النظرية الأخيرة

مؤسسة هنداوي مؤسسة هنداوي
الفصل الثامن والأربعون

روح في الآلة

إن كان هناك أي مريض يستحق أن تبذل الدكتورة آدا لابروي كل ما في وسعها لمساعدته فسيكون هذا الشخص بلا شك خالتها الحبيبة مايرا. لكن الأمر لم يكن في يدها تمامًا. لحسن الحظ كانت آلات الكائنات الفضائية التي يمكنها تنفيذ هذه المهمة في مكان قريب تستعد لتحويل العجوز سوراش إلى كيان معنوي يواصل حياته داخل الآلات. لكن لم تُجمع الأجزاء بعضها مع بعض بعد. فكان بعضها متراصًّا في الرواق خارج غرفة سوراش بالمستشفى، وبعضها على نقالات في الفناء، وعدد قليل ما زال في الشاحنات التي نقلت هذه الأجزاء من مصعد الفضاء. وسوف يستغرق تجميع هذه الأجزاء بعض الوقت.

في غضون هذا الوقت لن تدخر عوامل التحلل الوحشية وسعًا في إتلاف جسد مايرا.

لا بد من اكتساب المزيد من الوقت. وهناك طريقة واحدة للقيام بذلك. عندما شق رانجيت طريقه عنوة إلى الغرفة التي كان يجري فيها العمل على ما تبقى من زوجته أدرك أخيرًا سبب إصرارهم الشديد على إبعاده عن الغرفة. لم تكن مايرا ترقد على أحد أسرة المستشفى. بل كانت مغمورة في خزان ماء تطفو على سطحه مكعبات ثلج نصف منصهرة. ووفرت الأساور المطاطية حول رقبتها وخصرها مكانًا لعمل معدات الحفظ التي كان كل منها يضخ سائلًا باردًا داخل جسدها بينما دمها الحقيقي ذو اللون القرمزي يسيل في … حمام؟ أجل، كان هذا هو المكان الذي يتدفق فيه دم مايرا!

سمع رانجيت صوتًا من خلفه يقول: «رانجيت.»

استدار رانجيت وما زالت ملامح الفزع ترتسم على وجهه. كان صوت الدكتورة آدا لابروي يوحي بالشفقة وإن كانت النظرة التي علت وجهها صارمة. قالت له: «لا ينبغي أن تكون هنا. فالمنظر لا يسُرُّ.» ثم ألقت نظرة على الساعة، وأضافت: «أظن أن الوقت قد حان، لكن عليك الخروج من هنا حتى نتمكن من العمل.»

لم يعترض رانجيت. فقد رأي كل ما كان يقوى على رؤيته. شاهد رانجيت جسد زوجته مرات عديدة بكامل صحته ولونه الوردي طوال زواجهما السعيد الذي دام طويلًا، لكنه الآن صار ضاربًا إلى اللونين الأزرق والبنفسجي حتى إنه لم يحتمل النظر إليه.

كان وقت الانتظار بلا نهاية أو هكذا بدا لرانجيت، لكن انتهى هذا الوقت أخيرًا. كان رانجيت يجلس شارد الذهن في إحدى غرف الانتظار عندما دخلت الدكتورة لابروي متوردة الخدين بل وتبدو سعيدة أيضًا. قالت آدا وهي تتخذ مقعدًا بجواره: «كل شيء يسير على ما يرام يا رانجيت. تمكنا من إنشاء الواجهات البينية. ونحن الآن في انتظار نقل البيانات.»

فسر رانجيت هذا الكلام في نفسه. فقال: «هذا يعني أن مايرا تُخزَّن داخل الآلة الآن؟ ألا يُفترض أن يكون هناك أحد أثناء حدوث ذلك؟»

أجابت: «هذا ما يحدث بالفعل يا رانجيت.» ثم رفعت ذراعها لتريه شاشة حول معصمها. وقالت: «إنني أراقب ما يحدث. لقد حالفنا الحظ إذ اعتاد «عظماء المجرة» على تخزين بضع عينات من جميع الأجناس التي يبيدونها، ولهذا كان «المخزنون في الآلات» يعدون العدة لهذه المهمة قبل المجيء إلى هنا.»

قطب رانجيت جبينه على الفور. وسألها: «ماذا تقصدين، «تخزين»؟ هل تتحدثين عن شيء يشبه التابوت أو جرة لحفظ رماد الموتى أو شيء من هذا القبيل؟»

قطبت آدا جبينها هي الأخرى. وسألته: «ألم تكن تتابع الأخبار يا رانجيت؟ الأمر يشبه «المخزنين في الآلات» أنفسهم. فهؤلاء يمكن تسميتهم آلات المرحلة الثانية. تقتصر المرحلة الأولى على إعداد نسخ مماثلة تمامًا من الأشخاص، وتخزينهم كعينات. أما المرحلة الثانية تتمثل في تزويدهم بالحياة داخل الآلات … كلَّا، انتظر»، قالتها عندما سمعت صوتًا دقيقًا يشبه صوت الجرس. كانت عيناها مثبتتين على شاشة العرض وهي ترفع ذراعها وتتحدث في الجهاز الغريب المثبت على معصمها. وبعد دقيقة أظلمت الشاشة. وعندما أضاءت مرة أخرى كاد قلب رانجيت يتوقف؛ لأنها كانت تعرض صورة زوجته كما رآها آخر مرة بملابس السباحة لكنها الآن ترقد بلا حراك على سرير جراحي …

كلَّا، لم تكن بلا حراك. فتحت مايرا عينيها. وارتسمت على وجهها ملامح الحيرة والإثارة أيضًا عندما رفعت يدها وأدارتها لتتفحص أصابعها.

قالت آدا لرانجيت بلهجة تباهٍ: «ما تشاهده الآن محاكاة. وفي وقت لاحق سوف تتعلم مايرا محاكاة أي بيئة ترغب فيها، وتتعلم أيضًا كيفية التفاعل مع الآخرين في هذه البيئة.» ثم همست مرة أخرى في الشيء المثبت على معصمها. فأظلمت الشاشة مجددًا. «لم نكن منصفين معها على الرغم من ذلك. لنمنحها بعض الخصوصية أثناء تأقلمها مع ما حدث لها. يمكننا تناول كوب من الشاي، وسأحاول الرد على جميع أسئلتك بافتراض أن لديك بعض الأسئلة.»

•••

وبالطبع أراد رانجيت أن يطرح عليها الكثير من الأسئلة. زادت برودة كوب الشاي — الذي لم يشرب منه شيئًا — وهو يحاول استيعاب ما حدث. وفي النهاية رن صوت جرس دقيق آخر، فابتسمت آدا. وقالت: «أظن بإمكانك الحديث معها الآن»، ثم أومأت ناحية الشاشة التي عرضت صورة مايرا مرة أخرى على نحو مفاجئ. تحدثت آدا إلى الشاشة قائلة: «مرحبًا خالتي مايرا. هل أطْلَعَك برنامج الإرشاد على كل ما تودين معرفته؟»

تحسست مايرا شعرها الذي لم يُصَفَّف منذ خروجها من المياه التي كانت سببًا في وفاتها، وقالت: «تقريبًا. ما زلت أحتاج بعض المعلومات، لكنني لم أشأ الانتظار طويلًا. أهلًا بك يا رانجيت. وأشكرك على إنقاذ حياتي البديلة أو أيًّا ما شئت تسميتها.»

لم يجد رانجيت شيئًا يقوله سوى: «بكل سرور يا عزيزتي.» وعندما قامت آدا لتتركهما يتحدثان على انفراد قال لها رانجيت: «مهلًا. هل المرء مضطر للموت حتى يُخزَّن على هذا النحو؟ أعني هل يمكنك أن تضعيني معها في المشهد إذا أردت ذلك؟ وعندئذٍ نصير كأننا شخصان حقيقيان اجتمعنا معًا؟»

بدا الذعر على آدا. وقالت: «حسنًا، أجل.» كانت ستستطرد حديثها غير أن مايرا سبقتها وتحدثت عبر الشاشة.

قالت مايرا: «عزيزي رانجيت، لا تفكر في هذا الأمر. رغم أني أتوق إلى وجودك معي، عليك ألا تفعل ذلك. لن يكون هذا من الإنصاف لتاشي أو روبرت أو … تبًّا، دعنا نواجه الموقف. لن يكون هذا من الإنصاف للعالم أجمع.»

حدق رانجيت في الشاشة. وقال: «حسنًا.» وبعد لحظات من التفكير تذمر قائلًا: «لكني أفتقدك كثيرًا.»

قالت: «بالطبع. وأنا أفتقدك أيضًا. لكن هذا الوضع أفضل من ألا يرى أحدنا الآخر أبدًا. علمتُ من برنامج الإرشاد أنه يمكننا الحديث هكذا في أي وقت نشاء.»

قال رانجيت: «هذا صحيح. لكن لا يمكن أن يمس أحدنا الآخر، وربما أحيا سنوات أخرى.»

أجابته بقولها: «أتمنى لك عمرًا مديدًا يا عزيزي. لكن هذا سيمنحنا غاية نتطلع إليها.»