى تصل ناتاشا إلى المنزل.

لكن بعدئذٍ في ذلك المساء كانت مايرا تقلب بين شاشات الأخبار على أمل العثور على خبر واحد لا يكون مخيفًا أو مبهمًا، وإذا برانجيت يأتي مهرولًا إثر سماع صرختها. صاحت مايرا وهي تشير إلى الصورة الظاهرة على الشاشة «انظر!» انطلقت صرخة أخرى من رانجيت؛ لأن الصورة التي كانت تشير إليها مايرا هي صورة ابنتهما ناتاشا، وكانت مايرا على يقين أن هذه ليست النسخة الزائفة لناتاشا التي قضت بضعًا وخمسين ساعة في استجواب جميع هؤلاء البشر.

لم يعرف رانجيت ما تقوله، ولم يكترث له في تلك اللحظة. بل توجه هو ومايرا إلى مكتبه تاركين الصورة خلفهما على شاشة الأخبار. لم يهدر رانجيت الوقت في محاولة اتباع الطرق المعتادة للاتصال هاتفيًّا بعربة مصعد الفضاء التي تقل ابنته الحقيقية العائدة من الفضاء. كان لمنصب رانجيت امتيازات خاصة. فقد اتصل بالقنوات التنفيذية التي كانت مفتوحة أمامه باعتباره واحدًا من الأعضاء في مجلس إدارة مصعد الفضاء، وقبل مضي دقيقة كانت ابنته الحقيقية تطل عليه من فراشها الصغير داخل كبسولة العربة المحميَّة من الإشعاع. واستغرق الأمر وقتًا أطول قبل أن تُطَمئِن ناتاشا الحقيقية والدتَها أنها — بشعرها الأشعث وملابسها المشوبة بالبقع وخلو مظهرها من تأنق الفتاة التي كانت تحاكيها — هي بعينها ناتاشا التي تريدها.

وأخيرًا نجحت ناتاشا في إقناع والديها أنها على قيد الحياة ولم تصب بسوء، وإن كانت تجهل تمامًا كيف انتهى بها الحال في الكبسولة التي لم تكن بالقطع بداخلها عندما فتشتها فرق البحث.

كانت تلك أنباء سارَّة، لكنها ليست كافية لمايرا. فبعد أن فقدت مايرا ابنتها على نحوٍ أثار الرعب في نفسها وبدا معه أن عودتها أشبه بالمستحيل لم تكن مستعدة لإنهاء الاتصال الحالي. الواقع أن مايرا كانت ستستمر في الحديث ساعات، غير أن ناتاشا الحقيقية هي التي أنهت المكالمة. رفعت ناتاشا بصرها عن الكاميرا، وانتابها شعور بالانزعاج ثم الجفول وأخيرًا الخوف. وصاحت: «يا إلهي. أهذه شبيهتي التي كانوا يتحدثون عنها؟ ها هي تظهر على قنوات الأخبار، اذهبا لتريا بأنفسكما!»

•••

فعل رانجيت ومايرا ذلك، وبعدها أعادا تشغيل رسالة هذا الكائن من بدايتها. بدأت الرسالة بضوء متوهج. ثم بدأت نظيرة ناتاشا في الحديث دون مقدمات. قالت: «أهلًا بسكان الأرض من البشر. هناك ثلاثة أمور نود تبليغكم بها، وبيانها كما يلي.»

«أولًا لقد غادر ذلك الفرد من «عظماء المجرة» الذي كان موجودًا في مكان قريب فيما مضى تلك المنطقة الفلكية المجاورة لينضم ثانية إلى رفاقه حسبما نظن. ولا أحد يعرف متى سيعود أو ماذا سيفعل بعد ذلك.»

«ثانيًا خلُصَ صناع القرارات القياديون لدينا إلى أنكم ستجدون التحاور معنا أكثر سهولة إذا اطلعتم على هيئتنا. ولذلك سوف نعرض صورًا لخمسة وخمسين من الأجناس الأكثر نشاطًا التي تعمل لحساب «عظماء المجرة» بدءًا بنا نحن «تساعيو الأطراف».»

«ثالثًا وأخيرًا لا تستطيع كائنات «واحد فاصل خمسة» العودة إلى ديارهم في الوقت الحالي بسبب نقص المؤن. ولا يرغب «المخزنون في الآلات» في المغادرة بدونهم. ولذا سوف يأتي كلا الجنسين إلى كوكبكم. تضم الفصائل الثلاث التي ذُكرت للتوِّ جميع الأجناس المكلفة بمواجهة المشكلات التي تُحْدِثونها. لكن ليس هناك داعٍ للخوف. فقد ألغى «عظماء المجرة» أوامرهم بتعقيم كوكبكم. وعلى كل حال، عندما تصل كائنات «واحد فاصل خمسة» فإنهم سيقيمون في مناطق لا تشغلها شعوبكم. وتلك نهاية الرسالة.»

كانت هذه حقًّا نهاية الرسالة. وعلى إثرها نظر كل من مايرا ورانجيت أحدهما إلى الآخر في ذهول. سألت مايرا: «ما الأماكن التي سيقيمون فيها برأيك؟»

لم يحاول رانجيت إجابة سؤالها؛ إذ كان يفكر في سؤال آخر أكثر إلحاحًا. فقال: «في اعتقادك ما الذي يقصدونه بتعقيم كوكبنا؟»

•••

لم تكتفِ الكائنات التي تطلق على نفسها اسم «تساعيي الأطراف» بعرض صور لكل الكائنات التي وعدت بها مرارًا وتكرارًا على جميع شاشات العالم، وإنما كان يصاحب العرض تعليق صوتي. جاء فيه: «نُدعى «تساعيو الأطراف» لأن لدينا تسعة أطراف كما تشاهدون. لدينا أربعة أطراف في كل جانب وظيفتها الرئيسية عملية التنقل. أما الطرف الموجود في المؤخرة فيستخدم في كافة الأغراض الأخرى.»

وعلى كل شاشة كانت تُعرض صورة للكائن الذي يصفه التعليق الصوتي. هتف الطاهي: «إنها تشبه الخنفساء!» والواقع أن هذا صحيح إذا ما ارتدت الخنفساء أحزمة من قماش ذي بريق معدني بين كل زوج من الأزواج الأربعة من أطرافها. وكما أشار التعليق فهناك طرف آخر في نهاية الجسد، رأت مايرا أن هذا الطرف يشبه خرطوم الفيل لكنه أكثر نحولًا وطوله يكفي لملامسة الجهة الأمامية التي يبدو أن بها فمًا وعيونًا.

لو كان «تساعيو الأطراف» غريبي الشكل — والواقع أنهم كانوا كذلك بالفعل — فإن الأجناس التي ظهرت بعدهم كانت قطعًا أكثر غرابة. كانت الفصيلة الثانية التي عُرِضَت تشبه أرنبًا صغيرًا مسلوخًا، لكن بلون أرجواني باهت بدلًا من اللون الوردي المعتاد. (أشار التعليق الصوتي إلى أن هؤلاء هم كائنات «واحد فاصل خمسة»، لكن مر بعض الوقت قبل أن يعرف البشر سبب هذه التسمية.) أما الفصيلة الثالثة فكانت الأكثر شبهًا بالبشر (وإن لم يكن التشابه كبيرًا) من بين كائنات المجرة التي تعرَّف عليها البشر مؤخرًا. كانت بعض الفصائل التي عُرِضَت فيما بعد في البث لديها ما يصل إلى اثني عشر طرفًا وربما عدد أكبر من مجسات الاستشعار (في بعض الأحيان كان يصعب التأكد من العدد). ومع ذلك فإن هذه الفصيلة الثالثة — ذات المسمى الغريب الذي هو «المخزنون في الآلات» — لم يكن لديها سوى ذراعين وساقين ورأس واحد. لم تكن هناك طريقة للحكم على حجم هذه الكائنات. فربما تكون صغيرة الحجم كقرد المارموسيت أو ضخمة كالحيوانات التي تُرى في السيرك، لكنها بالقطع لم تكن من النوع الذي قد يرغب الإنسان في مقابلته في ليل مظلم. كانت هذه الكائنات دميمة الخلقة. وفي الواقع فإن أفضل صفة استخدمها معلقو الأخبار في العالم هي وصفهم بأنهم «شيطانيون».

بعدئذٍ زادت غرابة العرض. فالكائنات التالية كانت من كل لون يمكن تخيله، وعادةً كانوا يظهرون في ألوان يناقض بعضها بعضًا في أنماط تمويهية تسبب إرهاقًا للعين. كانت أجسام هذه الكائنات مغطاة بحراشف أو ريش متناثر ونحيل، وتضمنت جميع الأشكال التي يمكن تخيلها، واقتصرت هذه الفئة على الكائنات المعتمدة على الكربون. أما الكائنات التي كانت تشبه إلى حد بعيد تماسيح بدينة وقصيرة في ملابس غوص عتيقة الطراز فلم تكن على هذا القدر من الوضوح إلا بعد أن أُشير إلى أنهم قادمون من عالم غلافه الجوي قارس البرودة مثل قاع أحد البحار الأرضية، وأن السائل الذي يجري في عروق الكائنات الحية في هذا العالم هو ثاني أكسيد الكربون شديد الخطورة.

والواقع أن العرض الذي لم تجد مايرا بدًّا من تسميته «العرض العجيب» لم ينتهِ باستعراض الخمسة والخمسين جنسًا من الأجناس الأكثر تقدمًا في المجرة. إذ كان العرض مستمرًّا. وما إن حظيت جميع الأجناس بما أتيح لها من لحظات شهرة على شاشات كوكب الأرض حتى بدأ الاستعراض من جديد بداية من «تساعيي الأطراف». لكن مع اختلاف أن العرض هذه المرة كان مصحوبًا ببيئة محيطة. ظهرت الكائنات الفضائية إلى جانب سفن الفضاء التي تتخذ شكل ثمار الموز وأجزاء أخرى من عالمهم، وصاحَبَ هذا العرض تعليق صوتي مختلف.

لا شك أن هذا الحدث برمته كان مثيرًا للاهتمام. وفي المرة الثالثة كان آل سوبرامانيان قد علموا أن طول الفرد العادي من «تساعيي الأطراف» لا يمكن أن يتجاوز ثمانية عشر أو عشرين سنتيمترًا، وذلك مقارنة بالحجم التقريبي لسفينة الفضاء التابعة لهم. ووفقًا للتعليق الذي صاحَبَ العرض الثاني لمن يطلق عليهم «المخزنون في الآلات» كان هذا الاسم يصف طبيعتهم تحديدًا. فقد كانوا مخزنين داخل الآلات. في حين لم تكن الأجساد البيولوجية المعروضة سوى حقيقة تاريخية، أما الآن فكل فرد في هذا الجنس يحيا حياته محفوظًا داخل ذاكرة إلكترونية. هذا ما أخبرت به مايرا رانجيت بعد أن عاد من نقل روبرت النائم إلى الفراش.

قال رانجيت وهو يعود للجلوس على كرسيه المفضل: «حسنًا. يبدو هذا مناسبًا. أظن أن الفرد على هذه الحال قد يعيش إلى الأبد، ألا تتفقين معي؟»

وافقته مايرا: «ربما. سأتناول كوبًا من الشاي. أتريد واحدًا؟»

وافق رانجيت على تناول الشاي. وعندما عادت مايرا حاملة الكوبين كانت الشاشة تعرض أحد «تساعيي الأطراف» وهو يزيل القماش من بين مفصلَي الورك لكائن آخر من «تساعيي الأطراف» أيضًا، ثم يحك جسده المكشوف بأطرافه التسعة. قالت مايرا وهي تضع أحد الكوبين أمام زوجها: «مهلًا. ماذا يفعل، هل يحمِّم الآخر؟»

قال رانجيت: «ربما يدهن له جسده بالزيت. من يدري؟ كل هذا يُسَجَّل، ما رأيك إذن أن نطفئ الجهاز الآن وأن نعاود المشاهدة عندما نريد؟»

أجابت مايرا وهي تمد يدها وتقوم بذلك بدلًا منه: «فكرة رائعة. أود أن أسألك سؤالًا على كل حال. من الذين لم نرهم بعد في هذا العرض؟»

أومأ رانجيت. وقال: «أعرف من تقصدين. الكائنات التي كانوا يتحدثون عنها. الكائنات التي يطلقون عليها اسم «عظماء المجرة».»

«هذا صحيح، ويبدو أنهم يحظون بمكانة مهمة بينهم. وحتى الآن لم يعرضوا صورهم علينا.»