النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل السابع والأربعون

الفراق

عندما ذهب رانجيت ومايرا لزيارة سوراش كان قد مر وقت طويل على لقائهم السابق؛ قبل عمليتين جراحيتين وفق حساب الراهب المسن للوقت. في ذلك الوقت كان عالَمهم — وعالم جميع الأحياء على كوكب الأرض — قد شهد وما زال يشهد تغيرًا جذريًّا.

قال رانجيت لزوجته: «لا يقتصر الأمر على التكنولوجيا فحسب. سادت العالمَ روح المودة. كل ما تمناه المصريون هو حصة في الكهرباء المولدة في القطارة. ولم تكن كائنات «واحد فاصل خمسة» مُلزمة بإعطائهم كل هذا القدر.»

لم ترد مايرا توًّا، ما جعل رانجيت ينظر إليها نظرة سريعة. كانت تحدق ببصرها في مياه خليج البنغال وقد ارتسم على وجهها ما يمكن اعتباره ابتسامة خفيفة. وعندما شعرت بنظرة زوجها إليها اتسعت ابتسامتها. وقالت: «صحيح.»

ضحك رانجيت وعاد يولي اهتمامه للطريق. وهو يقول: «حبيبتي، أنت تحفلين بالمفاجآت. ألم يعد لديك من الأمور ما ترتابين بشأنه؟»

فكرت مايرا. وقالت: «على الأرجح نعم. في الوقت الراهن لا أفكر في أي أمور مهمة تثير شكوكي.»

قال: «ولا حتى الأمريكيين؟»

زمت شفتيها. وقالت: «ليس بعد أن صار هذا البغيض الذي يدعى بليدسو هاربًا من العدالة. أظن أن الرئيس لن يتسبب في أي مشكلات أخرى لفترة من الوقت. إنما جيء ببليدسو من أجل الإنكار.»

استمع رانجيت في صمت، لكنه كان يفكر في شيء آخر غير ما تقوله مايرا. كان يفكر في مايرا نفسها وبالتحديد في حظه السعيد الذي هيأ له الارتباط بها. لم يسمع رانجيت ما قالته مايرا بعد ذلك. فقال: «ماذا؟»

أجابته: «سألتُك هل تظن أنه سيُنتخب مرة أخرى؟»

وقبل أن يرد رانجيت دار بالسيارة على الطريق المتجه أعلى التل حيث ينتظرهما سوراش. ثم قال: «كلا. لكن لا أظن أن هذا سيكون مهمًّا. تظاهر الرئيس بالشدة طوال الفترة التي استطاع فيها ذلك. والآن سيرغب في الظهور بمظهر من يهتم بالآخرين.»

لم ترد مايرا على ذلك إلى أن أوقف رانجيت السيارة. ثم وضعت يدها على ذراعه بوُدٍّ. وقالت: «أتدري يا رانجيت؟ إنني أشعر براحة حقيقية.»

•••

ولَّى عهد الحرية التي كان ينعم بها الراهب العجوز سوراش. فهو الآن ممدد على فراش صغير ويده اليسرى مثبتة في مكانها لتسمح بوصول شبكة من الأنابيب المتصلة بأكياس دواء ذات ألوان متعددة إلى أوردة معصمه دون أن يعوقها شيء. وعندما دخل عليه رانجيت ومايرا قال بصوت يشوبه الرنين بسبب الميكروفون الحلقي المثبت في حنجرته: «مرحبًا بكما يا أحبائي. إنني ممتن لزيارتكما. ثمة قرار يتعين عليَّ اتخاذه يا رانجيت، ولا أعرف ماذا أفعل. لو كان والدك على قيد الحياة لكنت استشرته في الأمر، لكنه مات وأطلب منك النصيحة. هل أسمح لهم بتخزيني داخل آلة؟»

التقطت مايرا أنفاسها. وقالت: «هل كانت آدا هنا؟»

لم يقو الراهب المسن على الإيماء برأسه، لكنه استطاع أن يحرك ذقنه. وقال: «نعم، كانت هنا. لقد دعَوْتُ الدكتورة لابروي. لم يعد بوسع الطب فعل شيء آخر معي سوى أن يتركوا الآلات تتنفس نيابة عني وأستمر أنا في هذا الألم الشديد. ورد في الأخبار أن آدا لابروي لديها بديل آخر. تقول إنها تستطيع القيام بما تعلمته من الكائنات الفضائية. يمكنني أن أترك جسدي، ولكن سأواصل حياتي كبرنامج كمبيوتر. لن أشعر بالألم بعدها.» وصمت الراهب هنيهة قبل أن يقوى على مواصلة الحديث. ثم قال: «لكن سيكون لهذا الأمر تكلفته. فلن يكون السبيل إلى الخلاص عن طريق أعمال الخير في يوجا المنهج الفعلي متاحًا أمامي حسبما أظن، لكن ستكون أمامي فرصة لأداء يوجا المنهج الوجداني ويوجا المنهج الفكري اللذين هما الطريق إلى المعرفة والطريق إلى التقوى. لكن أتعرف ماذا يعني ذلك لي؟»

هز رانجيت رأسه نفيًا.

قال الراهب المسن: «معناه الوصول إلى النرفانا (الانفصال التام بين الروح والجسد وقتل شهوات النفس). سوف تتحرر روحي من دورة الموت والبعث.»

تنحنح رانجيت، وقال: «لكن والدي كان يقول دائمًا إن هذا هو ما يسعى إليه الجميع. ألا تريد ذلك؟»

أجاب الراهب: «بلي، أريده من أعماق قلبي! لكن ماذا لو كان هذا خداعًا؟ لا يمكنني خداع براهما!»

استرخى سوراش في فراشه وعيناه الغائرتان مثبتتان على رانجيت ومايرا في استجداء لنصيحتهما.

قطب رانجيت جبينه. لكن مايرا هي التي تحدثت. فوضعت إحدى يديها على معصمه المنكمش، وقالت: «عزيزي سوراش، نعرف أنك لن تُقْدِم أبدًا على القيام بشيء من أجل غرض دنيء. عليك أن تفعل ما تظنه صوابًا. وسوف يكون كذلك.»

وكانت تلك نهاية الحوار.

وعندما أصبحا في الخارج مرة أخرى، أخذ رانجيت نفسًا عميقًا. وقال: «لم أكن أعرف أن آدا مستعدة لتخزين البشر.»

قالت مايرا: «ولا أنا أيضًا. فعندما تحدثت معها آخر مرة أخبرتني أنهم يستعدون لتخزين فأر أبيض.»

تجهم رانجيت. وقال: «وإذا كان سوراش مخطئًا، فسوف يُبعث على الحال نفسه.»

تحدثت مايرا بعقلانية: «حسنًا، إذا كان سيُبعث من الأساس — وهذا ظنه هو وليس ظني — فأنا واثقة أن هذا لن يكون سيئًا.»

وصمتت هنيهة، ثم ابتسمت. وقالت: «دعنا نر ما وصل إليه العمل في منزلنا.»

•••

بدت لمسات مايرا في إعادة تهيئة المنزل الذي كان يمتلكه والد رانجيت؛ فضم غرفة نوم كبيرة لرانجيت ومايرا في حين كان يحتوي على غرفتين صغيرتين، وضم ثلاثة حمامات (ونصف حمام في الطابق الأرضي من أجل الضيوف) في حين كان يحتوي على حمام واحد فقط. غير أن أيًّا من هذه الغرف لم يكن قد اكتمل بعد، كان التحرك بين أكوام البلاط وتجهيزات السباكة وأعمال الترميم بوجه عام عملًا شاقًّا. فقالت مايرا: «ما رأيك في قضاء قليل من الوقت في السباحة؟»

أقر رانجيت على الفور أنها فكرة رائعة. وفي غضون عشرين دقيقة كانا يرتديان ملابس السباحة ويستقلان دراجتيهما على الطريق إلى الطوف الذي كان يرسو بالقرب من صخرة سوامي.

ولما كان مستوى المياه القريبة ينخفض بسرعة إلى عمق مائة متر وأكثر فقد اصطحبا معهما عدة الغوص. تضمنت تلك العدة أحدث الخزانات المصنوعة من ألياف الكربون التي يمكنها الاحتفاظ بالهواء عند ضغط ألف وحدة من وحدات الضغط الجوي. لم يكن رانجيت ومايرا ينويان النزول إلى هذا العمق، لكن تاريخ المنطقة المؤلم كان معروضًا للمشاهدة تحت سطح الماء. ففي هذا المكان — منذ نحو أربعة قرون — عندما استولى الغزاة البرتغاليون على ترينكومالي دمر قبطانهم البحري المعبد الأصلي في نوبة غضب ديني. (وحقيقة أن بعضًا من أسلاف مايرا كانوا من المخربين لم تثبط اهتمامها على الإطلاق.) كان قاع البحر حول الصخرة لا يزال مملوءًا بأعمدة منحوتة يسهل التعرف عليها.

وما إن أصبح رانجيت ومايرا تحت الماء حتى توقفا لمعاينة أحد المداخل الزاخرة بالتفاصيل. كان رانجيت يهز رأسه كأنما يعاتب زوجته وهو يتتبع ببصره صدعًا شوه نقوش زهرة اللوتس، وفجأة خفت الضوء الذي كان يعلو رأسيهما.

عندما نظر رانجيت عبر المياه التي كانت تلمع من شدة الصفاء وقعت عيناه على هيكل ضخم يمر فوقهم مباشرة.

صرخ رانجيت عبر هاتفه المائي: «إنه قرش الحوت!» قالها رانجيت بصوت مرتفع للغاية لدرجة أن صوته خرج مشوهًا كصوت الراهب العجوز عندما تحدث إليهما عبر الميكروفون الحلقي. ثم أردف: «لنذهب ونتعرف عليه!»

ابتسمت مايرا وأومأت برأسها. لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يواجهان فيها هذه الكائنات الضخمة المسالمة التي تتغذى على العوالق البحرية في المياه حول ترينكومالي. كانت هذه الكائنات بطولها البالغ نحو عشرة أمتار بمنزلة السفينة الرئيسية التي تستقلها أسماك الريمورا حيث يلتصق البعض بها من خلال الممصات بينما يسبح البعض بالقرب من أفواهها الضخمة على أمل الحصول على فتات طعام تتغذى عليه.

بدأ رانجيت في ملء جاكيت الغوص بالهواء، وبدأ يرتفع ببطء بمحاذاة الحبل الذي يدله على مكان الطوف. وتوقع رانجيت أن تحذو مايرا حذوه، لكنه أصيب بالفزع عندما سمع صوتها وقد حاولت ضبط نفسها تمامًا لكن صوتها لم يخل من التوتر. لهثت مايرا: «ثمة خطب في مضخة الهواء. سألحق بك بعد دقيقة.» بعدها سُمع صوت أزيز هواء قوي مع امتلاء كيس الطفو الخاص بمايرا فجأة. تعرض رانجيت لدفعة قوية مع انسحاب مايرا بحدة إلى الأعلى.

في لحظات كهذه يدب الفزع في قلوب أكثر الغواصين خبرة. ارتكبت مايرا خطأً جسيمًا عندما حاولت حبس أنفاسها.

وعندما لحق بها رانجيت على الطوف، كان الأوان قد فات. كانت الدماء تسيل من فمها، ولم يكن رانجيت واثقًا هل التقط آخر الكلمات التي همست بها.

أعاد رانجيت تكرار الكلام في عقله إلى أن أصبح واقفًا فوق طوف مروحية الإسعاف الجوي التي وصلت على الفور لتؤكد له ما كان يعرفه بالفعل.

كانت مايرا تقول: «أراك في العالم القادم.» مال رانجيت، وطبع قبلة على جبينها البارد.

ثم قال لقائد المروحية: «دعني أستخدم هاتفك. أود الحديث مع الدكتورة آدا لابروي في الحال.»