النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الرابع والأربعون

خلافات دولية

في اليوم التالي وعلى مسافة بعيدة جدًّا من منخفض القطارة، كانت أسرة سوبرامانيان تنهي إفطارها. كانت ناتاشا وروبرت يرتديان ملابس السباحة في انتظار مرور الثلاثين دقيقة الإلزامية التي تفرضها عليهما والدتهما بعد الانتهاء من تناول الطعام وقبل التوجه إلى الشاطئ. في حين كان رانجيت يقطب جبينه أمام الشاشة وهو يمسك بكوب من الشاي في يده. فعلى الشاشة ظهرت مستعمرة «واحد فاصل خمسة» الصاخبة كما يرصدها واحد من بضعة أقمار صناعية لا تزال خاضعة لتحكم البشر، وكان رانجيت يقطب جبينه أمام المشهد منذ فترة من الوقت.

عندما فكرت مايرا في الأمر تساءلت عما يستحوذ على انتباه زوجها على الشاشة إلى هذا الحد، غير أن تركيزها كان منصبًّا على الفرز الصباحي للرسائل الواردة. رفعت مايرا إحدى الرسائل لتراها بوضوح وتحدثت إلى رانجيت. فقالت: «تتساءل جامعة هارفارد هل لديك رغبة في توجيه كلمة في حفل التخرج مرة أخرى. وهذه رسالة من يوريس. يقول فيها إنهم ما زالوا يتلقَّون رسائل التهديد، لكن إن كان هناك عبدة للشيطان ينوون مهاجمة مصعد الفضاء حقًّا فإنهم لا يوجدون في نطاق عشرين كيلومترًا من القاعدة. و… انتظر! ما هذا؟»

توقفت مايرا إثر سماع صيحة دهشة من زوجها، وعندما رفعت بصرها أدركت سبب هذه الدهشة. توقف التصوير الجوي، واستولت الكائنات الفضائية على القمر الصناعي مرة أخرى من أجل تحقيق مآرب شخصية، وظهر هيكل مألوف الشكل على الشاشة. صاحت ناتاشا التي كانت تقف خلف مايرا: «تبًّا! ها أنا ذا مجددًا!»

كانت الصورة لناتاشا. أو بالأحرى كانت لشبيهة ناتاشا التي لا تُقهر — بشعرها المجعد المتدلي فوق أذنها اليسرى — والتي تكرر ظهورها كثيرًا منذ أن بدأ العالم في التداعي. تنهدت مايرا. وقالت: «كنت أتمنى لو أنك ترتدين مزيدًا من الملابس»، وجُنِّبت رد ابنتها اللاذع عندما بدأ هذا الكائن حديثه.

«أحمل إليكم رسالة من الكائنات التي تسمى «واحد فاصل خمسة» المقيمين حاليًّا في المكان الذي يسمى منخفض القطارة على الكوكب الذي تطلقون عليه اسم الأرض. ومحتوى الرسالة كما يلي:

«نشعر بالأسف الشديد على البشر الذين سقطوا قتلى أثناء صد الهجوم. سوف ندفع تعويضات تصل إلى ألف طن من الذهب المعدني الخالص بنسبة ٩٩٫٩٩٩٩٩، لكننا بحاجة إلى ٩٠ يومًا لمعالجة الذهب من مياه البحر. نرجو إخبارنا بقبول العرض.» وهكذا تنتهي رسالتهم.»

اختفت الصورة، وظهرت مكانها الهياكل اللامعة الموجودة داخل المستعمرة، استدار رانجيت يحدق النظر في زوجته وأبنائه. وقال متشككًا: «أظن أنهم صنعوا ما يشبه نسخة احتياطية من تاشي يمكنهم الاستفادة منها في الإدلاء ببياناتهم.»

ابتسمت مايرا على استحياء. وقالت: «لا أدري، لكن أسمعت ما قالوا؟ يكاد يبدو مناسبًا. إذا كانت لديهم رغبة في محاولة التعويض عما حدث، فهناك بعض الأمل.»

أومأ رانجيت في ترو. ثم تساءل: «مر وقت طويل لم نسمع فيه أنباءً سارَّة حتى إني لا أدري كيف يكون الاحتفال بها. ما رأيكم في مشروب جماعي؟»

قالت ناتاشا على الفور: «ما زال الوقت مبكرًا جدًّا. وعلى أي حال روبرت لا يشرب، وأنا أيضًا لا أشرب كثيرًا. افعلا ما يحلو لكما. سنذهب أنا وروبرت إلى الشاطئ.»

قال رانجيت وهو يقبل يد زوجته: «سوف أجري اتصالًا بالمكتب. أود معرفة رأي دافودبوي فيما حدث.»

قالت مايرا: «إذن اذهبوا جميعًا.» وجلست تفكر هنيهة في صمت. ثم تنهدت، وصبت لنفسها كوبًا من الشاي الساخن، وعادت للتفكير فيما خُيِّل إليها أنه بداية أخرى لعالم طبيعي.

لم تتلاشَ أفكار التدمير والنكبات من عقلها تمامًا. غير أنها كانت أقل حدة حينئذٍ؛ فلم تكن هذه الأفكار تشغل الفكر أكثر من ألم عابر في أسنانك يذكِّرك بحجز موعد مع طبيب الأسنان؛ ليس بالضرورة الشهر القادم بل ربما يكون الشهر الذي يليه. وهكذا عادت مايرا مرة أخرى لتصفح رسائل الصباح. كانت هناك رسالة من ابنة أختها آدا لابروي تقول مستبشرة إن حالة «التخزين في الآلة» التي تحدثت عنها الكائنات الفضائية تشبه إلى حد بعيد فكرة الذكاء الاصطناعي الذي اشتغلت به على ما يبدو طوال حياتها، وسألت أيضًا هل لدى ناتاشا أي وسيلة يمكن من خلالها سؤالهم عن مزيد من التفاصيل؟ ووردت اثنتا عشرة رسالة من أشخاص آخرين جميعهم يشتركون في الاعتقاد خطأً بأن ناتاشا الحقيقية ربما يمكنها بصورة أو بأخرى إرسال رسالة إلى الكائنات الفضائية. وكانت هناك رسالة من معبد ترينكومالي أثارت قلق مايرا إذ ورد فيها أن الراهب المسن سوراش قد اجتاز آخر جراحة أجريت له لكن التوقعات طويلة المدى غير مضمونة في أحسن الأحوال.

أعادت مايرا قراءة الأخبار المحزنة وقد أطبقت شفتيها في تعبير عن القلق. كان سوراش قد اتصل بنفسه ليخبرهم أنه سيخضع لعملية جراحية أخرى، لكنه تحدث عنها كما لو كانت عملية لاستئصال اللوزتين. بينما تدل هذه الرسالة على أن الأمر أكثر خطورة. تنهدت مايرا، وانتقلت إلى الرسالة التالية …

واكفهرَّ وجهها. كانت هذه الرسالة موجهة إلى رانجيت شخصيًّا. جاءت من أوريون بليدسو يقول فيها: «هذه الرسالة لتذكيرك بالالتزامات المفروضة على المواطنة الأمريكية ناتاشا دو سويزا سوبرامانيان بموجب قانون الخدمة العسكرية الموحد لسنة ٢٠١٤. عليها أن تتجه إلى أي قاعدة عسكرية أمريكية حتى تخضع للتقييم. ولا بد من حدوث ذلك في غضون الثمانية أيام المقبلة وإلا ستُطبق عليها العقوبات.»

لم تتمكن مايرا من اللحاق بناتاشا لإخبارها بمضمون هذه الرسالة التي تتعلق بحياتها المستقبلية. لكنها نادت على رانجيت، وعندما أنهى مكالمته الهاتفية، وأعطته الرسالة قال: «يا إلهي! اللعنة!»

هكذا أصبحت أسرة سوبرامانيان بصدد مجموعة جديدة وغير متوقعة تمامًا من المشكلات. لم يخطر ببال رانجيت أو مايرا أن الحقيقة الجغرافية الخاصة بمولد ابنتهما على الأراضي الأمريكية تخول لأمريكا الحق في استغلال خدماتها. ولم يكن أمامهما سوى اتخاذ خطوة واحدة، وهو ما حدث بالفعل.

عندما ألح رانجيت في طلب المساعدة من صديقه القديم جاميني باندارا تركه جاميني منتظرًا على الهاتف دقيقة، ثم اعتذر منه، وتركه وقتًا أطول بكثير.

لكنه عندما عاد بدا أقل قلقًا. وقال: «رانجيت؟ ما زلت على الهاتف. حسنًا. لقد تحدثت مع والدي، وهو يجري اتصالًا الآن مع مستشاريه القانونيين. ويود منك الحضور إلى هنا.» وتوقف جاميني هنيهة، وعندما تابع حديثه كان يبدو عليه الارتباك. إذ قال: «المشكلة في ذلك الحقير بليدسو. نود الحديث بشأنه يا رانجيت. سوف يرسل والدي طائرة لك. أحضِر معك مايرا. وناتاشا. وبالطبع، روبرت أيضًا. سوف نكون بانتظاركم.»

•••

لم تكن الطائرة التي وصلت إليهم ذلك المساء قريبة في الحجم بأي حال من الأحوال من الطائرة التي أنقذت رانجيت من عملية التسليم الاستثنائي. كان على متن الطائرة مضيفة واحدة لم تكن تضاهي في جمالها المضيفتين الأخريين في شيء، لكن كان على متنها شيء غير متوقع. كان يقف عند باب الطائرة صديق قديم يرحب بهم. نظرت إليه مايرا مرتين، ثم ابتسمت. وقالت: «الدكتور دو سارام. يا لها من مفاجأة رائعة!»

استسلم نايجل دو سارام — الرجل الذي عمل محاميًا لرانجيت ذات مرة والذي يعمل الآن وزيرًا للخارجية لدى الرئيس باندارا — لعناق مايرا، ثم أشار للجميع بالجلوس على المقاعد التي تحيط بمائدة طويلة. وقال وهو يربط حزام الأمان: «سوف نتحدث في الطريق.» وبينما تنطلق الطائرة على ممر الإقلاع قرأ دو سارام الرسالة التي أعطتها مايرا له، ومع استقرار الطائرة في تحليقها كان دو سارام مستعدًّا. فالتفت إلى ناتاشا. وقال: «أظن أن ما يتعين فعله واضح؛ فقد توصلت إلى المعلومات الخاصة بالقانون الأمريكي وقرارات المحكمة فيما يتعلق بهذا الشأن وأنا في الطريق إلى هنا. أول شيء ينبغي فعله هو التخلي عن الجنسية الأمريكية؛ سنجد الأوراق جاهزة في مكتبي عندما نصل. كان الأفضل لو فعلت ذلك منذ سنوات بالطبع.» وأضاف: «إنه خطئي أنني لم أتأكد من ذلك.»

تساءل رانجيت بارتياب: «أهذا كل ما علينا فعله لتسوية هذا الأمر؟» فإذا كانت أقوى دولة على الأرض تحاول تجنيد ابنته، فلن يكون هناك مجال للمجازفة.

بدا الذهول على وجه المحامي العجوز. وقال: «بالطبع لا! لن يعني هذا شيئًا سوى أن القضية بأكملها ستُنظر أمام المحاكم الأمريكية. لكن هذا سيستغرق سنوات، ولا أدري إن كنتم تنتبهون إلى وجود انتخابات رئاسية قادمة في أمريكا. من الواضح أن الإدارة الحالية لن تفوز. ونأمل ألا تطبق الإدارة التالية السياسات نفسها. وفي غضون ذلك أرجو منكم البقاء بعيدًا عن أمريكا.»

أحاطته ناتاشا بذراعيها. وهمست قائلة: «شكرًا لك.»

كرر والدها — الذي بدا عليه الحرج — تعبيرات الشكر، وأضاف: «أظن أن هذا الشأن لم يكن يستدعي مجيئك إلى هنا.»

قال المحامي: «هذا سؤال آخر، أليس كذلك؟ يريد الرئيس باندارا أن يتحدث معك بشأن ضابط سلاح البحرية الأمريكي السابق الذي يدعى أوريون بليدسو.»

عندئذٍ تدخلت مايرا. وقالت: «هو الذي دبَّر قصة تجنيد تاشي.»

هز المحامي رأسه. وقال: «ليس واضحًا هل هذه فكرته أم أنها صدرت بناءً على أوامر عليا. ما أعرفه هو أنه الآن في بروكسل للحديث مع المسئولين في البنك الدولي.»

بدت مايرا أكثر قلقًا. وتساءلت: «بشأن ماذا؟»

قال المحامي متجهمًا: «إنه يعطيهم أوامر صادرة من الأمريكيين. وهم يعدون بيانًا للإدلاء به صباح غد، وسيذكرون فيه أنه لا يمكن قبول هذه الكمية الهائلة من الذهب لأن من شأنها الإخلال بتوازن الهيكل المالي العالمي.»

قطب رانجيت جبينه، وأطبق شفتيه. ثم أقر: «ربما يكون هذا صحيحًا. فهذا الأمر يعادل … ماذا؟ ضخ رأس مال جديد في الأسواق قيمته تريليونات الدولارات بين عشية وضحاها. وقد يكون لهذا الأمر تداعيات خطيرة. ناهيك عن تأثير ذلك على سعر الذهب في الأسواق العالمية.» ثم هز كتفيه. وأضاف: «إنك في موقف لا تحسد عليه يا سيدي. لا أدري كيف يمكن التعامل مع هذا النوع من المشكلات.»

لكن المحامي كان يهز رأسه. وقال: «أظن أن الرئيس لن يوافق. على الأقل لديه أمل أنكم تستطيعون المساعدة. سوف ينضم إليكم بعد قليل، فهو يود معرفة كل شيء عن هذا الشخص الذي يدعى بليدسو. وبعدها سيحاول التوصل إلى بعض الحلول.»

•••

لم يكن الرئيس السريلانكي هو الوحيد من بين قادة العالم الذي يدعو إلى اجتماع هيئة من الخبراء. ففي كل مكان من الكوكب كان عدد من أكثر الأشخاص ذكاءً واطلاعًا يناقشون نفس الأسئلة. عقدت منظمة السلام عن طريق الشفافية اجتماعات خاصة بها، في حين استطلع مقرها الرئيسي أفضل تلك الآراء وأَصْوَبها …

ربما كُللت هذه الجهود بالنجاح لولا تدخُّل الأمريكيين لإفساد الأمر برمته. كان هذا من خلال بيان ألقي كالمعتاد من قبل المتحدثة الرسمية باسم الإدارة الأمريكية، لكن تأثيره على الموقف لم يكن كالمعتاد مطلقًا.

قالت المتحدثة الرسمية وهي تبتسم أمام الكاميرا تلك الابتسامة المألوفة التي هوَّنت عليها الإدلاء بعشرات التصريحات المقيتة: «يود الرئيس توضيح أن أمريكا أيضًا لها حق مشروع في التعويضات بسبب الخسائر الفادحة التي لحقت بطائرات قوات حفظ السلام التابعة لها دون داعٍ.»